ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ
تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Ouooou10
ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ
تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Ouooou10
ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ

اهلا,.بك،.,فى.،ملتقى.شلة:شباب.فى،ـبنات,,معانا:هتستمتع.,بالوقت،افتح,.قلبك,ـواتكلم’.معانا.هتسمع،،أحـلى.,اغانى,,واحلى:،كلام.,فى,:الحب،دا،إحنا.شباب،.علي:.كيفك
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول


 

 تفسير القران الكريم كاملا

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:22 pm

{ 61 - 63 } { فَمَنْ
حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا
نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ
وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ
اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ *إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا
مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
* فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ }

أي:
{ فمن } جادلك { وحاجك } في عيسى عليه السلام وزعم أنه فوق منزلة
العبودية، بل رفعه فوق منزلته { من بعد ما جاءك من العلم } بأنه عبد الله
ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من الأدلة الدالة على أنه عبد أنعم الله
عليه، دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني، فلم يبق في مجادلته
فائدة تستفيدها ولا يستفيدها هو، لأن الحق قد تبين، فجداله فيه جدال معاند
مشاق لله ورسوله، قصده اتباع هواه، لا اتباع ما أنزل الله، فهذا ليس فيه
حيلة، فأمر الله نبيه أن ينتقل إلى مباهلته وملاعنته، فيدعون الله ويبتهلون
إليه أن يجعل لعنته وعقوبته على الكاذب من الفريقين، هو وأحب الناس إليه
من الأولاد والأبناء والنساء، فدعاهم النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 إلى ذلك فتولوا وأعرضوا ونكلوا، وعلموا
أنهم إن لاعنوه رجعوا إلى أهليهم وأولادهم فلم يجدوا أهلا ولا مالا وعوجلوا
بالعقوبة، فرضوا بدينهم مع جزمهم ببطلانه، وهذا غاية الفساد والعناد،
فلهذا قال تعالى { فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين } فيعاقبهم على ذلك
أشد العقوبة. وأخبر تعالى { إن هذا } الذي قصه الله على عباده هو { القصص
الحق } وكل قصص يقص عليهم مما يخالفه ويناقضه فهو باطل { وما من إله إلا
الله } فهو المألوه المعبود حقا الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولا يستحق
غيره مثقال ذرة من العبادة { وإن الله لهو العزيز } الذي قهر كل شيء وخضع
له كل شيء { الحكيم } الذي يضع الأشياء مواضعها، وله الحكمة التامة في
ابتلاء المؤمنين بالكافرين، يقاتلونهم ويجادلونهم ويجاهدونهم بالقول والفعل


{
64 } { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ
بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ
اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }

أي:
قل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم }
أي: هلموا نجتمع عليها وهي الكلمة التي اتفق عليها الأنبياء والمرسلون،
ولم يخالفها إلا المعاندون والضالون، ليست مختصة بأحدنا دون الآخر، بل
مشتركة بيننا وبينكم، وهذا من العدل في المقال والإنصاف في الجدال، ثم
فسرها بقوله { ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا } فنفرد الله بالعبادة
ونخصه بالحب والخوف والرجاء ولا نشرك به نبيا ولا ملكا ولا وليا ولا صنما
ولا وثنا ولا حيوانا ولا جمادا { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله }
بل تكون الطاعة كلها لله ولرسله، فلا نطيع المخلوقين في معصية الخالق، لأن
ذلك جعل للمخلوقين في منزلة الربوبية، فإذا دعي أهل الكتاب أو غيرهم إلى
ذلك، فإن أجابوا كانوا مثلكم، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وإن تولوا فهم
معاندون متبعون أهواءهم فاشهدوهم أنكم مسلمون، ولعل الفائدة في ذلك أنكم
إذا قلتم لهم ذلك وأنتم أهل العلم على الحقيقة، كان ذلك زيادة على إقامة
الحجة عليهم كما استشهد تعالى بأهل العلم حجة على المعاندين، وأيضا فإنكم
إذا أسلمتم أنتم وآمنتم فلا يعبأ الله بعدم إسلام غيركم لعدم زكائهم ولخبث
طويتهم، كما قال تعالى { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من
قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا } الآية وأيضا فإن في ورود
الشبهات على العقيدة الإيمانية مما يوجب للمؤمن أن يجدد إيمانه ويعلن
بإسلامه، إخبارا بيقينه وشكرا لنعمة ربه.


{ 65 - 68 } { يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ
التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ *
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ
تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا
نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ }

لما ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهوديا، والنصارى
أنه نصراني، وجادلوا على ذلك، رد تعالى محاجتهم ومجادلتهم من ثلاثة أوجه،
أحدها: أن جدالهم في إبراهيم جدال في أمر ليس لهم به علم، فلا يمكن لهم ولا
يسمح لهم أن يحتجوا ويجادلوا في أمر هم أجانب عنه وهم جادلوا في أحكام
التوراة والإنجيل سواء أخطأوا أم أصابوا فليس معهم المحاجة في شأن إبراهيم،
الوجه الثاني: أن اليهود ينتسبون إلى أحكام التوراة، والنصارى ينتسبون إلى
أحكام الإنجيل، والتوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعد إبراهيم، فكيف
ينسبون إبراهيم إليهم وهو قبلهم متقدم عليهم، فهل هذا يعقل؟! فلهذا قال {
أفلا تعقلون } أي: فلو عقلتم ما تقولون لم تقولوا ذلك، الوجه الثالث: أن
الله تعالى برأ خليله من اليهود والنصارى والمشركين، وجعله حنيفا مسلما،
وجعل أولى الناس به من آمن به من أمته، وهذا النبي وهو محمد صلى الله على
وسلم ومن آمن معه، فهم الذين اتبعوه وهم أولى به من غيرهم، والله تعالى
وليهم وناصرهم ومؤيدهم، وأما من نبذ ملته وراء ظهره كاليهود والنصارى
والمشركين، فليسوا من إبراهيم وليس منهم، ولا ينفعهم مجرد الانتساب الخالي
من الصواب. وقد اشتملت هذه الآيات على النهي عن المحاجة والمجادلة بغير
علم، وأن من تكلم بذلك فهو متكلم في أمر لا يمكن منه ولا يسمح له فيه،
وفيها أيضا حث على علم التاريخ، وأنه طريق لرد كثير من الأقوال الباطلة
والدعاوى التي تخالف ما علم من التاريخ، ثم قال تعالى:


{ 69 -
74 } { وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ
وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ *يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ
النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا
تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى
اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ
عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }

يحذر تعالى عباده المؤمنين عن
مكر هذه الطائفة الخبيثة من أهل الكتاب، وأنهم يودون أن يضلوكم، كما قال
تعالى { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا } ومن
المعلوم أن من ود شيئا سعى بجهده على تحصيل مراده، فهذه الطائفة تسعى وتبذل
جهدها في رد المؤمنين وإدخال الشبه عليهم بكل طريق يقدرون عليه، ولكن من
لطف الله أنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فلهذا قال تعالى { وما يضلون
إلا أنفسهم } فسعيهم في إضلال المؤمنين زيادة في ضلال أنفسهم وزيادة عذاب
لهم، قال تعالى { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب
بما كانوا يفسدون } { وما يشعرون } بذلك أنهم يسعون في ضرر أنفسهم وأنهم لا
يضرونكم شيئا.

{ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون }
أي: ما الذي دعاكم إلى الكفر بآيات الله مع علمكم بأن ما أنتم عليه باطل،
وأن ما جاءكم به محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 هو الحق الذي لا تشكون فيه، بل تشهدون به
ويسر به بعضكم إلى بعض في بعض الأوقات، فهذا نهيهم عن ضلالهم.

ثم
وبخهم على إضلالهم الخلق، فقال { يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل
وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } فوبخهم على لبس الحق بالباطل وعلى كتمان الحق،
لأنهم بهذين الأمرين يضلون من انتسب إليهم، فإن العلماء إذا لبسوا الحق
بالباطل فلم يميزوا بينهما، بل أبقوا الأمر مبهما وكتموا الحق الذي يجب
عليهم إظهاره، ترتب على ذلك من خفاء الحق وظهور الباطل ما ترتب، ولم يهتد
العوام الذين يريدون الحق لمعرفته حتى يؤثروه، والمقصود من أهل العلم أن
يظهروا للناس الحق ويعلنوا به، ويميزوا الحق من الباطل، ويظهروا الخبيث من
الطيب، والحلال والحرام ، والعقائد الصحيحة من العقائد الفاسدة، ليهتدي
المهتدون ويرجع الضالون وتقوم الحجة على المعاندين قال تعالى { وإذ أخذ
الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء
ظهورهم }

ثم أخبر تعالى عن ما همت به هذه الطائفة الخبيثة، وإرادة
المكر بالمؤمنين، فقال { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على
الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } أي: ادخلوا في دينهم على وجه المكر
والكيد أول النهار، فإذا كان آخر النهار فاخرجوا منه { لعلهم يرجعون } عن
دينهم، فيقولون لو كان صحيحا لما خرج منه أهل العلم والكتاب، هذا الذي
أرادوه عجبا بأنفهسم وظنا أن الناس سيحسنون ظنهم بهم ويتابعونهم على ما
يقولونه ويفعلونه، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

{
و } قال بعضهم لبعض { لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } أي: لا تثقوا ولا
تطمئنوا ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم، واكتموا أمركم، فإنكم إذا أخبرتم
غيركم وغير من هو على دينكم حصل لهم من العلم ما حصل لكم فصاروا مثلكم، أو
حاجوكم عند ربكم وشهدوا عليكم أنها قامت عليكم الحجة وتبين لكم الهدى فلم
تتبعوه، فالحاصل أنهم جعلوا عدم إخبار المؤمنين بما معهم من العلم قاطعا
عنهم العلم، لأن العلم بزعمهم لا يكون إلا عندهم وموجبا للحجة عليهم، فرد
الله عليهم بأن { الهدى هدى الله } فمادة الهدى من الله تعالى لكل من
اهتدى، فإن الهدى إما علم الحق، أو إيثارة، ولا علم إلا ما جاءت به رسل
الله، ولا موفق إلا من وفقه الله، وأهل الكتاب لم يؤتوا من العلم إلا
قليلا، وأما التوفيق فقد انقطع حظهم منه لخبث نياتهم وسوء مقاصدهم، وأما
هذه الأمة فقد حصل لهم ولله الحمد من هداية الله من العلوم والمعارف مع
العمل بذلك ما فاقوا به وبرزوا على كل أحد، فكانوا هم الهداة الذين يهدون
بأمر الله، وهذا من فضل الله عليها وإحسانه العظيم، فلهذا قال تعالى { قل
إن الفضل بيد الله } أي: الله هو الذي يحسن على عباده بأنواع الإحسان {
يؤتيه من يشاء } ممن أتى بأسبابه { والله واسع } الفضل كثير الإحسان { عليم
} بمن يصلح للإحسان فيعطيه، ومن لا يستحقه فيحرمه إياه.

{ يختص
برحمته من يشاء } أي: برحمته المطلقة التي تكون في الدنيا متصلة بالآخرة
وهي نعمة الدين ومتمماته { والله ذو الفضل العظيم } الذي لا يصفه الواصفون
ولا يخطر بقلب بشر، بل وصل فضله وإحسانه إلى ما وصل إليه علمه، ربنا وسعت
كل شيء رحمة وعلما.


{ 75 - 77 } { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ
قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى
مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
* إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا
قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ
اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا
يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

يخبر تعالى عن حال أهل
الكتاب في الوفاء والخيانة في الأموال، لما ذكر خيانتهم في الدين ومكرهم
وكتمهم الحق، فأخبر أن منهم الخائن والأمين، وأن منهم { من إن تأمنه بقنطار
} وهو المال الكثير { يؤده } وهو على أداء ما دونه من باب أولى، ومنهم {
من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } وهو على عدم أداء ما فوقه من باب أولى
وأحرى، والذي أوجب لهم الخيانة وعدم الوفاء إليكم بأنهم زعموا أنه { ليس }
عليهم { في الأميين سبيل } أي: ليس عليهم إثم في عدم أداء أموالهم إليهم،
لأنهم بزعمهم الفاسد ورأيهم الكاسد قد احتقروهم غاية الاحتقار، ورأوا
أنفسهم في غاية العظمة، وهم الأذلاء الأحقرون، فلم يجعلوا للأميين حرمة،
وأجازوا ذلك، فجمعوا بين أكل الحرام واعتقاد حله وكان هذا كذبا على الله،
لأن العالم الذي يحلل الأشياء المحرمة قد كان عند الناس معلوم أنه يخبر عن
حكم الله ليس يخبر عن نفسه، وذلك هو الكذب، فلهذا قال { ويقولون على الله
الكذب وهم يعلمون } وهذا أعظم إثما من القول على الله بلا علم، ثم رد عليهم
زعمهم الفاسد.

فقال { بلى } أي: ليس الأمر كما تزعمون أنه ليس
عليكم في الأميين حرج، بل عليكم في ذلك أعظم الحرج وأشد الإثم.

{ من
أوفى بعهده واتقى } والعهد يشمل العهد الذي بين العبد وبين ربه، وهو جميع
ما أوجبه الله على العبد من حقه، ويشمل العهد الذي بينه وبين العباد،
والتقوى تكون في هذا الموضع، ترجع إلى اتقاء المعاصي التي بين العبد وبين
ربه، وبينه وبين الخلق، فمن كان كذلك فإنه من المتقين الذين يحبهم الله
تعالى، سواء كانوا من الأميين أو غيرهم، فمن قال ليس علينا في الأميين
سبيل، فلم يوف بعهده ولم يتق الله، فلم يكن ممن يحبه الله، بل ممن يبغضه
الله، وإذا كان الأمييون قد عرفوا بوفاء العهود وبتقوى الله وعدم التجرئ
على الأموال المحترمة، كانوا هم المحبوبين لله، المتقين الذين أعدت لهم
الجنة، وكانوا أفضل خلق الله وأجلهم، بخلاف الذين يقولون ليس علينا في
الأميين سبيل، فإنهم داخلون في قوله: { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم
ثمنا قليلا } ويدخل في ذلك كل من أخذ شيئا من الدنيا في مقابلة ما تركه من
حق الله أو حق عباده، وكذلك من حلف على يمين يقتطع بها مال معصوم فهو داخل
في هذه الآية، فهؤلاء { لا خلاق لهم في الآخرة } أي: لا نصيب لهم من الخير
{ ولا يكلمهم الله } يوم القيامة غضبا عليهم وسخطا، لتقديمهم هوى أنفسهم
على رضا ربهم { ولا يزكيهم } أي: يطهرهم من ذنوبهم، ولا يزيل عيوبهم { ولهم
عذاب أليم } أي: موجع للقلوب والأبدان، وهو عذاب السخط والحجاب، وعذاب
جهنم، نسأل الله العافية.

{ 78 } { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا
يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ
وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا
هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ }

يخبر تعالى أن من أهل الكتاب فريقا يلوون ألسنتهم
بالكتاب، أي: يميلونه ويحرفونه عن المقصود به، وهذا يشمل اللي والتحريف
لألفاظه ومعانيه، وذلك أن المقصود من الكتاب حفظ ألفاظه وعدم تغييرها، وفهم
المراد منها وإفهامه، وهؤلاء عكسوا القضية وأفهموا غير المراد من الكتاب،
إما تعريضا وإما تصريحا، فالتعريض في قوله { لتحسبوه من الكتاب } أي: يلوون
ألسنتهم ويوهمونكم أنه هو المراد من كتاب الله، وليس هو المراد، والتصريح
في قولهم: { ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله
الكذب وهم يعلمون } وهذا أعظم جرما ممن يقول على الله بلا علم، هؤلاء
يقولون على الله الكذب فيجمعون بين نفي المعنى الحق، وإثبات المعنى الباطل،
وتنزيل اللفظ الدال على الحق على المعنى الفاسد، مع علمهم بذلك.


{
79 - 80 } { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ
تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا
يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }

وهذه
الآية نزلت ردا لمن قال من أهل الكتاب للنبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 لما أمرهم بالإيمان به ودعاهم إلى طاعته:
أتريد يا محمد أن نعبدك مع الله، فقوله { ما كان لبشر } أي: يمتنع ويستحيل
على بشر من الله عليه بإنزال الكتاب وتعليمه ما لم يكن يعلم وإرساله للخلق {
أن يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } فهذا من أمحل المحال صدوره من
أحد من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام، لأن هذا أقبح الأوامر على
الإطلاق، والأنبياء أكمل الخلق على الإطلاق، فأوامرهم تكون مناسبة
لأحوالهم، فلا يأمرون إلا بمعالي الأمور وهم أعظم الناس نهيا عن الأمور
القبيحة، فلهذا قال { ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم
تدرسون } أي: ولكن يأمرهم بأن يكونوا ربانيين، أي: علماء حكماء حلماء
معلمين للناس ومربيهم، بصغار العلم قبل كباره، عاملين بذلك، فهم يأمرون
بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة، وبفوات شيء منها يحصل النقص
والخلل، والباء في قوله { بما كنتم تعلمون } إلخ، باء السببية، أي: بسبب
تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه، التي بدرسها
يرسخ العلم ويبقى، تكونون ربانيين.

{ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة
والنبيين أربابا } وهذا تعميم بعد تخصيص، أي: لا يأمركم بعبادة نفسه ولا
بعبادة أحد من الخلق من الملائكة والنبيين وغيرهم { أيأمركم بالكفر بعد إذ
أنتم مسلمون } هذا ما لا يكون ولا يتصور أن يصدر من أحد من الله عليه
بالنبوة، فمن قدح في أحد منهم بشيء من ذلك فقد ارتكب إثما عظيما وكفرا
وخيما.


{ 81 - 82 } { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ
قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا
أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ *
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }

يخبر
تعالى أنه أخذ ميثاق النبيين وعهدهم المؤكد بسبب ما أعطاهم من كتاب الله
المنزل، والحكمة الفاصلة بين الحق والباطل والهدى والضلال، إنه إن بعث الله
رسولا مصدقا لما معهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ويأخذوا ذلك على أممهم،
فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أوجب الله عليهم أن يؤمن بعضهم ببعض،
ويصدق بعضهم بعضا لأن جميع ما عندهم هو من عند الله، وكل ما من عند الله
يجب التصديق به والإيمان، فهم كالشيء الواحد، فعلى هذا قد علم أن محمدا تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 هو خاتمهم، فكل الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام لو أدركوه لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته، وكان هو
إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم، فهذه الآية الكريمة من أعظم الدلائل على علو
مرتبته وجلالة قدره، وأنه أفضل الأنبياء وسيدهم تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 لما قررهم تعالى { قالوا أقررنا } أي:
قبلنا ما أمرتنا به على الرأس والعين { قال } الله لهم: { فاشهدوا } على
أنفسكم وعلى أممكم بذلك، قال { وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك }
العهد والميثاق المؤكد بالشهادة من الله ومن رسله { فأولئك هم الفاسقون }
فعلى هذا كل من ادعى أنه من أتباع الأنبياء كاليهود والنصارى ومن تبعهم،
فقد تولوا عن هذا الميثاق الغليظ، واستحقوا الفسق الموجب للخلود في النار
إن لم يؤمنوا بمحمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999.


{ 83 } { أَفَغَيْرَ دِينِ
اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }

أي: أيطلب الطالبون
ويرغب الراغبون في غير دين الله؟ لا يحسن هذا ولا يليق، لأنه لا أحسن دينا
من دين الله { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } أي: الخلق كلهم
منقادون بتسخيره مستسلمون له طوعا واختيارا، وهم المؤمنون المسلمون
المنقادون لعبادة ربهم، وكرها وهم سائر الخلق، حتى الكافرون مستسلمون
لقضائه وقدره لا خروج لهم عنه، ولا امتناع لهم منه، وإليه مرجع الخلائق
كلها، فيحكم بينهم ويجازيهم بحكمه الدائر بين الفضل والعدل.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:24 pm

{ 84 } { قُلْ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }

تقدم نظير هذه
الآية في سورة البقرة، ثم قال تعالى.


{ 85 } { وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ
مِنَ الْخَاسِرِينَ }

أي: من يدين لله بغير دين الإسلام الذي ارتضاه
الله لعباده، فعمله مردود غير مقبول، لأن دين الإسلام هو المتضمن
للاستسلام لله، إخلاصا وانقيادا لرسله فما لم يأت به العبد لم يأت بسبب
النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه، وكل دين سواه فباطل، ثم قال تعالى:


{
86 - 88 } { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ
وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ
لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ
عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ
يُنْظَرُونَ }

هذا من باب الاستبعاد، أي: من الأمر البعيد أن يهدي
الله قوما اختاروا الكفر والضلال بعدما آمنوا وشهدوا أن الرسول حق بما
جاءهم به من الآيات البينات والبراهين القاطعات { والله لا يهدي القوم
الظالمين } فهؤلاء ظلموا وتركوا الحق بعدما عرفوه، واتبعوا الباطل مع علمهم
ببطلانه ظلما وبغيا واتباعا لأهوائهم، فهؤلاء لا يوفقون للهداية، لأن الذي
يرجى أن يهتدي هو الذي لم يعرف الحق وهو حريص على التماسه، فهذا بالحري أن
ييسر الله له أسباب الهداية ويصونه من أسباب الغواية.

ثم أخبر عن
عقوبة هؤلاء المعاندين الظالمين الدنيوية والأخروية، فقال { أولئك جزاؤهم
أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم
العذاب ولا هم ينظرون } أي: لا يفتر عنهم العذاب ساعة ولا لحظة، لا بإزالته
أو إزالة بعض شدته، { ولا هم ينظرون } أي: يمهلون، لأن زمن الإمهال قد
مضى، وقد أعذر الله منهم وعمرهم ما يتذكر فيه من تذكر، فلو كان فيهم خير
لوجد، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.


{ 90 - 91 } { إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ
تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ
مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }

يخبر تعالى أن من كفر بعد
إيمانه، ثم ازداد كفرا إلى كفره بتماديه في الغي والضلال، واستمراره على
ترك الرشد والهدى، أنه لا تقبل توبتهم، أي: لا يوفقون لتوبة تقبل بل يمدهم
الله في طغيانهم يعمهون، قال تعالى { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا
به أول مرة } { فلما زغوا أزاغ الله قلوبهم } فالسيئات ينتج بعضها بعضا،
وخصوصا لمن أقدم على الكفر العظيم وترك الصراط المستقيم، وقد قامت عليه
الحجة ووضح الله له الآيات والبراهين، فهذا هو الذي سعى في قطع أسباب رحمة
ربه عنه، وهو الذي سد على نفسه باب التوبة، ولهذا حصر الضلال في هذا الصنف،
فقال { وأولئك هم الضالون } وأي: ضلال أعظم من ضلال من ترك الطريق عن
بصيرة، وهؤلاء الكفرة إذا استمروا على كفرهم إلى الممات تعين هلاكهم
وشقاؤهم الأبدي، ولم ينفعهم شيء، فلو أنفق أحدهم ملء الأرض ذهبا ليفتدي به
من عذاب الله ما نفعه ذلك، بل لا يزالون في العذاب الأليم، لا شافع لهم ولا
ناصر ولا مغيث ولا مجير ينقذهم من عذاب الله فأيسوا من كل خير، وجزموا على
الخلود الدائم في العقاب والسخط، فعياذا بالله من حالهم.


{ 92 }
{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

هذا حث من
الله لعباده على الإنفاق في طرق الخيرات، فقال { لن تنالوا } أي: تدركوا
وتبلغوا البر الذي هو كل خير من أنواع الطاعات وأنواع المثوبات الموصل
لصاحبه إلى الجنة، { حتى تنفقوا مما تحبون } أي: من أموالكم النفيسة التي
تحبها نفوسكم، فإنكم إذا قدمتم محبة الله على محبة الأموال فبذلتموها في
مرضاته، دل ذلك على إيمانكم الصادق وبر قلوبكم ويقين تقواكم، فيدخل في ذلك
إنفاق نفائس الأموال، والإنفاق في حال حاجة المنفق إلى ما أنفقه، والإنفاق
في حال الصحة، ودلت الآية أن العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بره، وأنه
ينقص من بره بحسب ما نقص من ذلك، ولما كان الإنفاق على أي: وجه كان مثابا
عليه العبد، سواء كان قليلا أو كثيرا، محبوبا للنفس أم لا، وكان قوله { لن
تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيد غير
نافع، احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله { وما تنفقوا من شيء فإن الله به
عليم } فلا يضيق عليكم، بل يثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه.




{
93 - 95 } { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا
مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ
التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

وهذا
رد على اليهود بزعمهم الباطل أن النسخ غير جائز، فكفروا بعيسى ومحمد صلى
الله عليهما وسلم، لأنهما قد أتيا بما يخالف بعض أحكام التوراة بالتحليل
والتحريم فمن تمام الإنصاف في المجادلة إلزامهم بما في كتابهم التوراة من
أن جميع أنواع الأطعمة محللة لبني إسرائيل { إلا ما حرم إسرائيل } وهو
يعقوب عليه السلام { على نفسه } أي: من غير تحريم من الله تعالى، بل حرمه
على نفسه لما أصابه عرق النسا نذر لئن شفاه الله تعالى ليحرمن أحب الأطعمة
عليه، فحرم فيما يذكرون لحوم الإبل وألبانها وتبعه بنوه على ذلك وكان ذلك
قبل نزول التوراة، ثم نزل في التوراة أشياء من المحرمات غير ما حرم إسرائيل
مما كان حلالا لهم طيبا، كما قال تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا
عليهم طيبات أحلت لهم } وأمر الله رسوله إن أنكروا ذلك أن يأمرهم بإحضار
التوراة، فاستمروا بعد هذا على الظلم والعناد، فلهذا قال تعالى { فمن افترى
على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون } وأي: ظلم أعظم من ظلم من
يدعى إلى تحكيم كتابه فيمتنع من ذلك عنادا وتكبرا وتجبرا، وهذا من أعظم
الأدلة على صحة نبوة نبينا محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 وقيام الآيات البينات المتنوعات على صدقه
وصدق من نبأه وأخبره بما أخبره به من الأمور التي لا يعلمها إلا بإخبار ربه
له بها، فلهذا قال تعالى { قل صدق الله } أي: فيما أخبر به وحكم، وهذا أمر
من الله لرسوله ولمن يتبعه أن يقولوا بألسنتهم: صدق الله، معتقدين بذلك في
قلوبهم عن أدلة يقينية، مقيمين هذه الشهادة على من أنكرها، ومن هنا تعلم
أن أعظم الناس تصديقا لله أعظمهم علما ويقينا بالأدلة التفصيلية السمعية
والعقلية، ثم أمرهم باتباع ملة أبيهم إبراهيم عليه السلام بالتوحيد وترك
الشرك الذي هو مدار السعادة، وبتركه حصول الشقاوة، وفي هذا دليل على أن
اليهود وغيرهم ممن ليس على ملة إبراهيم مشركون غير موحدين، ولما أمرهم
باتباع ملة إبراهيم في التوحيد وترك الشرك أمرهم باتباعه بتعظيم بيته
الحرام بالحج وغيره، فقال:

{ 96 - 97 } { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ *
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ
آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }

يخبر
تعالى عن شرف هذا البيت الحرام، وأنه أول بيت وضعه الله للناس، يتعبدون
فيه لربهم فتغفر أوزارهم، وتقال عثارهم، ويحصل لهم به من الطاعات والقربات
ما ينالون به رضى ربهم والفوز بثوابه والنجاة من عقابه، ولهذا قال: {
مباركا } أي: فيه البركة الكثيرة في المنافع الدينية والدنيوية كما قال
تعالى { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام
} { وهدى للعالمين } والهدى نوعان: هدى في المعرفة، وهدى في العمل، فالهدى
في العمل ظاهر، وهو ما جعل الله فيه من أنواع التعبدات المختصة به، وأما
هدى العلم فبما يحصل لهم بسببه من العلم بالحق بسبب الآيات البينات التي
ذكر الله تعالى في قوله { فيه آيات بينات } أي: أدلة واضحات، وبراهين
قاطعات على أنواع من العلوم الإلهية والمطالب العالية، كالأدلة على توحيده
ورحمته وحكمته وعظمته وجلاله وكمال علمه وسعة جوده، وما مَنَّ به على
أوليائه وأنبيائه، فمن الآيات { مقام إبراهيم } يحتمل أن المراد به المقام
المعروف وهو الحجر الذي كان يقوم عليه الخليل لبنيان الكعبة لما ارتفع
البنيان، وكان ملصقا في جدار الكعبة، فلما كان عمر رضي الله عنه وضعه في
مكانه الموجود فيه الآن، والآية فيه قيل أثر قدمي إبراهيم، قد أثرت في
الصخرة وبقي ذلك الأثر إلى أوائل هذه الأمة، وهذا من خوارق العادات، وقيل
إن الآية فيه ما أودعه الله في القلوب من تعظيمه وتكريمه وتشريفه واحترامه،
ويحتمل أن المراد بمقام إبراهيم أنه مفرد مضاف يراد به مقاماته في مواضع
المناسك كلها، فيكون على هذا جميع أجزاء الحج ومفرداته آيات بينات، كالطواف
والسعي ومواضعها، والوقوف بعرفة ومزدلفة، والرمي، وسائر الشعائر، والآية
في ذلك ما جعله الله في القلوب من تعظيمها واحترامها وبذل نفائس النفوس
والأموال في الوصول إليها وتحمل كل مشقة لأجلها، وما في ضمنها من الأسرار
البديعة والمعاني الرفيعة، وما في أفعالها من الحكم والمصالح التي يعجز
الخلق عن إحصاء بعضها، ومن الآيات البينات فيها أن من دخله كان آمنا شرعا
وقدرا، فالشرع قد أمر الله رسوله إبراهيم ثم رسوله محمد باحترامه وتأمين من
دخله، وأن لا يهاج، حتى إن التحريم في ذلك شمل صيودها وأشجارها ونباتها،
وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء أن من جنى جناية خارج الحرم ثم لجأ
إليه أنه يأمن ولا يقام عليه الحد حتى يخرج منه، وأما تأمينها قدرا فلأن
الله تعالى بقضائه وقدره وضع في النفوس حتى نفوس المشركين به الكافرين
بربهم احترامه، حتى إن الواحد منهم مع شدة حميتهم ونعرتهم وعدم احتمالهم
للضيم يجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يهيجه، ومن جعله حرما أن كل من
أراده بسوء فلا بد أن يعاقبه عقوبة عاجلة، كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم،
وقد رأيت لابن القيم هاهنا كلاما حسنا أحببت إيراده لشدة الحاجة إليه قال
فائدة: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } "حج البيت" مبتدأ
وخبره في أحد المجرورين قبله، والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله: "على
الناس" لأنه وجوب، والوجوب يقتضي "على" ويجوز أن يكون في قوله: "ولله" لأنه
متضمن الوجوب والاستحقاق، ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط الفائدة
وموضعها، وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير، فكان الأحسن أن يكون "ولله
على الناس" . ويرجح الوجه الأول بأن يقال قوله: "حج البيت على الناس" أكثر
استعمالا في باب الوجوب من أن يقال: "حج البيت لله" أي: حق واجب لله،
فتأمله. وعلى هذا ففي تقديم المجرور الأول وليس بخبر فائدتان: إحداهما: أنه
اسم للموجب للحج، فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب، فتضمنت الآية ثلاثة
أمور مرتبة بحسب الوقائع: أحدها: الموجب لهذا الفرض فبدأ بذكره، والثاني:
مؤدي الواجب وهو المفترض عليه وهم الناس، والثالث: النسبة، والحق المتعلق
به إيجابا وبهم وجوبا وأداء، وهو الحج.

والفائدة الثانية: أن الاسم
المجرور من حيث كان اسما لله سبحانه، وجب الاهتمام بتقديمه تعظيما لحرمة
هذا الواجب الذي أوجبه، وتخويفا من تضييعه، إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه
بمثابة ما يوجبه غيره.

وأما قوله: "مَنْ" فهي بدل، وقد استهوى طائفة
من الناس القول بأنها فاعل بالمصدر، كأنه قال: أن يحج البيت من استطاع
إليه سبيلا، وهذا القول يضعف من وجوه، منها: أن الحج فرض عين، ولو كان معنى
الآية ما ذكره لأفهم فرض الكفاية، لأنه إذا حج المستطيعون برئت ذمم غيرهم،
لأن المعنى يؤل إلى: ولله على الناس حج البيت مستطيعهم، فإذا أدى
المستطيعون الواجب لم يبق واجبا على غير المستطيعين، وليس الأمر كذلك، بل
الحج فرض عين على كل أحد، حج المستطيعون أو قعدوا، ولكن الله سبحانه عذر
غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب، فلا يؤاخذه به ولا يطالبه بأدائه، فإذا
حج سقط الفرض عن نفسه، وليس حج المستطيعين بمسقط الفرض عن العاجزين، وإذا
أردت زيادة إيضاح، فإذا قلت: واجب على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم
الطائفة المستطيعون للجهاد، فإذا جاهدت تلك الطائفة انقطع تعلق الوجوب في
غيرهم، وإذا قلت واجب على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع، كان الوجوب
متعلقا بالجميع وعذر العاجز بعجزه، ففي نظم الآية على هذا الوجه دون أن
يقال: ولله حج البيت على المستطيعين، هذه النكتة البديعة فتأملها.

الوجه
الثاني: أن إضافة المصدر إلى الفاعل إذا وجد أولى من إضافته إلى المفعول
ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل منقول، فلو كان من هو الفاعل لأضيف المصدر
إليه فكان يقال: "ولله على الناس حج مَنْ استطاع" وحمله على باب "يعجبني
ضرب زيد عمرا" وفيما يفصل فيه بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول
والظرف حمل على المكتوب المرجوح، وهي قراءة ابن عامر ( قتل أولادهم شركائهم
)، فلا يصار إليه.وإذا ثبت أن "من" بدل بعض من كل وجب أن يكون في الكلام
ضمير يعود إلى "الناس" كأنه قيل: من استطاع منهم، وحذف هذا الضمير في أكثر
الكلام لا يحسن، وحسنه هاهنا أمور منها: أن "من" واقعة على من لا يعقل،
كالاسم المبدل منه فارتبطت به، ومنها: أنها موصولة بما هو أخص من الاسم
الأول، ولو كانت الصلة أعم لقبح حذف الضمير العائد، ومثال ذلك إذا قلت:
رأيت إخوتك من ذهب إلى السوق منهم، كان قبيحا، لأن الذاهب إلى السوق أعم من
الإخوة، وكذلك لو قلت: البس الثياب ما حسن وجمل، يريد منها، ولم يذكر
الضمير كان أبعد في الجواز، لأن لفظ ما حسن أعم من الثياب.

وباب
البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه، فإذا كان أعم وأضفته إلى ضمير أو
قيدته بضمير يعود إلى الأول ارتفع العموم وبقي الخصوص، ومما حسن حذف
المضاف في هذه أيضا مع ما تقدم طول الكلام بالصلة والموصول.

وأما
المجرور من قوله "لله" فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون في موضع من سبيل،
كأنه نعت نكرة قدم عليها، لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل، والثاني:
أن يكون متعلقا بسبيل، فإن قلت: كيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل؟ قيل:
السبيل لما كان عبارة هاهنا عن الموصل إلى البيت من قوت وزاد ونحوهما، كان
فيه رائحة الفعل، ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق، فصلح تعلق المجرور
به، واقتضى حسن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير،
لأنه ضمير يعود على البيت، والبيت هو المقصود به الاعتناء، وهم يقدمون في
كلامهم ما هم به أهم وببيانه أعني هذا تقرير السهيلي، وهذا بعيد جدا بل
الصواب في متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين، ولا يليق بالآية
سواه، وهو الوجوب المفهوم من قوله "على الناس" أي: يجب لله على الناس الحج،
فهو حق واجب لله، وأما تعليقه بالسبيل وجعله حالا منها، ففي غاية البعد
فتأمله، ولا يكاد يخطر بالبال من الآية، وهذا كما تقول: لله عليك الصلاة
والزكاة والصيام.

ومن فوائد الآية وأسرارها أنه سبحانه إذا ذكر ما
يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ الأمر والنهي، وهو الأكثر، وبلفظ الإيجاب والكتابة
والتحريم نحو { كتب عليكم الصيام } { حرمت عليكم الميتة } { قل تعالوا أتل
ما حرم ربكم عليكم } وفي الحج أتى بهذا اللفظ الدال على تأكد الوجوب من
عشرة أوجه، أحدها أنه قدم اسمه تعالى وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص
ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف على أبدل منه أهل
الاستطاعة، ثم نكر السبيل في سياق الشرط إيذانا بأنه يجب الحج على أي: سبيل
تيسرت، من قوت أو مال، فعلق الوجوب بحصول ما يسمى سبيلا، ثم أتبع ذلك
بأعظم التهديد بالكفر فقال { ومن كفر } أي: لعدم التزامه هذا الواجب وتركه
ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره ما يستغنى به عنه، والله تعالى هو الغني
الحميد، ولا حاجة به إلى حج أحد، وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام
بمقته له وسخطه عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو أعظم التهديد وأبلغه، ثم أكد
ذلك بذكر اسم "العالمين" عموما، ولم يقل: فإن الله غني عنه، لأنه إذا كان
غنيا عن العالمين كلهم فله الغنى الكامل التام من كل وجه بكل اعتبار، فكان
أدل لعظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه، ثم أكد هذا المعنى بأداة "إن"
الدالة على التأكيد، فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكد هذا الفرض العظيم.

وتأمل
سر البدل في الآية المقتضي لذكر الإسناد مرتين، مرة بإسناده إلى عموم
الناس، ومرة بإسناده إلى خصوص المستطيعين، وهذا من فوائد البدل تقوية
المعنى وتأكيده بتكرر الإسناد ولهذا كان في نية تكرار العامل وإعادته.

ثم
تأمل ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال، وكيف تضمن
ذلك إيراد الكلام في صورتين وخلتين، اعتناء به وتأكيد لشأنه، ثم تأمل كيف
افتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت وعظم شأنه بما تدعوا النفوس إلى قصده
وحجه وان لم يطلب ذلك منها، فقال: { إن أول بيت } إلخ، فوصفه بخمس صفات:
أحدها كونه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض، الثاني: أنه مبارك، والبركة
كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرا ولا أدوم
ولا أنفع للخلائق، الثالث: أنه هدى، ووصفه بالمصدر نفسه مبالغة، حتى كأنه
نفس الهدى، الرابع ما تضمن من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية،
الخامس: الأمن الحاصل لداخله، وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث
النفوس على حجه وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار، ثم أتبع ذلك
بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات، وهذا يدل على الاعتناء منه سبحانه
لهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيم لشأنه، والرفعة من قدره، ولو
لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله { وطهر بيتي } لكفى بهذه
الإضافة فضلا وشرفا، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه،
وسلبت نفوسهم حباله وشوقا إلى رؤيته، فهذه المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا
يقضون منه وطرا أبدا، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حبا وإليه
اشتياقا، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل:

أطوف به
والنفس بعد مشوقة

إليه وهل بعـد الطـواف تداني

وألثم منه
الركـن أطلـب برد ما

بقلبي من شـوق ومن هيمان

فـوالله مـا
ازداد إلا صبــابة

ولا القــلب إلا كثرة الخفقان

فيـا جنة
المأوى ويا غاية المنى

ويا منيتي من دون كل أمـان

أبت غلبـات
الشـوق إلا تقـربا

إليـك فمـا لي بالبـعاد يدان

ومـا كان
صدى عنك صد ملالة

ولي شـاهد من مقلتي ولسان

دعوت اصطباري عنك
بعدك والبكا

فلبى البكا والصبر عنك عصاني

وقـد زعموا أن
المـحب إذا نأى

سيبلى هـواه بعد طـول زمان

ولـو كان هذا
الزعم حقا لكان ذا

دواء الهوى في الناس كل زمان

بلى إنـه
يبلـى والهـوى عـلى

حاله لم يبله الملـوان

وهذا محـب قاده
الشوق والهوى

بغـير زمـام قائد وعنــان

أتاك عـلى بعد
المـزار ولو ونت

مطيته جــاءت به القـدمان


انتهى كلامه
رحمه الله تعالى.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:25 pm

{
98 - 101 } { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا
عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ *
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ *
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ
وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }

يوبخ تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى
على كفرهم بآيات الله التي أنزلها الله على رسله، التي جعلها رحمة لعباده
يهتدون بها إليه، ويستدلون بها على جميع المطالب المهمة والعلوم النافعة،
فهؤلاء الكفرة جمعوا بين الكفر بها وصد من آمن بالله عنها وتحريفها
وتعويجها عما جعلت له، وهم شاهدون بذلك عالمون بأن ما فعلوه أعظم الكفر
الموجب لأعظم العقوبة { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق
العذاب بما كانوا يفسدون } فلهذا توعدهم هنا بقوله: { وما الله بغافل عما
تعملون } بل محيط بأعمالكم ونياتكم ومكركم السيء، فمجازيكم عليه أشر الجزاء
لما توعدهم ووبخهم عطف برحمته وجوده وإحسانه وحذر عباده المؤمنين منهم
لئلا يمكروا بهم من حيث لا يشعرون، فقال: { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا
فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } وذلك لحسدهم
وبغيهم عليكم، وشدة حرصهم على ردكم عن دينكم، كما قال تعالى: { ود كثير من
أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما
تبين لهم الحق } ثم ذكر تعالى السبب الأعظم والموجب الأكبر لثبات المؤمنين
على إيمانهم، وعدم تزلزلهم عن إيقانهم، وأن ذلك من أبعد الأشياء، فقال: {
وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله } أي: الرسول بين
أظهركم يتلو عليكم آيات ربكم كل وقت، وهي الآيات البينات التي توجب القطع
بموجبها والجزم بمقتضاها وعدم الشك فيما دلت عليه بوجه من الوجوه، خصوصا
والمبين لها أفضل الخلق وأعلمهم وأفصحهم وأنصحهم وأرأفهم بالمؤمنين، الحريص
على هداية الخلق وإرشادهم بكل طريق يقدر عليه، فصلوات الله وسلامه عليه،
فلقد نصح وبلغ البلاغ المبين، فلم يبق في نفوس القائلين مقالا ولم يترك
لجائل في طلب الخير مجالا، ثم أخبر أن من اعتصم به فتوكل عليه وامتنع بقوته
ورحمته عن كل شر، واستعان به على كل خير { فقد هدي إلى صراط مستقيم } موصل
له إلى غاية المرغوب، لأنه جمع بين اتباع الرسول في أقواله وأفعاله
وأحواله وبين الاعتصام بالله.

{ 102 - 103 } { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا
وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ
مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ }

هذا أمر من الله لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه،
وأن يستمروا على ذلك ويثبتوا عليه ويستقيموا إلى الممات، فإن من عاش على
شيء مات عليه، فمن كان في حال صحته ونشاطه وإمكانه مداوما لتقوى ربه
وطاعته، منيبا إليه على الدوام، ثبته الله عند موته ورزقه حسن الخاتمة،
وتقوى الله حق تقواه كما قال ابن مسعود: وهو أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر
فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وهذه الآية بيان لما يستحقه تعالى من التقوى،
وأما ما يجب على العبد منها، فكما قال تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم }
وتفاصيل التقوى المتعلقة بالقلب والجوارح كثيرة جدا، يجمعها فعل ما أمر
الله به وترك كل ما نهى الله عنه، ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى
وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير
مختلفين، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم
وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من
المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر
والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل
واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، ولو أدى إلى الضرر العام، ثم ذكرهم تعالى
نعمته وأمرهم بذكرها فقال: { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء } يقتل
بعضكم بعضا، ويأخذ بعضكم مال بعض، حتى إن القبيلة يعادي بعضهم بعضا، وأهل
البلد الواحد يقع بينهم التعادي والاقتتال، وكانوا في شر عظيم، وهذه حالة
العرب قبل بعثة النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على
الإسلام وتآلفت قلوبهم على الإيمان كانوا كالشخص الواحد، من تآلف قلوبهم
وموالاة بعضهم لبعض، ولهذا قال: { فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا
وكنتم على شفا حفرة من النار } أي: قد استحقيتم النار ولم يبق بينكم وبينها
إلا أن تموتوا فتدخلوها { فأنقذكم منها } بما مَنَّ عليكم من الإيمان
بمحمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 { كذلك يبين الله لكم آياته } أي: يوضحها
ويفسرها، ويبين لكم الحق من الباطل، والهدى من الضلال { لعلكم تهتدون }
بمعرفة الحق والعمل به، وفي هذه الآية ما يدل أن الله يحب من عباده أن
يذكروا نعمته بقلوبهم وألسنتهم ليزدادوا شكرا له ومحبة، وليزيدهم من فضله
وإحسانه، وإن من أعظم ما يذكر من نعمه نعمة الهداية إلى الإسلام، واتباع
الرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 واجتماع كلمة المسلمين وعدم تفرقها.


{
104 - 105 } { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ }

أي: وليكن منكم أيها المؤمنون الذين مَنَّ الله
عليهم بالإيمان والاعتصام بحبله { أمة } أي: جماعة { يدعون إلى الخير } وهو
اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله ويبعد من سخطه { ويأمرون بالمعروف } وهو ما
عرف بالعقل والشرع حسنه { وينهون عن المنكر } وهو ما عرف بالشرع والعقل
قبحه، وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى
سبيله وإرشاد الخلق إلى دينه، ويدخل في ذلك العلماء المعلمون للدين،
والوعاظ الذين يدعون أهل الأديان إلى الدخول في دين الإسلام، ويدعون
المنحرفين إلى الاستقامة، والمجاهدون في سبيل الله، والمتصدون لتفقد أحوال
الناس وإلزامهم بالشرع كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من
شرائع الإسلام، وكتفقد المكاييل والموازين وتفقد أهل الأسواق ومنعهم من
الغش والمعاملات الباطلة، وكل هذه الأمور من فروض الكفايات كما تدل عليه
الآية الكريمة في قوله { ولتكن منكم أمة } إلخ أي: لتكن منكم جماعة يحصل
المقصود بهم في هذه الأشياء المذكورة، ومن المعلوم المتقرر أن الأمر بالشيء
أمر به وبما لا يتم إلا به فكل ما تتوقف هذه الأشياء عليه فهو مأمور به،
كالاستعداد للجهاد بأنواع العدد التي يحصل بها نكاية الأعداء وعز الإسلام،
وتعلم العلم الذي يحصل به الدعوة إلى الخير وسائلها ومقاصدها، وبناء
المدارس للإرشاد والعلم، ومساعدة النواب ومعاونتهم على تنفيذ الشرع في
الناس بالقول والفعل والمال، وغير ذلك مما تتوقف هذه الأمور عليه، وهذه
الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم
خواص المؤمنين، ولهذا قال تعالى عنهم: { وأولئك هم المفلحون } الفائزون
بالمطلوب، الناجون من المرهوب، ثم نهاهم عن التشبه بأهل الكتاب في تفرقهم
واختلافهم، فقال: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } ومن العجائب أن
اختلافهم { من بعد ما جاءهم البينات } الموجبة لعدم التفرق والاختلاف، فهم
أولى من غيرهم بالاعتصام بالدين، فعكسوا القضية مع علمهم بمخالفتهم أمر
الله، فاستحقوا العقاب البليغ، ولهذا قال تعالى: { وأولئك لهم عذاب عظيم }


{
106 - 108 } { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا
الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ
ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ
يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ }

يخبر تعالى عن حال يوم القيامة
وما فيه من آثار الجزاء بالعدل والفضل، ويتضمن ذلك الترغيب والترهيب الموجب
للخوف والرجاء فقال: { يوم تبيض وجوه } وهي وجوه أهل السعادة والخير، أهل
الائتلاف والاعتصام بحبل الله { وتسود وجوه } وهي وجوه أهل الشقاوة والشر،
أهل الفرقة والاختلاف، هؤلاء اسودت وجوههم بما في قلوبهم من الخزي والهوان
والذلة والفضيحة، وأولئك أبيضت وجوههم، لما في قلوبهم من البهجة والسرور
والنعيم والحبور الذي ظهرت آثاره على وجوههم كما قال تعالى: { ولقاهم نضرة
وسرورا } نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم، وقال تعالى: { والذين كسبوا
السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل
مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } { فأما الذين اسودت وجوههم }
فيقال لهم على وجه التوبيخ والتقريع: { أكفرتم بعد إيمانكم } أي: كيف آثرتم
الكفر والضلال على الإيمان والهدى؟ وكيف تركتم سبيل الرشاد وسلكتم طريق
الغي؟ { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } فليس يليق بكم إلا النار، ولا
تستحقون إلا الخزي والفضيحة والعار.

{ وأما الذين ابيضت وجوههم }
فيهنئون أكمل تهنئة ويبشرون أعظم بشارة، وذلك أنهم يبشرون بدخول الجنات
ورضى ربهم ورحمته { ففي رحمة الله هم فيها خالدون } وإذا كانوا خالدين في
الرحمة، فالجنة أثر من آثار رحمته تعالى، فهم خالدون فيها بما فيها من
النعيم المقيم والعيش السليم، في جوار أرحم الراحمين، لما بين الله لرسوله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 الأحكام الأمرية والأحكام الجزائية
قال: { تلك آيات الله نتلوها } أي: نقصها { عليك بالحق } لأن أوامره
ونواهيه مشتملة على الحكمة والرحمة وثوابها وعقابها، كذلك مشتمل على الحكمة
والرحمة والعدل الخالي من الظلم، ولهذا قال: { وما الله يريد ظلما
للعالمين } نفى إرادته ظلمهم فضلا عن كونه يفعل ذلك فلا ينقص أحدا شيئا من
حسناته، ولا يزيد في ظلم الظالمين، بل يجازيهم بأعمالهم فقط، ثم قال تعالى:
.

{ 109 } { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }
أي: هو المالك لما في السماوات
وما في الأرض، الذي خلقهم ورزقهم ويتصرف فيهم بقدره وقضائه، وفي شرعه
وأمره، وإليه يرجعون يوم القيامة فيجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها.


{
110 - 112 } { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا
أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا
يُنْصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا
بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ
اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }

يمدح تعالى هذه
الأمة ويخبر أنها خير الأمم التي أخرجها الله للناس، وذلك بتكميلهم لأنفسهم
بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به، وبتكميلهم لغيرهم بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله وجهادهم على ذلك
وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم، فبهذا كانوا خير أمة
أخرجت للناس، لما كانت الآية السابقة وهي قوله: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى
الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } أمرا منه تعالى لهذه الأمة،
والأمر قد يمتثله المأمور ويقوم به، وقد لا يقوم به، أخبر في هذه الآية أن
الأمة قد قامت بما أمرها الله بالقيام به، وامتثلت أمر ربها واستحقت الفضل
على سائر الأمم { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم } وفي هذا من دعوته
بلطف الخطاب ما يدعوهم إلى الإيمان، ولكن لم يؤمن منهم إلا قليل، وأكثرهم
الفاسقون الخارجون عن طاعة الله المعادون لأولياء الله بأنواع العداوة،
ولكن من لطف الله بعباده المؤمنين أنه رد كيدهم في نحورهم، فليس على
المؤمنين منهم ضرر في أديانهم ولا أبدانهم، وإنما غاية ما يصلون إليه من
الأذى أذية الكلام التي لا سبيل إلى السلامة منها من كل معادي، فلو قاتلوا
المؤمنين لولوا الأدبار فرارا ثم تستمر هزيمتهم ويدوم ذلهم ولا هم ينصرون
في وقت من الأوقات، ولهذا أخبر تعالى أنه عاقبهم بالذلة في بواطنهم
والمسكنة على ظواهرهم، فلا يستقرون ولا يطمئنون { إلا بحبل } أي: عهد { من
الله وحبل من الناس } فلا يكون اليهود إلا تحت أحكام المسلمين وعهدهم، تؤخذ
منهم الجزية ويستذلون، أو تحت أحكام النصارى وقد { باءوا } مع ذلك { بغضب
من الله } وهذا أعظم العقوبات، والسبب الذي أوصلهم إلى هذه الحال ذكره الله
بقوله: { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله } التي أنزلها الله على رسوله
محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 الموجبة لليقين والإيمان، فكفروا بها بغيا
وعنادا { ويقتلون الأنبياء بغير حق } أي: يقابلون أنبياء الله الذين يحسنون
إليهم أعظم إحسان بأشر مقابلة، وهو القتل، فهل بعد هذه الجراءة والجناية
شيء أعظم منها، وذلك كله بسبب عصيانهم واعتدائهم، فهو الذي جرأهم على الكفر
بالله وقتل أنبياء الله، ثم قال تعالى:


{ 113 - 115 } {
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ
آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ
الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ }

لما بين تعالي الفرقة الفاسقة
من أهل الكتاب وبين أفعالهم وعقوباتهم،

بين هاهنا الأمة المستقيمة،
وبين أفعالها وثوابها، فأخبر أنهم لا يستوون عنده، بل بينهم من الفرق ما لا
يمكن وصفه، فأما تلك الطائفة الفاسقة فقد مضى وصفهم، وأما هؤلاء المؤمنون،
فقال تعالى منهم { أمة قائمة } أي: مستقيمة على دين الله، قائمة بما
ألزمها الله به من المأمورات، ومن ذلك قيامها بالصلاة { يتلون آيات الله
آناء الليل وهم يسجدون } وهذا بيان لصلاتهم في أوقات الليل وطول تهجدهم
وتلاوتهم لكتاب ربهم وإيثارهم الخضوع والركوع والسجود له.

{ يؤمنون
بالله واليوم الآخر } أي: كإيمان المؤمنين إيمانا يوجب لهم الإيمان بكل نبي
أرسله، وكل كتاب أنزله الله، وخص الإيمان باليوم الآخر لأن الإيمان
الحقيقي باليوم الآخر يحث المؤمن به على ما يقر به إلى الله، ويثاب عليه في
ذلك اليوم، وترك كل ما يعاقب عليه في ذلك اليوم { ويأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر } فحصل منهم تكميل أنفسهم بالإيمان ولوازمه، وتكميل غيرهم
بأمرهم بكل خير، ونهيهم عن كل شر، ومن ذلك حثهم أهل دينهم وغيرهم على
الإيمان بمحمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، ثم وصفهم بالهمم العالية { و } أنهم {
يسارعون في الخيرات } أي: يبادرون إليها فينتهزون الفرصة فيها، ويفعلونها
في أول وقت إمكانها، وذلك من شدة رغبتهم في الخير ومعرفتهم بفوائده وحسن
عوائده، فهؤلاء الذين وصفهم الله بهذه الصفات الجميلة والأفعال الجليلة {
من الصالحين } الذين يدخلهم الله في رحمته ويتغمدهم بغفرانه وينيلهم من
فضله وإحسانه، وأنهم مهما فعلوا { من خير } قليلا كان أو كثيرا { فلن
يكفروه } أي: لن يحرموه ويفوتوا أجره، بل يثيبهم الله على ذلك أكمل ثواب،
ولكن الأعمال ثوابها تبع لما يقوم بقلب صاحبها من الإيمان والتقوى، فلهذا
قال { والله عليم بالمتقين } كما قال تعالى: { إنما يتقبل الله من المتقين }

{
116 - 117 } { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي
هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ
حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ
اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

يخبر تعالى أن الذين
كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، أي: لا تدفع عنهم
شيئا من عذاب الله، ولا تجدي عليهم شيئا من ثواب الله، كما قال تعالى: {
وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا }
بل تكون أموالهم وأولادهم زادا لهم إلى النار، وحجة عليهم في زيادة نعم
الله عليهم، تقتضي منهم شكرها، ويعاقبون على عدم القيام بها وعلى كفرها،
ولهذا قال: { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }

ثم ضرب مثلا لما
ينفقه الكفار من أموالهم التي يصدون بها عن سبيل الله ويستعينون بها على
إطفاء نور الله، بأنها تبطل وتضمحل، كمن زرع زرعا يرجو نتيجته ويؤمل إدراك
ريعه، فبينما هو كذلك إذ أصابته ريح فيها صر، أي: برد شديد محرق، فأهلكت
زرعه، ولم يحصل له إلا التعب والعناء وزيادة الأسف، فكذلك هؤلاء الكفار
الذين قال الله فيهم: { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله
فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون } { وما ظلمهم الله } بإبطال
أعمالهم { ولكن } كانوا { أنفسهم يظلمون } حيث كفروا بآيات الله وكذبوا
رسوله وحرصوا على إطفاء نور الله، هذه الأمور هي التي أحبطت أعمالهم وذهبت
بأموالهم، ثم قال تعالى:


{ 118 - 120 } { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا
يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ
مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ
وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ
الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ
وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }

ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يتخذوا بطانة
من المنافقين من أهل الكتاب وغيرهم يظهرونهم على سرائرهم أو يولونهم بعض
الأعمال الإسلامية وذلك أنهم هم الأعداء الذين امتلأت قلوبهم من العداوة
والبغضاء فظهرت على أفواههم { وما تخفي صدورهم أكبر } مما يسمع منهم فلهذا {
لا يألونكم خبالا } أي: لا يقصرون في حصول الضرر عليكم والمشقة وعمل
الأسباب التي فيها ضرركم ومساعدة الأعداء عليكم قال الله للمؤمنين { قد
بينا لكم الآيات } أي: التي فيها مصالحكم الدينية والدنيوية { لعلكم تعقلون
} فتعرفونها وتفرقون بين الصديق والعدو، فليس كل أحد يجعل بطانة، وإنما
العاقل من إذا ابتلي بمخالطة العدو أن تكون مخالطة في ظاهره ولا يطلعه من
باطنه على شيء ولو تملق له وأقسم أنه من أوليائه.

قال الله مهيجا
للمؤمنين على الحذر من هؤلاء المنافقين من أهل الكتاب، ومبينا شدة عداوتهم {
هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله } أي: جنس الكتب
التي أنزلها الله على أنبيائه وهم لا يؤمنون بكتابكم، بل إذا لقوكم أظهروا
لكم الإيمان { وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل } وهي
أطراف الأصابع من شدة غيظهم عليكم { قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات
الصدور } وهذا فيه بشارة للمؤمنين أن هؤلاء الذين قصدوا ضرركم لا يضرون إلا
أنفسهم، وإن غيظهم لا يقدرون على تنفيذه، بل لا يزالون معذبين به حتى
يموتوا فيتنقلوا من عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة.

{ إن تمسسكم حسنة }
كالنصر على الأعداء وحصول الفتح والغنائم { تسؤهم } أي: تغمهم وتحزنهم {
وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله
بما يعملون محيط } فإذا أتيتم بالأسباب التي وعد الله عليها النصر - وهي
الصبر والتقوى- لم يضركم مكرهم، بل يجعل الله مكرهم في نحورهم لأنه محيط
بهم علمه وقدرته فلا منفذ لهم عن ذلك ولا يخفى عليهم منهم شيء.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:26 pm

{ 121 - 122 } { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ *إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا
وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

هذه
الآيات نزلت في وقعة "أُحد" وقصتها مشهورة في السير والتواريخ، ولعل
الحكمة في ذكرها في هذا الموضع، وأدخل في أثنائها وقعة "بدر" لما أن الله
تعالى قد وعد المؤمنين أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم، ورد كيد الأعداء عنهم،
وكان هذا حكما عاما ووعدا صادقا لا يتخلف مع الإتيان بشرطه، فذكر نموذجا
من هذا في هاتين القصتين، وأن الله نصر المؤمنين في "بدر" لما صبروا
واتقوا، وأدال عليهم العدو لما صدر من بعضهم من الإخلال بالتقوى ما صدر،
ومن حكمة الجمع بين القصتين أن الله يحب من عباده إذا أصابهم ما يكرهون أن
يتذكروا ما يحبون، فيخف عنهم البلاء ويشكروا الله على نعمه العظيمة التي
إذا قوبلت بما ينالهم من المكروه الذي هو في الحقيقة خير لهم، كان المكروه
بالنسبة إلى المحبوب نزرا يسيرا، وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة في قوله {
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } وحاصل قضية "أحد" وإجمالها أن
المشركين لما رجع فلهم من "بدر" إلى مكة، وذلك في سنة اثنتين من الهجرة،
استعدوا بكل ما يقدرون عليه من العدد بالأموال والرجال والعدد، حتى اجتمع
عندهم من ذلك ما جزموا بحصول غرضهم وشفاء غيظهم، ثم وجهوا من مكة للمدينة
في ثلاثة آلاف مقاتل، حتى نزلوا قرب المدينة، فخرج النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 إليهم هو وأصحابه بعد المراجعة والمشاورة
حتى استقر رأيهم على الخروج، وخرج في ألف، فلما ساروا قليلا رجع عبد الله
بن أبي المنافق بثلث الجيش ممن هو على مثل طريقته، وهمت طائفتان من
المؤمنين أن يرجعوا وهم بنو سلمة وبنو حارثة فثبتهم الله، فلما وصلوا إلى
أحد رتبهم النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 في مواضعهم وأسندوا ظهورهم إلى أحد، ورتب
النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 خمسين رجلا من أصحابه في خلة في جبل "أحد"
وأمرهم أن يلزموا مكانهم ولا يبرحوا منه ليأمنوا أن يأتيهم أحد من ظهورهم،
فلما التقى المسلمون والمشركون انهزم المشركون هزيمة قبيحة وخلفوا معسكرهم
خلف ظهورهم، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فلما رآهم الرماة الذين
جعلهم النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 في الجبل، قال بعضهم لبعض: الغنيمة
الغنيمة، ما يقعدنا هاهنا والمشركون قد انهزموا، ووعظهم أميرهم عبد الله بن
جبير عن المعصية فلم يلتفتوا إليه، فلما أخلوا موضعهم فلم يبق فيه إلا نفر
يسير، منهم أميرهم عبد الله بن جبير، جاءت خيل المشركين من ذلك الموضع
واستدبرت المسلمين وقاتلت ساقتهم، فجال المسلمون جولة ابتلاهم الله بها
وكفر بها عنهم، وأذاقهم فيها عقوبة المخالفة، فحصل ما حصل من قتل من قتل
منهم، ثم إنهم انحازوا إلى رأس جبل "أحد" وكف الله عنهم أيدي المشركين
وانكفأوا إلى بلادهم، ودخل رسول الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 وأصحابه المدينة قال الله تعالى { وإذ غدوت
من أهلك } والغدو هاهنا مطلق الخروج، ليس المراد به الخروج في أول النهار،
لأن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 وأصحابه لم يخرجوا إلا بعدما صلوا الجمعة {
تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } أي: تنزلهم وترتبهم كل في مقعده اللائق به،
وفيها أعظم مدح للنبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 حيث هو الذي يباشر تدبيرهم وإقامتهم في
مقاعد القتال، وما ذاك إلا لكمال علمه ورأيه، وسداد نظره وعلو همته، حيث
يباشر هذه الأمور بنفسه وشجاعته الكاملة صلوات الله وسلامه عليه { والله
سميع } لجميع المسموعات، ومنه أنه يسمع ما يقول المؤمنون والمنافقون كل
يتكلم بحسب ما في قلبه { عليم } بنيات العبيد، فيجازيهم عليها أتم الجزاء،
وأيضا فالله سميع عليم بكم، يكلؤكم، ويتولى تدبير أموركم، ويؤيدكم بنصره
كما قال تعالى لموسى وهارون { إنني معكما أسمع وأرى } ومن لطفه بهم وإحسانه
إليهم أنه، لما { همت طائفتان } من المؤمنين بالفشل وهم بنو سلمة وبنو
حارثة كما تقدم ثبتهما الله تعالى نعمة عليهما وعلى سائر المؤمنين، فلهذا
قال { والله وليهما } أي: بولايته الخاصة، التي هي لطفه بأوليائه، وتوفيقهم
لما فيه صلاحهم وعصمتهم عما فيه مضرتهم، فمن توليه لهما أنهما لما هما
بهذه المعصية العظيمة وهي الفشل والفرار عن رسول الله عصمهما، لما معهما من
الإيمان كما قال تعالى: { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى
النور } ثم قال { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ففيها الأمر بالتوكل الذي
هو اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة بالله،
وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله، وأن المؤمنين أولى بالتوكل على الله من
غيرهم، وخصوصا في مواطن الشدة والقتال، فإنهم مضطرون إلى التوكل والاستعانة
بربهم والاستنصار له، والتبري من حولهم وقوتهم، والاعتماد على حول الله
وقوته، فبذلك ينصرهم ويدفع عنهم البلايا والمحن، ثم قال تعالى:


{
123 - 126 } { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ
فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ
بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا
جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }

وهذا
امتنان منه على عباده المؤمنين، وتذكير لهم بما نصرهم به يوم بدر وهم أذلة
في قلة عَددهم وعُددهم مع كثرة عدد عدوهم وعُددهم، وكانت وقعة بدر في
السنة الثانية من الهجرة، خرج النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 من المدينة بثلاث مئة وبضعة عشر من أصحابه،
ولم يكن معهم إلا سبعون بعيرا وفرسان لطلب عير لقريش قدمت من الشام، فسمع
به المشركون فتجهزوا من مكة لفكاك عيرهم، وخرجوا في زهاء ألف مقاتل مع
العدة الكاملة والسلاح العام والخيل الكثيرة، فالتقوا همم والمسلمون في ماء
يقال له "بدر" بين مكة والمدينة فاقتتلوا، ونصر الله المسلمين نصرا عظيما،
فقتلوا من المشركين سبعين قتيلا من صناديد المشركين وشجعانهم، وأسروا
سبعين، واحتووا على معسكرهم ستأتي - إن شاء الله - القصة في سورة الأنفال،
فإن ذلك موضعها، ولكن الله تعالى هنا أتى بها ليتذكر بها المؤمنون ليتقوا
ربهم ويشكروه، فلهذا قال { فاتقوا الله لعلكم تشكرون } لأن من اتقى ربه فقد
شكره، ومن ترك التقوى فلم يشكره، إذ تقول يا محمد للمؤمنين يوم بدر مبشرا
لهم بالنصر.

{ ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة
منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا } أي: من مقصدهم هذا،
وهو وقعة بدر { يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } أي: معلمين
بعلامة الشجعان، فشرط الله لإمدادهم ثلاثة شروط: الصبر، والتقوى، وإتيان
المشركين من فورهم هذا، فهذا الوعد بإنزال الملائكة المذكورين وإمدادهم
بهم، وأما وعد النصر وقمع كيد الأعداء فشرط الله له الشرطين الأولين كما
تقدم في قوله: { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا }

{ وما
جعله الله } أي: إمداده لكم بالملائكة { إلا بشرى } تستبشرون بها وتفرحون {
ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله } فلا تعتمدوا على ما معكم
من الأسباب، بل الأسباب فيها طمأنينة لقلوبكم، وأما النصر الحقيقي الذي لا
معارض له، فهو مشيئة الله لنصر من يشاء من عباده، فإنه إن شاء نصر من معه
الأسباب كما هي سنته في خلقه، وإن شاء نصر المستضعفين الأذلين ليبين لعباده
أن الأمر كله بيديه، ومرجع الأمور إليه، ولهذا قال { عند الله العزيز }
فلا يمتنع عليه مخلوق، بل الخلق كلهم أذلاء مدبرون تحت تدبيره وقهره {
الحكيم } الذي يضع الأشياء مواضعها، وله الحكمة في إدالة الكفار في بعض
الأوقات على المسلمين إدالة غير مستقرة، قال تعالى: { ذلك ولو يشاء الله
لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض }


{ 127 } { لِيَقْطَعَ
طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا
خَائِبِينَ }

يخبر تعالى أن نصره عباده المؤمنين لأحد أمرين: إما أن
يقطع طرفا من الذين كفروا، أي: جانبا منهم وركنا من أركانهم، إما بقتل، أو
أسر، أو استيلاء على بلد، أو غنيمة مال، فيقوى بذلك المؤمنون ويذل
الكافرون، وذلك لأن مقاومتهم ومحاربتهم للإسلام تتألف من أشخاصهم وسلاحهم
وأموالهم وأرضهم فبهذه الأمور تحصل منهم المقاومة والمقاتلة فقطع شيء من
ذلك ذهاب لبعض قوتهم، الأمر الثاني أن يريد الكفار بقوتهم وكثرتهم، طمعا في
المسلمين، ويمنوا أنفسهم ذلك، ويحرصوا عليه غاية الحرص، ويبذلوا قواهم
وأموالهم في ذلك، فينصر الله المؤمنين عليهم ويردهم خائبين لم ينالوا
مقصودهم، بل يرجعون بخسارة وغم وحسرة، وإذا تأملت الواقع رأيت نصر الله
لعباده المؤمنين دائرا بين هذين الأمرين، غير خارج عنهما إما نصر عليهم أو
خذل لهم.


{ 128 - 129 } { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ *
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

لما
جرى يوم "أحد" ما جرى، وجرى على النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 مصائب، رفع الله بها درجته، فشج رأسه وكسرت
رباعيته، قال "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم" وجعل يدعو على رؤساء من المشركين
مثل أبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام،
أنزل الله تعالى على رسوله نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة
الله { ليس لك من الأمر شيء } إنما عليك البلاغ وإرشاد الخلق والحرص على
مصالحهم، وإنما الأمر لله تعالى هو الذي يدبر الأمور، ويهدي من يشاء ويضل
من يشاء، فلا تدع عليهم بل أمرهم راجع إلى ربهم، إن اقتضت حكمته ورحمته أن
يتوب عليهم ويمن عليهم بالإسلام فعل، وإن اقتضت حكمته إبقاءهم على كفرهم
وعدم هدايتهم، فإنهم هم الذين ظلموا أنفسهم وضروها وتسببوا بذلك، فعل، وقد
تاب الله على هؤلاء المعينين وغيرهم، فهداهم للإسلام رضي الله عنهم، وفي
هذه الآية مما يدل على أن اختيار الله غالب على اختيار العباد، وأن العبد
وإن ارتفعت درجته وعلا قدره قد يختار شيئا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره،
وأن الرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 ليس له من الأمر شيء فغيره من باب أولى
ففيها أعظم رد على من تعلق بالأنبياء أو غيرهم من الصالحين وغيرهم، وأن هذا
شرك في العبادة، نقص في العقل، يتركون من الأمر كله له ويدعون من لا يملك
من الأمر مثقال ذرة، إن هذا لهو الضلال البعيد، وتأمل كيف لما ذكر تعالى
توبته عليهم أسند الفعل إليه، ولم يذكر منهم سببا موجبا لذلك، ليدل ذلك على
أن النعمة محض فضله على عبده، من غير سبق سبب من العبد ولا وسيلة، ولما
ذكر العذاب ذكر معه ظلمهم، ورتبه على العذاب بالفاء المفيدة للسببية، فقال {
أو يعذبهم فإنهم ظالمون } ليدل ذلك على كمال عدل الله وحكمته، حيث وضع
العقوبة موضعها، ولم يظلم عبده بل العبد هو الذي ظلم نفسه، ولما نفى عن
رسوله أنه ليس له من الأمر شيء قرر من الأمر له فقال { ولله ما في السماوات
وما في الأرض } من الملائكة والإنس والجن والحيوانات والأفلاك والجمادات
كلها، وجميع ما في السماوات والأرض، الكل ملك لله مخلوقون مدبرون متصرف
فيهم تصرف المماليك، فليس لهم مثقال ذرة من الملك، وإذا كانوا كذلك فهم
دائرون بين مغفرته وتعذيبه فيغفر لمن يشاء بأن يهديه للإسلام فيغفر شركه
ويمن عليه بترك العصيان فيغفر له ذنبه، { ويعذب من يشاء } بأن يكله إلى
نفسه الجاهلة الظالمة المقتضية لعمل الشر فيعمل الشر ويعذبه على ذلك، ثم
ختم الآية باسمين كريمين دالين على سعة رحمته وعموم مغفرته وسعة إحسانه
وعميم إحسانه، فقال { والله غفور رحيم } ففيها أعظم بشارة بأن رحمته غلبت
غضبه، ومغفرته غلبت مؤاخذته، فالآية فيها الإخبار عن حالة الخلق وأن منهم
من يغفر الله له ومنهم من يعذبه، فلم يختمها باسمين أحدهما دال على الرحمة،
والثاني دال على النقمة، بل ختمها باسمين كليهما يدل على الرحمة، فله
تعالى رحمة وإحسان سيرحم بها عباده لا تخطر ببال بشر، ولا يدرك لها وصف،
فنسأله تعالى أن يتغمدنا ويدخلنا برحمته في عباده الصالحين.

تم
السفر الأول من هذا التفسير المبارك بيسر من الله وإعانة، فله الحمد والشكر
والثناء، وأسأله المزيد من فضله وكرمه وإحسانه، ويليه المجلد الثاني، أوله
قول الباري جل جلاله { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة
} الآية وذلك في تسع وعشرين من شهر ربيع الأول من سنة 1343 ثلاث وأربعين
وثلاث مئة وألف من الهجرة النبوية وصلى الله على محمد وسلم تسليما كثيرا
بقلم جامعه عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي غفر الله له ولوالديه
وإخوانه المسلمين، والحمد لله رب العالمين.

تم المجلد الأول بحمد
الله

المجلد الثاني من تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن
لجامعه الفقير إلى الله: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن سعدي غفر الله
له ولوالديه وللمسلمين آمين.

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 00666666666

الحمد لله نحمده
ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد
الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 تسليما كثيرا قال تعالى:


{ 130 -
136 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا
أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً
أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا
عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ
مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }

تقدم في مقدمة
هذا التفسير أن العبد ينبغي له مراعاة الأوامر والنواهي في نفسه وفي غيره،
وأن الله تعالى إذا أمره بأمر وجب عليه -أولا- أن يعرف حده، وما هو الذي
أمر به ليتمكن بذلك من امتثاله، فإذا عرف ذلك اجتهد، واستعان بالله على
امتثاله في نفسه وفي غيره، بحسب قدرته وإمكانه، وكذلك إذا نهي عن أمر عرف
حده، وما يدخل فيه وما لا يدخل، ثم اجتهد واستعان بربه في تركه، وأن هذا
ينبغي مراعاته في جميع الأوامر الإلهية والنواهي، وهذه الآيات الكريمات قد
اشتملت عن أوامر وخصال من خصال الخير، أمر الله [بها] وحث على فعلها، وأخبر
عن جزاء أهلها، وعلى نواهي حث على تركها.

ولعل الحكمة -والله أعلم-
في إدخال هذه الآيات أثناء قصة "أحد" أنه قد تقدم أن الله تعالى وعد عباده
المؤمنين، أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم على أعدائهم، وخذل الأعداء عنهم،
كما في قوله تعالى: { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا }

ثم
قال: { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم } الآيات.

فكأن
النفوس اشتاقت إلى معرفة خصال التقوى، التي يحصل بها النصر والفلاح
والسعادة، فذكر الله في هذه الآيات أهم خصال التقوى التي إذا قام العبد بها
فقيامه بغيرها من باب أولى وأحرى، ويدل على ما قلنا أن الله ذكر لفظ
"التقوى" في هذه الآيات ثلاث مرات: مرة مطلقة وهي قوله: { أعدت للمتقين }
ومرتين مقيدتين، فقال: { واتقوا الله } { واتقوا النار } فقوله تعالى: { يا
أيها الذين آمنوا } كل ما في القرآن من قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا
} افعلوا كذا، أو اتركوا كذا، يدل على أن الإيمان هو السبب الداعي والموجب
لامتثال ذلك الأمر، واجتناب ذلك النهي؛ لأن الإيمان هو التصديق الكامل بما
يجب التصديق به، المستلزم لأعمال الجوارح، فنهاهم عن أكل الربا أضعافا
مضاعفة، وذلك هو ما اعتاده أهل الجاهلية، ومن لا يبالي بالأوامر الشرعية من
أنه إذا حل الدين، على المعسر ولم يحصل منه شيء، قالوا له: إما أن تقضي ما
عليك من الدين، وإما أن نزيد في المدة، ويزيد ما في ذمتك، فيضطر الفقير
ويستدفع غريمه ويلتزم ذلك، اغتناما لراحته الحاضرة، ، فيزداد -بذلك- ما في
ذمته أضعافا مضاعفة، من غير نفع وانتفاع.

ففي قوله: { أضعافًا
مضاعفة } تنبيه على شدة شناعته بكثرته، وتنبيه لحكمة تحريمه، وأن تحريم
الربا حكمته أن الله منع منه لما فيه من الظلم.

وذلك أن الله أوجب
إنظار المعسر، وبقاء ما في ذمته من غير زيادة، فإلزامه بما فوق ذلك ظلم
متضاعف، فيتعين على المؤمن المتقي تركه وعدم قربانه، لأن تركه من موجبات
التقوى.

والفلاح متوقف على التقوى، فلهذا قال: { واتقوا الله لعلكم
تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين } بترك ما يوجب دخولها، من الكفر
والمعاصي، على اختلاف درجاتها، فإن المعاصي كلها- وخصوصا المعاصي الكبار-
تجر إلى الكفر، بل هي من خصال الكفر الذي أعد الله النار لأهله، فترك
المعاصي ينجي من النار، ويقي من سخط الجبار، وأفعال الخير والطاعة توجب رضا
الرحمن، ودخول الجنان، وحصول الرحمة، ولهذا قال: { وأطيعوا الله والرسول }
بفعل الأوامر امتثالا، واجتناب النواهي { لعلكم ترحمون }

فطاعة
الله وطاعة رسوله، من أسباب حصول الرحمة كما قال تعالى: { ورحمتي وسعت كل
شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } الآيات.

ثم أمرهم تعالى
بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض، فكيف
بطولها، التي أعدها الله للمتقين، فهم أهلها وأعمال التقوى هي الموصلة
إليها، ثم وصف المتقين وأعمالهم، فقال: { الذين ينفقون في السراء والضراء }
أي: في حال عسرهم ويسرهم، إن أيسروا أكثروا من النفقة، وإن أعسروا لم
يحتقروا من المعروف شيئا ولو قل.

{ والكاظمين الغيظ } أي: إذا حصل
لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم -وهو امتلاء قلوبهم من الحنق، الموجب
للانتقام بالقول والفعل-، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل
يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.

{
والعافين عن الناس } يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك
بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن
المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق
الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانا إليهم،
وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا
على العبد الفقير، كما قال تعالى: { فمن عفا وأصلح فأجره على الله }

ثم
ذكر حالة أعم من غيرها، وأحسن وأعلى وأجل، وهي الإحسان، فقال [تعالى]: {
والله يحب المحسنين } والإحسان نوعان: الإحسان في عبادة الخالق. [والإحسان
إلى المخلوق، فالإحسان في عبادة الخالق].

فسرها النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم
تكن تراه فإنه يراك"

وأما الإحسان إلى المخلوق، فهو إيصال النفع
الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، فيدخل في ذلك
أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، والنصيحة
لعامتهم وخاصتهم، والسعي في جمع كلمتهم، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة
والمستحبة إليهم، على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم، فيدخل في ذلك بذل
الندى وكف الأذى، واحتمال الأذى، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات،
فمن قام بهذه الأمور، فقد قام بحق الله وحق عبيده.

ثم ذكر اعتذارهم
لربهم من جناياتهم وذنوبهم، فقال: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا
أنفسهم } أي: صدر منهم أعمال [سيئة] كبيرة، أو ما دون ذلك، بادروا إلى
التوبة والاستغفار، وذكروا ربهم، وما توعد به العاصين ووعد به المتقين،
فسألوه المغفرة لذنوبهم، والستر لعيوبهم، مع إقلاعهم عنها وندمهم عليها،
فلهذا قال: { ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون }

{ أولئك }
الموصوفون بتلك الصفات { جزاؤهم مغفرة من ربهم } تزيل عنهم كل محذور {
وجنات تجري من تحتها الأنهار } فيها من النعيم المقيم، والبهجة والسرور
والبهاء، والخير والسرور، والقصور والمنازل الأنيقة العاليات، والأشجار
المثمرة البهية، والأنهار الجاريات في تلك المساكن الطيبات، { خالدين فيها }
لا يحولون عنها، ولا يبغون بها بدلا، ولا يغير ما هم فيه من النعيم، {
ونعم أجر العاملين } عملوا لله قليلا فأجروا كثيرا فـ "عند الصباح يحمد
القوم السرى" وعند الجزاء يجد العامل أجره كاملا موفرا.

وهذه الآيات
الكريمات من أدلة أهل السنة والجماعة، على أن الأعمال تدخل في الإيمان،
خلافا للمرجئة، ووجه الدلالة إنما يتم بذكر الآية، التي في سورة الحديد،
نظير هذه الآيات، وهي قوله تعالى: { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها
كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } فلم يذكر فيها إلا لفظ
الإيمان به وبرسله، وهنا قال: { أعدت للمتقين } ثم وصف المتقين بهذه
الأعمال المالية والبدنية، فدل على أن هؤلاء المتقين الموصوفين بهذه الصفات
هم أولئك المؤمنون.

ثم قال تعالى: { 137 - 138 } { قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ }

وهذه الآيات الكريمات، وما بعدها في قصة "أحد"
يعزي تعالى عباده المؤمنين ويسليهم، ويخبرهم أنه مضى قبلهم أجيال وأمم
كثيرة، امتحنوا، وابتلي المؤمنون منهم بقتال الكافرين، فلم يزالوا في
مداولة ومجاولة، حتى جعل الله العاقبة للمتقين، والنصر لعباده المؤمنين،
وآخر الأمر حصلت الدولة على المكذبين، وخذلهم الله بنصر رسله وأتباعهم.

{
فسيروا في الأرض } بأبدانكم وقلوبكم { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين }
فإنكم لا تجدونهم إلا معذبين بأنواع العقوبات الدنيوية، قد خوت ديارهم،
وتبين لكل أحد خسارهم، وذهب عزهم وملكهم، وزال بذخهم وفخرهم، أفليس في هذا
أعظم دليل، وأكبر شاهد على صدق ما جاءت به الرسل؟"

وحكمة الله التي
يمتحن بها عباده، ليبلوهم ويتبين صادقهم من كاذبهم، ولهذا قال تعالى: { هذا
بيان للناس } أي: دلالة ظاهرة، تبين للناس الحق من الباطل، وأهل السعادة
من أهل الشقاوة، وهو الإشارة إلى ما أوقع الله بالمكذبين.

{ وهدى
وموعظة للمتقين } لأنهم هم المنتفعون بالآيات فتهديهم إلى سبيل الرشاد،
وتعظهم وتزجرهم عن طريق الغي، وأما باقي الناس فهي بيان لهم، تقوم [به]
عليهم الحجة من الله، ليهلك من هلك عن بينة.

ويحتمل أن الإشارة في
قوله: { هذا بيان للناس } للقرآن العظيم، والذكر الحكيم، وأنه بيان للناس
عموما، وهدى وموعظة للمتقين خصوصا، وكلا المعنيين حق.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:29 pm

{
139 - 143 } { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ
الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ
شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا
مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ
الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ }

يقول تعالى مشجعا لعباده المؤمنين، ومقويا لعزائمهم
ومنهضا لهممهم: { ولا تهنوا ولا تحزنوا } أي: ولا تهنوا وتضعفوا في
أبدانكم، ولا تحزنوا في قلوبكم، عندما أصابتكم المصيبة، وابتليتم بهذه
البلوى، فإن الحزن في القلوب، والوهن على الأبدان، زيادة مصيبة عليكم، وعون
لعدوكم عليكم، بل شجعوا قلوبكم وصبروها، وادفعوا عنها الحزن وتصلبوا على
قتال عدوكم، وذكر تعالى أنه لا ينبغي ولا يليق بهم الوهن والحزن، وهم
الأعلون في الإيمان، ورجاء نصر الله وثوابه، فالمؤمن المتيقن ما وعده الله
من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي منه ذلك، ولهذا قال [تعالى]: { وأنتم
الأعلون إن كنتم مؤمنين }

ثم سلَّاهم بما حصل لهم من الهزيمة،
وبيَّن الحكم العظيمة المترتبة على ذلك، فقال: { إن يمسسكم قرح فقد مس
القوم قرح مثله } فأنتم وإياهم قد تساويتم في القرح، ولكنكم ترجون من الله
ما لا يرجون كما قال تعالى: { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون
وترجون من الله ما لا يرجون }

ومن الحكم في ذلك أن هذه الدار يعطي
الله منها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فيداول الله الأيام بين الناس،
يوم لهذه الطائفة، ويوم للطائفة الأخرى؛ لأن هذه الدار الدنيا منقضية
فانية، وهذا بخلاف الدار الآخرة، فإنها خالصة للذين آمنوا.

{ وليعلم
الله الذين آمنوا } هذا أيضا من الحكم أنه يبتلي الله عباده بالهزيمة
والابتلاء، ليتبين المؤمن من المنافق؛ لأنه لو استمر النصر للمؤمنين في
جميع الوقائع لدخل في الإسلام من لا يريده، فإذا حصل في بعض الوقائع بعض
أنواع الابتلاء، تبين المؤمن حقيقة الذي يرغب في الإسلام، في الضراء
والسراء، واليسر والعسر، ممن ليس كذلك.

{ ويتخذ منكم شهداء } وهذا
أيضا من بعض الحكم، لأن الشهادة عند الله من أرفع المنازل، ولا سبيل لنيلها
إلا بما يحصل من وجود أسبابها، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين، أن قيَّض
لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس، لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية
والنعيم المقيم، { والله لا يحب الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم، وتقاعدوا
عن القتال في سبيله، وكأن في هذا تعريضا بذم المنافقين، وأنهم مبغضون لله،
ولهذا ثبطهم عن القتال في سبيله.

{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة
ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين }

{ وليمحص
الله الذين آمنوا } وهذا أيضا من الحكم أن الله يمحص بذلك المؤمنين من
ذنوبهم وعيوبهم، يدل ذلك على أن الشهادة والقتال في سبيل الله يكفر الذنوب،
ويزيل العيوب، وليمحص الله أيضا المؤمنين من غيرهم من المنافقين، فيتخلصون
منهم، ويعرفون المؤمن من المنافق، ومن الحكم أيضا أنه يقدر ذلك، ليمحق
الكافرين، أي: ليكون سببا لمحقهم واستئصالهم بالعقوبة، فإنهم إذا انتصروا،
بغوا، وازدادوا طغيانا إلى طغيانهم، يستحقون به المعاجلة بالعقوبة، رحمة
بعباده المؤمنين.

ثم قال تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما
يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } هذا استفهام إنكاري، أي: لا
تظنوا، ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره في
سبيل الله وابتغاء مرضاته، فإن الجنة أعلى المطالب، وأفضل ما به يتنافس
المتنافسون، وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته، والعمل الموصل إليه، فلا يوصل
إلى الراحة إلا بترك الراحة، ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم، ولكن مكاره
الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها، وتمرينها عليها
ومعرفة ما تئول إليه، تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها، ولا يبالون
بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ثم وبخهم تعالى على عدم صبرهم
بأمر كانوا يتمنونه ويودون حصوله، فقال: { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن
تلقوه } وذلك أن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم ممن فاته بدر يتمنون أن
يحضرهم الله مشهدا يبذلون فيه جهدهم، قال الله [تعالى] لهم: { فقد رأيتموه }
أي: رأيتم ما تمنيتم بأعينكم { وأنتم تنظرون } فما بالكم وترك الصبر؟ هذه
حالة لا تليق ولا تحسن، خصوصا لمن تمنى ذلك، وحصل له ما تمنى، فإن الواجب
عليه بذل الجهد، واستفراغ الوسع في ذلك.

وفي هذه الآية دليل على أنه
لا يكره تمني الشهادة، ووجه الدلالة أن الله تعالى أقرهم على أمنيتهم، ولم
ينكر عليهم، وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها، والله أعلم.

ثم
قال تعالى: { 144 - 145 } { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ
شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ
تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ
ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ
نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ }

يقول تعالى: { وما
محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } أي: ليس ببدع من الرسل، بل هو من جنس
الرسل الذين قبله، وظيفتهم تبليغ رسالات ربهم وتنفيذ أوامره، ليسوا
بمخلدين، وليس بقاؤهم شرطا في امتثال أوامر الله، بل الواجب على الأمم
عبادة ربهم في كل وقت وبكل حال، ولهذا قال: { أفإن مات أو قتل انقلبتم على
أعقابكم } بترك ما جاءكم من إيمان أو جهاد، أو غير ذلك.

قال [الله]
تعالى: { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا } إنما يضر نفسه، وإلا
فالله تعالى غني عنه، وسيقيم دينه، ويعز عباده المؤمنين، فلما وبخ تعالى من
انقلب على عقبيه، مدح من ثبت مع رسوله، وامتثل أمر ربه، فقال: { وسيجزي
الله الشاكرين } والشكر لا يكون إلا بالقيام بعبودية الله تعالى في كل حال.

وفي
هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم
عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه، فقدُ رئيس ولو عظم، وما ذاك إلا بالاستعداد
في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه، إذا فقد أحدهم قام
به غيره، وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله، والجهاد عنه، بحسب
الإمكان، لا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس، فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم،
وتستقيم أمورهم.

وفي هذه الآية أيضا أعظم دليل على فضيلة الصديق
الأكبر أبي بكر، وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 لأنهم هم سادات الشاكرين.

ثم أخبر
تعالى أن النفوس جميعها متعلقة بآجالها بإذن الله وقدره وقضائه، فمن حتَّم
عليه بالقدر أن يموت، مات ولو بغير سبب، ومن أراد بقاءه، فلو أتى من
الأسباب كل سبب، لم يضره ذلك قبل بلوغ أجله، وذلك أن الله قضاه وقدره وكتبه
إلى أجل مسمى: { إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون }

ثم
أخبر تعالى أنه يعطي الناس من ثواب الدنيا والآخرة ما تعلقت به إراداتهم،
فقال: { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها }

قال
الله تعالى: { كلاًّ نمدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك
محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا }

{
وسنجزي الشاكرين } ولم يذكر جزاءهم ليدل ذلك على كثرته وعظمته، وليعلم أن
الجزاء على قدر الشكر، قلة وكثرة وحسنا.


{ 146 - 148 } {
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا
وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا
اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ
إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي
أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ
الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }

هذا تسلية للمؤمنين،
وحث على الاقتداء بهم، والفعل كفعلهم، وأن هذا أمر قد كان متقدما، لم تزل
سنة الله جارية بذلك، فقال: { وكأين من نبي } أي: وكم من نبي { قاتل معه
ربيون كثير } أي: جماعات كثيرون من أتباعهم، الذين قد ربتهم الأنبياء
بالإيمان والأعمال الصالحة، فأصابهم قتل وجراح وغير ذلك.

{ فما
وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا } أي: ما ضعفت
قلوبهم، ولا وهنت أبدانهم، ولا استكانوا، أي: ذلوا لعدوهم، بل صبروا
وثبتوا، وشجعوا أنفسهم، ولهذا قال: { والله يحب الصابرين }

ثم ذكر
قولهم واستنصارهم لربهم، فقال: { وما كان قولهم } أي: في تلك المواطن
الصعبة { إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } والإسراف:
هو مجاوزة الحد إلى ما حرم، علموا أن الذنوب والإسراف من أعظم أسباب
الخذلان، وأن التخلي منها من أسباب النصر، فسألوا ربهم مغفرتها.

ثم
إنهم لم يتكلوا على ما بذلوا جهدهم به من الصبر، بل اعتمدوا على الله،
وسألوه أن يثبت أقدامهم عند ملاقاة الأعداء الكافرين، وأن ينصرهم عليهم،
فجمعوا بين الصبر وترك ضده، والتوبة والاستغفار، والاستنصار بربهم، لا جرم
أن الله نصرهم، وجعل لهم العاقبة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: { فآتاهم
الله ثواب الدنيا } من النصر والظفر والغنيمة، { وحُسن ثواب الآخرة } وهو
الفوز برضا ربهم، والنعيم المقيم الذي قد سلم من جميع المنكدات، وما ذاك
إلا أنهم أحسنوا له الأعمال، فجازاهم بأحسن الجزاء، فلهذا قال: { والله يحب
المحسنين } في عبادة الخالق ومعاملة الخلق، ومن الإحسان أن يفعل عند جهاد
الأعداء، كفعل هؤلاء الموصوفين

ثم قال تعالى:
{ 149 - 151 } {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ
اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى
الظَّالِمِينَ }

وهذا نهي من الله للمؤمنين أن يطيعوا الكافرين من
المنافقين والمشركين، فإنهم إن أطاعوهم لم يريدوا لهم إلا الشر، وهم
[قصدهم] ردهم إلى الكفر الذي عاقبته الخيبة والخسران.

ثم أخبر أنه
مولاهم وناصرهم، ففيه إخبار لهم بذلك، وبشارة بأنه سيتولى أمورهم بلطفه،
ويعصمهم من أنواع الشرور.

وفي ضمن ذلك الحث لهم على اتخاذه وحده
وليا وناصرا من دون كل أحد، فمن ولايته ونصره لهم أنه وعدهم أنه سيلقي في
قلوب أعدائهم من الكافرين الرعب، وهو الخوف العظيم الذي يمنعهم من كثير من
مقاصدهم، وقد فعل تعالى.

وذلك أن المشركين -بعدما انصرفوا من وقعة
"أحد" - تشاوروا بينهم، وقالوا: كيف ننصرف، بعد أن قتلنا منهم من قتلنا،
وهزمناهم ولما نستأصلهم؟ فهموا بذلك، فألقى الله الرعب في قلوبهم، فانصرفوا
خائبين، ولا شك أن هذا من أعظم النصر، لأنه قد تقدم أن نصر الله لعباده
المؤمنين لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يقطع طرفا من الذين كفروا، أو
يكبتهم فينقلبوا خائبين، وهذا من الثاني.

ثم ذكر السبب الموجب
لإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، فقال: { بما أشركوا بالله ما لم ينزل به
سلطانا } أي: ذلك بسبب ما اتخذوا من دونه من الأنداد والأصنام، التي
اتخذوها على حسب أهوائهم وإرادتهم الفاسدة، من غير حجة ولا برهان، وانقطعوا
من ولاية الواحد الرحمن، فمن ثم كان المشرك مرعوبا من المؤمنين، لا يعتمد
على ركن وثيق، وليس له ملجأ عند كل شدة وضيق، هذا حاله في الدنيا، وأما في
الآخرة فأشد وأعظم، ولهذا قال: { ومأواهم النار } أي: مستقرهم الذي يأوون
إليه وليس لهم عنها خروج، { وبئس مثوى الظالمين } بسبب ظلمهم وعدوانهم صارت
النار مثواهم.

{ 152 } { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ
إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ
فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }

أي: { ولقد صدقكم الله
وعده } بالنصر، فنصركم عليهم، حتى ولوكم أكتافهم، وطفقتم فيهم قتلا، حتى
صرتم سببا لأنفسكم، وعونا لأعدائكم عليكم، فلما حصل منكم الفشل وهو الضعف
والخور { وتنازعتم في الأمر } الذي فيه ترك أمر الله بالائتلاف وعدم
الاختلاف، فاختلفتم، فمن قائل نقيم في مركزنا الذي جعلنا فيه النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، ومن قائل: ما مقامنا فيه وقد انهزم العدو،
ولم يبق محذور، فعصيتم الرسول، وتركتم أمره من بعد ما أراكم الله ما تحبون
وهو انخذال أعدائكم؛ لأن الواجب على من أنعم الله عليه بما أحب، أعظم من
غيره.

فالواجب في هذه الحال خصوصًا، وفي غيرها عموما، امتثال أمر
الله ورسوله.

{ منكم من يريد الدنيا } وهم الذين أوجب لهم ذلك ما
أوجب، { ومنكم من يريد الآخرة } وهم الذين لزموا أمر رسول الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 وثبتوا حيث أمروا.

{ ثم صرفكم عنهم }
أي: بعدما وجدت هذه الأمور منكم، صرف الله وجوهكم عنهم، فصار الوجه
لعدوكم، ابتلاء من الله لكم وامتحانا، ليتبين المؤمن من الكافر، والطائع من
العاصي، وليكفر الله عنكم بهذه المصيبة ما صدر منكم، فلهذا قال: { ولقد
عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } أي: ذو فضل عظيم عليهم، حيث منَّ
عليهم بالإسلام، وهداهم لشرائعه، وعفا عنهم سيئاتهم، وأثابهم على مصيباتهم.

ومن
فضله على المؤمنين أنه لا يقدر عليهم خيرا ولا مصيبة، إلا كان خيرا لهم.
إن أصابتهم سراء فشكروا جازاهم جزاء الشاكرين، وإن أصابتهم ضراء فصبروا،
جازاهم جزاء الصابرين.

{ 153 - 154 } { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا
تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ
فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ
وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ
أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى
طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ
يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ
هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ
لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ
لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ
كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ
إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ }

يذكرهم
تعالى حالهم في وقت انهزامهم عن القتال، ويعاتبهم على ذلك، فقال: { إذ
تصعدون } أي: تجدون في الهرب { ولا تلوون على أحد } أي: لا يلوي أحد منكم
على أحد، ولا ينظر إليه، بل ليس لكم هم إلا الفرار والنجاء عن القتال.

والحال
أنه ليس عليكم خطر كبير، إذ لستم آخر الناس مما يلي الأعداء، ويباشر
الهيجاء، بل { الرسول يدعوكم في أخراكم } أي: مما يلي القوم يقول: "إليَّ
عباد الله" فلم تلتفتوا إليه، ولا عرجتم عليه، فالفرار نفسه موجب للوم،
ودعوة الرسول الموجبة لتقديمه على النفس، أعظم لوما بتخلفكم عنها، {
فأثابكم } أي: جازاكم على فعلكم { غما بغم } أي: غما يتبع غما، غم بفوات
النصر وفوات الغنيمة، وغم بانهزامكم، وغم أنساكم كل غم، وهو سماعكم أن
محمدا تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 قد قتل.

ولكن الله -بلطفه وحسن نظره
لعباده- جعل اجتماع هذه الأمور لعباده المؤمنين خيرا لهم، فقال: { لكيلا
تحزنوا على ما فاتكم } من النصر والظفر، { ولا ما أصابكم } من الهزيمة
والقتل والجراح، إذا تحققتم أن الرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 لم يقتل هانت عليكم تلك المصيبات، واغتبطتم
بوجوده المسلي عن كل مصيبة ومحنة، فلله ما في ضمن البلايا والمحن من
الأسرار والحكم، وكل هذا صادر عن علمه وكمال خبرته بأعمالكم، وظواهركم
وبواطنكم، ولهذا قال: { والله خبير بما تعملون }

ويحتمل أن معنى
قوله: { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } يعني: أنه قدَّر ذلك
الغم والمصيبة عليكم، لكي تتوطن نفوسكم، وتمرنوا على الصبر على المصيبات،
ويخف عليكم تحمل المشقات: { ثم أنزل عليكم من بعد الغم } الذي أصابكم {
أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم }

ولا شك أن هذا رحمة بهم، وإحسان
وتثبيت لقلوبهم، وزيادة طمأنينة؛ لأن الخائف لا يأتيه النعاس لما في قلبه
من الخوف، فإذا زال الخوف عن القلب أمكن أن يأتيه النعاس.

وهذه
الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم هم إلا
إقامة دين الله، ورضا الله ورسوله، ومصلحة إخوانهم المسلمين.

وأما
الطائفة الأخرى الذين { قد أهمتهم أنفسهم } فليس لهم هم في غيرها، لنفاقهم
أو ضعف إيمانهم، فلهذا لم يصبهم من النعاس ما أصاب غيرهم، { يقولون هل لنا
من الأمر من شيء } وهذا استفهام إنكاري، أي: ما لنا من الأمر -أي: النصر
والظهور- شيء، فأساءوا الظن بربهم وبدينه ونبيه، وظنوا أن الله لا يتم أمر
رسوله، وأن هذه الهزيمة هي الفيصلة والقاضية على دين الله، قال الله في
جوابهم: { قل إن الأمر كله لله } الأمر يشمل الأمر القدري، والأمر الشرعي،
فجميع الأشياء بقضاء الله وقدره، وعاقبة النصر والظفر لأوليائه وأهل طاعته،
وإن جرى عليهم ما جرى.

{ يخفون } يعني المنافقين { في أنفسهم ما لا
يبدون لك } ثم بين الأمر الذي يخفونه، فقال: { يقولون لو كان لنا من الأمر
شيء } أي: لو كان لنا في هذه الواقعة رأي ومشورة { ما قتلنا هاهنا } وهذا
إنكار منهم وتكذيب بقدر الله، وتسفيه منهم لرأي رسول الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، ورأي أصحابه، وتزكية منهم لأنفسهم، فرد
الله عليهم بقوله: { قل لو كنتم في بيوتكم } التي هي أبعد شيء عن مظان
القتل { لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } فالأسباب -وإن عظمت-
إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئا،
بل لا بد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة، {
وليبتلي الله ما في صدوركم } أي: يختبر ما فيها من نفاق وإيمان وضعف إيمان،
{ وليمحص ما في قلوبكم } من وساوس الشيطان، وما تأثر عنها من الصفات غير
الحميدة.

{ والله عليم بذات الصدور } أي: بما فيها وما أكنته،
فاقتضى علمه وحكمته أن قدر من الأسباب، ما به تظهر مخبآت الصدور وسرائر
الأمور.

ثم قال تعالى:
{ 155 } { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا
مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

يخبر تعالى عن حال الذين انهزموا يوم
"أحد" وما الذي أوجب لهم الفرار، وأنه من تسويل الشيطان، وأنه تسلط عليهم
ببعض ذنوبهم. فهم الذين أدخلوه على أنفسهم، ومكنوه بما فعلوا من المعاصي،
لأنها مركبه ومدخله، فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان.

قال
تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ثم أخبر أنه عفا عنهم بعدما فعلوا
ما يوجب المؤاخذة، وإلا فلو واخذهم لاستأصلهم.

{ إن الله غفور }
للمذنبين الخطائين بما يوفقهم له من التوبة والاستغفار، والمصائب المكفرة، {
حليم } لا يعاجل من عصاه، بل يستأني به، ويدعوه إلى الإنابة إليه،
والإقبال عليه.

ثم إن تاب وأناب قبل منه، وصيره كأنه لم يجر منه
ذنب، ولم يصدر منه عيب، فلله الحمد على إحسانه.


{ 156 - 158 } {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا
غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ
اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ *

وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ
تُحْشَرُونَ }

ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يشابهوا الكافرين،
الذين لا يؤمنون بربهم، ولا بقضائه وقدره، من المنافقين وغيرهم.

ينهاهم
عن مشابهتهم في كل شيء، وفي هذا الأمر الخاص وهو أنهم يقولون لإخوانهم في
الدين أو في النسب: { إذا ضربوا في الأرض } أي: سافروا للتجارة { أو كانوا
غزى } أي: غزاة، ثم جرى عليهم قتل أو موت، يعارضون القدر ويقولون: { لو
كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } وهذا كذب منهم، فقد قال تعالى: { قل لو
كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } ولكن هذا التكذيب
لم يفدهم، إلا أن الله يجعل هذا القول، وهذه العقيدة حسرة في قلوبهم،
فتزداد مصيبتهم، وأما المؤمنون بالله فإنهم يعلمون أن ذلك بقدر الله،
فيؤمنون ويسلمون، فيهدي الله قلوبهم ويثبتها، ويخفف بذلك عنهم المصيبة.

قال
الله ردا عليهم: { والله يحيي ويميت } أي: هو المنفرد بذلك، فلا يغني حذر
عن قدر.

{ والله بما تعملون بصير } فيجازيكم بأعمالكم وتكذيبكم.

ثم
أخبر تعالى أن القتل في سبيله أو الموت فيه، ليس فيه نقص ولا محذور، وإنما
هو مما ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون، لأنه سبب مفض وموصل إلى مغفرة
الله ورحمته، وذلك خير مما يجمع أهل الدنيا من دنياهم، وأن الخلق أيضا إذا
ماتوا أو قتلوا بأي حالة كانت، فإنما مرجعهم إلى الله، ومآلهم إليه، فيجازي
كلا بعمله، فأين الفرار إلا إلى الله، وما للخلق عاصم إلا الاعتصام بحبل
الله؟"

{ 159 } { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ }

أي: برحمة الله لك ولأصحابك، منَّ الله عليك أن
ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا
عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك.

{ ولو كنت فظا } أي: سيئ الخلق { غليظ
القلب } أي: قاسيه، { لانفضوا من حولك } لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام
به هذا الخلق السيئ.

فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين، تجذب
الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص،
والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع
ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما
يقول، فكيف بغيره؟!

أليس من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، الاقتداء
بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، من اللين وحسن الخلق والتأليف، امتثالا
لأمر الله، وجذبا لعباد الله لدين الله.

ثم أمره الله تعالى بأن
يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله، فيجمع
بين العفو والإحسان.

{ وشاورهم في الأمر } أي: الأمور التي تحتاج
إلى استشارة ونظر وفكر، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية
والدنيوية ما لا يمكن حصره:

منها: أن المشاورة من العبادات المتقرب
بها إلى الله.

ومنها: أن فيها تسميحا لخواطرهم، وإزالة لما يصير في
القلوب عند الحوادث، فإن من له الأمر على الناس -إذا جمع أهل الرأي: والفضل
وشاورهم في حادثة من الحوادث- اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس
بمستبد عليهم، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع، فبذلوا جهدهم
ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك،
فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة، ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير
تامة.

ومنها: أن في الاستشارة تنور الأفكار، بسبب إعمالها فيما وضعت
له، فصار في ذلك زيادة للعقول.

ومنها: ما تنتجه الاستشارة من
الرأي: المصيب، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له
مطلوب، فليس بملوم، فإذا كان الله يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو
أكمل الناس عقلا، وأغزرهم علما، وأفضلهم رأيا-: { وشاورهم في الأمر } فكيف
بغيره؟!

ثم قال تعالى: { فإذا عزمت } أي: على أمر من الأمور بعد
الاستشارة فيه، إن كان يحتاج إلى استشارة { فتوكل على الله } أي: اعتمد على
حول الله وقوته، متبرئا من حولك وقوتك، { إن الله يحب المتوكلين } عليه،
اللاجئين إليه.

{ 160 } { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ
لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

أي: إن يمددكم
الله بنصره ومعونته { فلا غالب لكم } فلو اجتمع عليكم من في أقطارها وما
عندهم من العدد والعُدد، لأن الله لا مغالب له، وقد قهر العباد وأخذ
بنواصيهم، فلا تتحرك دابة إلا بإذنه، ولا تسكن إلا بإذنه.

{ وإن
يخذلكم } ويكلكم إلى أنفسكم { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } فلا بد أن
تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق.

وفي ضمن ذلك الأمر بالاستنصار بالله
والاعتماد عليه، والبراءة من الحول والقوة، ولهذا قال: { وعلى الله
فليتوكل المؤمنون } بتقديم المعمول يؤذن بالحصر، أي: على الله توكلوا لا
على غيره، لأنه قد علم أنه هو الناصر وحده، فالاعتماد عليه توحيد محصل
للمقصود، والاعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه، بل ضار.

وفي هذه
الآية الأمر بالتوكل على الله وحده، وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:31 pm

{ 161 } { وَمَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ }

الغلول هو: الكتمان من الغنيمة، [والخيانة في كل مال
يتولاه الإنسان] وهو محرم إجماعا، بل هو من الكبائر، كما تدل عليه هذه
الآية الكريمة وغيرها من النصوص، فأخبر الله تعالى أنه ما ينبغي ولا يليق
بنبي أن يغل، لأن الغلول -كما علمت- من أعظم الذنوب وأشر العيوب. وقد صان
الله تعالى أنبياءه عن كل ما يدنسهم ويقدح فيهم، وجعلهم أفضل العالمين
أخلاقا، وأطهرهم نفوسا، وأزكاهم وأطيبهم، ونزههم عن كل عيب، وجعلهم محل
رسالته، ومعدن حكمته { الله أعلم حيث يجعل رسالته }.

فبمجرد علم
العبد بالواحد منهم، يجزم بسلامتهم من كل أمر يقدح فيهم، ولا يحتاج إلى
دليل على ما قيل فيهم من أعدائهم، لأن معرفته بنبوتهم، مستلزم لدفع ذلك،
ولذلك أتى بصيغة يمتنع معها وجود الفعل منهم، فقال: { وما كان لنبي أن يغل }
أي: يمتنع ذلك ويستحيل على من اختارهم الله لنبوته.

ثم ذكر الوعيد
على من غل، فقال: { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أي: يأت به حامله
على ظهره، حيوانا كان أو متاعا، أو غير ذلك، ليعذب به يوم القيامة، { ثم
توفى كل نفس ما كسبت } الغال وغيره، كل يوفى أجره ووزره على مقدار كسبه، {
وهم لا يظلمون } أي: لا يزاد في سيئاتهم، ولا يهضمون شيئا من حسناتهم،
وتأمل حسن هذا الاحتراز في هذه الآية الكريمة.

لما ذكر عقوبة الغال،
وأنه يأتي يوم القيامة بما غله، ولما أراد أن يذكر توفيته وجزاءه، وكان
الاقتصار على الغال يوهم -بالمفهوم- أن غيره من أنواع العاملين قد لا يوفون
-أتى بلفظ عام جامع له ولغيره.

{ 162 - 163 } { أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

يخبر تعالى أنه لا يستوي من كان قصده
رضوان ربه، والعمل على ما يرضيه، كمن ليس كذلك، ممن هو مكب على المعاصي،
مسخط لربه، هذان لا يستويان في حكم الله، وحكمة الله، وفي فطر عباد الله.

{
أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } ولهذا قال هنا: { هم درجات عند
الله } أي: كل هؤلاء متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم بحسب تفاوتهم في
أعمالهم.

فالمتبعون لرضوان الله يسعون في نيل الدرجات العاليات،
والمنازل والغرفات، فيعطيهم الله من فضله وجوده على قدر أعمالهم، والمتبعون
لمساخط الله يسعون في النزول في الدركات إلى أسفل سافلين، كل على حسب
عمله، والله تعالى بصير بأعمالهم، لا يخفى عليه منها شيء، بل قد علمها،
وأثبتها في اللوح المحفوظ، ووكل ملائكته الأمناء الكرام، أن يكتبوها
ويحفظوها، ويضبطونها.


{ 164 } { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }

هذه
المنة التي امتن الله بها على عباده، أكبر النعم، بل أصلها، وهي الامتنان
عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أنقذهم الله به من الضلالة، وعصمهم به من
الهلكة، فقال: { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم }
يعرفون نسبه، وحاله، ولسانه، من قومهم وقبيلتهم، ناصحا لهم، مشفقا عليهم،
يتلو عليهم آيات الله، يعلمهم ألفاظها ومعانيها.

{ ويزكيهم } من
الشرك، والمعاصي، والرذائل، وسائر مساوئ الأخلاق.

و { يعلمهم الكتاب
} إما جنس الكتاب الذي هو القرآن، فيكون قوله: { يتلو عليهم آياته }
المراد به الآيات الكونية، أو المراد بالكتاب -هنا- الكتابة، فيكون قد امتن
عليهم، بتعليم الكتاب والكتابة، التي بها تدرك العلوم وتحفظ، { والحكمة }
هي: السنة، التي هي شقيقة القرآن، أو وضع الأشياء مواضعها، ومعرفة أسرار
الشريعة.

فجمع لهم بين تعليم الأحكام، وما به تنفذ الأحكام، وما به
تدرك فوائدها وثمراتها، ففاقوا بهذه الأمور العظيمة جميع المخلوقين، وكانوا
من العلماء الربانيين، { وإن كانوا من قبل } بعثة هذا الرسول { لفي ضلال
مبين } لا يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم، ولا ما يزكي النفوس ويطهرها، بل
ما زين لهم جهلهم فعلوه، ولو ناقض ذلك عقول العالمين.

{ 165 - 168 }
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا
قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ *
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا
لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ
لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ
وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ
أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

هذا تسلية من
الله تعالى لعباده المؤمنين، حين أصابهم ما أصابهم يوم "أحد" وقتل منهم نحو
سبعين، فقال الله: إنكم { قد أصبتم } من المشركين { مثليها } يوم بدر
فقتلتم سبعين من كبارهم وأسرتم سبعين، فليهن الأمر ولتخف المصيبة عليكم، مع
أنكم لا تستوون أنتم وهم، فإن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار.

{
قلتم أنى هذا } أي: من أين أصابنا ما أصابنا وهزمنا؟ { قل هو من عند
أنفسكم } حين تنازعتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، فعودوا على أنفسكم
باللوم، واحذروا من الأسباب المردية.

{ إن الله على كل شيء قدير }
فإياكم وسوء الظن بالله، فإنه قادر على نصركم، ولكن له أتم الحكمة في
ابتلائكم ومصيبتكم. { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض
}

ثم أخبر أن ما أصابهم يوم التقى الجمعان، جمع المسلمين وجمع
المشركين في "أحد" من القتل والهزيمة، أنه بإذنه وقضائه وقدره، لا مرد له
ولا بد من وقوعه. والأمر القدري -إذا نفذ، لم يبق إلا التسليم له، وأنه
قدره لحكم عظيمة وفوائد جسيمة، وأنه ليتبين بذلك المؤمن من المنافق، الذين
لما أمروا بالقتال، { وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله } أي: ذبا عن
دين الله، وحماية له وطلبا لمرضاة الله، { أو ادفعوا } عن محارمكم وبلدكم،
إن لم يكن لكم نية صالحة، فأبوا ذلك واعتذروا بأن { قالوا لو نعلم قتالا
لاتبعناكم } أي: لو نعلم أنكم يصير بينكم وبينهم قتال لاتبعناكم، وهم كذبة
في هذا. قد علموا وتيقنوا وعلم كل أحد أن هؤلاء المشركين، قد ملئوا من
الحنق والغيظ على المؤمنين بما أصابوا منهم، وأنهم قد بذلوا أموالهم،
وجمعوا ما يقدرون عليه من الرجال والعدد، وأقبلوا في جيش عظيم قاصدين
المؤمنين في بلدهم، متحرقين على قتالهم، فمن كانت هذه حالهم، كيف يتصور
أنهم لا يصير بينهم وبين المؤمنين قتال؟ خصوصا وقد خرج المسلمون من المدينة
وبرزوا لهم، هذا من المستحيل، ولكن المنافقين ظنوا أن هذا العذر، يروج على
المؤمنين، قال تعالى: { هم للكفر يومئذ } أي: في تلك الحال التي تركوا
فيها الخروج مع المؤمنين { أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في
قلوبهم } وهذه خاصة المنافقين، يظهرون بكلامهم وفعالهم ما يبطنون ضده في
قلوبهم وسرائرهم.

ومنه قولهم: { لو نعلم قتالا لاتبعناكم } فإنهم قد
علموا وقوع القتال.

ويستدل بهذه الآية على قاعدة "ارتكاب أخف
المفسدتين لدفع أعلاهما، وفعل أدنى المصلحتين، للعجز عن أعلاهما" ؛ [لأن
المنافقين أمروا أن يقاتلوا للدين، فإن لم يفعلوا فللمدافعة عن العيال
والأوطان] { والله أعلم بما يكتمون } فيبديه لعباده المؤمنين، ويعاقبهم
عليه.

ثم قال تعالى: { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما
قتلوا } أي: جمعوا بين التخلف عن الجهاد، وبين الاعتراض والتكذيب بقضاء
الله وقدره، قال الله ردًّا عليهم: { قل فادرءوا } أي: ادفعوا { عن أنفسكم
الموت إن كنتم صادقين } إنهم لو أطاعوكم ما قتلوا، لا تقدرون على ذلك ولا
تستطيعونه.

وفي هذه الآيات دليل على أن العبد قد يكون فيه خصلة كفر
وخصلة إيمان، وقد يكون إلى أحدهما أقرب منه إلى الأخرى.

{ 169 - 171
} { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا
بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا
بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ }

هذه الآيات الكريمة فيها فضيلة
الشهداء وكرامتهم، وما منَّ الله عليهم به من فضله وإحسانه، وفي ضمنها
تسلية الأحياء عن قتلاهم وتعزيتهم، وتنشيطهم للقتال في سبيل الله والتعرض
للشهادة، فقال: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله } أي: في جهاد أعداء
الدين، قاصدين بذلك إعلاء كلمة الله { أمواتا } أي: لا يخطر ببالك وحسبانك
أنهم ماتوا وفقدوا، وذهبت عنهم لذة الحياة الدنيا والتمتع بزهرتها، الذي
يحذر من فواته، من جبن عن القتال، وزهد في الشهادة. { بل } قد حصل لهم أعظم
مما يتنافس فيه المتنافسون. فهم { أحياء عند ربهم } في دار كرامته.

ولفظ:
{ عند ربهم } يقتضي علو درجتهم، وقربهم من ربهم، { يرزقون } من أنواع
النعيم الذي لا يعلم وصفه، إلا من أنعم به عليهم، ومع هذا { فرحين بما
آتاهم الله من فضله } أي: مغتبطين بذلك، قد قرت به عيونهم، وفرحت به
نفوسهم، وذلك لحسنه وكثرته، وعظمته، وكمال اللذة في الوصول إليه، وعدم
المنغص، فجمع الله لهم بين نعيم البدن بالرزق، ونعيم القلب والروح بالفرح
بما آتاهم من فضله: فتم لهم النعيم والسرور، وجعلوا { يستبشرون بالذين لم
يلحقوا بهم من خلفهم } أي: يبشر بعضهم بعضا، بوصول إخوانهم الذين لم يلحقوا
بهم، وأنهم سينالون ما نالوا، { ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } أي:
يستبشرون بزوال المحذور عنهم وعن إخوانهم المستلزم كمال السرور

{
يستبشرون بنعمة من الله وفضل } أي: يهنىء بعضهم بعضا، بأعظم مهنأ به، وهو:
نعمة ربهم، وفضله، وإحسانه، { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } بل ينميه
ويشكره، ويزيده من فضله، ما لا يصل إليه سعيهم.

وفي هذه الآيات
إثبات نعيم البرزخ، وأن الشهداء في أعلى مكان عند ربهم، وفيه تلاقي أرواح
أهل الخير، وزيارة بعضهم بعضا، وتبشير بعضهم بعضا.

{ 172 - 175 } {
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ
الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ *
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ
يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ
عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا
تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }

لما رجع النبي
تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 من "أحد" إلى المدينة، وسمع أن أبا
سفيان ومن معه من المشركين قد هموا بالرجوع إلى المدينة، ندب أصحابه إلى
الخروج، فخرجوا -على ما بهم من الجراح- استجابة لله ولرسوله، وطاعة لله
ولرسوله، فوصلوا إلى "حمراء الأسد" وجاءهم من جاءهم وقال لهم: { إن الناس
قد جمعوا لكم } وهموا باستئصالكم، تخويفا لهم وترهيبا، فلم يزدهم ذلك إلا
إيمانا بالله واتكالا عليه.

{ وقالوا حسبنا الله } أي: كافينا كل ما
أهمنا { ونعم الوكيل } المفوض إليه تدبير عباده، والقائم بمصالحهم.

{
فانقلبوا } أي: رجعوا { بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء }

وجاء
الخبر المشركين أن الرسول وأصحابه قد خرجوا إليكم، وندم من تخلف منهم،
فألقى الله الرعب في قلوبهم، واستمروا راجعين إلى مكة، ورجع المؤمنون بنعمة
من الله وفضل، حيث مَنَّ عليهم بالتوفيق للخروج بهذه الحالة والاتكال على
ربهم، ثم إنه قد كتب لهم أجر غزاة تامة، فبسبب إحسانهم بطاعة ربهم، وتقواهم
عن معصيته، لهم أجر عظيم، وهذا فضل الله عليهم.

ثم قال تعالى: {
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } أي: إن ترهيب من رهب من المشركين، وقال:
إنهم جمعوا لكم، داع من دعاة الشيطان، يخوف أولياءه الذين عدم إيمانهم، أو
ضعف. { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } أي: فلا تخافوا المشركين
أولياء الشيطان، فإن نواصيهم بيد الله، لا يتصرفون إلا بقدره، بل خافوا
الله الذي ينصر أولياءه الخائفين منه المستجيبين لدعوته.

وفي هذه
الآية وجوب الخوف من الله وحده، وأنه من لوازم الإيمان، فعلى قدر إيمان
العبد يكون خوفه من الله، والخوف المحمود: ما حجز العبد عن محارم الله.

{
176 - 177 } { وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ
إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ
لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

كان النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 حريصا على الخلق، مجتهدا في هدايتهم، وكان
يحزن إذا لم يهتدوا، قال الله تعالى: { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر }
من شدة رغبتهم فيه، وحرصهم عليه { إنهم لن يضروا الله شيئا } فالله ناصر
دينه، ومؤيد رسوله، ومنفذ أمره من دونهم، فلا تبالهم ولا تحفل بهم، إنما
يضرون ويسعون في ضرر أنفسهم، بفوات الإيمان في الدنيا، وحصول العذاب الأليم
في الأخرى، من هوانهم على الله وسقوطهم من عينه، وإرادته أن لا يجعل لهم
نصيبا في الآخرة من ثوابه. خذلهم فلم يوفقهم لما وفق له أولياءه ومن أراد
به خيرا، عدلا منه وحكمة، لعلمه بأنهم غير زاكين على الهدى، ولا قابلين
للرشاد، لفساد أخلاقهم وسوء قصدهم.

ثم أخبر أن الذين اختاروا الكفر
على الإيمان، ورغبوا فيه رغبة من بذل ما يحب من المال، في شراء ما يحب من
السلع { لن يضروا الله شيئا } بل ضرر فعلهم يعود على أنفسهم، ولهذا قال: {
ولهم عذاب أليم } وكيف يضرون الله شيئا، وهم قد زهدوا أشد الزهد في
الإيمان، ورغبوا كل الرغبة بالكفر بالرحمن؟! فالله غني عنهم، وقد قيض لدينه
من عباده الأبرار الأزكياء سواهم، وأعد له -ممن ارتضاه لنصرته- أهل
البصائر والعقول، وذوي الألباب من الرجال الفحول، قال الله تعالى: { قل
آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون
للأذقان سجدا } الآيات.

{ 178 } { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي
لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }

أي: ولا
يظن الذين كفروا بربهم ونابذوا دينه، وحاربوا رسوله أن تركنا إياهم في هذه
الدنيا، وعدم استئصالنا لهم، وإملاءنا لهم خير لأنفسهم، ومحبة منا لهم.

كلا،
ليس الأمر كما زعموا، وإنما ذلك لشر يريده الله بهم، وزيادة عذاب وعقوبة
إلى عذابهم، ولهذا قال: { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين }
فالله تعالى يملي للظالم، حتى يزداد طغيانه، ويترادف كفرانه، حتى إذا أخذه
أخذه أخذ عزيز مقتدر، فليحذر الظالمون من الإمهال، ولا يظنوا أن يفوتوا
الكبير المتعال.

{ 179 } { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ
عَظِيمٌ }

أي: ما كان في حكمة الله أن يترك المؤمنين على ما أنتم
عليه من الاختلاط وعدم التميز حتى يميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من
المنافق، والصادق من الكاذب.

ولم يكن في حكمته أيضا أن يطلع عباده
على الغيب الذي يعلمه من عباده، فاقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده،
ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب، من أنواع الابتلاء والامتحان، فأرسل
[الله] رسله، وأمر بطاعتهم، والانقياد لهم، والإيمان بهم، ووعدهم على
الإيمان والتقوى الأجر العظيم.

فانقسم الناس بحسب اتباعهم للرسل
قسمين: مطيعين وعاصين، ومؤمنين ومنافقين، ومسلمين وكافرين، ليرتب على ذلك
الثواب والعقاب، وليظهر عدله وفضله، وحكمته لخلقه.

{ 180 } { وَلَا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا
بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

أي: ولا يظن الذين يبخلون،
أي: يمنعون ما عندهم مما آتاهم الله من فضله، من المال والجاه والعلم، وغير
ذلك مما منحهم الله، وأحسن إليهم به، وأمرهم ببذل ما لا يضرهم منه لعباده،
فبخلوا بذلك، وأمسكوه، وضنوا به على عباد الله، وظنوا أنه خير لهم، بل هو
شر لهم، في دينهم ودنياهم، وعاجلهم وآجلهم { سيطوقون ما بخلوا به يوم
القيامة } أي: يجعل ما بخلوا به طوقا في أعناقهم، يعذبون به كما ورد في
الحديث الصحيح، "إن البخيل يمثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع، له
زبيبتان، يأخذ بلهزمتيه يقول: أنا مالك، أنا كنزك" وتلا رسول الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 مصداق ذلك، هذه الآية.

فهؤلاء حسبوا
أن بخلهم نافعهم، ومجد عليهم، فانقلب عليهم الأمر، وصار من أعظم مضارهم،
وسبب عقابهم.

{ ولله ميراث السماوات والأرض } أي: هو تعالى مالك
الملك، وترد جميع الأملاك إلى مالكها، وينقلب العباد من الدنيا ما معهم
درهم ولا دينار، ولا غير ذلك من المال.

قال تعالى: { إنا نحن نرث
الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون } وتأمل كيف ذكر السبب الابتدائي والسبب
الغائي، الموجب كل واحد منهما أن لا يبخل العبد بما أعطاه الله.

أخبر
أولا: أن الذي عنده وفي يده فضل من الله ونعمة، ليس ملكا للعبد، بل لولا
فضل الله عليه وإحسانه، لم يصل إليه منه شيء، فمنعه لذلك منع لفضل الله
وإحسانه؛ ولأن إحسانه موجب للإحسان إلى عبيده كما قال تعالى: { وأحسن كما
أحسن الله إليك }

فمن تحقق أن ما بيده، فضل من الله، لم يمنع الفضل
الذي لا يضره، بل ينفعه في قلبه وماله، وزيادة إيمانه، وحفظه من الآفات.

ثم
ذكر ثانيا: أن هذا الذي بيد العباد كلها ترجع إلى الله، ويرثها تعالى، وهو
خير الوارثين، فلا معنى للبخل بشيء هو زائل عنك منتقل إلى غيرك.

ثم
ذكر ثالثا: السبب الجزائي، فقال: { والله بما تعملون خبير } فإذا كان
خبيرا بأعمالكم جميعها -ويستلزم ذلك الجزاء الحسن على الخيرات، والعقوبات
على الشر- لم يتخلف من في قلبه مثقال ذرة من إيمان عن الإنفاق الذي يجزى به
الثواب، ولا يرضى بالإمساك الذي به العقاب.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:33 pm

{ 181 - 182 } {
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ
وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }

يخبر
تعالى، عن قول هؤلاء المتمردين، الذين قالوا أقبح المقالة وأشنعها،
وأسمجها، فأخبر أنه قد سمع ما قالوه وأنه سيكتبه ويحفظه، مع أفعالهم
الشنيعة، وهو: قتلهم الأنبياء الناصحين، وأنه سيعاقبهم على ذلك أشد
العقوبة، وأنه يقال لهم -بدل قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء- { ذوقوا عذاب
الحريق } المحرق النافذ من البدن إلى الأفئدة، وأن عذابهم ليس ظلما من
الله لهم، فإنه { ليس بظلام للعبيد } فإنه منزه عن ذلك، وإنما ذلك بما قدمت
أيديهم من المخازي والقبائح، التي أوجبت استحقاقهم العذاب، وحرمانهم
الثواب.

وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في قوم من اليهود،
تكلموا بذلك، وذكروا منهم "فنحاص بن عازوراء" من رؤساء علماء اليهود في
المدينة، وأنه لما سمع قول الله تعالى: { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا }
{ وأقرضوا الله قرضا حسنا } قال: -على وجه التكبر والتجرهم- هذه المقالة
قبحه الله، فذكرها الله عنهم، وأخبر أنه ليس ببدع من شنائعهم، بل قد سبق
لهم من الشنائع ما هو نظير ذلك، وهو: { قتلهم الأنبياء بغير حق } هذا القيد
يراد به، أنهم تجرأوا على قتلهم مع علمهم بشناعته، لا جهلا وضلالا، بل
تمردا وعنادا.

{ 183 - 184 } { الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ
عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا
بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي
بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ
قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ }

يخبر
تعالى عن حال هؤلاء المفترين القائلين: { إن الله عهد إلينا } أي: تقدم
إلينا وأوصى، { ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } فجمعوا بين
الكذب على الله، وحصر آية الرسل بما قالوه، من هذا الإفك المبين، وأنهم إن
لم يؤمنوا برسول لم يأتهم بقربان تأكله النار، فهم -في ذلك- مطيعون لربهم،
ملتزمون عهده، وقد علم أن كل رسول يرسله الله، يؤيده من الآيات والبراهين،
ما على مثله آمن البشر، ولم يقصرها على ما قالوه، ومع هذا فقد قالوا إفكا
لم يلتزموه، وباطلا لم يعملوا به، ولهذا أمر الله رسوله أن يقول لهم: { قل
قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات } الدالات على صدقهم { وبالذي قلتم } بأن
أتاكم بقربان تأكله النار { فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين } أي: في دعواهم
الإيمان برسول يأتي بقربان تأكله النار، فقد تبين بهذا كذبهم، وعنادهم
وتناقضهم.

ثم سلَّى رسوله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، فقال: { فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك }
أي: هذه عادة الظالمين، ودأبهم الكفر بالله، وتكذيب رسل الله وليس تكذيبهم
لرسل الله، عن قصور ما أتوا به، أو عدم تبين حجة، بل قد { جاءوا بالبينات }
أي: الحجج العقلية، والبراهين النقلية، { والزبر } أي: الكتب المزبورة
المنزلة من السماء، التي لا يمكن أن يأتي بها غير الرسل.

{ والكتاب
المنير } للأحكام الشرعية، وبيان ما اشتملت عليه من المحاسن العقلية، ومنير
أيضا للأخبار الصادقة، فإذا كان هذا عادتهم في عدم الإيمان بالرسل، الذين
هذا وصفهم، فلا يحزنك أمرهم، ولا يهمنك شأنهم.

ثم قال تعالى: { 185 }
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ
فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }



هذه
الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها وعدم بقائها، وأنها متاع
الغرور، تفتن بزخرفها، وتخدع بغرورها، وتغر بمحاسنها، ثم هي منتقلة، ومنتقل
عنها إلى دار القرار، التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار، من خير
وشر.

{ فمن زحزح } أي: أخرج، { عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } أي:
حصل له الفوز العظيم من العذاب الأليم، والوصول إلى جنات النعيم، التي
فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ومفهوم
الآية، أن من لم يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فإنه لم يفز، بل قد شقي
الشقاء الأبدي، وابتلي بالعذاب السرمدي.

وفي هذه الآية إشارة لطيفة
إلى نعيم البرزخ وعذابه، وأن العاملين يجزون فيه بعض الجزاء مما عملوه،
ويقدم لهم أنموذج مما أسلفوه، يفهم هذا من قوله: { وإنما توفون أجوركم يوم
القيامة } أي: توفية الأعمال التامة، إنما يكون يوم القيامة، وأما ما دون
ذلك فيكون في البرزخ، بل قد يكون قبل ذلك في الدنيا كقوله تعالى: {
ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر }

{ 186 } {
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ }

يخبر تعالى ويخاطب المؤمنين أنهم سيبتلون في أموالهم
من النفقات الواجبة والمستحبة، ومن التعريض لإتلافها في سبيل الله، وفي
أنفسهم من التكليف بأعباء التكاليف الثقيلة على كثير من الناس، كالجهاد في
سبيل الله، والتعرض فيه للتعب والقتل والأسر والجراح، وكالأمراض التي تصيبه
في نفسه، أو فيمن يحب.

{ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم،
ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } من الطعن فيكم، وفي دينكم وكتابكم ورسولكم.

وفي
إخباره لعباده المؤمنين بذلك، عدة فوائد:

منها: أن حكمته تعالى
تقتضي ذلك، ليتميز المؤمن الصادق من غيره.

ومنها: أنه تعالى يقدر
عليهم هذه الأمور، لما يريده بهم من الخير ليعلي درجاتهم، ويكفر من
سيئاتهم، وليزداد بذلك إيمانهم، ويتم به إيقانهم، فإنه إذا أخبرهم بذلك
ووقع كما أخبر { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما
زادهم إلا إيمانا وتسليما }

ومنها: أنه أخبرهم بذلك لتتوطن نفوسهم
على وقوع ذلك، والصبر عليه إذا وقع؛ لأنهم قد استعدوا لوقوعه، فيهون عليهم
حمله، وتخف عليهم مؤنته، ويلجأون إلى الصبر والتقوى، ولهذا قال: { وإن
تصبروا وتتقوا } أي: إن تصبروا على ما نالكم في أموالكم وأنفسكم، من
الابتلاء والامتحان وعلى أذية الظالمين، وتتقوا الله في ذلك الصبر بأن
تنووا به وجه الله والتقرب إليه، ولم تتعدوا في صبركم الحد الشرعي من الصبر
في موضع لا يحل لكم فيه الاحتمال، بل وظيفتكم فيه الانتقام من أعداء الله.

{
فإن ذلك من عزم الأمور } أي: من الأمور التي يعزم عليها، وينافس فيها، ولا
يوفق لها إلا أهل العزائم والهمم العالية كما قال تعالى: { وما يلقاها إلا
الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم }

{ 187 - 188 } { وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ
وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لَا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ
يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ
الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

الميثاق هو العهد الثقيل
المؤكد، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على كل من أعطاه [الله] الكتب وعلمه
العلم، أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله، ولا يكتمهم ذلك،
ويبخل عليهم به، خصوصا إذا سألوه، أو وقع ما يوجب ذلك، فإن كل من عنده علم
يجب عليه في تلك الحال أن يبينه، ويوضح الحق من الباطل.

فأما
الموفقون، فقاموا بهذا أتم القيام، وعلموا الناس مما علمهم الله، ابتغاء
مرضاة ربهم، وشفقة على الخلق، وخوفا من إثم الكتمان.

وأما الذين
أوتوا الكتاب، من اليهود والنصارى ومن شابههم، فنبذوا هذه العهود والمواثيق
وراء ظهورهم، فلم يعبأوا بها، فكتموا الحق، وأظهروا الباطل، تجرؤا على
محارم الله، وتهاونا بحقوق الله، وحقوق الخلق، واشتروا بذلك الكتمان ثمنا
قليلا، وهو ما يحصل لهم إن حصل من بعض الرياسات، والأموال الحقيرة، من
سفلتهم المتبعين أهواءهم، المقدمين شهواتهم على الحق، { فبئس ما يشترون }
لأنه أخس العوض، والذي رغبوا عنه -وهو بيان الحق، الذي فيه السعادة
الأبدية، والمصالح الدينية والدنيوية- أعظم المطالب وأجلها، فلم يختاروا
الدنيء الخسيس ويتركوا العالي النفيس، إلا لسوء حظهم وهوانهم، وكونهم لا
يصلحون لغير ما خلقوا له.

ثم قال تعالى: { لا تحسبن الذين يفرحون
بما أتوا } أي: من القبائح والباطل القولي والفعلي.

{ ويحبون أن
يحمدوا بما لم يفعلوا } أي: بالخير الذي لم يفعلوه، والحق الذي لم يقولوه،
فجمعوا بين فعل الشر وقوله، والفرح بذلك ومحبة أن يحمدوا على فعل الخير
الذي ما فعلوه.

{ فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } أي: بمحل نجوة منه
وسلامة، بل قد استحقوه، وسيصيرون إليه، ولهذا قال: { ولهم عذاب أليم }

ويدخل
في هذه الآية الكريمة أهل الكتاب الذين فرحوا بما عندهم من العلم، ولم
ينقادوا للرسول، وزعموا أنهم هم المحقون في حالهم ومقالهم، وكذلك كل من
ابتدع بدعة قولية أو فعلية، وفرح بها، ودعا إليها، وزعم أنه محق وغيره
مبطل، كما هو الواقع من أهل البدع.

ودلت الآية بمفهومها على أن من
أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير واتباع الحق، إذا لم يكن قصده
بذلك الرياء والسمعة، أنه غير مذموم، بل هذا من الأمور المطلوبة، التي أخبر
الله أنه يجزي بها المحسنين له الأعمال والأقوال، وأنه جازى بها خواص
خلقه، وسألوها منه، كما قال إبراهيم عليه السلام: { واجعل لي لسان صدق في
الآخرين } وقال: { سلام على نوح في العالمين، إنا كذلك نجزي المحسنين } وقد
قال عباد الرحمن: { واجعلنا للمتقين إماما } وهي من نعم الباري على عبده،
ومننه التي تحتاج إلى الشكر.

{ 189 } { وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

أي:
هو المالك للسماوات والأرض وما فيهما، من سائر أصناف الخلق، المتصرف فيهم
بكمال القدرة، وبديع الصنعة، فلا يمتنع عليه منهم أحد، ولا يعجزه أحد.

{
190 - 194 } { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا
إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ
مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي
لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ
الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا
تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ }

يخبر
تعالى: { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي
الألباب } وفي ضمن ذلك حث العباد على التفكر فيها، والتبصر بآياتها، وتدبر
خلقها، وأبهم قوله: { آيات } ولم يقل: "على المطلب الفلاني" إشارة لكثرتها
وعمومها، وذلك لأن فيها من الآيات العجيبة ما يبهر الناظرين، ويقنع
المتفكرين، ويجذب أفئدة الصادقين، وينبه العقول النيرة على جميع المطالب
الإلهية، فأما تفصيل ما اشتملت عليه، فلا يمكن لمخلوق أن يحصره، ويحيط
ببعضه، وفي الجملة فما فيها من العظمة والسعة، وانتظام السير والحركة، يدل
على عظمة خالقها، وعظمة سلطانه وشمول قدرته. وما فيها من الإحكام والإتقان،
وبديع الصنع، ولطائف الفعل، يدل على حكمة الله ووضعه الأشياء مواضعها،
وسعة علمه. وما فيها من المنافع للخلق، يدل على سعة رحمة الله، وعموم فضله،
وشمول بره، ووجوب شكره.

وكل ذلك يدل على تعلق القلب بخالقها
ومبدعها، وبذل الجهد في مرضاته، وأن لا يشرك به سواه، ممن لا يملك لنفسه
ولا لغيره مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

وخص الله بالآيات أولي
الألباب، وهم أهل العقول؛ لأنهم هم المنتفعون بها، الناظرون إليها بعقولهم
لا بأبصارهم.

ثم وصف أولي الألباب بأنهم { يذكرون الله } في جميع
أحوالهم: { قياما وقعودا وعلى جنوبهم } وهذا يشمل جميع أنواع الذكر بالقول
والقلب، ويدخل في ذلك الصلاة قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع
فعلى جنب، وأنهم { يتفكرون في خلق السماوات والأرض } أي: ليستدلوا بها على
المقصود منها، ودل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين،
فإذا تفكروا بها، عرفوا أن الله لم يخلقها عبثا، فيقولون: { ربنا ما خلقت
هذا باطلا سبحانك } عن كل ما لا يليق بجلالك، بل خلقتها بالحق وللحق،
مشتملة على الحق.

{ فقنا عذاب النار } بأن تعصمنا من السيئات،
وتوفقنا للأعمال الصالحات، لننال بذلك النجاة من النار.

ويتضمن ذلك
سؤال الجنة، لأنهم إذا وقاهم الله عذاب النار حصلت لهم الجنة، ولكن لما قام
الخوف بقلوبهم، دعوا الله بأهم الأمور عندهم، { ربنا إنك من تدخل النار
فقد أخزيته } أي: لحصوله على السخط من الله، ومن ملائكته، وأوليائه، ووقوع
الفضيحة التي لا نجاة منها، ولا منقذ منها، ولهذا قال: { وما للظالمين من
أنصار } ينقذونهم من عذابه، وفيه دلالة على أنهم دخلوها بظلمهم.

{
ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان } وهو محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، أي: يدعو الناس إليه، ويرغبهم فيه، في
أصوله وفروعه.

{ فآمنا } أي: أجبناه مبادرة، وسارعنا إليه، وفي هذا
إخبار منهم بمنة الله عليهم، وتبجح بنعمته، وتوسل إليه بذلك، أن يغفر
ذنوبهم ويكفر سيئاتهم، لأن الحسنات يذهبن السيئات، والذي من عليهم
بالإيمان، سيمن عليهم بالأمان التام.

{ وتوفنا مع الأبرار } يتضمن
هذا الدعاء التوفيق لفعل الخير، وترك الشر، الذي به يكون العبد من الأبرار،
والاستمرار عليه، والثبات إلى الممات.

ولما ذكروا توفيق الله إياهم
للإيمان، وتوسلهم به إلى تمام النعمة، سألوه الثواب على ذلك، وأن ينجز لهم
ما وعدهم به على ألسنة رسله من النصر، والظهور في الدنيا، ومن الفوز
برضوان الله وجنته في الآخرة، فإنه تعالى لا يخلف الميعاد، فأجاب الله
دعاءهم، وقبل تضرعهم، فلهذا قال:

{ 195 } { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ
حُسْنُ الثَّوَابِ }

أي: أجاب الله دعاءهم، دعاء العبادة، ودعاء
الطلب، وقال: إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى، فالجميع سيلقون ثواب
أعمالهم كاملا موفرا، { بعضكم من بعض } أي: كلكم على حد سواء في الثواب
والعقاب، { فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا
وقتلوا } فجمعوا بين الإيمان والهجرة، ومفارقة المحبوبات من الأوطان
والأموال، طلبا لمرضاة ربهم، وجاهدوا في سبيل الله.

{ لأكفرن عنهم
سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله } الذي
يعطي عبده الثواب الجزيل على العمل القليل.

{ والله عنده حسن الثواب
} مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فمن أراد ذلك،
فليطلبه من الله بطاعته والتقرب إليه، بما يقدر عليه العبد.


{
196 - 198 } { لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ }

وهذه
الآية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا، وتنعمهم
فيها، وتقلبهم في البلاد بأنواع التجارات والمكاسب واللذات، وأنواع العز،
والغلبة في بعض الأوقات، فإن هذا كله { متاع قليل } ليس له ثبوت ولا بقاء،
بل يتمتعون به قليلا، ويعذبون عليه طويلا، هذه أعلى حالة تكون للكافر، وقد
رأيت ما تؤول إليه.

وأما المتقون لربهم، المؤمنون به- فمع ما يحصل
لهم من عز الدنيا ونعيمها { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها }

فلو
قدر أنهم في دار الدنيا، قد حصل لهم كل بؤس وشدة، وعناء ومشقة، لكان هذا
بالنسبة إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، والسرور والحبور، والبهجة نزرا
يسيرا، ومنحة في صورة محنة، ولهذا قال تعالى: { وما عند الله خير للأبرار }
وهم الذين برت قلوبهم، فبرت أقوالهم وأفعالهم، فأثابهم البر الرحيم من بره
أجرا عظيما، وعطاء جسيما، وفوزا دائما.

{ 199 - 200 } { وَإِنَّ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ }

أي: وإن من أهل الكتاب طائفة موفقة للخير، يؤمنون
بالله، ويؤمنون بما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وهذا الإيمان النافع لا كمن
يؤمن ببعض الرسل والكتب، ويكفر ببعض.

ولهذا -لما كان إيمانهم عاما
حقيقيا- صار نافعا، فأحدث لهم خشية الله، وخضوعهم لجلاله الموجب للانقياد
لأوامره ونواهيه، والوقوف عند حدوده.

وهؤلاء أهل الكتاب والعلم على
الحقيقة، كما قال تعالى: { إنما يخشى الله من عباده العلماء } ومن تمام
خشيتهم لله، أنهم { لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا } فلا يقدمون الدنيا
على الدين كما فعل أهل الانحراف الذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمنا
قليلا، وأما هؤلاء فعرفوا الأمر على الحقيقة، وعلموا أن من أعظم الخسران،
الرضا بالدون عن الدين، والوقوف مع بعض حظوظ النفس السفلية، وترك الحق الذي
هو: أكبر حظ وفوز في الدنيا والآخرة، فآثروا الحق وبينوه، ودعوا إليه،
وحذروا عن الباطل، فأثابهم الله على ذلك بأن وعدهم الأجر الجزيل، والثواب
الجميل، وأخبرهم بقربه، وأنه سريع الحساب، فلا يستبطؤون ما وعدهم الله، لأن
ما هو آت محقق حصوله، فهو قريب.

ثم حض المؤمنين على ما يوصلهم إلى
الفلاح - وهو: الفوز والسعادة والنجاح، وأن الطريق الموصل إلى ذلك لزوم
الصبر، الذي هو حبس النفس على ما تكرهه، من ترك المعاصي، ومن الصبر على
المصائب، وعلى الأوامر الثقيلة على النفوس، فأمرهم بالصبر على جميع ذلك.

والمصابرة
أي الملازمة والاستمرار على ذلك، على الدوام، ومقاومة الأعداء في جميع
الأحوال.

والمرابطة: وهي لزوم المحل الذي يخاف من وصول العدو منه،
وأن يراقبوا أعداءهم، ويمنعوهم من الوصول إلى مقاصدهم، لعلهم يفلحون:
يفوزون بالمحبوب الديني والدنيوي والأخروي، وينجون من المكروه كذلك.

فعلم
من هذا أنه لا سبيل إلى الفلاح بدون الصبر والمصابرة والمرابطة المذكورات،
فلم يفلح من أفلح إلا بها، ولم يفت أحدا الفلاح إلا بالإخلال بها أو
ببعضها.

والله الموفق ولا حول ولا قوة إلا به.

تم تفسير
"سورة آل عمران" والحمد لله على نعمته، ونسأله تمام النعمة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:35 pm

تفسير
سورة النساء

وهي مدنية

{ 1 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }

افتتح
تعالى هذه السورة بالأمر بتقواه، والحث على عبادته، والأمر بصلة الأرحام،
والحث على ذلك.

وبيَّن السبب الداعي الموجب لكل من ذلك، وأن الموجب
لتقواه لأنه { رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } ورزقكم، ورباكم بنعمه
العظيمة، التي من جملتها خلقكم { مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا } ليناسبها، فيسكن إليها، وتتم بذلك النعمة، ويحصل به السرور،
وكذلك من الموجب الداعي لتقواه تساؤلكم به وتعظيمكم، حتى إنكم إذا أردتم
قضاء حاجاتكم ومآربكم، توسلتم بـها بالسؤال بالله. فيقول من يريد ذلك
لغيره: أسألك بالله أن تفعل الأمر الفلاني؛ لعلمه بما قام في قلبه من تعظيم
الله الداعي أن لا يرد من سأله بالله، فكما عظمتموه بذلك فلتعظموه بعبادته
وتقواه.

وكذلك الإخبار بأنه رقيب، أي: مطلع على العباد في حال
حركاتـهم وسكونـهم، وسرهم وعلنهم، وجميع أحوالهم، مراقبا لهم فيها مما يوجب
مراقبته، وشدة الحياء منه، بلزوم تقواه.

وفي الإخبار بأنه خلقهم من
نفس واحدة، وأنه بثهم في أقطار الأرض، مع رجوعهم إلى أصل واحد -ليعطف
بعضهم على بعض، ويرقق بعضهم على بعض. وقرن الأمر بتقواه بالأمر ببر الأرحام
والنهي عن قطيعتها، ليؤكد هذا الحق، وأنه كما يلزم القيام بحق الله، كذلك
يجب القيام بحقوق الخلق، خصوصا الأقربين منهم، بل القيام بحقوقهم هو من حق
الله الذي أمر به.

وتأمل كيف افتتح هذه السورة بالأمر بالتقوى، وصلة
الأرحام والأزواج عموما، ثم بعد ذلك فصل هذه الأمور أتم تفصيل، من أول
السورة إلى آخرها. فكأنـها مبنية على هذه الأمور المذكورة، مفصلة لما أجمل
منها، موضحة لما أبهم.

وفي قوله: { وخلق مِنْهَا زَوْجَهَا } تنبيه
على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به، لكون الزوجات مخلوقات من
الأزواج، فبينهم وبينهن أقرب نسب وأشد اتصال، وأقرب علاقة.


وَآتُوا
الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا
كَبِيرًا }

وقوله تعالى: { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ولا
تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا }
هذا أول ما أوصى به من حقوق الخلق في هذه السورة. وهم اليتامى الذين فقدوا
آباءهم الكافلين لهم، وهم صغار ضعاف لا يقومون بمصالحهم.

فأمر
الرءوف الرحيم عباده أن يحسنوا إليهم، وأن لا يقربوا أموالهم إلا بالتي هي
أحسن، وأن يؤتوهم أموالهم إذا بلغوا ورشدوا، كاملة موفرة، وأن لا {
تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ } الذي هو أكل مال اليتيم بغير حق. {
بِالطَّيِّبِ } وهو الحلال الذي ما فيه حرج ولا تبعة. { وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } أي: مع أموالكم، ففيه تنبيه لقبح أكل
مالهم بهذه الحالة، التي قد استغنى بها الإنسان بما جعل الله له من الرزق
في ماله. فمن تجرأ على هذه الحالة، فقد أتى { حُوبًا كَبِيرًا } أي: إثمًا
عظيمًا، ووزرًا جسيمًا.

ومن استبدال الخبيث بالطيب أن يأخذ الولي من
مال اليتيم النفيس، ويجعل بدله من ماله الخسيس. وفيه الولاية على اليتيم،
لأن مِنْ لازم إيتاء اليتيم ماله، ثبوت ولاية المؤتي على ماله.

وفيه
الأمر بإصلاح مال اليتيم، لأن تمام إيتائه ماله حفظه والقيام به بما يصلحه
وينميه وعدم تعريضه للمخاوف والأخطار.

{ 3 - 4 } { وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا
فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا
تَعُولُوا * وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ
لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا }

أي:
وإن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء اللاتي تحت حجوركم وولايتكم وخفتم أن
لا تقوموا بحقهن لعدم محبتكم إياهن، فاعدلوا إلى غيرهن، وانكحوا { مَا
طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } أي: ما وقع عليهن اختياركم من ذوات الدين،
والمال، والجمال، والحسب، والنسب، وغير ذلك من الصفات الداعية لنكاحهن،
فاختاروا على نظركم، ومن أحسن ما يختار من ذلك صفة الدين كما قال النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999: "تنكح المرأة لأربع لمالها
ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يمينك"

وفي هذه
الآية - أنه ينبغي للإنسان أن يختار قبل النكاح، بل وقد أباح له الشارع
النظر إلى مَنْ يريد تزوجها ليكون على بصيرة من أمره. ثم ذكر العدد الذي
أباحه من النساء فقال: { مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } أي: من أحب أن يأخذ
اثنتين فليفعل، أو ثلاثا فليفعل، أو أربعا فليفعل، ولا يزيد عليها، لأن
الآية سيقت لبيان الامتنان، فلا يجوز الزيادة على غير ما سمى الله تعالى
إجماعا.

وذلك لأن الرجل قد لا تندفع شهوته بالواحدة، فأبيح له واحدة
بعد واحدة، حتى يبلغ أربعا، لأن في الأربع غنية لكل أحد، إلا ما ندر، ومع
هذا فإنما يباح له ذلك إذا أمن على نفسه الجور والظلم، ووثق بالقيام
بحقوقهن.

فإن خاف شيئا من هذا فليقتصر على واحدة، أو على ملك يمينه.
فإنه لا يجب عليه القسم في ملك اليمين { ذَلِك } أي: الاقتصار على واحدة
أو ما ملكت اليمين { أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } أي: تظلموا.

وفي
هذا أن تعرض العبد للأمر الذي يخاف منه الجور والظلم، وعدم القيام بالواجب
-ولو كان مباحًا- أنه لا ينبغي له أن يتعرض، له بل يلزم السعة والعافية،
فإن العافية خير ما أعطي العبد.

ولما كان كثير من الناس يظلمون
النساء ويهضمونـهن حقوقهن، خصوصا الصداق الذي يكون شيئا كثيرًا، ودفعة
واحدة، يشق دفعه للزوجة، أمرهم وحثهم على إيتاء النساء { صَدُقَاتِهِنَّ }
أي: مهورهن { نِحْلَةً } أي: عن طيب نفس، وحال طمأنينة، فلا تمطلوهن أو
تبخسوا منه شيئا. وفيه: أن المهر يدفع إلى المرأة إذا كانت مكلفة، وأنـها
تملكه بالعقد، لأنه أضافه إليها، والإضافة تقتضي التمليك.

{ فَإِنْ
طِبْنَ لَكُم عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ } أي: من الصداق { نَفْسًا } بأن سمحن
لكم عن رضا واختيار بإسقاط شيء منه، أو تأخيره أو المعاوضة عنه. {
فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } أي: لا حرج عليكم في ذلك ولا تبعة.

وفيه
دليل على أن للمرأة التصرف في مالها -ولو بالتبرع- إذا كانت رشيدة، فإن لم
تكن كذلك فليس لعطيتها حكم، وأنه ليس لوليها من الصداق شيء، غير ما طابت
به.

وفي قوله: { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء }
دليل على أن نكاح الخبيثة غير مأمور به، بل منهي عنه كالمشركة، وكالفاجرة،
كما قال تعالى: { وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } وقال:
{ وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ }


{
5 } { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ
لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلًا مَّعْرُوفًا }

وقوله تعالى: { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم
التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا }
السفهاء: جمع "سفيه" وهو: من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله
كالمجنون والمعتوه، ونحوهما، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد. فنهى
الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، لأن الله جعل
الأموال قياما لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام
عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم،
ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم
قولا معروفا، بأن يعدوهم -إذا طلبوها- أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم، ونحو
ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبرًا لخواطرهم.

وفي إضافته تعالى
الأموال إلى الأولياء، إشارة إلى أنه يجب عليهم أن يعملوا في أموال السفهاء
ما يفعلونه في أموالهم، من الحفظ والتصرف وعدم التعريض للأخطار. وفي الآية
دليل على أن نفقة المجنون والصغير والسفيه في مالهم، إذا كان لهم مال،
لقوله: { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ }

وفيه دليل على أن
قول الولي مقبول فيما يدعيه من النفقة الممكنة والكسوة؛ لأن الله جعله
مؤتمنا على مالهم فلزم قبول قول الأمين.


{ 6 } { وَابْتَلُوا
الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ
رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا
إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ
فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ
وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا }

الابتلاء: هو الاختبار والامتحان،
وذلك بأن يدفع لليتيم المقارب للرشد، الممكن رشده، شيئا من ماله، ويتصرف
فيه التصرف اللائق بحاله، فيتبين بذلك رشده من سفهه، فإن استمر غير محسن
للتصرف لم يدفع إليه ماله، بل هو باق على سفهه، ولو بلغ عمرا كثيرا.

فإن
تبين رشده وصلاحه في ماله وبلغ النكاح { فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ } كاملة موفرة. { وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا } أي:
مجاوزة للحد الحلال الذي أباحه الله لكم من أموالكم، إلى الحرام الذي حرمه
الله عليكم من أموالهم.

{ وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } أي: ولا
تأكلوها في حال صغرهم التي لا يمكنهم فيها أخذها منكم، ولا منعكم من أكلها،
تبادرون بذلك أن يكبروا، فيأخذوها منكم ويمنعوكم منها.

وهذا من
الأمور الواقعة من كثير من الأولياء، الذين ليس عندهم خوف من الله، ولا
رحمة ومحبة للمولى عليهم، يرون هذه الحال حال فرصة فيغتنمونها ويتعجلون ما
حرم الله عليهم، فنهى الله تعالى عن هذه الحالة بخصوصها.

{ 7 } {
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ
وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ
مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا }

كان العرب
في الجاهلية - من جبروتهم وقسوتهم لا يورثون الضعفاء كالنساء والصبيان،
ويجعلون الميراث للرجال الأقوياء لأنهم -بزعمهم- أهل الحرب والقتال والنهب
والسلب، فأراد الرب الرحيم الحكيم أن يشرع لعباده شرعًا، يستوي فيه رجالهم
ونساؤهم، وأقوياؤهم وضعفاؤهم. وقدم بين يدي ذلك أمرا مجملا لتتوطَّن على
ذلك النفوس.

فيأتي التفصيل بعد الإجمال، قد تشوفت له النفوس، وزالت
الوحشة التي منشؤها العادات القبيحة، فقال: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ } : أي:
قسط وحصة { مِمَّا تَرَكَ } أي: خلف { الْوَالِدَان } أي: الأب والأم {
وَالْأَقْرَبُونَ } عموم بعد خصوص { وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ }

فكأنه قيل: هل ذلك النصيب راجع
إلى العرف والعادة، وأن يرضخوا لهم ما يشاءون؟ أو شيئا مقدرا؟ فقال تعالى: {
نَصِيبًا مَفْرُوضًا } : أي: قد قدره العليم الحكيم. وسيأتي -إن شاء الله-
تقدير ذلك.

وأيضا فهاهنا توهم آخر، لعل أحدا يتوهم أن النساء
والولدان ليس لهم نصيب إلا من المال الكثير، فأزال ذلك بقوله: { مِمَّا
قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } فتبارك الله أحسن الحاكمين.


{ 8 } {
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا
مَعْرُوفًا }

وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة الجابرة للقلوب
فقال: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } أي: قسمة المواريث { أُولُو
الْقُرْبَى } أي: الأقارب غير الوارثين بقرينة قوله: { الْقِسْمَةَ } لأن
الوارثين من المقسوم عليهم. { وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين } أي:
المستحقون من الفقراء. { فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ } أي: أعطوهم ما تيسر من
هذا المال الذي جاءكم بغير كد ولا تعب، ولا عناء ولا نَصَب، فإن نفوسهم
متشوفة إليه، وقلوبهم متطلعة، فاجبروا خواطرهم بما لا يضركم وهو نافعهم.

ويؤخذ
من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان، ينبغي له
أن يعطيه منه ما تيسر، كما كان النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 يقول: "إذا جاء أحدَكم خادمُه بطعامه
فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين" أو كما قال.

وكان
الصحابة رضي الله عنهم -إذا بدأت باكورة أشجارهم- أتوا بها رسول الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 فبرَّك عليها، ونظر إلى أصغر وليد
عنده فأعطاه ذلك، علما منه بشدة تشوفه لذلك، وهذا كله مع إمكان الإعطاء،
فإن لم يمكن ذلك -لكونه حق سفهاء، أو ثَم أهم من ذلك- فليقولوا لهم {
قَولًا مَعْرُوفًا } يردوهم ردًّا جميلا، بقول حسن غير فاحش ولا قبيح.


{
9 - 10 } { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ
وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا }

قيل: إن هذا خطاب لمن يحضر مَنْ حضره
الموت وأجنف في وصيته، أن يأمره بالعدل في وصيته والمساواة فيها، بدليل
قوله: { وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } أي: سدادا، موافقا للقسط
والمعروف. وأنهم يأمرون من يريد الوصية على أولاده بما يحبون معاملة
أولادهم بعدهم.

وقيل: إن المراد بذلك أولياء السفهاء من المجانين
والصغار والضعاف أن يعاملوهم في مصالحهم الدينية والدنيوية بما يحبون أن
يعامل به مَنْ بعدهم من ذريتهم الضعاف { فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ } في
ولايتهم لغيرهم، أي: يعاملونهم بما فيه تقوى الله، من عدم إهانتهم والقيام
عليهم، وإلزامهم لتقوى الله.

ولما أمرهم بذلك، زجرهم عن أكل أموال
اليتامى، وتوعد على ذلك أشد العذاب فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } أي: بغير حق. وهذا القيد يخرج به ما تقدم،
من جواز الأكل للفقير بالمعروف، ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى.

فمَنْ
أكلها ظلمًا فـ { إنما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } أي: فإن الذي
أكلوه نار تتأجج في أجوافهم وهم الذين أدخلوها في بطونهم. {
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } أي: نارًا محرقة متوقدة. وهذا أعظم وعيد ورد في
الذنوب، يدل على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها، وأنها موجبة لدخول النار،
فدل ذلك أنها من أكبر الكبائر. نسأل الله العافية.


{ 11 - 12 }
{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ
ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ
كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *وَلَكُمْ
نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ
كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا
تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ
فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ
بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ
وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ
كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ
اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ }

هذه الآيات والآية التي هي آخر
السورة هن آيات المواريث المتضمنة لها. فإنها مع حديث عبد الله بن عباس
الثابت في صحيح البخاري "ألْحِقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر"
- مشتملات على جل أحكام الفرائض، بل على جميعها كما سترى ذلك، إلا ميراث
الجدات فإنه غير مذكور في ذلك. لكنه قد ثبت في السنن عن المغيرة بن شعبة
ومحمد بن مسلمة أن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 أعطى الجدة السدس، مع إجماع العلماء على
ذلك.

فقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } أي:
أولادكم -يا معشر الوالِدِين- عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم، لتقوموا
بمصالحهم الدينية والدنيوية، فتعلمونهم وتؤدبونهم وتكفونهم عن المفاسد،
وتأمرونهم بطاعة الله وملازمة التقوى على الدوام كما قال تعالى: { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } فالأولاد عند والديهم موصى بهم، فإما
أن يقوموا بتلك الوصية، وإما أن يضيعوها فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب.

وهذا
مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين، حيث أوصى الوالدين مع
كمال شفقتهم، عليهم.

ثم ذكر كيفية إرثهم فقال: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } أي: الأولاد للصلب، والأولاد للابن، للذكر مثل حظ
الأنثيين، إن لم يكن معهم صاحب فرض، أو ما أبقت الفروض يقتسمونه كذلك، وقد
أجمع العلماء على ذلك، وأنه -مع وجود أولاد الصلب- فالميراث لهم. وليس
لأولاد الابن شيء، حيث كان أولاد الصلب ذكورًا وإناثا، هذا مع اجتماع
الذكور والإناث. وهنا حالتان: انفراد الذكور، وسيأتي حكمها. وانفراد
الإناث، وقد ذكره بقوله: { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } أي:
بنات صلب أو بنات ابن، ثلاثا فأكثر { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن
كَانَتْ وَاحِدَة } أي: بنتا أو بنت ابن { فَلَهَا النِّصْفُ } وهذا إجماع.

بقي
أن يقال: من أين يستفاد أن للابنتين الثنتين الثلثين بعد الإجماع على ذلك؟

فالجواب
أنه يستفاد من قوله: { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ }
فمفهوم ذلك أنه إن زادت على الواحدة، انتقل الفرض عن النصف، ولا ثَمَّ بعده
إلا الثلثان. وأيضا فقوله: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ }
إذا خلَّف ابنًا وبنتًا، فإن الابن له الثلثان، وقد أخبر الله أنه مثل حظ
الأنثيين، فدل ذلك على أن للبنتين الثلثين.

وأيضًا فإن البنت إذا
أخذت الثلث مع أخيها - وهو أزيد ضررًا عليها من أختها، فأخذها له مع أختها
من باب أولى وأحرى.

وأيضا فإن قوله تعالى في الأختين: { فَإِنْ
كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } نص في
الأختين الثنتين.

فإذا كان الأختان الثنتان -مع بُعدهما- يأخذان
الثلثين فالابنتان -مع قربهما- من باب أولى وأحرى. وقد أعطى النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 ابنتي سعد الثلثين كما في الصحيح.

بقي
أن يقال: فما الفائدة في قوله: { فَوْقَ اثْنَتَيْن } ؟. قيل: الفائدة في
ذلك -والله أعلم- أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان لا يزيد بزيادتهن على
الثنتين بل من الثنتين فصاعدًا. ودلت الآية الكريمة أنه إذا وجد بنت صلب
واحدة، وبنت ابن أو بنات ابن، فإن لبنت الصلب النصف، ويبقى من الثلثين
اللذين فرضهما الله للبنات أو بنات الابن السدس، فيعطى بنت الابن، أو بنات
الابن، ولهذا يسمى هذا السدس تكملة الثلثين.

ومثل ذلك بنت الابن، مع
بنات الابن اللاتي أنزل منها.

وتدل الآية أنه متى استغرق البنات أو
بنات الابن الثلثين، أنه يسقط مَنْ دونهن مِنْ بنات الابن لأن الله لم
يفرض لهن إلا الثلثين، وقد تم. فلو لم يسقطن لزم من ذلك أن يفرض لهن أزيَد
من الثلثين، وهو خلاف النص.

وكل هذه الأحكام مجمع عليها بين العلماء
ولله الحمد.

ودل قوله: { مِمَّا تَرَكَ } أن الوارثين يرثون كل ما
خلف الميت من عقار وأثاث وذهب وفضة وغير ذلك، حتى الدية التي لم تجب إلا
بعد موته، وحتى الديون التي في الذمم

ثم ذكر ميراث الأبوين فقال: {
وَلِأَبَوَيْهِ } أي: أبوه وأمه { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ
مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } أي: ولد صلب أو ولد ابن ذكرًا كان
أو أنثى، واحدًا أو متعددًا.

فأما الأُم فلا تزيد على السدس مع أحد
من الأولاد.

وأما الأب فمع الذكور منهم، لا يستحق أزيد من السدس،
فإن كان الولد أنثى أو إناثا ولم يبق بعد الفرض شيء -كأبوين وابنتين- لم
يبق له تعصيب. وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء أخذ الأب السدس فرضًا،
والباقي تعصيبًا، لأننا ألحقنا الفروض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر، وهو
أولى من الأخ والعم وغيرهما.

{ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ
وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } أي: والباقي للأب لأنه أضاف
المال إلى الأب والأُم إضافة واحدة، ثم قدر نصيب الأُم، فدل ذلك على أن
الباقي للأب.

وعلم من ذلك أن الأب مع عدم الأولاد لا فرض له، بل يرث
تعصيبا المال كله، أو ما أبقت الفروض، لكن لو وجد مع الأبوين أحد الزوجين
-ويعبر عنهما بالعمريتين- فإن الزوج أو الزوجة يأخذ فرضه، ثم تأخذ الأُم
ثلث الباقي والأب الباقي.

وقد دل على ذلك قوله: { وَوَرِثَهُ
أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } أي: ثلث ما ورثه الأبوان. وهو في هاتين
الصورتين إما سدس في زوج وأم وأب، وإما ربع في زوجة وأم وأب. فلم تدل الآية
على إرث الأُم ثلثَ المال كاملا مع عدم الأولاد حتى يقال: إن هاتين
الصورتين قد استثنيتا من هذا.

ويوضح ذلك أن الذي يأخذه الزوج أو
الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغرماء، فيكون من رأس المال، والباقي بين الأبوين.

ولأنا
لو أعطينا الأُم ثلث المال، لزم زيادتها على الأب في مسألة الزوج، أو أخذ
الأب في مسألة الزوجة زيادة عنها نصفَ السدس، وهذا لا نظير له، فإن المعهود
مساواتها للأب، أو أخذه ضعفَ ما تأخذه الأم.

{ فَإِن كَانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } أشقاء، أو لأب، أو لأم، ذكورًا كانوا أو
إناثًا، وارثين أو محجوبين بالأب أو الجد [لكن قد يقال: ليس ظاهرُ قوله: {
فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } شاملا لغير الوارثين بدليل عدم تناولها
للمحجوب بالنصف، فعلى هذا لا يحجبها عن الثلث من الإخوة إلا الإخوة
الوارثون. ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث لأجل أن يتوفر لهم شيء
من المال، وهو معدوم، والله أعلم] ولكن بشرط كونهم اثنين فأكثر، ويشكل على
ذلك إتيان لفظ "الإخوة" بلفظ الجمع. وأجيب عن ذلك بأن المقصود مجرد التعدد،
لا الجمع، ويصدق ذلك باثنين.

وقد يطلق الجمع ويراد به الاثنان، كما
في قوله تعالى عن داود وسليمان { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } وقال
في الإخوة للأُم: { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ
وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن
كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ }

فأطلق
لفظ الجمع والمراد به اثنان فأكثر بالإجماع. فعلى هذا لو خلف أمًّا وأبًا
وإخوة، كان للأُم السدس، والباقي للأب فحجبوها عن الثلث، مع حجب الأب إياهم
[إلا على الاحتمال الآخر فإن للأم الثلث والباقي للأب]

ثم قال
تعالى: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } أي: هذه الفروض
والأنصباء والمواريث إنما ترد وتستحق بعد نزع الديون التي على الميت لله أو
للآدميين، وبعد الوصايا التي قد أوصى الميت بها بعد موته، فالباقي عن ذلك
هو التركة الذي يستحقه الورثة.

وقدم الوصية مع أنها مؤخرة عن الدين
للاهتمام بشأنها، لكون إخراجها شاقًّا على الورثة، وإلا فالديون مقدمة
عليها، وتكون من رأس المال.

وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل
للأجنبي الذي هو غير وارث. وأما غير ذلك فلا ينفذ إلا بإجازة الورثة، قال
تعالى: { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ
لَكُمْ نَفْعًا }

فلو ردَّ تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم لحصل
من الضرر ما الله به عليم، لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن،
في كل زمان ومكان. فلا يدرون أَيُّ الأولادِ أو الوالِدين أنفع لهم، وأقرب
لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية.

{ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي: فرضها الله الذي قد أحاط بكل شيء
علمًا، وأحكم ما شرعه وقدَّر ما قدَّره على أحسن تقدير لا تستطيع العقول أن
تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة لكل زمان ومكان وحال.

ثم قال
تعالى: { وَلَكُمْ } أيها الأزواج { نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن
لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ
الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ
دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ
وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم
مِّنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ }

ويدخل في مسمى
الولد المشروط وجوده أو عدمه، ولد الصلب أو ولد الابن الذكر والأُنثى،
الواحد والمتعدد، الذي من الزوج أو من غيره، ويخرج عنه ولد البنات إجماعًا.

ثم
قال تعالى: { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ
وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أي: من أم، كما هي في بعض القراءات. وأجمع
العلماء على أن المراد بالإخوة هنا الإخوة للأُم، فإذا كان يورث كلالة أي:
ليس للميت والد ولا ولد أي: لا أب ولا جد ولا ابن ولا ابن ابن ولا بنت ولا
بنت ابن وإن نزلوا. وهذه هي الكلالة كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي
الله عنه، وقد حصل على ذلك الاتفاق ولله الحمد.

{ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ
مِّنْهُمَا } أي: من الأخ والأخت { السُّدُسُ }، { فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ } أي: من واحد { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أي: لا
يزيدون على الثلث ولو زادوا عن اثنين. ودل قوله: { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي
الثُّلُثِ } أن ذَكَرهم وأنثاهم سواء، لأن لفظ "التشريك" يقتضي التسوية.

ودل
لفظ { الْكَلَالَةِ } على أن الفروع وإن نزلوا، والأصولَ الذكور وإن علوا،
يُسقطون أولاد الأُم، لأن الله لم يورثهم إلا في الكلالة، فلو لم يكن يورث
كلالة، لم يرثوا منه شيئًا اتفاقًا.

ودل قوله: { فَهُمْ شُرَكَاءُ
فِي الثُّلُثِ } أن الإخوة الأشقاء يَسقُطون في المسألة المسماة بالحمارية.
وهى: زوج، وأم، وإخوة لأم، وإخوة أشقاء. للزوج النصف، وللأم السدس،
وللأخوة للأم الثلث، ويسقط الأشقاء، لأن الله أضاف الثلث للإخوة من الأُم،
فلو شاركهم الأشقاء لكان جمعا لما فرَّق الله حكمه. وأيضا فإن الإخوة للأم
أصحاب فروض، والأشقاء عصبات. وقد قال النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999: - "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى
رجل ذكر" - وأهل الفروض هم الذين قدَّر الله أنصباءهم، ففي هذه المسألة لا
يبقى بعدهم شيء، فيَسْقُط الأشقاء، وهذا هو الصواب في ذلك.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:36 pm

وأما
ميراث الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب، فمذكور في قوله: { يَسْتَفْتُونَكَ
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } الآية.

فالأخت
الواحدة شقيقة أو لأب لها النصف، والثنتان لهما الثلثان، والشقيقة الواحدة
مع الأخت للأب أو الأخوات تأخذ النصف، والباقي من الثلثين للأخت أو الأخوات
لأب وهو السدس تكملة الثلثين. وإذ استغرقت الشقيقات الثلثين سقط الأخوات
للأب كما تقدم في البنات وبنات الابن. وإن كان الإخوة رجالاً ونساءً فللذكر
مثل حظ الأنثيين.

فإن قيل: فهل يستفاد حكم ميراث القاتل، والرقيق،
والمخالف في الدين، والمبعض، والخنثى، والجد مع الإخوة لغير أم، والعول،
والرد، وذوي الأرحام، وبقية العصبة، والأخوات لغير أم مع البنات أو بنات
الابن من القرآن أم لا؟

قيل: نعم، فيه تنبيهات وإشارات دقيقة يعسر
فهمها على غير المتأمل تدل على جميع المذكورات. فأما (القاتل والمخالف في
الدين) فيعرف أنهما غير وارثين من بيان الحكمة الإلهية في توزيع المال على
الورثة بحسب قربهم ونفعهم الديني والدنيوي.

وقد أشار تعالى إلى هذه
الحكمة بقوله: { لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } وقد
عُلم أن القاتل قد سعى لمورثه بأعظم الضرر، فلا ينتهض ما فيه من موجب الإرث
أن يقاوم ضرر القتل الذي هو ضد النفع الذي رتب عليه الإرث. فعُلم من ذلك
أن القتل أكبر مانع يمنع الميراث، ويقطع الرحم الذي قال الله فيه: {
وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ }
مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية أن "من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب
بحرمانه"

وبهذا ونحوه يعرف أن المخالف لدين الموروث لا إرث له، وذلك
أنه قد تعارض الموجب الذي هو اتصال النسب الموجب للإرث، والمانعُ الذي هو
المخالفة في الدين الموجبة للمباينة من كل وجه، فقوي المانع ومنع موجب
الإرث الذي هو النسب، فلم يعمل الموجب لقيام المانع. يوضح ذلك أن الله
تعالى قد جعل حقوق المسلمين أولى من حقوق الأقارب الكفار الدنيوية، فإذا
مات المسلم انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به. فيكون قوله تعالى: {
وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ }
إذا اتفقت أديانهم، وأما مع تباينهم فالأخوة الدينية مقدمة على الأخوة
النسبية المجردة.

قال ابن القيم في "جلاء الأفهام": وتأمل هذا
المعنى في آية المواريث، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون
المرأة، كما في قوله تعالى: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ }
إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب،
والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب، فلا يقع بينهما التوارث.
وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين [انتهى].

وأما (
الرقيق ) فإنه لا يرث ولا يورث، أما كونه لا يورث فواضح، لأنه ليس له مال
يورث عنه، بل كل ما معه فهو لسيده. وأما كونه لا يرث فلأنه لا يملك، فإنه
لو ملك لكان لسيده، وهو أجنبي من الميت فيكون مثل قوله تعالى: { لِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن } { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ
أَزْوَاجُكُمْ } { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } ونحوها لمن
يتأتى منه التملك، وأما الرقيق فلا يتأتى منه ذلك، فعلم أنه لا ميراث له.
وأما مَنْ بعضه حر وبعضه رقيق فإنه تتبعض أحكامه. فما فيه من الحرية يستحق
بها ما رتبه الله في المواريث، لكون ما فيه من الحرية قابلا للتملك، وما
فيه من الرق فليس بقابل لذلك، فإذا يكون المبعض، يرث ويورث، ويحجب بقدر ما
فيه من الحرية. وإذا كان العبد يكون محمودا مذموما، مثابا ومعاقبا، بقدر ما
فيه من موجبات ذلك، فهذا كذلك. وأما ( الخنثى ) فلا يخلو إما أن يكون
واضحا ذكوريته أو أنوثيته، أو مشكلا. فإن كان واضحا فالأمر فيه واضح.

إن
كان ذكرا فله حكم الذكور، ويشمله النص الوارد فيهم.

وإن كان أنثى
فله حكم الإناث، ويشملها النص الوارد فيهن.

وإن كان مشكلا، فإن كان
الذكر والأنثى لا يختلف إرثهما -كالإخوة للأم- فالأمر فيه واضح، وإن كان
يختلف إرثه بتقدير ذكوريته وبتقدير أنوثيته، ولم يبق لنا طريق إلى العلم
بذلك، لم نعطه أكثر التقديرين، لاحتمال ظلم من معه من الورثة، ولم نعطه
الأقل، لاحتمال ظلمنا له. فوجب التوسط بين الأمرين، وسلوكُ أعدل الطريقين،
قال تعالى: { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وليس لنا طريق إلى
العدل في مثل هذا أكثر من هذا الطريق المذكور. و { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }

وأما
( ميراث الجد ) مع الإخوة الأشقاء أو لأب، وهل يرثون معه أم لا؟ فقد دل
كتاب الله على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأن الجد يحجب الإخوة
أشقاء أو لأب أو لأم، كما يحجبهم الأب.

وبيان ذلك: أن الجد أب في
غير موضع من القرآن كقوله تعالى: { إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ
قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ
وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } الآية. وقال
يوسف عليه السلام: { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ }

فسمى الله الجد وجد الأب أبا، فدل ذلك
على أن الجد بمنزلة الأب، يرث ما يرثه الأب، ويحجب من يحجبه.

وإذا
كان العلماء قد أجمعوا على أن الجد حكمه حكم الأب عند عدمه في ميراثه مع
الأولاد وغيرهم من بني الإخوة والأعمام وبنيهم، وسائر أحكام المواريث،
فينبغي أيضا أن يكون حكمُه حكمَه في حجب الإخوة لغير أم.

وإذا كان
ابن الابن بمنزلة ابن الصلب فلم لا يكون الجد بمنزلة الأب؟ وإذا كان جد
الأب مع ابن الأخ قد اتفق العلماء على أنه يحجبه. فلم لا يحجب جد الميت
أخاه؟ فليس مع مَنْ يورِّث الإخوةَ مع الجد، نص ولا إشارة ولا تنبيه ولا
قياس صحيح.

وأما مسائل (العول) فإنه يستفاد حكمها من القرآن، وذلك
أن الله تعالى قد فرض وقدر لأهل المواريث أنصباء، وهم بين حالتين:

إما
أن يحجب بعضهم بعضًا أو لا. فإن حجب بعضهم بعضا، فالمحجوب ساقط لا يزاحِم
ولا يستحق شيئا، وإن لم يحجب بعضهم بعضا فلا يخلو، إما أن لا تستغرق الفروض
التركة، أو تستغرقها من غير زيادة ولا نقص، أو تزيد الفروض على التركة،
ففي الحالتين الأوليين كل يأخذ فرضه كاملا. وفي الحالة الأخيرة وهي ما إذا
زادت الفروض على التركة فلا يخلو من حالين:

إما أن ننقص بعضَ الورثة
عن فرضه الذي فرضه الله له، ونكمل للباقين منهم فروضهم، وهذا ترجيح بغير
مرجح، وليس نقصان أحدهم بأولى من الآخر، فتعينت الحال الثانية، وهي: أننا
نعطي كل واحد منهم نصيبه بقدر الإمكان، ونحاصص بينهم كديون الغرماء الزائدة
على مال الغريم، ولا طريق موصل إلى ذلك إلا بالعول، فعلم من هذا أن العول
في الفرائض قد بينه الله في كتابه.

وبعكس هذه الطريقة بعينها يعلم (
الرد ) فإن أهل الفروض إذا لم تستغرق فروضُهم التركةَ وبقي شيء ليس له
مستحق من عاصب قريب ولا بعيد، فإن رده على أحدهم ترجيح بغير مرجح، وإعطاؤه
غيرَهم ممن ليس بقريب للميت جنف وميل، ومعارضة لقوله: { وَأُولُو
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } فتعين أن
يُرَدَّ على أهل الفروض بقدر فروضهم.

ولما كان الزوجان ليسا من
القرابة، لم يستحقا زيادة على فرضهم المقدر [هذا عند من لا يورِّث الزوجين
بالرد، وهم جمهور القائلين بالرد، فعلى هذا تكون علة الرد كونه صاحب فرض
قريبا، وعلى القول الآخر، أن الزوجين كغيرهما من ذوي الفروض يُرَدُّ
عليهما؛ فكما ينقصان بالعول فإنهما يزادان بالرد كغيرهما، فالعلة على هذا
كونه وارثا صاحب فرض، فهذا هو الظاهر من دلالة الكتاب والسنة، والقياس
الصحيح، والله أعلم]

وبهذا يعلم أيضا ( ميراث ذوي الأرحام ) فإن
الميت إذا لم يخلف صاحب فرض ولا عاصبا، وبقي الأمر دائرا بين كون ماله يكون
لبيت المال لمنافع الأجانب، وبين كون ماله يرجع إلى أقاربه المدلين
بالورثة المجمع عليهم، ويدل على ذلك قوله تعالى: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } فصرفه لغيرهم ترك لمن
هو أولى من غيره، فتعين توريث ذوي الأرحام.

وإذا تعين توريثهم، فقد
علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب الله. وأن بينهم وبين الميت
وسائط، صاروا بسببها من الأقارب. فينزلون منزلة من أدلوا به من تلك
الوسائط. والله أعلم.

وأما ( ميراث بقية العصبة ) كالبنوة والأخوة
وبنيهم، والأعمام وبنيهم إلخ فإن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي
فلأولي رجل ذكر" وقال تعالى: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا
تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } فإذا ألحقنا الفروض بأهلها ولم
يبق شيء، لم يستحق العاصب شيئًا، وإن بقي شيء أخذه أولي العصبة، وبحسب
جهاتهم ودرجاتهم.

فإن جهات العصوبة خمس: البنوة، ثم الأبوة، ثم
الأخوة وبنوهم، ثم العمومة وبنوهم، ثم الولاء، فيقدم منهم الأقرب جهة. فإن
كانوا في جهة واحدة فالأقرب منزلة، فإن كانوا في منزلة واحدة فالأقوى، وهو
الشقيق، فإن تساووا من كل وجه اشتركوا. والله أعلم.

وأما كون
الأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن عصبات، يأخذن ما فضل عن فروضهن،
فلأنه ليس في القرآن ما يدل على أن الأخوات يسقطن بالبنات.

فإذا كان
الأمر كذلك، وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن، فإنه يعطى للأخوات ولا يعدل
عنهن إلى عصبة أبعد منهن، كابن الأخ والعم، ومن هو أبعد منهم. والله أعلم.


{
13 - 14 } { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ
مُهِينٌ }

أي: تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث حدود الله التي
يجب الوقوف معها وعدم مجاوزتها، ولا القصور عنها، وفي ذلك دليل على أن
الوصية للوارث منسوخة بتقديره تعالى أنصباء الوارثين.

ثم قوله
تعالى: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } فالوصية للوارث بزيادة على حقه يدخل في
هذا التعدي، مع قوله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999: "لا وصية لوارث" ثم ذكر طاعة الله ورسوله
ومعصيتهما عموما ليدخل في العموم لزوم حدوده في الفرائض أو ترك ذلك فقال: {
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } بامتثال أمرهما الذي أعظمه طاعتهما
في التوحيد، ثم الأوامر على اختلاف درجاتها واجتناب نهيهما الذي أعظمُه
الشرك بالله، ثم المعاصي على اختلاف طبقاتها { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } فمن أدى الأوامر واجتنب
النواهي فلا بد له من دخول الجنة والنجاة من النار. { وَذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ } الذي حصل به النجاة من سخطه وعذابه، والفوز بثوابه ورضوانه
بالنعيم المقيم الذي لا يصفه الواصفون.

{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا
وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ويدخل في اسم المعصية الكفر فما دونه من
المعاصي، فلا يكون فيها شبهة للخوارج القائلين بكفر أهل المعاصي فإن الله
تعالى رتب دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله. ورتب دخول النار على معصيته
ومعصية رسوله، فمن أطاعه طاعة تامة دخل الجنة بلا عذاب.

ومن عصى
الله ورسوله معصية تامة يدخل فيها الشرك فما دونه، دخل النار وخلد فيها،
ومن اجتمع فيه معصية وطاعة، كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من
الطاعة والمعصية. وقد دلت النصوص المتواترة على أن الموحدين الذين معهم
طاعة التوحيد، غير مخلدين في النار، فما معهم من التوحيد مانع لهم من
الخلود فيها.



{ 15 - 16 } { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا *
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا
وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا
رَحِيمًا }

أي: النساء { اللاتي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } أي:
الزنا، ووصفها بالفاحشة لشناعتها وقبحها.

{ فَاسْتَشْهِدُوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } أي: من رجالكم المؤمنين العدول. {
فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ } أي: احبسوهن عن الخروج
الموجب للريبة. وأيضا فإن الحبس من جملة العقوبات { حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ
الْمَوْتُ } أي: هذا منتهى الحبس. { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلًا } أي: طريقا غير الحبس في البيوت، وهذه الآية ليست منسوخة، وإنما
هي مغياة إلى ذلك الوقت، فكان الأمر في أول الإسلام كذلك حتى جعل الله لهن
سبيلا، وهو رجم المحصن وجلد غير المحصن.

{ و } كذلك { الَّلذَانِ
يَأْتِيَانِهَا } أي: الفاحشة { مِنْكُمْ } من الرجال والنساء {
فَآذُوهُمَا } بالقول والتوبيخ والتعيير والضرب الرادع عن هذه الفاحشة،
فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون، والنساء يحبسن ويؤذين.

فالحبس
غايته إلى الموت، والأذية نهايتها إلى التوبة والإصلاح، ولهذا قال: {
فَإِنْ تَابَا } أي: رجعا عن الذنب الذي فعلاه وندما عليه، وعزما على أن لا
يعودا { وَأَصْلَحَا } العمل الدال على صدق التوبة { فَأَعْرِضُوا
عَنْهُمَا } أي: عن أذاهما { إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا } أي:
كثير التوبة على المذنبين الخطائين، عظيم الرحمة والإحسان، الذي -من
إحسانه- وفقهم للتوبة وقبلها منهم، وسامحهم عن ما صدر منهم.

ويؤخذ
من هاتين الآيتين أن بينة الزنا، لا بد أن تكون أربعة رجال مؤمنين، ومن باب
أولى وأحرى اشتراط عدالتهم؛ لأن الله تعالى شدد في أمر هذه الفاحشة، سترًا
لعباده، حتى إنه لا يقبل فيها النساء منفردات، ولا مع الرجال، ولا ما دون
أربعة.

ولا بد من التصريح بالشهادة، كما دلت على ذلك الأحاديث
الصحيحة، وتومئ إليه هذه الآية لما قال: { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ
أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } لم يكتف بذلك حتى قال: { فَإِنْ شَهِدُوا } أي: لا
بد من شهادة صريحة عن أمر يشاهد عيانًا، من غير تعريض ولا كناية.

ويؤخذ
منهما أن الأذية بالقول والفعل والحبس، قد شرعه الله تعزيرًا لجنس المعصية
الذي يحصل به الزجر.


{ 17 - 18 } { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى
اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ
مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي
تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ
أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }

توبة الله على عباده نوعان:
توفيق منه للتوبة، وقبول لها بعد وجودها من العبد، فأخبر هنا -أن التوبة
المستحقة على الله حق أحقه على نفسه، كرما منه وجودا، لمن عمل السوء أي:
المعاصي { بِجَهَالَةٍ } أي: جهالة منه بعاقبتها وإيجابها لسخط الله
وعقابه، وجهل منه بنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تئول إليه من نقص
الإيمان أو إعدامه، فكل عاص لله، فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالما
بالتحريم. بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقبا عليها { ثُمَّ
يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } يحتمل أن يكون المعنى: ثم يتوبون قبل معاينة
الموت، فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعا.
وأما بعد حضور الموت فلا يُقبل من العاصين توبة ولا من الكفار رجوع، كما
قال تعالى عن فرعون: { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ }
الآية. وقال تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ }

وقال هنا:

{ وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } أي: المعاصي فيما دون
الكفر. { حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ
الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا
لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا
تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار. ويحتمل أن يكون معنى قوله: { مِنْ
قَرِيبٍ } أي: قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة، فيكون المعنى: أن من
بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله
يتوب عليه، بخلاف من استمر على ذنوبه وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفاتٍ
راسخةً فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة.

والغالب أنه لا يوفق
للتوبة ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم تام ويقين وتهاون بنظر
الله إليه، فإنه سد على نفسه باب الرحمة.

نعم قد يوفق الله عبده
المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة تامة [التي] يمحو بها ما سلف من
سيئاته وما تقدم من جناياته، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب، ولهذا ختم
الآية الأولى بقوله: { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }

فمِن
علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كلا منهما بحسب ما يستحق بحكمته،
ومن حكمته أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفيقَه للتوبة، ويخذل من اقتضت
حكمته وعدله عدمَ توفيقه. والله أعلم.


{ 19 - 21 } { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ
كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا *

وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا
فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا
مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا }

كانوا في الجاهلية إذا
مات أحدهم عن زوجته، رأى قريبُه كأخيه وابن عمه ونحوهما أنه أحق بزوجته من
كل أحد، وحماها عن غيره، أحبت أو كرهت.

فإن أحبها تزوجها على صداق
يحبه دونها، وإن لم يرضها عضلها فلا يزوجها إلا من يختاره هو، وربما امتنع
من تزويجها حتى تبذل له شيئًا من ميراث قريبه أو من صداقها، وكان الرجل
أيضا يعضل زوجته التي [يكون] يكرهها ليذهب ببعض ما آتاها، فنهى الله
المؤمنين عن جميع هذه الأحوال إلا حالتين: إذا رضيت واختارت نكاح قريب
زوجها الأول، كما هو مفهوم قوله: { كَرْهًا } وإذا أتين بفاحشة مبينة
كالزنا والكلام الفاحش وأذيتها لزوجها فإنه في هذه الحال يجوز له أن
يعضلها، عقوبة لها على فعلها لتفتدي منه إذا كان عضلا بالعدل.

ثم
قال: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وهذا يشمل المعاشرة القولية
والفعلية، فعلى الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف، من الصحبة الجميلة، وكف
الأذى وبذل الإحسان، وحسن المعاملة، ويدخل في ذلك النفقة والكسوة ونحوهما،
فيجب على الزوج لزوجته المعروف من مثله لمثلها في ذلك الزمان والمكان، وهذا
يتفاوت بتفاوت الأحوال.

{ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } أي: ينبغي
لكم -أيها الأزواج- أن تمسكوا زوجاتكم مع الكراهة لهن، فإن في ذلك خيرًا
كثيرًا. من ذلك امتثال أمر الله، وقبولُ وصيته التي فيها سعادة الدنيا
والآخرة.

ومنها أن إجباره نفسَه -مع عدم محبته لها- فيه مجاهدة
النفس، والتخلق بالأخلاق الجميلة. وربما أن الكراهة تزول وتخلفها المحبة،
كما هو الواقع في ذلك. وربما رزق منها ولدا صالحا نفع والديه في الدنيا
والآخرة. وهذا كله مع الإمكان في الإمساك وعدم المحذور.

فإن كان لا
بد من الفراق، وليس للإمساك محل، فليس الإمساك بلازم.

بل متى {
أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } أي: تطليقَ زوجة وتزوجَ
أخرى. أي: فلا جناح عليكم في ذلك ولا حرج. ولكن إذا { آتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ } أي: المفارقة أو التي تزوجها { قِنْطَارًا } أي: مالا
كثيرا. { فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } بل وفروه لهن ولا تمطلوا بهن.

وفي
هذه الآية دلالة على عدم تحريم كثرة المهر، مع أن الأفضل واللائق
الاقتداءُ بالنبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 في تخفيف المهر. ووجه الدلالة أن الله أخبر
عن أمر يقع منهم، ولم ينكره عليهم، فدل على عدم تحريمه [لكن قد ينهي عن
كثرة الصداق إذا تضمن مفسدة دينية وعدم مصلحة تقاوم]

ثم قال: {
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } فإن هذا لا يحل ولو
تحيلتم عليه بأنواع الحيل، فإن إثمه واضح.

وقد بين تعالى حكمة ذلك
بقوله: { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } وبيان ذلك: أن الزوجة قبل عقد
النكاح محرمة على الزوج ولم ترض بحلها له إلا بذلك المهر الذي يدفعه لها،
فإذا دخل بها وأفضى إليها وباشرها المباشرة التي كانت حراما قبل ذلك، والتي
لم ترض ببذلها إلا بذلك العوض، فإنه قد استوفى المعوض فثبت عليه العوض.

فكيف
يستوفي المعوض ثم بعد ذلك يرجع على العوض؟ هذا من أعظم الظلم والجور،
وكذلك أخذ الله على الأزواج ميثاقا غليظا بالعقد، والقيام بحقوقها. ثم قال
تعالى:

{ 22 } { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا
وَسَاءَ سَبِيلًا }

أي: لا تتزوجوا من النساء ما تزوجهن آباؤكم أي:
الأب وإن علا. { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي: أمرا قبيحا يفحش ويعظم قبحه
{ وَمَقْتًا } من الله لكم ومن الخلق بل يمقت بسبب ذلك الابن أباه والأب
ابنه، مع الأمر ببره.

{ وَسَاءَ سَبِيلًا } أي: بئس الطريق طريقا
لمن سلكه لأن هذا من عوائد الجاهلية، التي جاء الإسلام بالتنزه عنها
والبراءة منها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:38 pm

{
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ
وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ
وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ
الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ
تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ
أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا
رَحِيمًا * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ
ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ
الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } هذه الآيات الكريمات
مشتملات على المحرمات بالنسب، والمحرمات بالرضاع، والمحرمات بالصهر،
والمحرمات بالجمع، وعلى المحللات من النساء. فأما المحرمات في النسب فهن
السبع اللاتي ذكرهن الله. الأم يدخل فيها كل من لها عليك ولادة، وإن بعدت،
ويدخل في البنت كل من لك عليها ولادة، والأخوات الشقيقات، أو لأب أو لأم.
والعمة: كل أخت لأبيك أو لجدك وإن علا. والخالة: كل أخت لأمك، أو جدتك وإن
علت وارثة أم لا. وبنات الأخ وبنات الأخت أي: وإن نزلت. فهؤلاء هن المحرمات
من النسب بإجماع العلماء كما هو نص الآية الكريمة وما عداهن فيدخل في
قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وذلك كبنت العمة والعم
وبنت الخال والخالة. وأما المحرمات بالرضاع فقد ذكر الله منهن الأم والأخت.
وفي ذلك تحريم الأم مع أن اللبن ليس لها، إنما هو لصاحب اللبن، دل بتنبيهه
على أن صاحب اللبن يكون أبا للمرتضع فإذا ثبتت الأبوة والأمومة ثبت ما هو
فرع عنهما كإخوتهما وأصولهم وفروعهم وقال النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" فينتشر
التحريم من جهة المرضعة ومن له اللبن كما ينتشر في الأقارب، وفي الطفل
المرتضع إلى ذريته فقط. لكن بشرط أن يكون الرضاع خمس رضعات في الحولين كما
بينت السنة. وأما المحرمات بالصهر فهن أربع. حلائل الآباء وإن علوا، وحلائل
الأبناء وإن نزلوا، وارثين أو محجوبين. وأمهات الزوجة وإن علون، فهؤلاء
الثلاث يحرمن بمجرد العقد. والرابعة: الربيبة وهي بنت زوجته وإن نزلت، فهذه
لا تحرم حتى يدخل بزوجته كما قال هنا { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } الآية. وقد
قال الجمهور: إن قوله: { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } قيد خرج مخرج الغالب
لا مفهوم له، فإن الربيبة تحرم ولو لم تكن في حجره ولكن للتقييد بذلك
فائدتان: إحداهما: فيه التنبيه على الحكمة في تحريم الربيبة وأنها كانت
بمنزلة البنت فمن المستقبح إباحتها. والثانية: فيه دلالة على جواز الخلوة
بالربيبة وأنها بمنزلة من هي في حجره من بناته ونحوهن. والله أعلم. وأما
المحرمات بالجمع فقد ذكر الله الجمع بين الأختين وحرمه وحرم النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، فكل
امرأتين بينهما رحم محرم لو قدر إحداهما ذكرًا والأخرى أنثى حرمت عليه فإنه
يحرم الجمع بينهما، وذلك لما في ذلك من أسباب التقاطع بين الأرحام. { وَ }
من المحرمات في النكاح { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ } أي: ذوات
الأزواج. فإنه يحرم نكاحهن ما دمن في ذمة الزوج حتى تطلق وتنقضي عدتها. {
إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي: بالسبي، فإذا سبيت الكافرة ذات
الزوج حلت للمسلمين بعد أن تستبرأ. وأما إذا بيعت الأمة المزوجة أو وهبت
فإنه لا ينفسخ نكاحها لأن المالك الثاني نزل منزلة الأول ولقصة بريرة حين
خيرها النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999. وقوله: { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ }
أي: الزموه واهتدوا به فإن فيه الشفاء والنور وفيه تفصيل الحلال من الحرام.
ودخل في قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } كلُّ ما لم يذكر
في هذه الآية، فإنه حلال طيب. فالحرام محصور والحلال ليس له حد ولا حصر
لطفًا من الله ورحمة وتيسيرًا للعباد. وقوله: { أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوَالِكُمْ } أي: تطلبوا من وقع عليه نظركم واختياركم من اللاتي
أباحهن الله لكم حالة كونكم { مُحْصِنِينَ } أي: مستعفين عن الزنا، ومعفين
نساءكم. { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } والسفح: سفح الماء في الحلال والحرام، فإن
الفاعل لذلك لا يحصن زوجته لكونه وضع شهوته في الحرام فتضعف داعيته للحلال
فلا يبقى محصنا لزوجته. وفيها دلالة على أنه لا يزوج غير العفيف لقوله
تعالى: { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً
وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } .{ فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } أي: ممن تزوجتموها { فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ } أي: الأجور في مقابلة الاستمتاع. ولهذا إذا دخل الزوج
بزوجته تقرر عليه صداقها { فَرِيضَةً } أي: إتيانكم إياهن أجورهن فرض فرضه
الله عليكم، ليس بمنزلة التبرع الذي إن شاء أمضاه وإن شاء رده. أو معنى
قوله فريضة: أي: مقدرة قد قدرتموها فوجبت عليكم، فلا تنقصوا منها شيئًا. {
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ
الْفَرِيضَةِ } أي: بزيادة من الزوج أو إسقاط من الزوجة عن رضا وطيب نفس
[هذا قول كثير من المفسرين، وقال كثير منهم: إنها نزلت في متعة النساء التي
كانت حلالا في أول الإسلام ثم حرمها النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 وأنه يؤمر بتوقيتها وأجرها، ثم إذا انقضى
الأمد الذي بينهما فتراضيا بعد الفريضة فلا حرج عليهما، والله أعلم]. {
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي: كامل العلم واسعه، كامل
الحكمة: فمن علمه وحكمته شرع لكم هذه الشرائع وحد لكم هذه الحدود الفاصلة
بين الحلال والحرام. { 25 } { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا
أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ
أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ
مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ
أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا
خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ثم قال تعالى { وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا } الآية. أي: ومن لم يستطع الطول الذي هو
المهر لنكاح المحصنات أي: الحرائر المؤمنات وخاف على نفسه العَنَت أي:
الزنا والمشقة الكثيرة، فيجوز له نكاح الإماء المملوكات المؤمنات. وهذا
بحسب ما يظهر، وإلا فالله أعلم بالمؤمن الصادق من غيره، فأمور الدنيا مبنية
على ظواهر الأمور، وأحكام الآخرة مبنية على ما في البواطن. {
فَانْكِحُوهُنَّ } أي: المملوكات { بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } أي: سيدهن واحدا
أو متعددا. { وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي: ولو كن إماء،
فإنه كما يجب المهر للحرة فكذلك يجب للأمة. ولكن لا يجوز نكاح الإماء إلا
إذا كن { مُحْصَنَاتٍ } أي: عفيفات عن الزنا { غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } أي:
زانيات علانية. { وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } أي: أخلاء في السر.
فالحاصل أنه لا يجوز للحر المسلم نكاح أمة إلا بأربعة شروط ذكرها الله:
الإيمان بهن والعفة ظاهرا وباطنا، وعدم استطاعة طول الحرة، وخوف العنت،
فإذا تمت هذه الشروط جاز له نكاحهن. ومع هذا فالصبر عن نكاحهن أفضل لما فيه
من تعريض الأولاد للرق، ولما فيه من الدناءة والعيب. وهذا إذا أمكن الصبر،
فإن لم يمكن الصبر عن المحرم إلا بنكاحهن وجب ذلك. ولهذا قال: { وَأَنْ
تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وقوله: { فَإِذَا
أُحْصِنَّ } أي: تزوجن أو أسلمن أي: الإماء { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا
عَلَى الْمُحْصَنَاتِ } أي: الحرائر { مِنَ الْعَذَابِ } وذلك الذي يمكن
تنصيفه وهو: الجَلد فيكون عليهن خمسون جَلدة. وأما الرجم فليس على الإماء
رجم لأنه لا يتنصف، فعلى القول الأول إذا لم يتزوجن فليس عليهن حد، إنما
عليهن تعزير يردعهن عن فعل الفاحشة. وعلى القول الثاني: إن الإماء غير
المسلمات، إذا فعلن فاحشة أيضا عزرن. وختم هذه الآية بهذين الاسمين
الكريمين "الغفور والرحيم" لكون هذه الأحكام رحمةً بالعباد وكرمًا وإحسانًا
إليهم فلم يضيق عليهم، بل وسع غاية السعة. ولعل في ذكر المغفرة بعد ذكر
الحد إشارة إلى أن الحدود كفارات، يغفر الله بها ذنوب عباده كما ورد بذلك
الحديث. وحكم العبد الذكر في الحد المذكور حكم الأمة لعدم الفارق بينهما. {
26 - 28 } { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
* وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } يخبر
تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة، وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة
دينه فقال: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } أي: جميع ما تحتاجون
إلى بيانه من الحق والباطل، والحلال والحرام، { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي: الذين أنعم الله عليهم من النبيين
وأتباعهم، في سيرهم الحميدة، وأفعالهم السديدة، وشمائلهم الكاملة، وتوفيقهم
التام. فلذلك نفذ ما أراده، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم،
وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل. { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي: يلطف
لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى تمكنوا من الوقوف على ما حده الله،
والاكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم بسبب ما يسر الله عليكم فهذا من توبته على
عباده. ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم
الإنابة إليه، والتذلل بين يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له. فله
الحمد والشكر على ذلك. وقوله: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي: كامل
الحكمة، فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ومنها هذه الأشياء
والحدود. ومن حكمته أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه، ويخذل
من اقتضت حكمته وعدله من لا يصلح للتوبة. وقوله: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي: توبة تلم شعثكم، وتجمع متفرقكم، وتقرب بعيدكم. {
وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } أي: يميلون معها حيث
مالت ويقدمونها على ما فيه رضا محبوبهم، ويعبدون أهواءهم، من أصناف الكفرة
والعاصين، المقدمين لأهوائهم على طاعة ربهم، فهؤلاء يريدون { أَنْ
تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } أي: [أن] تنحرفوا عن الصراط المستقيم إلى
صراط المغضوب عليهم والضالين. يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن إلى طاعة
الشيطان، وعن التزام حدود من السعادة كلها في امتثال أوامره، إلى مَنْ
الشقاوةُ كلها في اتباعه. فإذا عرفتم أن الله تعالى يأمركم بما فيه صلاحكم
وفلاحكم وسعادتكم، وأن هؤلاء المتبعين لشهواتهم يأمرونكم بما فيه غاية
الخسار والشقاء، فاختاروا لأنفسكم أوْلى الداعيين، وتخيّروا أحسن
الطريقتين. { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } أي: بسهولة ما
أمركم به و [ما] نهاكم عنه، ثم مع حصول المشقة في بعض الشرائع أباح لكم ما
تقتضيه حاجتكم، كالميتة والدم ونحوهما للمضطر، وكتزوج الأمة للحر بتلك
الشروط السابقة. وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل، وعلمه وحكمته بضعف
الإنسان من جميع الوجوه، ضعف البنية، وضعف الإرادة، وضعف العزيمة، وضعف
الإيمان، وضعف الصبر، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه، ما يضعف عنه وما لا
يطيقه إيمانه وصبره وقوته. { 29 - 30 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا
وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرًا } ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل،
وهذا يشمل أكلها بالغصوب والسرقات، وأخذها بالقمار والمكاسب الرديئة. بل
لعله يدخل في ذلك أكل مال نفسك على وجه البطر والإسراف، لأن هذا من الباطل
وليس من الحق. ثم إنه -لما حرم أكلها بالباطل- أباح لهم أكلها بالتجارات
والمكاسب الخالية من الموانع، المشتملة على الشروط من التراضي وغيره. {
وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يقتل
الإنسان نفسه. ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة، وفعلُ الأخطار
المفضية إلى التلف والهلاك { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن
رحمته أن صان نفوسكم وأموالكم، ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها، ورتب على ذلك
ما رتبه من الحدود. وتأمل هذا الإيجاز والجمع في قوله: { لَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ } { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } كيف شمل أموال غيرك
ومال نفسك وقتل نفسك وقتل غيرك بعبارة أخصر من قوله: "لا يأكل بعضكم مال
بعض" و "لا يقتل بعضكم بعضًا" مع قصور هذه العبارة على مال الغير ونفس
الغير فقط. مع أن إضافة الأموال والأنفس إلى عموم المؤمنين فيه دلالة على
أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ومصالحهم كالجسد الواحد، حيث كان
الإيمان يجمعهم على مصالحهم الدينية والدنيوية. ولما نهى عن أكل الأموال
بالباطل التي فيها غاية الضرر عليهم، على الآكل، ومن أخذ ماله، أباح لهم ما
فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب والتجارات، وأنواع الحرف والإجارات، فقال: {
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } أي: فإنها مباحة
لكم. وشرط التراضي -مع كونها تجارة- لدلالة أنه يشترط أن يكون العقد غير
عقد ربا لأن الربا ليس من التجارة، بل مخالف لمقصودها، وأنه لا بد أن يرضى
كل من المتعاقدين ويأتي به اختيارًا. ومن تمام الرضا أن يكون المعقود عليه
معلوما، لأنه إذا لم يكن كذلك لا يتصور الرضا مقدورًا على تسليمه، لأن غير
المقدور عليه شبيه ببيع القمار، فبيع الغرر بجميع أنواعه خال من الرضا فلا
ينفذ عقده. وفيها أنه تنعقد العقود بما دل عليها من قول أو فعل، لأن الله
شرط الرضا فبأي طريق حصل الرضا انعقد به العقد. ثم ختم الآية بقوله: {
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن رحمته أن عصم دماءكم وأموالكم
وصانها ونهاكم عن انتهاكها. (30) ثم قال: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ } أي:
أكل الأموال بالباطل وقتل النفوس { عُدْوَانًا وَظُلْمًا } أي: لا جهلا
ونسيانا { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا } أي: عظيمة كما يفيده التنكير {
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } { 31 } { إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } وهذا من فضل الله وإحسانه على عباده
المؤمنين وعدهم أنهم إذا اجتنبوا كبائر المنهيات غفر لهم جميع الذنوب
والسيئات وأدخلهم مدخلا كريما كثير الخير وهو الجنة المشتملة على ما لا عين
رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ويدخل في اجتناب الكبائر فعل
الفرائض التي يكون تاركها مرتكبا كبيرة، كالصلوات الخمس، والجمعة، وصوم
رمضان، كما قال النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان
إلى رمضان مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر" . وأحسن ما حُدت به
الكبائر، أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو نفي
إيمان، أو ترتيب لعنة، أو غضب عليه. { 32 } { وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا
فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا
اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ
مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } ينهى تعالى
المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره من الأمور الممكنة وغير
الممكنة. فلا تتمنى النساء خصائص الرجال التي بها فضلهم على النساء، ولا
صاحب الفقر والنقص حالة الغنى والكمال تمنيا مجردا لأن هذا هو الحسد بعينه،
تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك ويسلب إياها. ولأنه يقتضي السخط على
قدر الله والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة التي لا يقترن بها عمل ولا
كسب. وإنما المحمود أمران: أن يسعى العبد على حسب قدرته بما ينفعه من
مصالحه الدينية والدنيوية، ويسأل الله تعالى من فضله، فلا يتكل على نفسه
ولا على غير ربه. ولهذا قال تعالى: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا
اكْتَسَبُوا } أي: من أعمالهم المنتجة للمطلوب. { وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ
مِمَّا اكْتَسَبْنَ } فكل منهم لا يناله غير ما كسبه وتعب فيه. {
وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } أي: من جميع مصالحكم في الدين
والدنيا. فهذا كمال العبد وعنوان سعادته لا من يترك العمل، أو يتكل على
نفسه غير مفتقر لربه، أو يجمع بين الأمرين فإن هذا مخذول خاسر. وقوله: {
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } فيعطي من يعلمه أهلا لذلك،
ويمنع من يعلمه غير مستحق. { 33 } { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا
تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا }
أي: { وَلِكُلٍّ } من الناس { جَعَلْنَا مَوَالِيَ } أي: يتولونه ويتولاهم
بالتعزز والنصرة والمعاونة على الأمور. { مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالْأَقْرَبُونَ } وهذا يشمل سائر الأقارب من الأصول والفروع والحواشي،
هؤلاء الموالي من القرابة. ثم ذكر نوعا آخر من الموالي فقال: { وَالَّذِينَ
عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي: حالفتموهم بما عقدتم معهم من عقد المحالفة
على النصرة والمساعدة والاشتراك بالأموال وغير ذلك. وكل هذا من نعم الله
على عباده، حيث كان الموالي يتعاونون بما لا يقدر عليه بعضهم مفردا. قال
تعالى: { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي: آتوا الموالي نصيبهم الذي يجب
القيام به من النصرة والمعاونة والمساعدة على غير معصية الله. والميراث
للأقارب الأدنين من الموالي. { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدًا } أي: مطلعا على كل شيء بعلمه لجميع الأمور، وبصره لحركات عباده،
وسمعه لجميع أصواتهم. { 34 } { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ
بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا
حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ
فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا
كَبِيرًا } يخبر تعالى أن الرِّجَال { قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } أي:
قوامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله تعالى، من المحافظة على فرائضه وكفهن عن
المفاسد، والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك، وقوامون عليهن أيضا بالإنفاق
عليهن، والكسوة والمسكن، ثم ذكر السبب الموجب لقيام الرجال على النساء
فقال: { بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا
مِنْ أَمْوَالِهِمْ } أي: بسبب فضل الرجال على النساء وإفضالهم عليهن،
فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة: من كون الولايات مختصة بالرجال،
والنبوة، والرسالة، واختصاصهم بكثير من العبادات كالجهاد والأعياد والجمع.
وبما خصهم الله به من العقل والرزانة والصبر والجلد الذي ليس للنساء مثله.
وكذلك خصهم بالنفقات على الزوجات بل وكثير من النفقات يختص بها الرجال
ويتميزون عن النساء. ولعل هذا سر قوله: { وَبِمَا أَنْفَقُوا } وحذف
المفعول ليدل على عموم النفقة. فعلم من هذا كله أن الرجل كالوالي والسيد
لامرأته، وهي عنده عانية أسيرة خادمة،فوظيفته أن يقوم بما استرعاه الله به.
ووظيفتها: القيام بطاعة ربها وطاعة زوجها فلهذا قال: { فَالصَّالِحَاتُ
قَانِتَاتٌ } أي: مطيعات لله تعالى { حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ } أي: مطيعات
لأزواجهن حتى في الغيب تحفظ بعلها بنفسها وماله، وذلك بحفظ الله لهن
وتوفيقه لهن، لا من أنفسهن، فإن النفس أمارة بالسوء، ولكن من توكل على الله
كفاه ما أهمه من أمر دينه ودنياه. ثم قال: { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ
نُشُوزَهُنَّ } أي: ارتفاعهن عن طاعة أزواجهن بأن تعصيه بالقول أو الفعل
فإنه يؤدبها بالأسهل فالأسهل، { فَعِظُوهُنَّ } أي: ببيان حكم الله في طاعة
الزوج ومعصيته والترغيب في الطاعة، والترهيب من معصيته، فإن انتهت فذلك
المطلوب، وإلا فيهجرها الزوج في المضجع، بأن لا يضاجعها، ولا يجامعها
بمقدار ما يحصل به المقصود، وإلا ضربها ضربًا غير مبرح، فإن حصل المقصود
بواحد من هذه الأمور وأطعنكم { فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } أي:
فقد حصل لكم ما تحبون فاتركوا معاتبتها على الأمور الماضية، والتنقيب عن
العيوب التي يضر ذكرها ويحدث بسببه الشر. { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا
كَبِيرًا } أي: له العلو المطلق بجميع الوجوه والاعتبارات، علو الذات وعلو
القدر وعلو القهر الكبير الذي لا أكبر منه ولا أجل ولا أعظم، كبير الذات
والصفات. { 35 } { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا
حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا
يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا }
أي: وإن خفتم الشقاق بين الزوجين والمباعدة والمجانبة حتى يكون كل منهما في
شق { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } أي:
رجلين مكلفين مسلمين عدلين عاقلين يعرفان ما بين الزوجين، ويعرفان الجمع
والتفريق. وهذا مستفاد من لفظ "الحكم" لأنه لا يصلح حكما إلا من اتصف بتلك
الصفات. فينظران ما ينقم كل منهما على صاحبه، ثم يلزمان كلا منهما ما يجب،
فإن لم يستطع أحدهما ذلك، قنَّعا الزوج الآخر بالرضا بما تيسر من الرزق
والخلق، ومهما أمكنهما الجمع والإصلاح فلا يعدلا عنه. فإن وصلت الحال إلى
أنه لا يمكن اجتماعهما وإصلاحهما إلا على وجه المعاداة والمقاطعة ومعصية
الله، ورأيا أن التفريق بينهما أصلح، فرقا بينهما. ولا يشترط رضا الزوج،
كما يدل عليه أن الله سماهما حكمين، والحكم يحكم ولو لم يرض المحكوم عليه،
ولهذا قال: { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا }
أي: بسبب الرأي الميمون والكلام الذي يجذب القلوب ويؤلف بين القرينين. {
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } أي: عالمًا بجميع الظواهر
والبواطن، مطلعا على خفايا الأمور وأسرارها. فمن علمه وخبره أن شرع لكم هذه
الأحكام الجليلة والشرائع الجميلة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:39 pm

36 - 38 } {
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ
ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ
السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ
كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ
قَرِينًا }

يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، وهو الدخول
تحت رق عبوديته، والانقياد لأوامره ونواهيه، محبة وذلا وإخلاصا له، في جميع
العبادات الظاهرة والباطنة.

وينهى عن الشرك به شيئا لا شركا أصغر
ولا أكبر، لا ملكا ولا نبيا ولا وليا ولا غيرهم من المخلوقين الذين لا
يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، بل الواجب
المتعين إخلاص العبادة لمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وله التدبير
الكامل الذي لا يشركه ولا يعينه عليه أحد. ثم بعد ما أمر بعبادته والقيام
بحقه أمر بالقيام بحقوق العباد الأقرب فالأقرب. فقال: { وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا } أي: أحسنوا إليهم بالقول الكريم والخطاب اللطيف والفعل
الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق
بهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا بهما. وللإحسان ضدان، الإساءةُ وعدمُ
الإحسان. وكلاهما منهي عنه.

{ وَبِذِي الْقُرْبَى } أيضا إحسانا،
ويشمل ذلك جميع الأقارب، قربوا أو بعدوا، بأن يحسن إليهم بالقول والفعل،
وأن لا يقطع برحمه بقوله أو فعله.

{ وَالْيَتَامَى } أي: الذين
فقدوا آباءهم وهم صغار، فلهم حق على المسلمين، سواء كانوا أقارب أو غيرهم
بكفالتهم وبرهم وجبر خواطرهم وتأديبهم، وتربيتهم أحسن تربية في مصالح دينهم
ودنياهم.

{ وَالْمَسَاكِين } وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر، فلم
يحصلوا على كفايتهم، ولا كفاية من يمونون، فأمر الله تعالى بالإحسان
إليهم، بسد خلتهم وبدفع فاقتهم، والحض على ذلك، والقيام بما يمكن منه.

{
وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } أي: الجار القريب الذي له حقان حق الجوار وحق
القرابة، فله على جاره حق وإحسان راجع إلى العرف. { و } كذلك { الْجَارِ
الْجُنُبِ } أي: الذي ليس له قرابة. وكلما كان الجار أقرب بابًا كان آكد
حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة والدعوة واللطافة
بالأقوال والأفعال وعدم أذيته بقول أو فعل.

{ وَالصَّاحِبِ
بِالْجَنْبِ } قيل: الرفيق في السفر، وقيل: الزوجة، وقيل الصاحب مطلقا،
ولعله أولى، فإنه يشمل الصاحب في الحضر والسفر ويشمل الزوجة. فعلى الصاحب
لصاحبه حق زائد على مجرد إسلامه، من مساعدته على أمور دينه ودنياه، والنصح
له؛ والوفاء معه في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، وأن يحب له ما يحب
لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد.

{
وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو: الغريب الذي احتاج في بلد الغربة أو لم يحتج،
فله حق على المسلمين لشدة حاجته وكونه في غير وطنه بتبليغه إلى مقصوده أو
بعض مقصوده [وبإكرامه وتأنيسه]

{ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } :
أي: من الآدميين والبهائم بالقيام بكفايتهم وعدم تحميلهم ما يشق عليهم
وإعانتهم على ما يتحملون، وتأديبهم لما فيه مصلحتهم. فمن قام بهذه
المأمورات فهو الخاضع لربه، المتواضع لعباد الله، المنقاد لأمر الله وشرعه،
الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء الجميل، ومن لم يقم بذلك فإنه عبد معرض
عن ربه، غير منقاد لأوامره، ولا متواضع للخلق، بل هو متكبر على عباد الله
معجب بنفسه فخور بقوله، ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ
مُخْتَالًا } أي: معجبا بنفسه متكبرًا على الخلق { فَخُورًا } يثني على
نفسه ويمدحها على وجه الفخر والبطر على عباد الله، فهؤلاء ما بهم من
الاختيال والفخر يمنعهم من القيام بالحقوق. ولهذا ذمهم بقوله: { الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ } أي: يمنعون ما عليهم من الحقوق الواجبة. { وَيَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبُخْلِ } بأقوالهم وأفعالهم { وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أي: من العلم الذي يهتدي به الضالون ويسترشد به
الجاهلون فيكتمونه عنهم، ويظهرون لهم من الباطل ما يحول بينهم وبين الحق.
فجمعوا بين البخل بالمال والبخل بالعلم، وبين السعي في خسارة أنفسهم وخسارة
غيرهم، وهذه هي صفات الكافرين، فلهذا قال تعالى: { وَأَعْتَدْنَا
لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } أي: كما تكبروا على عباد الله ومنعوا
حقوقه وتسببوا في منع غيرهم من البخل وعدم الاهتداء، أهانهم بالعذاب الأليم
والخزي الدائم. فعياذًا بك اللهم من كل سوء.

ثم أخبر عن النفقة
الصادرة عن رياء وسمعة وعدم إيمان به فقال: { وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ } أي: ليروهم ويمدحوهم ويعظموهم { وَلَا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } أي: ليس إنفاقهم صادرا
عن إخلاص وإيمان بالله ورجاء ثوابه. أي: فهذا من خطوات الشيطان وأعماله
التي يدعو حزبه إليها ليكونوا من أصحاب السعير. وصدرت منهم بسبب مقارنته
لهم وأزهم إليها فلهذا قال: { وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا
فَسَاءَ قَرِينًا } أي: بئس المقارن والصاحب الذي يريد إهلاك من قارنه
ويسعى فيه أشد السعي.

فكما أن من بخل بما آتاه الله، وكتم ما مَنَّ
به الله عليه عاص آثم مخالف لربه، فكذلك من أنفق وتعبد لغير الله فإنه آثم
عاص لربه مستوجب للعقوبة، لأن الله إنما أمر بطاعته وامتثال أمره على وجه
الإخلاص، كما قال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } فهذا العمل المقبول الذي يستحق صاحبه المدح
والثواب فلهذا حث تعالى عليه بقوله:

{ 39 } { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ
لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا }

أي: أي شيء
عليهم وأي حرج ومشقة تلحقهم لو حصل منهم الإيمان بالله الذي هو الإخلاص،
وأنفقوا من أموالهم التي رزقهم الله وأنعم بها عليهم فجمعوا بين الإخلاص
والإنفاق، ولما كان الإخلاص سرًّا بين العبد وبين ربه، لا يطلع عليه إلا
الله أخبر تعالى بعلمه بجميع الأحوال فقال: { وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ
عَلِيمًا }


{ 40 - 42 } { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ
أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا
يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا }

يخبر تعالى عن كمال عدله وفضله
وتنزهه عما يضاد ذلك من الظلم القليل والكثير فقال: { إِنَّ اللَّهَ لَا
يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } أي: ينقصها من حسنات عبده أو يزيدها في
سيئاته، كما قال تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }

{ وَإِنْ
تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } أي: إلى عشرة أمثالها، إلى أكثر من ذلك،
بحسب حالها ونفعها وحال صاحبها، إخلاصا ومحبة وكمالا.

{ وَيُؤْتِ
مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } أي: زيادة على ثواب العمل بنفسه من
التوفيق لأعمال أخر، وإعطاء البر الكثير والخير الغزير.

ثم قال
تعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا
بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } أي: كيف تكون تلك الأحوال، وكيف يكون ذلك
الحكم العظيم، الذي جمع أن من حكم به كاملُ العلم، كاملُ العدل، كامل
الحكمة، بشهادة أزكى الخلق وهم الرسل على أممهم مع إقرار المحكوم عليه؟"
فهذا -والله- الحكم الذي هو أعم الأحكام وأعدلها وأعظمها.

وهناك
يبقى المحكوم عليهم مقرين له لكمال الفضل والعدل، والحمد والثناء. وهناك
يسعد أقوام بالفوز والفلاح والعز والنجاح. ويشقى أقوام بالخزي والفضيحة
والعذاب المهين.

ولهذا قال: { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ } أي: جمعوا بين الكفر بالله وبرسوله،
ومعصيةِ الرسول { لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ } أي: تبتلعهم ويكونون
ترابا وعدما، كما قال تعالى: { وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ
تُرَابًا }. { وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } أي: بل يقرون له بما
عملوا، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. يومئذ
يوفيهم الله جزاءهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين.

فأما ما
ورد من أن الكفار يكتمون كفرهم وجحودهم، فإن ذلك يكون في بعض مواضع
القيامة، حين يظنون أن جحودهم ينفعهم من عذاب الله، فإذا عرفوا الحقائق
وشهدت عليهم جوارحهم حينئذ ينجلي الأمر، ولا يبقى للكتمان موضع، ولا نفع
ولا فائدة.


{ 43 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا
تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ
مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا }

ينهى تعالى عباده المؤمنين
أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، حتى يعلموا ما يقولون، وهذا شامل لقربان
مواضع الصلاة، كالمسجد، فإنه لا يمكَّن السكران من دخوله. وشامل لنفس
الصلاة، فإنه لا يجوز للسكران صلاة ولا عبادة، لاختلاط عقله وعدم علمه بما
يقول، ولهذا حدد تعالى ذلك وغياه إلى وجود العلم بما يقول السكران. وهذه
الآية الكريمة منسوخة بتحريم الخمر مطلقا، فإن الخمر -في أول الأمر- كان
غير محرم، ثم إن الله تعالى عرض لعباده بتحريمه بقوله: { يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا }

ثم إنه تعالى
نهاهم عن الخمر عند حضور الصلاة كما في هذه الآية، ثم إنه تعالى حرمه على
الإطلاق في جميع الأوقات في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ
مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } الآية.

ومع هذا فإنه
يشتد تحريمه وقت حضور الصلاة لتضمنه هذه المفسدة العظيمة، بعد حصول مقصود
الصلاة الذي هو روحها ولبها وهو الخشوع وحضور القلب، فإن الخمر يسكر القلب،
ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويؤخذ من المعنى منع الدخول في الصلاة في
حال النعاس المفرط، الذي لا يشعر صاحبه بما يقول ويفعل، بل لعل فيه إشارة
إلى أنه ينبغي لمن أراد الصلاة أن يقطع عنه كل شاغل يشغل فكره، كمدافعة
الأخبثين والتوق لطعام ونحوه كما ورد في ذلك الحديث الصحيح.

ثم قال:
{ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } أي: لا تقربوا الصلاة حالة كون
أحدكم جنبا، إلا في هذه الحال وهو عابر السبيل أي: تمرون في المسجد ولا
تمكثون فيه، { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } أي: فإذا اغتسلتم فهو غاية المنع من
قربان الصلاة للجنب، فيحل للجنب المرور في المسجد فقط.

{ وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا }

فأباح التيمم للمريض مطلقًا مع وجود الماء وعدمه،
والعلة المرض الذي يشق معه استعمال الماء، وكذلك السفر فإنه مظنة فقد
الماء، فإذا فقده المسافر أو وجد ما يتعلق بحاجته من شرب ونحوه، جاز له
التيمم.

وكذلك إذا أحدث الإنسان ببول أو غائط أو ملامسة النساء،
فإنه يباح له التيمم إذا لم يجد الماء، حضرًا وسفرًا كما يدل على ذلك عموم
الآية. والحاصل: أن الله تعالى أباح التيمم في حالتين:

حال عدم
الماء، وهذا مطلقا في الحضر والسفر، وحال المشقة باستعماله بمرض ونحوه.

واختلف
المفسرون في معنى قوله: { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } هل المراد بذلك:
الجماع فتكون الآية نصا في جواز التيمم للجنب، كما تكاثرت بذلك الأحاديث
الصحيحة؟ أو المراد بذلك مجرد اللمس باليد، ويقيد ذلك بما إذا كان مظنة
خروج المذي، وهو المس الذي يكون لشهوة فتكون الآية دالة على نقض الوضوء
بذلك؟

واستدل الفقهاء بقوله: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } بوجوب طلب
الماء عند دخول الوقت، قالوا: لأنه لا يقال: "لم يجد" لمن لم يطلب، بل لا
يكون ذلك إلا بعد الطلب، واستدل بذلك أيضا على أن الماء المتغير بشيء من
الطاهرات يجوز بل يتعين التطهر به لدخوله في قوله: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
} وهذا ماء. ونوزع في ذلك أنه ماء غير مطلق وفي ذلك نظر.

وفي هذه
الآية الكريمة مشروعية هذا الحكم العظيم الذي امتن به الله على هذه الأمة،
وهو مشروعية التيمم، وقد أجمع على ذلك العلماء ولله الحمد، وأن التيمم يكون
بالصعيد الطيب، وهو كل ما تصاعد على وجه الأرض سواء كان له غبار أم لا،
ويحتمل أن يختص ذلك بذي الغبار لأن الله قال: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } وما لا غبار له لا يمسح به.

وقوله: {
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } هذا محل المسح في التيمم: الوجه
جميعه واليدان إلى الكوعين، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، ويستحب أن
يكون ذلك بضربة واحدة، كما دل على ذلك حديث عمار، وفيه أن تيمم الجنب كتيمم
غيره، بالوجه واليدين.

فائدة

اعلم أن قواعد الطب تدور على
ثلاث قواعد: حفظ الصحة عن المؤذيات، والاستفراغ منها، والحمية عنها. وقد
نبه تعالى عليها في كتابه العزيز.

أما حفظ الصحة والحمية عن المؤذي،
فقد أمر بالأكل والشرب وعدم الإسراف في ذلك، وأباح للمسافر والمريض الفطر
حفظا لصتحهما، باستعمال ما يصلح البدن على وجه العدل، وحماية للمريض عما
يضره.

وأما استفراغ المؤذي فقد أباح تعالى للمحْرِم المتأذي برأسه
أن يحلقه لإزالة الأبخرة المحتقنة فيه، ففيه تنبيه على استفراغ ما هو أولى
منها من البول والغائط والقيء والمني والدم، وغير ذلك، نبه على ذلك ابن
القيم رحمه الله تعالى.

وفي الآية وجوب تعميم مسح الوجه واليدين،
وأنه يجوز التيمم ولو لم يضق الوقت، وأنه لا يخاطب بطلب الماء إلا بعد وجود
سبب الوجوب والله أعلم.

ثم ختم الآية بقوله: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَفُوًّا غَفُورًا } أي: كثير العفو والمغفرة لعباده المؤمنين، بتيسير ما
أمرهم به، وتسهيله غاية التسهيل، بحيث لا يشق على العبد امتثاله، فيحرج
بذلك.

ومن عفوه ومغفرته أن رحم هذه الأمة بشرع طهارة التراب بدل
الماء، عند تعذر استعماله. ومن عفوه ومغفرته أن فتح للمذنبين باب التوبة
والإنابة ودعاهم إليه ووعدهم بمغفرة ذنوبهم. ومن عفوه ومغفرته أن المؤمن لو
أتاه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه لا يشرك به شيئا، لأتاه بقرابها مغفرة.



{
44 - 46 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ
الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا
السَّبِيلَ *وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ
وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا * مِنَ الَّذِينَ هَادُوا
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ
وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }

هذا
ذم لمن { أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ } وفي ضمنه تحذير عباده عن
الاغترار بهم، والوقوع في أشراكهم، فأخبر أنهم في أنفسهم { يَشْتَرُونَ
الضَّلَالَةَ } أي: يحبونها محبة عظيمة ويؤثرونها إيثار من يبذل المال
الكثير في طلب ما يحبه. فيؤثرون الضلال على الهدى، والكفر على الإيمان،
والشقاء على السعادة، ومع هذا { يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ } .

فهم
حريصون على إضلالكم غاية الحرص، باذلون جهدهم في ذلك .ولكن لما كان الله
ولي عباده المؤمنين وناصرهم، بيَّن لهم ما اشتملوا عليه من الضلال
والإضلال، ولهذا قال: { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا } أي: يتولى أحوال
عباده ويلطف بهم في جميع أمورهم، وييسر لهم ما به سعادتهم وفلاحهم. {
وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا } ينصرهم على أعدائهم ويبين لهم ما يحذرون منهم
ويعينهم عليهم. فولايته تعالى فيها حصول الخير، ونصره فيه زوال الشر.

ثم
بين كيفية ضلالهم وعنادهم وإيثارهم الباطل على الحق فقال: { مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا } أي: اليهود وهم علماء الضلال منهم.

{
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } إما بتغيير اللفظ أو المعنى، أو
هما جميعا. فمن تحريفهم تنزيل الصفات التي ذكرت في كتبهم التي لا تنطبق
ولا تصدق إلا على محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 على أنه غير مراد بها، ولا مقصود بها بل
أريد بها غيره، وكتمانهم ذلك.

فهذا حالهم في العلم أشر حال، قلبوا
فيه الحقائق، ونزلوا الحق على الباطل، وجحدوا لذلك الحق، وأما حالهم في
العمل والانقياد فإنهم { يَقُولون سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي: سمعنا قولك
وعصينا أمرك، وهذا غاية الكفر والعناد والشرود عن الانقياد، وكذلك يخاطبون
الرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 بأقبح خطاب وأبعده عن الأدب فيقولون: {
اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } قصدهم: اسمع منا غير مسمع ما تحب، بل مسمع ما
تكره، { وَرَاعِنَا } قصدهم بذلك الرعونة، بالعيب القبيح، ويظنون أن اللفظ
-لما كان محتملا لغير ما أرادوا من الأمور- أنه يروج على الله وعلى رسوله،
فتوصلوا بذلك اللفظِ الذي يلوون به ألسنتهم إلى الطعن في الدين والعيب
للرسول، ويصرحون بذلك فيما بينهم، فلهذا قال: { لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ
وَطَعْنًا فِي الدِّينِ }

ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال:
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ } وذلك لما تضمنه هذا الكلام من حسن
الخطاب والأدب اللائق في مخاطبة الرسول، والدخول تحت طاعة الله والانقياد
لأمره، وحسن التلطف في طلبهم العلم بسماع سؤالهم، والاعتناء بأمرهم، فهذا
هو الذي ينبغي لهم سلوكه. ولكن لما كانت طبائعهم غير زكية، أعرضوا عن ذلك،
وطردهم الله بكفرهم وعنادهم، ولهذا قال: { وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }

{ 47 } { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا
فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا
أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا }

يأمر
تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن يؤمنوا بالرسول محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 وما أنزل الله عليه من القرآن العظيم،
المهيمن على غيره من الكتب السابقة التي قد صدقها، فإنها أخبرت به فلما وقع
المخبر به كان تصديقا لذلك الخبر.

وأيضا فإنهم إن لم يؤمنوا بهذا
القرآن فإنهم لم يؤمنوا بما في أيديهم من الكتب، لأن كتب الله يصدق بعضها
بعضا، ويوافق بعضها بعضًا. فدعوى الإيمان ببعضها دون بعض دعوى باطلة لا
يمكن صدقها.

وفي قوله: { آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا
مَعَكُمْ } حث لهم وأنهم ينبغي أن يكونوا قبل غيرهم مبادرين إليه بسبب ما
أنعم الله عليهم به من العلم، والكتاب الذي يوجب أن يكون ما عليهم أعظم من
غيرهم، ولهذا توعدهم على عدم الإيمان فقال: { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ
وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } وهذا جزاء من جنس ما عملوا،
كما تركوا الحق، وآثروا الباطل وقلبوا الحقائق، فجعلوا الباطل حقا والحق
باطلا، جوزوا من جنس ذلك بطمس وجوههم كما طمسوا الحق، وردها على أدبارها،
بأن تجعل في أقفائهم وهذا أشنع ما يكون { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا
أَصْحَابَ السَّبْتِ } بأن يطردهم من رحمته، ويعاقبهم بجعلهم قردة، كما
فعل بإخوانهم الذين اعتدوا في السبت { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ } { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } كقوله: { إِنَّمَا
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:43 pm

{
48 } { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى
إِثْمًا عَظِيمًا }

يخبر تعالى: أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدا من
المخلوقين، ويغفر ما دون الشرك من الذنوب صغائرها وكبائرها، وذلك عند
مشيئته مغفرة ذلك، إذا اقتضت حكمتُه مغفرتَه.

فالذنوب التي دون
الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسبابا كثيرة، كالحسنات الماحية والمصائب
المكفرة في الدنيا، والبرزخ ويوم القيامة، وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض،
وبشفاعة الشافعين. ومن فوق ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل الإيمان
والتوحيد.

وهذا بخلاف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب
المغفرة، وأغلق دونه أبواب الرحمة، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد، ولا
تفيده المصائب شيئا، وما لهم يوم القيامة { مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ
حَمِيمٍ }

ولهذا قال تعالى: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ
افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } أي: افترى جرما كبيرا، وأي: ظلم أعظم ممن سوى
المخلوق -من تراب، الناقص من جميع الوجوه، الفقير بذاته من كل وجه، الذي لا
يملك لنفسه- فضلا عمن عبده -نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياة ولا
نشورًا- بالخالق لكل شيء، الكامل من جميع الوجوه، الغني بذاته عن جميع
مخلوقاته، الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع، الذي ما من نعمة
بالمخلوقين إلا فمنه تعالى، فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟

ولهذا حتم
على صاحبه بالخلود بالعذاب وحرمان الثواب { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ
النَّارُ } وهذه الآية الكريمة في حق غير التائب، وأما التائب، فإنه يغفر
له الشرك فما دونه كما قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } أي: لمن تاب إليه وأناب.

{
49 - 50 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ
اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * انْظُرْ
كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا
}

هذا تعجيب من الله لعباده، وتوبيخ للذين يزكون أنفسهم من اليهود
والنصارى، ومن نحا نحوهم من كل من زكى نفسه بأمر ليس فيه. وذلك أن اليهود
والنصارى يقولون: { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } ويقولون: {
لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } وهذا
مجرد دعوى لا برهان عليها، وإنما البرهان ما أخبر به في القرآن في قوله: {
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ
عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فهؤلاء
هم الذين زكاهم الله ولهذا قال هنا: { بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ }
أي: بالإيمان والعمل الصالح بالتخلي عن الأخلاق الرذيلة، والتحلي بالصفات
الجميلة.

وأما هؤلاء فهم -وإن زكوا أنفسهم بزعمهم أنهم على شيء، وأن
الثواب لهم وحدهم- فإنهم كذبة في ذلك، ليس لهم من خصال الزاكين نصيب، بسبب
ظلمهم وكفرهم لا بظلم من الله لهم، ولهذا قال: { وَلَا يُظْلَمُونَ
فَتِيلًا } وهذا لتحقيق العموم أي: لا يظلمون شيئا ولا مقدار الفتيل الذي
في شق النواة أو الذي يفتل من وسخ اليد وغيرها.

قال تعالى: {
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } أي: بتزكيتهم
أنفسهم، لأن هذا من أعظم الافتراء على الله. لأن مضمون تزكيتهم لأنفسهم
الإخبار بأن الله جعل ما هم عليه حقا وما عليه المؤمنون المسلمون باطلا.
وهذا أعظم الكذب وقلب الحقائق بجعل الحق باطلا، والباطلِ حقًّا. ولهذا قال:
{ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا } أي: ظاهرا بينا موجبا للعقوبة البليغة
والعذاب الأليم.

{ 51 - 57 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ
يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ
الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ
إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا *
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى
بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ
نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا
غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا *
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ
فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا }

وهذا
من قبائح اليهود وحسدهم للنبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 والمؤمنين، أن أخلاقهم الرذيلة وطبعهم
الخبيث، حملهم على ترك الإيمان بالله ورسوله، والتعوض عنه بالإيمان بالجبت
والطاغوت، وهو الإيمان بكل عبادة لغير الله، أو حكم بغير شرع الله.

فدخل
في ذلك السحر والكهانة، وعباده غير الله، وطاعة الشيطان، كل هذا من الجبت
والطاغوت، وكذلك حَمَلهم الكفر والحسد على أن فضلوا طريقة الكافرين بالله
-عبدة الأصنام- على طريق المؤمنين فقال: { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا } أي: لأجلهم تملقا لهم ومداهنة، وبغضا للإيمان: { هَؤُلَاءِ
أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } أي: طريقا. فما أسمجهم وأشد
عنادهم وأقل عقولهم" كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم والوادي الذميم؟" هل ظنوا
أن هذا يروج على أحد من العقلاء، أو يدخل عقلَ أحد من الجهلاء، فهل
يُفَضَّل دين قام على عبادة الأصنام والأوثان، واستقام على تحريم الطيبات،
وإباحة الخبائث، وإحلال كثير من المحرمات، وإقامة الظلم بين الخلق، وتسوية
الخالق بالمخلوقين، والكفر بالله ورسله وكتبه، على دين قام على عبادة
الرحمن، والإخلاص لله في السر والإعلان، والكفر بما يعبد من دونه من
الأوثان والأنداد والكاذبين، وعلى صلة الأرحام والإحسان إلى جميع الخلق،
حتى البهائم، وإقامة العدل والقسط بين الناس، وتحريم كل خبيث وظلم، والصدق
في جميع الأقوال والأعمال، فهل هذا إلا من الهذيان، وصاحب هذا القول إما من
أجهل الناس وأضعفهم عقلا، وإما من أعظمهم عنادا وتمردا ومراغمة للحق، وهذا
هو الواقع، ولهذا قال تعالى عنهم: { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ
اللَّهُ } أي: طردهم عن رحمته وأحل عليهم نقمته. { وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ
فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } أي: يتولاه ويقوم بمصالحه ويحفظه عن
المكاره، وهذا غاية الخذلان.

{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ }
أي: فيفضِّلون من شاءوا على من شاءوا بمجرد أهوائهم، فيكونون شركاء لله في
تدبير المملكة، فلو كانوا كذلك لشحوا وبخلوا أشد البخل، ولهذا قال: {
فَإِذًا } أي: لو كان لهم نصيب من الملك { لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا
} أي: شيئًا ولا قليلا. وهذا وصف لهم بشدة البخل على تقدير وجود ملكهم
المشارك لملك الله. وأخرج هذا مخرج الاستفهام المتقرر إنكاره عند كل أحد.

{
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }
أي: هل الحامل لهم على قولهم كونهم شركاءَ لله فيفضلون من شاءوا؟ أم الحامل
لهم على ذلك الحسدُ للرسول وللمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله؟ وذلك ليس
ببدع ولا غريب على فضل الله. { فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا } وذلك ما أنعم
الله به على إبراهيم وذريته من النبوة والكتاب والملك الذي أعطاه من أعطاه
من أنبيائه كـ "داود" و "سليمان" . فإنعامه لم يزل مستمرًا على عباده
المؤمنين. فكيف ينكرون إنعامه بالنبوة والنصر والملك لمحمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 أفضل الخلق وأجلهم وأعظمهم معرفة بالله
وأخشاهم له؟"

{ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ } أي: بمحمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 فنال بذلك السعادة الدنيوية والفلاح
الأخروي. { وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ } عنادًا وبغيًا وحسدًا فحصل لهم
من شقاء الدنيا ومصائبها ما هو بعض آثار معاصيهم { وَكَفَى بِجَهَنَّمَ
سَعِيرًا } تسعر على من كفر بالله، وجحد نبوة أنبيائه من اليهود والنصارى
وغيرهم من أصناف الكفرة.

ولهذا قال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا } أي: عظيمة الوقود شديدة الحرارة {
كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } أي: احترقت { بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا
غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } أي: ليبلغ العذاب منهم كل مبلغ. وكما
تكرر منهم الكفر والعناد وصار وصفا لهم وسجية؛ كرر عليهم العذاب جزاء
وِفاقا، ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا } أي: له
العزة العظيمة والحكمة في خلقه وأمره، وثوابه وعقابه.

{ وَالَّذِينَ
آمَنُوا } أي: بالله وما أوجب الإيمانَ به { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }
من الواجبات والمستحبات { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ
مُطَهَّرَةٌ } أي: من الأخلاق الرذيلة، والخلْق الذميم، ومما يكون من نساء
الدنيا من كل دنس وعيب { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا }

{ 58 -
59 } { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ
إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا
بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }

الأمانات
كل ما ائتمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به. فأمر الله عباده بأدائها أي:
كاملة موفرة، لا منقوصة ولا مبخوسة، ولا ممطولا بها، ويدخل في ذلك أمانات
الولايات والأموال والأسرار؛ والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله. وقد
ذكر الفقهاء على أن من اؤتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرز مثلها. قالوا:
لأنه لا يمكن أداؤها إلا بحفظها؛ فوجب ذلك.

وفي قوله: { إِلَى
أَهْلِهَا } دلالة على أنها لا تدفع وتؤدى لغير المؤتمِن، ووكيلُه بمنزلته؛
فلو دفعها لغير ربها لم يكن مؤديا لها.

{ وَإِذَا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } وهذا يشمل الحكم بينهم في
الدماء والأموال والأعراض، القليل من ذلك والكثير، على القريب والبعيد،
والبر والفاجر، والولي والعدو.

والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم
به هو ما شرعه الله على لسان رسوله من الحدود والأحكام، وهذا يستلزم معرفة
العدل ليحكم به. ولما كانت هذه أوامر حسنة عادلة قال: { إِنَّ اللَّهَ
نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } وهذا
مدح من الله لأوامره ونواهيه، لاشتمالها على مصالح الدارين ودفع مضارهما،
لأن شارعها السميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية، ويعلم بمصالح العباد ما
لا يعلمون.

ثم أمر بطاعته وطاعة رسوله وذلك بامتثال أمرهما، الواجب
والمستحب، واجتناب نهيهما. وأمر بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس،
من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا
بطاعتهم والانقياد لهم، طاعة لله ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط ألا يأمروا
بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولعل هذا هو
السر في حذف الفعل عند الأمر بطاعتهم وذكره مع طاعة الرسول، فإن الرسول لا
يأمر إلا بطاعة الله، ومن يطعه فقد أطاع الله، وأما أولو الأمر فشرط الأمر
بطاعتهم أن لا يكون معصية.

ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من
أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى الرسول أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن
فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما؛ أو
إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه، لأن كتاب
الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما.

فالرد
إليهما شرط في الإيمان فلهذا قال: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس
بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت، كما ذكر في الآية بعدها { ذَلِكَ } أي:
الرد إلى الله ورسوله { خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فإن حكم الله
ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم.

{
60 - 63 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا
بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ
وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ
رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا
أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا *
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا }

يعجب
تعالى عباده من حالة المنافقين. { الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ }
مؤمنون بما جاء به الرسول وبما قبله، ومع هذا { يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ } وهو كل من حكم بغير شرع الله فهو طاغوت.

والحال
أنهم { قد أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } فكيف يجتمع هذا والإيمان؟ فإن
الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من الأمور، فمَنْ زعم
أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم الله، فهو كاذب في ذلك. وهذا من إضلال
الشيطان إياهم، ولهذا قال: { وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ
ضَلَالًا بَعِيدًا } عن الحق.

{ فَكَيْفَ } يكون حال هؤلاء الضالين {
إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من المعاصي
ومنها تحكيم الطاغوت؟!

{ ثُمَّ جَاءُوكَ } معتذرين لما صدر منهم،
ويقولون: { إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } أي: ما قصدنا
في ذلك إلا الإحسان إلى المتخاصمين والتوفيق بينهم، وهم كَذَبة في ذلك. فإن
الإحسان كل الإحسان تحكيم الله ورسوله { ومَنْ أحْسَن من الله حكمًا
لقوْمٍ يوقنون }

ولهذا قال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ
مَا فِي قُلُوبِهِمْ } أي: من النفاق والقصد السيئ. { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
} أي: لا تبال بهم ولا تقابلهم على ما فعلوه واقترفوه. { وَعِظْهُمْ } أي:
بين لهم حكم الله تعالى مع الترغيب في الانقياد لله، والترهيب من تركه {
وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } أي: انصحهم سرا بينك
وبينهم، فإنه أنجح لحصول المقصود، وبالغ في زجرهم وقمعهم عمَّا كانوا عليه،
وفي هذا دليل على أن مقترف المعاصي وإن أعرض عنه فإنه ينصح سرًا، ويبالغ
في وعظه بما يظن حصول المقصود به.


{ 64 - 65 } { وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا *
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }

يخبر تعالى خبرا في ضمنه الأمر والحث
على طاعة الرسول والانقياد له. وأن الغاية من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين
ينقاد لهم المرسلُ إليهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه، وأن يكونوا
معظمين تعظيم المطيع للمطاع.

وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه
عن الله، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لأن الله أمر بطاعتهم مطلقا، فلولا
أنهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ، لما أمر بذلك مطلقا.

وقوله: {
بِإِذْنِ اللَّهِ } أي: الطاعة من المطيع صادرة بقضاء الله وقدره. ففيه
إثبات القضاء والقدر، والحث على الاستعانة بالله، وبيان أنه لا يمكن
الإنسان -إن لم يعنه الله- أن يطيع الرسول.

ثم أخبر عن كرمه العظيم
وجوده، ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا الله
فقال: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ } أي:
معترفين بذنوبهم باخعين بها.

{ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا }
أي: لتاب عليهم بمغفرته ظلْمَهم، ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها والثواب
عليها، وهذا المجيء إلى الرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 مختص بحياته؛ لأن السياق يدل على ذلك لكون
الاستغفار من الرسول لا يكون إلا في حياته، وأما بعد موته فإنه لا يطلب منه
شيء بل ذلك شرك.

ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى
يحكموا رسوله فيما شجر بينهم، أي: في كل شيء يحصل فيه اختلاف، بخلاف مسائل
الإجماع، فإنها لا تكون إلا مستندة للكتاب والسنة، ثم لا يكفي هذا التحكيم
حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق، وكونهم يحكمونه على وجه الإغماض، ثم لا
يكفي ذلك حتى يسلموا لحكمه تسليمًا بانشراح صدر، وطمأنينة نفس، وانقياد
بالظاهر والباطن.

فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام
الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان. فمَن استكمل هذه المراتب وكملها، فقد
استكمل مراتب الدين كلها. فمَن ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو
كافر، ومَن تركه، مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين.

{ 66 - 68 }
{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ
اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ
أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ
تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا *
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا }

يخبر تعالى أنه لو كتب
على عباده الأوامر الشاقة على النفوس من قتل النفوس والخروج من الديار لم
يفعله إلا القليل منهم والنادر، فليحمدوا ربهم وليشكروه على تيسير ما أمرهم
به من الأوامر التي تسهل على كل أحد، ولا يشق فعلها، وفي هذا إشارة إلى
أنه ينبغي أن يلحظ العبد ضد ما هو فيه من المكروهات، لتخف عليه العبادات،
ويزداد حمدًا وشكرًا لربه.

ثم أخبر أنهم لو فعلوا ما يوعظون به أي:
ما وُظِّف عليهم في كل وقت بحسبه، فبذلوا هممهم، ووفروا نفوسهم للقيام به
وتكميله، ولم تطمح نفوسهم لما لم يصلوا إليه، ولم يكونوا بصدده، وهذا هو
الذي ينبغي للعبد، أن ينظر إلى الحالة التي يلزمه القيام بها فيكملها، ثم
يتدرج شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى ما قدر له من العلم والعمل في أمر الدين
والدنيا، وهذا بخلاف من طمحت نفسه إلى أمر لم يصل إليه ولم يؤمر به بعد،
فإنه لا يكاد يصل إلى ذلك بسبب تفريق الهمة، وحصول الكسل وعدم النشاط.

ثم
رتب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به، وهو أربعة أمور:

(أحدها)
الخيرية في قوله: { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } أي: لكانوا من الأخيار
المتصفين بأوصافهم من أفعال الخير التي أمروا بها، أي: وانتفى عنهم بذلك
صفة الأشرار، لأن ثبوت الشيء يستلزم نفي ضده.

(الثاني) حصول التثبيت
والثبات وزيادته، فإن الله يثبت الذين آمنوا بسبب ما قاموا به من الإيمان،
الذي هو القيام بما وعظوا به، فيثبتهم في الحياة الدنيا عند ورود الفتن في
الأوامر والنواهي والمصائب، فيحصل لهم ثبات يوفقون لفعل الأوامر وترك
الزواجر التي تقتضي النفس فعلها، وعند حلول المصائب التي يكرهها العبد.
فيوفق للتثبيت بالتوفيق للصبر أو للرضا أو للشكر. فينزل عليه معونة من الله
للقيام بذلك، ويحصل له الثبات على الدين، عند الموت وفي القبر.

وأيضا
فإن العبد القائم بما أمر به، لا يزال يتمرن على الأوامر الشرعية حتى
يألفها ويشتاق إليها وإلى أمثالها، فيكون ذلك معونة له على الثبات على
الطاعات.

(الثالث) قوله: { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا
أَجْرًا عَظِيمًا } أي: في العاجل والآجل الذي يكون للروح والقلب والبُدن،
ومن النعيم المقيم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

(الرابع)
الهداية إلى صراط مستقيم. وهذا عموم بعد خصوص، لشرف الهداية إلى الصراط
المستقيم، من كونها متضمنة للعلم بالحق، ومحبته وإيثاره والعمل به، وتوقف
السعادة والفلاح على ذلك، فمن هُدِيَ إلى صراط مستقيم، فقد وُفِّقَ لكل خير
واندفع عنه كل شر وضير.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:44 pm

{
69 - 70 } { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ
رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا }

أي:
كل مَنْ أطاع الله ورسوله على حسب حاله وقدر الواجب عليه من ذكر وأنثى
وصغير وكبير، { فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ }
أي: النعمة العظيمة التي تقتضي الكمال والفلاح والسعادة { مِنَ
النَّبِيِّينَ } الذين فضلهم الله بوحيه، واختصهم بتفضيلهم بإرسالهم إلى
الخلق، ودعوتهم إلى الله تعالى { وَالصِّدِّيقِينَ } وهم: الذين كمل
تصديقهم بما جاءت به الرسل، فعلموا الحق وصدقوه بيقينهم، وبالقيام به قولا
وعملا وحالا ودعوة إلى الله، { وَالشُّهَدَاءِ } الذين قاتلوا في سبيل الله
لإعلاء كلمة الله فقتلوا، { وَالصَّالِحِينَ } الذين صلح ظاهرهم وباطنهم
فصلحت أعمالهم، فكل من أطاع الله تعالى كان مع هؤلاء في صحبتهم { وَحَسُنَ
أُولَئِكَ رَفِيقًا } بالاجتماع بهم في جنات النعيم والأُنْس بقربهم في
جوار رب العالمين.

{ ذَلِكَ الْفَضْلُ } الذي نالوه { مِنَ اللَّهِ }
فهو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه، وأعطاهم من الثواب ما لا تبلغه
أعمالهم.

{ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا } يعلم أحوال عباده ومن
يستحق منهم الثواب الجزيل، بما قام به من الأعمال الصالحة التي تواطأ عليها
القلب والجوارح.


{ 71 - 74 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا * وَإِنَّ
مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ
قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا *
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ
فَوْزًا عَظِيمًا * فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا
عَظِيمًا }

يأمر تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم من أعدائهم
الكافرين. وهذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب، التي بها يستعان على قتالهم
ويستدفع مكرهم وقوتهم، من استعمال الحصون والخنادق، وتعلم الرمي والركوب،
وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يعرف مداخلهم، ومخارجهم، ومكرهم،
والنفير في سبيل الله.

ولهذا قال: { فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ } أي:
متفرقين بأن تنفر سرية أو جيش، ويقيم غيرهم { أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا }
وكل هذا تبع للمصلحة والنكاية، والراحة للمسلمين في دينهم، وهذه الآية نظير
قوله تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }

ثم
أخبر عن ضعفاء الإيمان المتكاسلين عن الجهاد فقال: { وَإِنَّ مِنْكُمْ }
أي: أيها المؤمنون { لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } أي: يتثاقل عن الجهاد في سبيل
الله ضعفا وخورا وجبنا، هذا الصحيح.

وقيل معناه: ليبطئن غيرَه أي:
يزهده عن القتال، وهؤلاء هم المنافقون، ولكن الأول أَولى لوجهين:

أحدهما:
قوله { مِنْكُمْ } والخطاب للمؤمنين.

والثاني: قوله في آخر الآية: {
كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } فإن الكفار من
المشركين والمنافقين قد قطع الله بينهم وبين المؤمنين المودة. وأيضا فإن
هذا هو الواقع، فإن المؤمنين على قسمين:

صادقون في إيمانهم أوجب لهم
ذلك كمال التصديق والجهاد.

وضعفاء دخلوا في الإسلام فصار معهم
إيمان ضعيف لا يقوى على الجهاد.

كما قال تعالى: { قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا }
إلى آخر الآيات. ثم ذكر غايات هؤلاء المتثاقلين ونهاية مقاصدهم، وأن معظم
قصدهم الدنيا وحطامها فقال: { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ } أي: هزيمة
وقتل، وظفر الأعداء عليكم في بعض الأحوال لما لله في ذلك من الحكم. { قَالَ
} ذلك المتخلف { قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ
شَهِيدًا } رأى من ضعف عقله وإيمانه أن التقاعد عن الجهاد الذي فيه تلك
المصيبة نعمة. ولم يدر أن النعمة الحقيقية هي التوفيق لهذه الطاعة الكبيرة،
التي بها يقوى الإيمان، ويسلم بها العبد من العقوبة والخسران، ويحصل له
فيها عظيم الثواب ورضا الكريم الوهاب.

وأما القعود فإنه وإن استراح
قليلاً، فإنه يعقبه تعب طويل وآلام عظيمة، ويفوته ما يحصل للمجاهدين.

ثم
قال: { وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ } أي: نصر وغنيمة {
لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا
لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا } أي: يتمنى أنه
حاضر لينال من المغانم، ليس له رغبة ولا قصد في غير ذلك، كأنه ليس منكم يا
معشر المؤمنين ولا بينكم وبينه المودة الإيمانية التي من مقتضاها أن
المؤمنين مشتركون في جميع مصالحهم ودفع مضارهم، يفرحون بحصولها ولو على يد
غيرهم من إخوانهم المؤمنين ويألمون بفقدها، ويسعون جميعا في كل أمر يصلحون
به دينهم ودنياهم، فهذا الذي يتمنى الدنيا فقط، ليست معه الروح الإيمانية
المذكورة.

ومن لطف الله بعباده أن لا يقطع عنهم رحمته، ولا يغلق
عنهم أبوابها. بل من حصل منه غير ما يليق أمره ودعاه إلى جبر نقصه وتكميل
نفسه، فلهذا أمر هؤلاء بالإخلاص والخروج في سبيله فقال: { فَلْيُقَاتِلْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
بِالْآخِرَةِ } هذا أحد الأقوال في هذه الآية وهو أصحها.

وقيل: إن
معناه: فليقاتل في سبيل الله المؤمنون الكاملو الإيمان، الصادقون في
إيمانهم { الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ } أي:
يبيعون الدنيا رغبة عنها بالآخرة رغبة فيها.

فإن هؤلاء الذين يوجه
إليهم الخطاب لأنهم الذين قد أعدوا أنفسهم ووطَّنوها على جهاد الأعداء، لما
معهم من الإيمان التام المقتضي لذلك.

وأما أولئك المتثاقلون، فلا
يعبأ بهم خرجوا أو قعدوا، فيكون هذا نظير قوله تعالى: { قُلْ آمِنُوا بِهِ
أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ
إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } إلى آخر
الآيات. وقوله: { فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا
قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } وقيل: إن معنى الآية: فليقاتل
المقاتل والمجاهد للكفار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، فيكون على هذا
الوجه "الذين" في محل نصب على المفعولية.

{ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ } بأن يكون جهادا قد أمر الله به ورسوله، ويكون العبد
مخلصا لله فيه قاصدا وجه الله. { فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ
نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } زيادة في إيمانه ودينه، وغنيمة، وثناء حسنا،
وثواب المجاهدين في سبيل الله الذين أعد الله لهم في الجنة ما لا عين رأت،
ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

{ 75 } { وَمَا لَكُمْ لَا
تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا
مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا }

هذا حث
من الله لعباده المؤمنين وتهييج لهم على القتال في سبيله، وأن ذلك قد تعين
عليهم، وتوجه اللوم العظيم عليهم بتركه، فقال: { وَمَا لَكُمْ لَا
تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } والحال أن المستضعفين من الرجال
والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، ومع هذا فقد
نالهم أعظم الظلم من أعدائهم، فهم يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية
الظالم أهلها لأنفسهم بالكفر والشرك، وللمؤمنين بالأذى والصد عن سبيل الله،
ومنعهم من الدعوة لدينهم والهجرة.

ويدعون الله أن يجعل لهم وليًّا
ونصيرًا يستنقذهم من هذه القرية الظالم أهلها، فصار جهادكم على هذا الوجه
من باب القتال والذب عن عيلاتكم وأولادكم ومحارمكم، لا من باب الجهاد الذي
هو الطمع في الكفار، فإنه وإن كان فيه فضل عظيم ويلام المتخلف عنه أعظم
اللوم، فالجهاد الذي فيه استنقاذ المستضعفين منكم أعظم أجرًا وأكبر فائدة،
بحيث يكون من باب دفع الأعداء.


{ 76 } ثم قال: { الَّذِينَ
آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ
الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }

هذا إخبار
من الله بأن المؤمنين يقاتلون في سبيله { وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } الذي هو الشيطان. في ضمن ذلك عدة
فوائد:

منها: أنه بحسب إيمان العبد يكون جهاده في سبيل الله،
وإخلاصه ومتابعته. فالجهاد في سبيل الله من آثار الإيمان ومقتضياته
ولوازمه، كما أن القتال في سبيل الطاغوت من شعب الكفر ومقتضياته.

ومنها:
أن الذي يقاتل في سبيل الله ينبغي له ويحسن منه من الصبر والجلد ما لا
يقوم به غيره، فإذا كان أولياء الشيطان يصبرون ويقاتلون وهم على باطل، فأهل
الحق أولى بذلك، كما قال تعالى في هذا المعنى: { إِنْ تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ
اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ } الآية.

ومنها: أن الذي يقاتل في سبيل
الله معتمد على ركن وثيق، وهو الحق، والتوكل على الله. فصاحب القوة والركن
الوثيق يطلب منه من الصبر والثبات والنشاط ما لا يطلب ممن يقاتل عن الباطل،
الذي لا حقيقة له ولا عاقبة حميدة. فلهذا قال تعالى: { فَقَاتِلُوا
أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }

والكيد:
سلوك الطرق الخفية في ضرر العدو، فالشيطان وإن بلغ مَكْرُهُ مهما بلغ فإنه
في غاية الضعف، الذي لا يقوم لأدنى شيء من الحق ولا لكيد الله لعباده
المؤمنين.

{ 77 ، 78 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ
كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا
كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ
كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ
كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا
تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ
وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ }



كان المسلمون
-إذ كانوا بمكة- مأمورين بالصلاة والزكاة أي: مواساة الفقراء، لا الزكاة
المعروفة ذات النصب والشروط، فإنها لم تفرض إلا بالمدينة، ولم يؤمروا بجهاد
الأعداء لعدة فوائد:

منها: أن من حكمة الباري تعالى أن يشرع لعباده
الشرائع على وجه لا يشق عليهم؛ ويبدأ بالأهم فالأهم، والأسهل فالأسهل.

ومنها:
أنه لو فرض عليهم القتال -مع قلة عَدَدِهِم وعُدَدِهِم وكثرة أعدائهم-
لأدى ذلك إلى اضمحلال الإسلام، فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها
ولغير ذلك من الحِكَم.

وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فرض عليهم
القتال في تلك الحال، غير اللائق فيها ذلك، وإنما اللائق فيها القيام بما
أمروا به في ذلك الوقت من التوحيد والصلاة والزكاة ونحو ذلك كما قال تعالى:
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ
وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } فلما هاجروا إلى المدينة وقوي الإسلام، كُتب عليهم
القتال في وقته المناسب لذلك، فقال فريق من الذين يستعجلون القتال قبل ذلك
خوفا من الناس وضعفا وخورا: { رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ
} ؟ وفي هذا تضجرهم واعتراضهم على الله، وكان الذي ينبغي لهم ضد هذه
الحال، التسليم لأمر الله والصبر على أوامره، فعكسوا الأمر المطلوب منهم
فقالوا: { لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي: هلَّا أخرت فرض
القتال مدة متأخرة عن الوقت الحاضر، وهذه الحال كثيرًا ما تعرض لمن هو غير
رزين واستعجل في الأمور قبل وقتها، فالغالب عليه أنه لا يصبر عليها وقت
حلولها ولا ينوء بحملها، بل يكون قليل الصبر. ثم إن الله وعظهم عن هذه
الحال التي فيها التخلف عن القتال فقال: { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } أي: التمتع بلذات الدنيا وراحتها
قليل، فتحمل الأثقال في طاعة الله في المدة القصيرة مما يسهل على النفوس
ويخف عليها؛ لأنها إذا علمت أن المشقة التي تنالها لا يطول لبثها هان عليها
ذلك، فكيف إذا وازنت بين الدنيا والآخرة، وأن الآخرة خير منها، في ذاتها،
ولذاتها وزمانها، فذاتها -كما ذكر النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 في الحديث الثابت عنه- "أن موضع سوط في
الجنة خير من الدنيا وما فيها" . ولذاتها صافية عن المكدرات، بل كل ما خطر
بالبال أو دار في الفكر من تصور لذة، فلذة الجنة فوق ذلك كما قال تعالى: {
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } وقال
الله على لسان نبيه: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت،
ولا خطر على قلب بشر" .

وأما لذات الدنيا فإنها مشوبة بأنواع
التنغيص الذي لو قوبل بين لذاتها وما يقترن بها من أنواع الآلام والهموم
والغموم، لم يكن لذلك نسبة بوجه من الوجوه.

وأما زمانها، فإن الدنيا
منقضية، وعمر الإنسان بالنسبة إلى الدنيا شيء يسير، وأما الآخرة فإنها
دائمة النعيم وأهلها خالدون فيها، فإذا فكّر العاقل في هاتين الدارين وتصور
حقيقتهما حق التصور، عرف ما هو أحق بالإيثار، والسعي له والاجتهاد لطلبه،
ولهذا قال: { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } أي: اتقى الشرك، وسائر
المحرمات. { وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } أي: فسعيكم للدار الآخرة ستجدونه
كاملاً موفرًا غير منقوص منه شيئًا.

ثم أخبر أنه لا يغني حذر عن
قدر، وأن القاعد لا يدفع عنه قعوده شيئًا، فقال: { أَيْنَمَا تَكُونُوا
يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ } أي: في أي زمان وأي مكان. { وَلَوْ كُنْتُمْ فِي
بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي: قصور منيعة ومنازل رفيعة، وكل هذا حث على الجهاد
في سبيل الله تارة بالترغيب في فضله وثوابه، وتارة بالترهيب من عقوبة
تركه، وتارة بالإخبار أنه لا ينفع القاعدين قعودُهم، وتارة بتسهيل الطريق
في ذلك وقصرها.

{ 78 - 80 } ثم قال: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ
يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ
هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ
مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ
نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا
أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا }



يخبر تعالى عن الذين
لا يعلمون المعرضين عما جاءت به الرسل، المعارضين لهم أنهم إذا جاءتهم حسنة
أي: خصب وكثرة أموال، وتوفر أولاد وصحة، قالوا: { هَذِهِ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ } وأنهم إن أصابتهم سيئة أي: جدب وفقر، ومرض وموت أولاد وأحباب
قالوا: { هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي: بسبب ما جئتنا به يا محمد، تطيروا
برسول الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 كما تطير أمثالهم برسل الله، كما أخبر الله
عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا
لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ
مَعَهُ }

وقال قوم صالح: { قالوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ
}

وقال قوم ياسين لرسلهم: { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ
لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ } الآية. فلما تشابهت قلوبهم بالكفر
تشابهت أقوالهم وأعمالهم. وهكذا كل من نسب حصول الشر أو زوال الخير لما
جاءت به الرسل أو لبعضه فهو داخل في هذا الذم الوخيم.

قال الله في
جوابهم: { قُلْ كُلٌّ } أي: من الحسنة والسيئة والخير والشر. { مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ } أي: بقضائه وقدره وخلقه. { فَمَا لهَؤُلَاءِ الْقَوْم } أي:
الصادر منهم تلك المقالة الباطلة. { لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا }
أي: لا يفهمون حديثا بالكلية ولا يقربون من فهمه، أو لا يفهمون منه إلا
فهمًا ضعيفًا، وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ على عدم فهمهم وفقههم عن الله وعن
رسوله، وذلك بسبب كفرهم وإعراضهم.

وفي ضمن ذلك مدْح من يفهم عن
الله وعن رسوله، والحث على ذلك، وعلى الأسباب المعينة على ذلك، من الإقبال
على كلامهما وتدبره، وسلوك الطرق الموصلة إليه. فلو فقهوا عن الله لعلموا
أن الخير والشر والحسنات والسيئات كلها بقضاء الله وقدره، لا يخرج منها شيء
عن ذلك.

وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكونون سببا لشر يحدث،
هم ولا ما جاءوا به لأنهم بعثوا بصلاح الدنيا والآخرة والدين.

ثم
قال تعالى: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } أي: في الدين والدنيا { فَمِنَ
اللَّهِ } هو الذي مَنَّ بها ويسرها بتيسير أسبابها. { وَمَا أَصَابَكَ
مِنْ سَيِّئَةٍ } في الدين والدنيا { فَمِنْ نَفْسِكَ } أي: بذنوبك وكسبك،
وما يعفو الله عنه أكثر.

فالله تعالى قد فتح لعباده أبواب إحسانه
وأمرهم بالدخول لبره وفضله، وأخبرهم أن المعاصي مانعة من فضله، فإذا فعلها
العبد فلا يلومن إلا نفسه فإنه المانع لنفسه عن وصول فضل الله وبره.

ثم
أخبر عن عموم رسالة رسوله محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 فقال: { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ
رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } على أنك رسول الله حقا بما أيدك
بنصره والمعجزات الباهرة والبراهين الساطعة، فهي أكبر شهادة على الإطلاق،
كما قال تعالى: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ
شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فإذا علم أن الله تعالى كامل العلم، تام
القدرة عظيم الحكمة، وقد أيد الله رسوله بما أيده، ونصره نصرا عظيما، تيقن
بذلك أنه رسول الله، وإلا فلو تقول عليه بعض الأقاويل لأخذ منه باليمين، ثم
لقطع منه الوتين
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:45 pm

{
80 - 81 } { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ
تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ
فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي
تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }

أي: كل
مَنْ أطاع رسول الله في أوامره ونواهيه { فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } تعالى
لكونه لا يأمر ولا ينهى إلا بأمر الله وشرعه ووحيه وتنزيله، وفي هذا عصمة
الرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 لأن الله أمر بطاعته مطلقا، فلولا أنه
معصوم في كل ما يُبَلِّغ عن الله لم يأمر بطاعته مطلقا، ويمدح على ذلك.
وهذا من الحقوق المشتركة فإن الحقوق ثلاثة:

حق لله تعالى لا يكون
لأحد من الخلق، وهو عبادة الله والرغبة إليه، وتوابع ذلك.

وقسم مختص
بالرسول، وهو التعزير والتوقير والنصرة.

وقسم مشترك، وهو الإيمان
بالله ورسوله ومحبتهما وطاعتهما، كما جمع الله بين هذه الحقوق في قوله: {
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ
وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } فمَنْ أطاع الرسول فقد أطاع الله،
وله من الثواب والخير ما رتب على طاعة الله { وَمَنْ تَوَلَّى } عن طاعة
الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئًا { فَمَا
أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } أي: تحفظ أعمالهم وأحوالهم، بل
أرسلناك مبلغا ومبينا وناصحا، وقد أديت وظيفتك، ووجب أجرك على الله، سواء
اهتدوا أم لم يهتدوا. كما قال تعالى: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ
مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } الآية.

ولا بد أن تكون
طاعة الله ورسوله ظاهرًا وباطنًا في الحضرة والمغيب. فأما مَنْ يظهر في
الحضرة والطاعة والالتزام فإذا خلا بنفسه أو أبناء جنسه ترك الطاعة وأقبل
على ضدها، فإن الطاعة التي أظهرها غير نافعة ولا مفيدة، وقد أشبه من قال
الله فيهم: { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } أي: يظهرون الطاعة إذا كانوا عندك. {
فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ } أي: خرجوا وخلوا في حالة لا يطلع فيها
عليهم. { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } أي: بيتوا
ودبروا غير طاعتك ولا ثَمَّ إلا المعصية.

وفي قوله: { بَيَّتَ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } دليل على أن الأمر الذي
استقروا عليه غير الطاعة؛ لأن التبييت تدبير الأمر ليلا على وجه يستقر عليه
الرأي، ثم توعدهم على ما فعلوا فقال: { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا
يُبَيِّتُونَ } أي: يحفظه عليهم وسيجازيهم عليه أتم الجزاء، ففيه وعيد لهم.

ثم
أمر رسوله بمقابلتهم بالإعراض وعدم التعنيف، فإنهم لا يضرونه شيئا إذا
توكل على الله واستعان به في نصر دينه، وإقامة شرعه. ولهذا قال: {
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا
}


{ 82 } { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ
مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }

يأمر
تعالى بتدبر كتابه، وهو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه
وعواقبه، ولوازم، ذلك فإن تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه
يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ
شجرته. فإنه يعرِّف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال; وما ينزه عنه من
سمات النقص، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم
عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى
العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب.

وكلما ازداد
العبد تأملا فيه ازداد علما وعملا وبصيرة، لذلك أمر الله بذلك وحث عليه
وأخبر أنه [هو] المقصود بإنزال القرآن، كما قال تعالى: { كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ
أُولُو الْأَلْبَابِ } وقال تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }

ومن فوائد التدبر لكتاب الله:
أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق
بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا. فترى الحكم والقصة والإخبارات تعاد في
القرآن في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضا، فبذلك
يعلم كمال القرآن وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور، فلذلك قال تعالى:
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا
كَثِيرًا } أي: فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلاً.


{
83 } { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا
بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا
قَلِيلًا }

هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق. وأنه
ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق
بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا
يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم،
أهلِ الرأي: والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون
المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم
وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك. وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة
ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة
وعلومهم الرشيدة.

وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في
أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا
يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه
النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل
الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا،فيحجم عنه؟

ثم
قال تعالى: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي: في
توفيقكم وتأديبكم، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون، { لَاتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } لأن الإنسان بطبعه ظالم جاهل، فلا تأمره
نفسه إلا بالشر. فإذا لجأ إلى ربه واعتصم به واجتهد في ذلك، لطف به ربه
ووفقه لكل خير، وعصمه من الشيطان الرجيم.


{ 84 } { فَقَاتِلْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا }

هذه الحالة أفضل
أحوال العبد، أن يجتهد في نفسه على امتثال أمر الله من الجهاد وغيره، ويحرض
غيره عليه، وقد يعدم في العبد الأمران أو أحدهما فلهذا قال لرسوله: {
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ } أي: ليس لك
قدرة على غير نفسك، فلن تكلف بفعل غيرك. { وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } على
القتال، وهذا يشمل كل أمر يحصل به نشاط المؤمنين وقوة قلوبهم، من تقويتهم
والإخبار بضعف الأعداء وفشلهم، وبما أُعد للمقاتلين من الثواب، وما على
المتخلفين من العقاب، فهذا وأمثاله كله يدخل في التحريض على القتال.

{
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: بقتالكم في
سبيل الله، وتحريض بعضكم بعضًا. { وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا } أي: قوة
وعزة { وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا } بالمذنب في نفسه، وتنكيلا لغيره، فلو شاء
تعالى لانتصر من الكفار بقوته ولم يجعل لهم باقية.

ولكن من حكمته
يبلو بعض عباده ببعض ليقوم سوق الجهاد، ويحصل الإيمان النافع، إيمان
الاختيار، لا إيمان الاضطرار والقهر الذي لا يفيد شيئا.

{ 85 } {
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ
يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا }

المراد بالشفاعة هنا: المعاونة على
أمر من الأمور، فمن شفع غيره وقام معه على أمر من أمور الخير -ومنه الشفاعة
للمظلومين لمن ظلمهم- كان له نصيب من شفاعته بحسب سعيه وعمله ونفعه، ولا
ينقص من أجر الأصيل والمباشر شيء، ومَنْ عاون غيره على أمر من الشر كان
عليه كفل من الإثم بحسب ما قام به وعاون عليه. ففي هذا الحث العظيم على
التعاون على البر والتقوى، والزجر العظيم عن التعاون على الإثم والعدوان،
وقرر ذلك بقوله: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } أي:
شاهدًا حفيظًا حسيبًا على هذه الأعمال، فيجازي كُلًّا ما يستحقه.

{
86 } { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ
رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا }

التحية
هي: اللفظ الصادر من أحد المتلاقيين على وجه الإكرام والدعاء، وما يقترن
بذلك اللفظ من البشاشة ونحوها.

وأعلى أنواع التحية ما ورد به الشرع،
من السلام ابتداء وردًّا. فأمر تعالى المؤمنين أنهم إذا حُيّوا بأي تحية
كانت، أن يردوها بأحسن منها لفظا وبشاشة، أو مثلها في ذلك. ومفهوم ذلك
النهي عن عدم الرد بالكلية أو ردها بدونها.

ويؤخذ من الآية الكريمة
الحث على ابتداء السلام والتحية من وجهين أحدهما:

أن الله أمر بردها
بأحسن منها أو مثلها، وذلك يستلزم أن التحية مطلوبة شرعًا.

الثاني:
ما يستفاد من أفعل التفضيل وهو "أحسن" الدال على مشاركة التحية وردها
بالحسن، كما هو الأصل في ذلك.

ويستثنى من عموم الآية الكريمة من
حيَّا بحال غير مأمور بها، كـ "على مشتغل بقراءة، أو استماع خطبة، أو مصلٍ
ونحو ذلك" فإنه لا يطلب إجابة تحيته، وكذلك يستثنى من ذلك من أمر الشارع
بهجره وعدم تحيته، وهو العاصي غير التائب الذي يرتدع بالهجر، فإنه يهجر ولا
يُحيّا، ولا تُرد تحيته، وذلك لمعارضة المصلحة الكبرى.

ويدخل في رد
التحية كل تحية اعتادها الناس وهي غير محظورة شرعًا، فإنه مأمور بردّها
وبأحسن منها، ثم أوعد تعالى وتوعد على فعل الحسنات والسيئات بقوله: { إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا } فيحفظ على العباد أعمالهم،
حسنها وسيئها، صغيرها وكبيرها، ثم يجازيهم بما اقتضاه فضله وعدله وحكمه
المحمود.

{ 87 } { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ
أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا }

يخبر تعالى عن انفراده بالوحدانية
وأنه لا معبود ولا مألوه إلا هو، لكماله في ذاته وأوصافه ولكونه المنفرد
بالخلق والتدبير، والنعم الظاهرة والباطنة.

وذلك يستلزم الأمر
بعبادته والتقرب إليه بجميع أنواع العبودية. لكونه المستحق لذلك وحده
والمجازي للعباد بما قاموا به من عبوديته أو تركوه منها، ولذلك أقسم على
وقوع محل الجزاء وهو يوم القيامة، فقال: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } أي: أولكم
وآخِركم في مقام واحد.

في { يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ }
أي: لا شك ولا شبهة بوجه من الوجوه، بالدليل العقلي والدليل السمعي،
فالدليل العقلي ما نشاهده من إحياء الأرض بعد موتها، ومن وجود النشأة
الأولى التي وقوع الثانية أَوْلى منها بالإمكان، ومن الحكمة التي تجزم بأن
الله لم يخلق خلقه عبثًا، يحيون ثم يموتون. وأما الدليل السمعي فهو إخبار
أصدق الصادقين بذلك، بل إقسامه عليه ولهذا قال: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللَّهِ حَدِيثًا } كذلك أمر رسوله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 أن يقسم عليه في غير موضع من القرآن، كقوله
تعالى: { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى
وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }

وفي قوله: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ
حَدِيثًا } { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } إخبار بأن حديثه
وأخباره وأقواله في أعلى مراتب الصدق، بل أعلاها. فكل ما قيل في العقائد
[والعلوم] والأعمال مما يناقض ما أخبر الله به، فهو باطل لمناقضته للخبر
الصادق اليقين، فلا يمكن أن يكون حقًّا.

{ 88 - 91 } { فَمَا لَكُمْ
فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا
فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى
يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ
وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ
أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ
لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ
يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ
أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ
السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا
مُبِينًا }

المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات: المنافقون
المظهرون إسلامهم، ولم يهاجروا مع كفرهم، وكان قد وقع بين الصحابة رضوان
الله عليهم فيهم اشتباه، فبعضهم تحرج عن قتالهم، وقطع موالاتهم بسبب ما
أظهروه من الإيمان، وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم.
فأخبرهم الله تعالى أنه لا ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا، بل أمرهم
واضح غير مشكل، إنهم منافقون قد تكرر كفرهم، وودوا مع ذلك كفركم وأن تكونوا
مثلهم. فإذا تحققتم ذلك منهم { فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ }
وهذا يستلزم عدم محبتهم لأن الولاية فرع المحبة.

ويستلزم أيضا بغضهم
وعداوتهم لأن النهي عن الشيء أمر بضده، وهذا الأمر موقت بهجرتهم فإذا
هاجروا جرى عليهم ما جرى على المسلمين، كما كان النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 يجري أحكام الإسلام لكل مَنْ كان معه وهاجر
إليه، وسواء كان مؤمنا حقيقة أو ظاهر الإيمان.

وأنهم إن لم يهاجروا
وتولوا عنها { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } أي:
في أي وقت وأي محل كان، وهذا من جملة الأدلة الدالة على نسخ القتال في
الأشهر الحرم، كما هو قول جمهور العلماء، والمنازعون يقولون: هذه نصوص
مطلقة، محمولة على تقييد التحريم في الأشهر الحرم.

ثم إن الله
استثنى من قتال هؤلاء المنافقين ثلاث فِرَق:

فرقتين أمر بتركهم
وحتَّم [على] ذلك، إحداهما من يصل إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق
بترك القتال فينضم إليهم، فيكون له حكمهم في حقن الدم والمال.

والفرقة
الثانية قوم { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا
قَوْمَهُمْ } أي: بقوا، لا تسمح أنفسهم بقتالكم، ولا بقتال قومهم، وأحبوا
ترك قتال الفريقين، فهؤلاء أيضا أمر بتركهم، وذكر الحكمة في ذلك في قوله: {
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } فإن
الأمور الممكنة ثلاثة أقسام:

إما أن يكونوا معكم ويقاتلوا أعداءكم،
وهذا متعذر من هؤلاء، فدار الأمر بين قتالكم مع قومهم وبين ترك قتال
الفريقين، وهو أهون الأمرين عليكم، والله قادر على تسليطهم عليكم، فاقبلوا
العافية، واحمدوا ربكم الذي كف أيديهم عنكم مع التمكن من ذلك.

فـهؤلاء
{ إن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ
السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا }

الفرقة
الثالثة: قوم يريدون مصلحة أنفسهم بقطع النظر عن احترامكم، وهم الذين قال
الله فيهم: { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ } أي: من هؤلاء المنافقين. { يُرِيدُونَ
أَنْ يَأْمَنُوكُمْ } أي: خوفا منكم { وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا
رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } أي: لا يزالون مقيمين على
كفرهم ونفاقهم، وكلما عرض لهم عارض من عوارض الفتن أعماهم ونكسهم على
رءوسهم، وازداد كفرهم ونفاقهم، وهؤلاء في الصورة كالفرقة الثانية، وفي
الحقيقة مخالفة لها.

فإن الفرقة الثانية تركوا قتال المؤمنين
احترامًا لهم لا خوفا على أنفسهم، وأما هذه الفرقة فتركوه خوفا لا احتراما،
بل لو وجدوا فرصة في قتال المؤمنين، فإنهم مستعدون لانتهازها، فهؤلاء إن
لم يتبين منهم ويتضح اتضاحًا عظيمًا اعتزال المؤمنين وترك قتالهم، فإنهم
يقاتلون، ولهذا قال: { فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ
السَّلَمَ } أي: المسالمة والموادعة { وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ
فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ
جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } أي: حجة بينة واضحة،
لكونهم معتدين ظالمين لكم تاركين للمسالمة، فلا يلوموا إلا أنفسهم.

{
92 } { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ
قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }

هذه الصيغة من صيغ الامتناع،
أي: يمتنع ويستحيل أن يصدر من مؤمن قتل مؤمن، أي: متعمدا، وفي هذا الإخبارُ
بشدة تحريمه وأنه مناف للإيمان أشد منافاة، وإنما يصدر ذلك إما من كافر،
أو من فاسق قد نقص إيمانه نقصا عظيما، ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك، فإن
الإيمان الصحيح يمنع المؤمن من قتل أخيه الذي قد عقد الله بينه وبينه
الأخوة الإيمانية التي من مقتضاها محبته وموالاته، وإزالة ما يعرض لأخيه من
الأذى، وأي أذى أشد من القتل؟ وهذا يصدقه قوله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب
بعض"

فعلم أن القتل من الكفر العملي وأكبر الكبائر بعد الشرك بالله.
ولما كان قوله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا } لفظا
عاما لجميع الأحوال، وأنه لا يصدر منه قتل أخيه بوجه من الوجوه، استثنى
تعالى قتل الخطأ فقال: { إِلَّا خَطَأً } فإن المخطئ الذي لا يقصد القتل
غير آثم، ولا مجترئ على محارم الله، ولكنه لما كان قد فعل فعلاً شنيعًا
وصورته كافية في قبحه وإن لم يقصده أمر تعالى بالكفارة والدية فقال: {
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً } سواء كان القاتل ذكرًا أو أنثى حرًّا أو
عبدًا، صغيرًا أو كبيرًا، عاقلاً أو مجنونًا، مسلمًا أو كافرًا، كما يفيده
لفظ "مَنْ" الدالة على العموم وهذا من أسرار الإتيان بـ "مَنْ" في هذا
الموضع، فإن سياق الكلام يقتضي أن يقول: فإن قتله، ولكن هذا لفظ لا يشمل ما
تشمله "مَنْ"

وسواء كان المقتول ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا،
كما يفيده التنكير في سياق الشرط، فإن على القاتل { تحرير رقبة مؤمنة }
كفارة لذلك، تكون في ماله، ويشمل ذلك الصغير والكبير، والذكر والأنثى،
والصحيح والمعيب، في قول بعض العلماء.

ولكن الحكمة تقتضي أن لا يجزئ
عتق المعيب في الكفارة؛ لأن المقصود بالعتق نفع العتيق، وملكه منافع نفسه،
فإذا كان يضيع بعتقه، وبقاؤه في الرق أنفع له فإنه لا يجزئ عتقه، مع أن في
قوله: { تحرير رقبة } ما يدل على ذلك؛ فإن التحرير: تخليص من استحقت
منافعه لغيره أن تكون له، فإذا لم يكن فيه منافع لم يتصور وجود التحرير.
فتأمل ذلك فإنه واضح.

وأما الدية فإنها تجب على عاقلة القاتل في
الخطأ وشبه العمد. { مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } جبرًا لقلوبهم، والمراد
بأهله هنا هم ورثته، فإن الورثة يرثون ما ترك، الميت، فالدية داخلة فيما
ترك وللدية تفاصيل كثيرة مذكورة في كتب الفقه.

وقوله: { إِلَّا أَنْ
يَصَّدَّقُوا } أي: يتصدق ورثة القتيل بالعفو عن الدية، فإنها تسقط، وفي
ذلك حث لهم على العفو لأن الله سماها صدقة، والصدقة مطلوبة في كل وقت. {
فَإِنْ كَانَ } المقتول { مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ } أي: من كفار حربيين
{ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أي: وليس عليكم
لأهله دية، لعدم احترامهم في دمائهم وأموالهم.

{ وَإِنْ كَانَ }
المقتول { مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وذلك
لاحترام أهله بما لهم من العهد والميثاق.

{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ }
الرقبة ولا ثمنها، بأن كان معسرا بذلك، ليس عنده ما يفضل عن مؤنته وحوائجه
الأصلية شيء يفي بالرقبة، { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي: لا
يفطر بينهما من غير عذر، فإن أفطر لعذر فإن العذر لا يقطع التتابع، كالمرض
والحيض ونحوهما. وإن كان لغير عذر انقطع التتابع ووجب عليه استئناف الصوم.

{
تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ } أي: هذه الكفارات التي أوجبها الله على القاتل
توبة من الله على عباده ورحمة بهم، وتكفير لما عساه أن يحصل منهم من تقصير
وعدم احتراز، كما هو واقع كثيرًا للقاتل خطأ.

{ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيمًا حَكِيمًا } أي: كامل العلم كامل الحكمة، لا يخفى عليه مثقال ذرة
في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، في أي وقت كان وأي محل
كان.

ولا يخرج عن حكمته من المخلوقات والشرائع شيء، بل كل ما خلقه
وشرعه فهو متضمن لغاية الحكمة، ومن علمه وحكمته أن أوجب على القاتل كفارة
مناسبة لما صدر منه، فإنه تسبب لإعدام نفس محترمة، وأخرجها من الوجود إلى
العدم، فناسب أن يعتق رقبة ويخرجها من رق العبودية للخلق إلى الحرية
التامة، فإن لم يجد هذه الرقبة صام شهرين متتابعين، فأخرج نفسه من رق
الشهوات واللذات الحسية القاطعة للعبد عن سعادته الأبدية إلى التعبد لله
تعالى بتركها تقربا إلى الله.

ومدها تعالى بهذه المدة الكثيرة
الشاقة في عددها ووجوب التتابع فيها، ولم يشرع الإطعام في هذا الموضع لعدم
المناسبة. بخلاف الظهار، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ومن حكمته أن
أوجب في القتل الدية ولو كان خطأ، لتكون رادعة وكافة عن كثير من القتل
باستعمال الأسباب العاصمة عن ذلك.

ومن حكمته أن وجبت على العاقلة في
قتل الخطأ، بإجماع العلماء، لكون القاتل لم يذنب فيشق عليه أن يحمل هذه
الدية الباهظة، فناسب أن يقوم بذلك من بينه وبينهم المعاونة والمناصرة
والمساعدة على تحصيل المصالح وكف المفاسد [ولعل ذلك من أسباب منعهم لمن
يعقلون عنه من القتل حذرًا من تحميلهم] ويخف عنهم بسبب توزيعه عليهم بقدر
أحوالهم وطاقتهم، وخففت أيضا بتأجيلها عليهم ثلاث سنين.

ومن حكمته
وعلمه أن جبر أهل القتيل عن مصيبتهم، بالدية التي أوجبها على أولياء
القاتل.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:46 pm

{ 93 } { وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا }

تقدم
أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن، وأن القتل من الكفر
العملي، وذكر هنا وعيد القاتل عمدا، وعيدا ترجف له القلوب وتنصدع له
الأفئدة، وتنزعج منه أولو العقول.

فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من
هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم، أي: فهذا الذنب
العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم، بما فيها من العذاب العظيم،
والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار.
فعياذًا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته.

وهذا الوعيد له حكم أمثاله
من نصوص الوعيد، على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار، أو حرمان
الجنة.

وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في تأويلها مع اتفاقهم على
بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين.
والصواب في تأويلها ما قاله الإمام المحقق: شمس الدين بن القيم رحمه الله
في "المدارج" فإنه قال - بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال:
وقالت فِرقَة: هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة، ولا يلزم
من وجود مقتضي الحكم وجوده، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء
موانعه.

وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها،
وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع، وبعضها بالنص. فالتوبة مانع بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص
المتواترة التي لا مدفع لها، والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب
الكبار المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص، ولا سبيل إلى
تعطيل هذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين.

ومن هنا قامت
الموازنة بين الحسنات والسيئات، اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه، وإعمالا
لأرجحها.

قالوا: وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما. وعلى هذا
بناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية، وهو مقتضى الحكمة السارية في
الوجود، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا، وقد جعل الله سبحانه لكل
ضد ضدا يدافعه ويقاومه، ويكون الحكم للأغلب منهما.

فالقوة مقتضية
للصحة والعافية، وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة، وفعل القوة
والحكم للغالب منهما، وكذلك قوى الأدوية والأمراض. والعبد يكون فيه مقتض
للصحة ومقتض للعطب، وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه، فإذا ترجح عليه
وقهره كان التأثير له.

ومِنْ هنا يعلم انقسام الخلق إلى مَنْ يدخل
الجنة ولا يدخل النار، وعكسه، ومَنْ يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه
فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه. ومن له بصيرة منورة
يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله، حتى كأنه
يشاهده رأي عين.

ويعلم أن هذا هو مقتضي إلهيته سبحانه، وربوبيته
وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك، ونسبة ذلك إليه نسبة ما لا يليق
به إليه، فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره.

وهذا
يقين الإيمان، وهو الذي يحرق السيئات، كما تحرق النار الحطب، وصاحب هذا
المقام من الإيمان يستحيل إصراره على السيئات، وإن وقعت منه وكثرت، فإن ما
معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد
أنفاسه، وهذا من أحب الخلق إلى الله. انتهى كلامه قدس الله روحه، وجزاه عن
الإسلام والمسلمين خيرا.


{ 94 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ
كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا }

يأمر
تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن
يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة. فإن الأمور قسمان: واضحة وغير
واضحة. فالواضحة البيِّنة لا تحتاج إلى تثبت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل.
وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها
والتبين، ليعرف هل يقدم عليها أم لا؟

فإن التثبت في هذه الأمور يحصل
فيه من الفوائد الكثيرة، والكف لشرور عظيمة، ما به يعرف دين العبد وعقله
ورزانته، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها قبل أن يتبين له حكمها، فإن ذلك
يؤدي إلى ما لا ينبغي، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية لمـَّا
لم يتثبتوا وقتلوا من سلم عليهم، وكان معه غنيمة له أو مال غيره، ظنًّا أنه
يستكفي بذلك قتلَهم، وكان هذا خطأ في نفس الأمر، فلهذا عاتبهم بقوله: {
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ
كَثِيرَةٌ } أي: فلا يحملنكم العرض الفاني القليل على ارتكاب ما لا ينبغي
فيفوتكم ما عند الله من الثواب الجزيل الباقي، فما عند الله خير وأبقى.

وفي
هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالة له
فيها هوى وهي مضرة له، أن يُذَكِّرها ما أعد الله لمن نهى نفسه عن هواها،
وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه، فإن في ذلك ترغيبًا للنفس في امتثال أمر
الله، وإن شق ذلك عليها.

ثم قال تعالى مذكرًا لهم بحالهم الأولى،
قبل هدايتهم إلى الإسلام: { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ } أي: فكما هداكم بعد ضلالكم فكذلك يهدي غيركم، وكما أن
الهداية حصلت لكم شيئًا فشيئًا، فكذلك غيركم. فنظر الكامل لحاله الأولى
الناقصة، ومعاملته لمن كان على مثلها بمقتضى ما يعرف من حاله الأولى،
ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة - من أكبر الأسباب لنفعه وانتفاعه،
ولهذا أعاد الأمر بالتبين فقال: { فَتَبَيَّنُوا }

فإذا كان من خرج
للجهاد في سبيل الله، ومجاهدة أعداء الله، وقد استعد بأنواع الاستعداد
للإيقاع بهم، مأمورًا بالتبين لمن ألقى إليه السلام، وكانت القرينة قوية في
أنه إنما سلم تعوذا من القتل وخوفا على نفسه - فإن ذلك يدل على الأمر
بالتبين والتثبت في كل الأحوال التي يقع فيها نوع اشتباه، فيتثبت فيها
العبد، حتى يتضح له الأمر ويتبين الرشد والصواب.

{ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } فيجازي كُلًّا ما عمله ونواه، بحسب ما
علمه من أحوال عباده ونياتهم.

{ 95 - 96 } { لَا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى
الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ
اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ
مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }

أي:
لا يستوي من جاهد من المؤمنين بنفسه وماله ومن لم يخرج للجهاد ولم يقاتل
أعداء الله، ففيه الحث على الخروج للجهاد، والترغيب في ذلك، والترهيب من
التكاسل والقعود عنه من غير عذر.

وأما أهل الضرر كالمريض والأعمى
والأعرج والذي لا يجد ما يتجهز به، فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين من غير
عذر، فمن كان من أولي الضرر راضيًا بقعوده لا ينوي الخروج في سبيل الله
لولا [وجود] المانع، ولا يُحَدِّث نفسه بذلك، فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر.

ومن
كان عازمًا على الخروج في سبيل الله لولا وجود المانع يتمنى ذلك ويُحَدِّث
به نفسه، فإنه بمنزلة من خرج للجهاد، لأن النية الجازمة إذا اقترن بها
مقدورها من القول أو الفعل ينزل صاحبها منزلة الفاعل.

ثم صرَّح
تعالى بتفضيل المجاهدين على القاعدين بالدرجة، أي: الرفعة، وهذا تفضيل على
وجه الإجمال، ثم صرح بذلك على وجه التفصيل، ووعدهم بالمغفرة الصادرة من
ربهم، والرحمة التي تشتمل على حصول كل خير، واندفاع كل شر.

والدرجات
التي فصلها النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 بالحديث الثابت عنه في "الصحيحين" أن في
الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله
للمجاهدين في سبيله.

وهذا الثواب الذي رتبه الله على الجهاد، نظير
الذي في سورة الصف في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } إلى آخر السورة.

وتأمل حسن هذا
الانتقال من حالة إلى أعلى منها، فإنه نفى التسوية أولا بين المجاهد وغيره،
ثم صرَّح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة، ثم انتقل إلى تفضيله بالمغفرة
والرحمة والدرجات.

وهذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها عند التفضيل
والمدح، أو النزول من حالة إلى ما دونها، عند القدح والذم - أحسن لفظا
وأوقع في النفس.

وكذلك إذا فضَّل تعالى شيئا على شيء، وكل منهما له
فضل، احترز بذكر الفضل الجامع للأمرين لئلا يتوهم أحد ذم المفضل عليه كما
قال هنا: { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى }

وكما [قال تعالى]
في الآيات المذكورة في الصف في قوله: { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } وكما في
قوله تعالى: { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ
الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أي: ممن لم يكن كذلك.

ثم قال: { وَكُلًّا
وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وكما قال تعالى: { فَفَهَّمْنَاهَا
سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فينبغي لمن بحث في
التفضيل بين الأشخاص والطوائف والأعمال أن يتفطن لهذه النكتة.

وكذلك
لو تكلم في ذم الأشخاص والمقالات ذكر ما تجتمع فيه عند تفضيل بعضها على
بعض، لئلا يتوهم أن المفضَّل قد حصل له الكمال. كما إذا قيل: النصارى خير
من المجوس فليقل مع ذلك: وكل منهما كافر.

والقتل أشنع من الزنا، وكل
منهما معصية كبيرة، حرمها الله ورسوله وزجر عنها.

ولما وعد
المجاهدين بالمغفرة والرحمة الصادرَيْن عن اسميه الكريمين { الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ } ختم هذا الآية بهما فقال: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا }

{ 97 - 99 } { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ
الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا
كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ
سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ
اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا }

هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع
قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ
العظيم، ويقولون لهم: { فِيمَ كُنْتُمْ } أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء
تميزتم عن المشركين؟ بل كثرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين،
وفاتكم الخير الكثير، والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على
أعدائهم.

{ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْض } أي:
ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة. وهم غير صادقين في ذلك
لأن الله وبخهم وتوعدهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، واستثنى المستضعفين
حقيقة.

ولهذا قالت لهم الملائكة: { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ
وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } وهذا استفهام تقرير، أي: قد تقرر عند كل
أحد أن أرض الله واسعة، فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار
دينه، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله، كما قال
تعالى: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ
فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم: {
فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وهذا كما تقدم،
فيه ذكر بيان السبب الموجِب، فقد يترتب عليه مقتضاه، مع اجتماع شروطه
وانتفاء موانعه، وقد يمنع من ذلك مانع.

وفي الآية دليل على أن
الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من الكبائر، وفي الآية
دليل على أن كل مَن توفي فقد استكمل واستوفى ما قدر له من الرزق والأجل
والعمل، وذلك مأخوذ من لفظ "التوفي" فإنه يدل على ذلك، لأنه لو بقي عليه
شيء من ذلك لم يكن متوفيًا.

وفيه الإيمان بالملائكة ومدحهم، لأن
الله ساق ذلك الخطاب لهم على وجه التقرير والاستحسان منهم، وموافقته لمحله.

ثم
استثنى المستضعفين على الحقيقة، الذين لا قدرة لهم على الهجرة بوجه من
الوجوه { وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا }

فهؤلاء قال الله فيهم: {
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ
عَفُوًّا غَفُورًا } و "عسى" ونحوها واجب وقوعها من الله تعالى بمقتضى كرمه
وإحسانه، وفي الترجية بالثواب لمن عمل بعض الأعمال فائدة، وهو أنه قد لا
يوفيه حق توفيته، ولا يعمله على الوجه اللائق الذي ينبغي، بل يكون مقصرًا
فلا يستحق ذلك الثواب. والله أعلم.

وفي الآية الكريمة دليل على أن
من عجز عن المأمور من واجب وغيره فإنه معذور، كما قال تعالى في العاجزين عن
الجهاد: { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ
وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } وقال في عموم الأوامر: { فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }

وقال النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"
ولكن لا يعذر الإنسان إلا إذا بذل جهده وانسدت عليه أبواب الحيل لقوله: {
لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } وفي الآية تنبيه على أن الدليل في الحج
والعمرة ونحوهما مما يحتاج إلى سفر من شروط الاستطاعة.


{ 100 } {
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا
كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }

هذا في بيان الحث على
الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من
هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغما في الأرض وسعة، فالمراغم
مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا.

وذلك أن كثيرًا من
الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتًا بعد الألفة، وفقرًا بعد الغنى، وذلا بعد
العز، وشدة بعد الرخاء.

والأمر ليس كذلك، فإن المؤمن ما دام بين
أظهر المشركين فدينه في غاية النقص، لا في العبادات القاصرة عليه كالصلاة
ونحوها، ولا في العبادات المتعدية كالجهاد بالقول والفعل، وتوابع ذلك، لعدم
تمكنه من ذلك، وهو بصدد أن يفتن عن دينه، خصوصا إن كان مستضعفًا.

فإذا
هاجر في سبيل الله تمكن من إقامة دين الله وجهاد أعداء الله ومراغمتهم،
فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لأعداء الله من قول وفعل،
وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه، وقد وقع كما أخبر الله تعالى.

واعتبر
ذلك بالصحابة رضي الله عنهم فإنهم لما هاجروا في سبيل الله وتركوا ديارهم
وأولادهم وأموالهم لله، كمل بذلك إيمانهم وحصل لهم من الإيمان التام
والجهاد العظيم والنصر لدين الله، ما كانوا به أئمة لمن بعدهم، وكذلك حصل
لهم مما يترتب على ذلك من الفتوحات والغنائم، ما كانوا به أغنى الناس،
وهكذا كل من فعل فعلهم، حصل له ما حصل لهم إلى يوم القيامة.

ثم قال:
{ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ }
أي: قاصدا ربه ورضاه، ومحبة لرسوله ونصرًا لدين الله، لا لغير ذلك من
المقاصد { ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ } بقتل أو غيره، { فَقَدْ وَقَعَ
أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } أي: فقد حصل له أجر المهاجر الذي أدرك مقصوده
بضمان الله تعالى، وذلك لأنه نوى وجزم، وحصل منه ابتداء وشروع في العمل،
فمن رحمة الله به وبأمثاله أن أعطاهم أجرهم كاملاً ولو لم يكملوا العمل،
وغفر لهم ما حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها.

ولهذا ختم هذه
الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
يغفر للمؤمنين ما اقترفوه من الخطيئات، خصوصا التائبين المنيبين إلى ربهم.

{
رَحِيمًا } بجميع الخلق رحمة أوجدتهم وعافتهم ورزقتهم من المال والبنين
والقوة، وغير ذلك. رحيمًا بالمؤمنين حيث وفقهم للإيمان، وعلمهم من العلم ما
يحصل به الإيقان، ويسر لهم أسباب السعادة والفلاح وما به يدركون غاية
الأرباح، وسيرون من رحمته وكرمه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على
قلب بشر، فنسأل الله أن لا يحرمنا خيره بشر ما عندنا.

{ 101 - 102 }
{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا *وَإِذَا
كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا
فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ
يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ
أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً
وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ
أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }

هاتان
الآيتان أصل في رخصة القصر، وصلاة الخوف، يقول تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ } أي: في السفر، وظاهر الآية [أنه] يقتضي الترخص في أي سفر
كان ولو كان سفر معصية، كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وخالف في ذلك
الجمهور، وهم الأئمة الثلاثة وغيرهم، فلم يجوزوا الترخص في سفر المعصية،
تخصيصا للآية بالمعنى والمناسبة، فإن الرخصة سهولة من الله لعباده إذا
سافروا أن يقصروا ويفطروا، والعاصي بسفره لا يناسب حاله التخفيف.

وقوله:
{ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } أي: لا
حرج ولا إثم عليكم في ذلك، ولا ينافي ذلك كون القصر هو الأفضل، لأن نفي
الحرج إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من النفوس، بل ولا ينافي الوجوب كما
تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ
شَعَائِرِ اللَّهِ } إلى آخر الآية.

وإزالة الوهم في هذا الموضع
ظاهرة، لأن الصلاة قد تقرر عند المسلمين وجوبها على هذه الصفة التامة، ولا
يزيل هذا عن نفوس أكثرهم إلا بذكر ما ينافيه.

ويدل على أفضلية القصر
على الإتمام أمران:

أحدهما: ملازمة النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 على القصر في جميع أسفاره.

والثاني:
أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد، والله تعالى يحب أن تؤتى
رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته.

وقوله: { أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلَاةِ } ولم يقل أن تقصروا الصلاة فيه فائدتان:

إحداهما: أنه
لو قال أن تقصروا الصلاة لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود، فربما ظن أنه
لو قصر معظم الصلاة وجعلها ركعة واحدة لأجزأ، فإتيانه بقوله: { مِنَ
الصَّلَاةِ } ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط، مرجوع فيه إلى ما تقرر من
فعل النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 وأصحابه.

الثانية: أن { من } تفيد
التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات لا جميعها، فإن الفجر
والمغرب لا يقصران وإنما الذي يقصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين.

فإذا
تقرر أن القصر في السفر رخصة، فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد،
وهو قوله: { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } الذي
يدل ظاهره أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما، السفر مع الخوف.

ويرجع
حاصل اختلافهم إلى أنه هل المراد بقوله: { أَنْ تَقْصُرُوا } قصر العدد
فقط؟ أو قصر العدد والصفة؟ فالإشكال إنما يكون على الوجه الأول.

وقد
أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى سأل عنه
النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 فقال: يا رسول الله ما لنا نقصر الصلاة وقد
أمِنَّا؟ أي: والله يقول: { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا } فقال رسول الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"
أو كما قال.

فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرا لغالب الحال التي
كان النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 وأصحابه عليها، فإن غالب أسفاره أسفار
جهاد.

وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة
القصر، فبيَّن في هذه الآية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة، وهي
اجتماع السفر والخوف، ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده، الذي هو
مظنة المشقة.

وأما على الوجه الثاني، وهو أن المراد بالقصر: قصر
العدد والصفة فإن القيد على بابه، فإذا وجد السفر والخوف، جاز قصر العدد،
وقصر الصفة، وإذا وجد السفر وحده جاز قصر العدد فقط، أو الخوف وحده جاز قصر
الصفة.

ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله: { وَإِذَا كُنْتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ } أي: صليت بهم صلاة تقيمها وتتم ما
يجب فيها ويلزم، فعلمهم ما ينبغي لك ولهم فعله.

ثم فسَّر ذلك بقوله:
{ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } أي: وطائفة قائمة بإزاء العدو
كما يدل على ذلك ما يأتي: { فَإِذَا سَجَدُوا } أي: الذين معك أي: أكملوا
صلاتهم وعبر عن الصلاة بالسجود ليدل على فضل السجود، وأنه ركن من أركانها،
بل هو أعظم أركانها.

{ فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ
طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا } وهم الطائفة الذين قاموا إزاء العدو {
فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } ودل ذلك على أن الإمام يبقى بعد انصراف الطائفة
الأولى منتظرا للطائفة الثانية، فإذا حضروا صلى بهم ما بقي من صلاته ثم جلس
ينتظرهم حتى يكملوا صلاتهم، ثم يسلم بهم وهذا أحد الوجوه في صلاة الخوف.

فإنها
صحت عن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 من وجوه كثيرة كلها جائزة، وهذه الآية تدل
على أن صلاة الجماعة فرض عين من وجهين:

أحدهما: أن الله تعالى أمر
بها في هذه الحالة الشديدة، وقت اشتداد الخوف من الأعداء وحذر مهاجمتهم،
فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة فإيجابها في حالة الطمأنينة والأمن من
باب أَوْلَى وأحرى.

والثاني: أن المصلين صلاة الخوف يتركون فيها
كثيرا من الشروط واللوازم، ويعفى فيها عن كثير من الأفعال المبطلة في
غيرها، وما ذاك إلا لتأكد وجوب الجماعة، لأنه لا تعارض بين واجب ومستحب،
فلولا وجوب الجماعة لم تترك هذه الأمور اللازمة لأجلها.

وتدل الآية
الكريمة على أن الأولى والأفضل أن يصلوا بإمام واحد. ولو تضمن ذلك الإخلال
بشيء لا يخل به لو صلوها بعدة أئمة، وذلك لأجل اجتماع كلمة المسلمين
واتفاقهم وعدم تفرق كلمتهم، وليكون ذلك أوقع هيبة في قلوب أعدائهم، وأمر
تعالى بأخذ السلاح والحذر في صلاة الخوف، وهذا وإن كان فيه حركة واشتغال عن
بعض أحوال الصلاة فإن فيه مصلحة راجحة وهو الجمع بين الصلاة والجهاد،
والحذر من الأعداء الحريصين غاية الحرص على الإيقاع بالمسلمين والميل عليهم
وعلى أمتعتهم، ولهذا قال تعالى: { وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ
مَيْلَةً وَاحِدَةً }

ثم إن الله عذر من له عذر من مرض أو مطر أن
يضع سلاحه، ولكن مع أخذ الحذر فقال: { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ
بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا
أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ
عَذَابًا مُهِينًا }

ومن العذاب المهين ما أمر الله به حزبه
المؤمنين وأنصار دينه الموحدين من قتلهم وقتالهم حيثما ثقفوهم، ويأخذوهم
ويحصروهم، ويقعدوا لهم كل مرصد، ويحذروهم في جميع الأحوال، ولا يغفلوا
عنهم، خشية أن ينال الكفار بعض مطلوبهم فيهم.

فلله أعظم حمد وثناء
على ما مَنَّ به على المؤمنين، وأيَّدَهم بمعونته وتعاليمه التي لو سلكوها
على وجه الكمال لم تهزم لهم راية، ولم يظهر عليهم عدو في وقت من الأوقات.

وفي
قوله: { فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ } يدل على أن
هذه الطائفة تكمل جميع صلاتها قبل ذهابهم إلى موضع الحارسين. وأن الرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 يثبت منتظرا للطائفة الأخرى قبل
السلام، لأنه أولا ذكر أن الطائفة تقوم معه، فأخبر عن مصاحبتهم له. ثم أضاف
الفعل بعْدُ إليهم دون الرسول، فدل ذلك على ما ذكرناه.

وفي قوله: {
وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } دليل
على أن الطائفة الأولى قد صلوا، وأن جميع صلاة الطائفة الثانية تكون مع
الإمام حقيقة في ركعتهم الأولى، وحكما في ركعتهم الأخيرة، فيستلزم ذلك
انتظار الإمام إياهم حتى يكملوا صلاتهم، ثم يسلم بهم، وهذا ظاهر للمتأمل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:48 pm

{
103 } { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا
وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا
مَوْقُوتًا }

أي: فإذا فرغتم من صلاتكم، صلاة الخوف وغيرها، فاذكروا
الله في جميع أحوالكم وهيئاتكم، ولكن خصت صلاة الخوف بذلك لفوائد. منها:
أن القلب صلاحه وفلاحه وسعادته بالإنابة إلى الله تعالى في المحبة وامتلاء
القلب من ذكره والثناء عليه.

وأعظم ما يحصل به هذا المقصود الصلاة،
التي حقيقتها أنها صلة بين العبد وبين ربه.

ومنها: أن فيها من حقائق
الإيمان ومعارف الإيقان ما أوجب أن يفرضها الله على عباده كل يوم وليلة.
ومن المعلوم أن صلاة الخوف لا تحصل فيها هذه المقاصد الحميدة بسبب اشتغال
القلب والبدن والخوف فأمر بجبرها بالذكر بعدها.

ومنها: أن الخوف
يوجب من قلق القلب وخوفه ما هو مظنة لضعفه، وإذا ضعف القلب ضعف البدن عن
مقاومة العدو، والذكر لله والإكثار منه من أعظم مقويات القلب.

ومنها:
أن الذكر لله تعالى مع الصبر والثبات سبب للفلاح والظفر بالأعداء، كما قال
تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً
فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فأمر
بالإكثار منه في هذه الحال إلى غير ذلك من الحِكَم.

وقوله: {
فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاة } أي: إذا أمنتم من الخوف
واطمأنت قلوبكم وأبدانكم فأتموا صلاتكم على الوجه الأكمل ظاهرا وباطنا،
بأركانها وشروطها وخشوعها وسائر مكملاتها.

{ إِنَّ الصَّلَاةَ
كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } أي: مفروضا في وقته،
فدل ذلك على فرضيتها، وأن لها وقتا لا تصح إلا به، وهو هذه الأوقات التي قد
تقررت عند المسلمين صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، وأخذوا ذلك عن نبيهم
محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ودل قوله:
{ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } على أن الصلاة ميزان الإيمان وعلى حسب إيمان
العبد تكون صلاته وتتم وتكمل، ويدل ذلك على أن الكفار وإن كانوا ملتزمين
لأحكام المسلمين كأهل الذمة - أنهم لا يخاطبون بفروع الدين كالصلاة، ولا
يؤمرون بها، بل ولا تصح منهم ما داموا على كفرهم، وإن كانوا يعاقبون عليها
وعلى سائر الأحكام في الآخرة.


{ 104 } { وَلَا تَهِنُوا فِي
ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ
كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ
اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }

أي: لا تضعفوا ولا تكسلوا في ابتغاء
عدوكم من الكفار، أي: في جهادهم والمرابطة على ذلك، فإن وَهَن القلب مستدع
لوَهَن البدن، وذلك يضعف عن مقاومة الأعداء. بل كونوا أقوياء نشيطين في
قتالهم.

ثم ذكر ما يقوي قلوب المؤمنين، فذكر شيئين:

الأول:
أن ما يصيبكم من الألم والتعب والجراح ونحو ذلك فإنه يصيب أعداءكم، فليس من
المروءة الإنسانية والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم، وأنتم وإياهم
قد تساويتم فيما يوجب ذلك، لأن العادة الجارية لا يضعف إلا من توالت عليه
الآلام وانتصر عليه الأعداء على الدوام، لا من يدال مرة، ويدال عليه أخرى.

الأمر
الثاني: أنكم ترجون من الله ما لا يرجون، فترجون الفوز بثوابه والنجاة من
عقابه، بل خواص المؤمنين لهم مقاصد عالية وآمال رفيعة من نصر دين الله،
وإقامة شرعه، واتساع دائرة الإسلام، وهداية الضالين، وقمع أعداء الدين،
فهذه الأمور توجب للمؤمن المصدق زيادة القوة، وتضاعف النشاط والشجاعة
التامة؛ لأن من يقاتل ويصبر على نيل عزه الدنيوي إن ناله، ليس كمن يقاتل
لنيل السعادة الدنيوية والأخروية، والفوز برضوان الله وجنته، فسبحان من
فاوت بين العباد وفرق بينهم بعلمه وحكمته، ولهذا قال: { وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيمًا حَكِيمًا } كامل العلم كامل الحكمة

{ 105 - 113 } { إِنَّا
أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا *
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا
تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا
لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا *
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ
عَلَيْهِمْ وَكِيلًا * وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ
يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ
بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَلَوْلَا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ
يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ
شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ
مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا }

يخبر
تعالى أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق، أي: محفوظًا في إنزاله من
الشياطين، أن يتطرق إليه منهم باطل، بل نزل بالحق، ومشتملا أيضا على الحق،
فأخباره صدق، وأوامره ونواهيه عدل { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا
وَعَدْلًا } وأخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس.

وفي الآية الأخرى: {
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ }. فيحتمل أن هذه الآية في الحكم بين الناس في مسائل النزاع
والاختلاف، وتلك في تبيين جميع الدين وأصوله وفروعه، ويحتمل أن الآيتين
كلتيهما معناهما واحد، فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في
الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد وفي جميع مسائل
الأحكام.

وقوله: { بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } أي: لا بهواك بل بما
علَّمك الله وألهمك، كقوله تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ
هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وفي هذا دليل على عصمته تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 فيما يُبَلِّغ عن الله من جميع الأحكام
وغيرها، وأنه يشترط في الحاكم العلم والعدل لقوله: { بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ
} ولم يقل: بما رأيت. ورتب أيضا الحكم بين الناس على معرفة الكتاب، ولما
أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط نهاه عن الجور والظلم الذي
هو ضد العدل فقال: { وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } أي: لا تخاصم
عن مَن عرفت خيانته، من مدع ما ليس له، أو منكرٍ حقا عليه، سواء علم ذلك
أو ظنه. ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل، والنيابة عن المبطل في
الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية.

ويدل مفهوم الآية على جواز
الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم.

{ وَاسْتَغْفِرِ
اللَّهَ } مما صدر منك إن صدر.

{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا
رَحِيمًا } أي: يغفر الذنب العظيم لمن استغفره، وتاب إليه وأناب ويوفقه
للعمل الصالح بعد ذلك الموجِب لثوابه وزوال عقابه.

{ وَلَا
تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } "الاختيان" و
"الخيانة" بمعنى الجناية والظلم والإثم، وهذا يشمل النهي عن المجادلة، عن
من أذنب وتوجه عليه عقوبة من حد أو تعزير، فإنه لا يجادل عنه بدفع ما صدر
منه من الخيانة، أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية. { إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا } أي: كثير الخيانة
والإثم، وإذا انتفى الحب ثبت ضده وهو البُغْض، وهذا كالتعليل، للنهي
المتقدم.

ثم ذكر عن هؤلاء الخائنين أنهم { يَسْتَخْفُونَ مِنَ
النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ
يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } وهذا من ضعف الإيمان،
ونقصان اليقين، أن تكون مخافة الخلق عندهم أعظم من مخافة الله، فيحرصون
بالطرق المباحة والمحرمة على عدم الفضيحة عند الناس، وهم مع ذلك قد بارزوا
الله بالعظائم، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم.

وهو معهم بالعلم في
جميع أحوالهم، خصوصًا في حال تبييتهم ما لا يرضيه من القول، من تبرئة
الجاني، ورمي البريء بالجناية، والسعي في ذلك للرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 ليفعل ما بيتوه.

فقد جمعوا بين عدة
جنايات، ولم يراقبوا رب الأرض والسماوات، المطلع على سرائرهم وضمائرهم،
ولهذا توعدهم تعالى بقوله: { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا }
أي: قد أحاط بذلك علما، ومع هذا لم يعاجلهم بالعقوبة بل استأنى بهم، وعرض
عليهم التوبة وحذرهم من الإصرار على ذنبهم الموجب للعقوبة البليغة.

{
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ
عَلَيْهِمْ وَكِيلًا } أي: هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة الدنيا، ودفع
عنهم جدالُكم بعض ما تحذرون من العار والفضيحة عند الخَلْق، فماذا يغني
عنهم وينفعهم؟ ومن يجادل الله عنهم يوم القيامة حين تتوجه عليهم الحجة،
وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون؟ { يَوْمَئِذٍ
يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَقُّ الْمُبِينُ }

فمن يجادل عنهم من يعلم السر وأخفى ومن أقام
عليهم من الشهود ما لا يمكن معه الإنكار؟ وفي هذه الآية إرشاد إلى
المقابلة بين ما يتوهم من مصالح الدنيا المترتبة على ترك أوامر الله أو فعل
مناهيه، وبين ما يفوت من ثواب الآخرة أو يحصل من عقوباتها.

فيقول
من أمرته نفسه بترك أمر الله ها أنت تركت أمره كسلا وتفريطا فما النفع الذي
انتفعت به؟ وماذا فاتك من ثواب الآخرة؟ وماذا ترتب على هذا الترك من
الشقاء والحرمان والخيبة والخسران؟

وكذلك إذا دعته نفسه إلى ما
تشتهيه من الشهوات المحرمة قال لها: هبك فعلت ما اشتهيت فإن لذته تنقضي
ويعقبها من الهموم والغموم والحسرات، وفوات الثواب وحصول العقاب - ما بعضه
يكفي العاقل في الإحجام عنها. وهذا من أعظم ما ينفع العبدَ تدبرُه، وهو
خاصة العقل الحقيقي. بخلاف الذي يدعي العقل، وليس كذلك، فإنه بجهله وظلمه
يؤثر اللذة الحاضرة والراحة الراهنة، ولو ترتب عليها ما ترتب. والله
المستعان.

ثم قال تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا }
أي: من تجرأ على المعاصي واقتحم على الإثم ثم استغفر الله استغفارا تاما
يستلزم الإقرار بالذنب والندم عليه والإقلاع والعزم على أن لا يعود. فهذا
قد وعده من لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة.

فيغفر له ما صدر منه
من الذنب، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب، ويعيد إليه ما تقدم من
الأعمال الصالحة، ويوفقه فيما يستقبله من عمره، ولا يجعل ذنبه حائلا عن
توفيقه، لأنه قد غفره، وإذا غفره غفر ما يترتب عليه.

واعلم أن عمل
السوء عند الإطلاق يشمل سائر المعاصي، الصغيرة والكبيرة، وسمي "سوءًا"
لكونه يسوء عامله بعقوبته، ولكونه في نفسه سيئًا غير حسن.

وكذلك ظلم
النفس عند الإطلاق يشمل ظلمها بالشرك فما دونه. ولكن عند اقتران أحدهما
بالآخر قد يفسر كل واحد منهما بما يناسبه، فيفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي
يسوء الناس، وهو ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.

ويفسر ظلم
النفس بالظلم والمعاصي التي بين الله وبين عبده، وسمي ظلم النفس "ظلما" لأن
نفس العبد ليست ملكا له يتصرف فيها بما يشاء، وإنما هي ملك لله تعالى قد
جعلها أمانة عند العبد وأمره أن يقيمها على طريق العدل، بإلزامها للصراط
المستقيم علمًا وعملاً، فيسعى في تعليمها ما أمر به ويسعى في العمل بما
يجب، فسعيه في غير هذا الطريق ظلم لنفسه وخيانة وعدول بها عن العدل، الذي
ضده الجور والظلم.

ثم قال: { وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا
يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ } وهذا يشمل كل ما يؤثم من صغير وكبير، فمن كسب
سيئة فإن عقوبتها الدنيوية والأخروية على نفسه، لا تتعداها إلى غيرها، كما
قال تعالى: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } لكن إذا ظهرت
السيئات فلم تنكر عمت عقوبتها وشمل إثمها، فلا تخرج أيضا عن حكم هذه الآية
الكريمة، لأن من ترك الإنكار الواجب فقد كسب سيئة.

وفي هذا بيان عدل
الله وحكمته، أنه لا يعاقب أحدا بذنب أحد، ولا يعاقب أحدا أكثر من العقوبة
الناشئة عن ذنبه، ولهذا قال: { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي:
له العلم الكامل والحكمة التامة.

ومن علمه وحكمته أنه يعلم الذنب
وما صدر منه، والسبب الداعي لفعله، والعقوبة المترتبة على فعله، ويعلم حالة
المذنب، أنه إن صدر منه الذنب بغلبة دواعي نفسه الأمارة بالسوء مع إنابته
إلى ربه في كثير من أوقاته، أنه سيغفر له ويوفقه للتوبة.

وإن صدر
منه بتجرئه على المحارم استخفافا بنظر ربه، وتهاونا بعقابه، فإن هذا بعيد
من المغفرة بعيد من التوفيق للتوبة.

ثم قال: { وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً } أي: ذنبا كبيرا { أَوْ إِثْمًا } ما دون ذلك. { ثُمَّ يَرْمِ
بِهِ } أي يتهم بذنبه { بَرِيئًا } من ذلك الذنب، وإن كان مذنبا. { فَقَدِ
احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } أي: فقد حمل فوق ظهره بهتا
للبريء وإثمًا ظاهرًا بينًا، وهذا يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب
وموبقاتها، فإنه قد جمع عدة مفاسد: كسب الخطيئة والإثم، ثم رَمْي مَن لم
يفعلها بفعلها، ثم الكذب الشنيع بتبرئة نفسه واتهام البريء، ثم ما يترتب
على ذلك من العقوبة الدنيوية، تندفع عمن وجبت عليه، وتقام على من لا
يستحقها.

ثم ما يترتب على ذلك أيضا من كلام الناس في البريء إلى غير
ذلك من المفاسد التي نسأل الله العافية منها ومن كل شر.

ثم ذكر
منته على رسوله بحفظه وعصمته ممن أراد أن يضله فقال: { وَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ
يُضِلُّوكَ } وذلك أن هذه الآيات الكريمات قد ذكر المفسرون أن سبب نزولها:
أن أهل بيت سرقوا في المدينة، فلما اطلع على سرقتهم خافوا الفضيحة، وأخذوا
سرقتهم فرموها ببيت من هو بريء من ذلك.

واستعان السارق بقومه أن
يأتوا رسول الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 ويطلبوا منه أن يبرئ صاحبهم على رءوس
الناس، وقالوا: إنه لم يسرق وإنما الذي سرق من وجدت السرقة ببيته وهو
البريء. فهَمَّ رسول الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 أن يبرئ صاحبهم، فأنزل الله هذه الآيات
تذكيرا وتبيينا لتلك الواقعة وتحذيرا للرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 من المخاصمة عن الخائنين، فإن المخاصمة عن
المبطل من الضلال، فإن الضلال نوعان:

ضلال في العلم، وهو الجهل
بالحق. وضلال في العمل، وهو العمل بغير ما يجب. فحفظ الله رسوله عن هذا
النوع من الضلال [كما حفظه عن الضلال في الأعمال]

وأخبر أن كيدهم
ومكرهم يعود على أنفسهم، كحالة كل ماكر، فقال: { وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ } لكون ذلك المكر وذلك التحيل لم يحصل لهم فيه مقصودهم، ولم
يحصل لهم إلا الخيبة والحرمان والإثم والخسران. وهذه نعمة كبيرة على رسوله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 تتضمن النعمة بالعمل، وهو التوفيق
لفعل ما يجب، والعصمة له عن كل محرم.

ثم ذكر نعمته عليه بالعلم
فقال: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي: أنزل
عليك هذا القرآن العظيم والذكر الحكيم الذي فيه تبيان كل شيء وعلم الأولين
والآخِرين.

والحكمة: إما السُّنَّة التي قد قال فيها بعض السلف: إن
السُّنَّة تنزل عليه كما ينزل القرآن.

وإما معرفة أسرار الشريعة
الزائدة على معرفة أحكامها، وتنزيل الأشياء منازلها وترتيب كل شيء بحسبه.

{
وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } وهذا يشمل جميع ما علمه الله
تعالى. فإنه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 كما وصفه الله قبل النبوة بقوله: { مَا
كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } { وَوَجَدَكَ ضَالًّا
فَهَدَى }

ثم لم يزل يوحي الله إليه ويعلمه ويكمله حتى ارتقى مقاما
من العلم يتعذر وصوله على الأولين والآخرين، فكان أعلم الخلق على الإطلاق،
وأجمعهم لصفات الكمال، وأكملهم فيها، ولهذا قال: { وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكَ عَظِيمًا } ففضله على الرسول محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 أعظم من فضله على كل مخلوق

وأجناس
الفضل الذي قد فضله الله به لا يمكن استقصاؤها ولا يتيسر إحصاؤها

{
114 ْ} { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ
بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا
ْ}

أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن
فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة
كالكلام المحرم بجميع أنواعه.

ثم استثنى تعالى فقال: { إِلَّا مَنْ
أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ْ} من مال أو علم أو أي نفع كان، بل لعله يدخل فيه
العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه، كما قال النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999: "إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة،
وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم
صدقة" الحديث.

{ أَوْ مَعْرُوفٍ ْ} وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف
في الشرع والعقل حسنه، وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن
المنكر دخل فيه النهي عن المنكر، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف، وأيضا
لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر. وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل
المأمور، والمنكر بترك المنهي.

{ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ْ}
والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب
يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره، فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين
الناس في الدماء والأموال والأعراض، بل وفي الأديان كما قال تعالى: {
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ْ} وقال تعالى:
{ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا
الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ْ} الآية.

وقال
تعالى: { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ْ} والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من
القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله.

كما
أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ْ}. فهذه الأشياء
حيثما فعلت فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء.

ولكن كمال الأجر
وتمامه بحسب النية والإخلاص، ولهذا قال: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ْ}
فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي
كل جزء من أجزاء الخير، ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص فيكون
من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا، لأن النية حصلت
واقترن بها ما يمكن من العمل.
{ 115 ، 116 ْ} { وَمَنْ يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ْ}

أي: ومن يخالف الرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 ويعانده فيما جاء به { مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ْ} بالدلائل القرآنية والبراهين النبوية.

{
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ْ} وسبيلهم هو طريقهم في
عقائدهم وأعمالهم { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ْ} أي: نتركه وما اختاره لنفسه،
ونخذله فلا نوفقه للخير، لكونه رأى الحق وعلمه وتركه، فجزاؤه من الله
عدلاً أن يبقيه في ضلاله حائرا ويزداد ضلالا إلى ضلاله.

كما قال
تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ْ} وقال تعالى: {
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ
أَوَّلَ مَرَّةٍ ْ}

ويدل مفهومها على أن من لم يشاقق الرسول، ويتبع
سبيل المؤمنين، بأن كان قصده وجه الله واتباع رسوله ولزوم جماعة المسلمين،
ثم صدر منه من الذنوب أو الهّم بها ما هو من مقتضيات النفوس، وغلبات
الطباع، فإن الله لا يوليه نفسه وشيطانه بل يتداركه بلطفه، ويمن عليه بحفظه
ويعصمه من السوء، كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام: { كَذَلِكَ
لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُخْلَصِينَ ْ} أي: بسبب إخلاصه صرفنا عنه السوء، وكذلك كل مخلص، كما
يدل عليه عموم التعليل.

وقوله: { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ْ} أي: نعذبه
فيها عذابا عظيما. { وَسَاءَتْ مَصِيرًا ْ} أي: مرجعا له ومآلا.

وهذا
الوعيد المرتب على الشقاق ومخالفة المؤمنين مراتب لا يحصيها إلا الله بحسب
حالة الذنب صغرا وكبرا، فمنه ما يخلد في النار ويوجب جميع الخذلان. ومنه
ما هو دون ذلك، فلعل الآية الثانية كالتفصيل لهذا المطلق.

وهو: أن
الشرك لا يغفره الله تعالى لتضمنه القدح في رب العالمين وفي وحدانيته
وتسوية المخلوق الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بمن هو مالك النفع والضر،
الذي ما من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، الذي له الكمال المطلق من
جميع الوجوه، والغنى التام بجميع وجوه الاعتبارات.

فمن أعظم الظلم
وأبعد الضلال عدم إخلاص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته، وصرف شيء منها
للمخلوق الذي ليس له من صفات الكمال شيء، ولا له من صفات الغنى شيء بل ليس
له إلا العدم. عدم الوجود وعدم الكمال وعدم الغنى، والفقر من جميع الوجوه.

وأما
ما دون الشرك من الذنوب والمعاصي فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفره
برحمته وحكمته، وإن شاء عذب عليه وعاقب بعدله وحكمته، وقد استدل بهذه الآية
الكريمة على أن إجماع هذه الأمة حجة وأنها معصومة من الخطأ.

ووجه
ذلك: أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين بالخذلان والنار، و { سبيل
المؤمنين ْ} مفرد مضاف يشمل سائر ما المؤمنون عليه من العقائد والأعمال.
فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه، أو تحريمه أو كراهته، أو إباحته -
فهذا سبيلهم، فمن خالفهم في شيء من ذلك بعد انعقاد إجماعهم عليه، فقد اتبع
غير سبيلهم. ويدل على ذلك قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ ْ}

ووجه الدلالة منها: أن الله تعالى أخبر أن المؤمنين
من هذه الأمة لا يأمرون إلا بالمعروف، فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو
استحبابه فهو مما أمروا به، فيتعين بنص الآية أن يكون معروفا ولا شيء بعد
المعروف غير المنكر، وكذلك إذا اتفقوا على النهي عن شيء فهو مما نهوا عنه
فلا يكون إلا منكرا، ومثل ذلك قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس ْ} فأخبر تعالى أن
هذه الأمة جعلها الله وسطا أي: عدلا خيارا ليكونوا شهداء على الناس أي: في
كل شيء، فإذا شهدوا على حكم بأن الله أمر به أو نهى عنه أو أباحه، فإن
شهادتهم معصومة لكونهم عالمين بما شهدوا به عادلين في شهادتهم، فلو كان
الأمر بخلاف ذلك لم يكونوا عادلين في شهادتهم ولا عالمين بها.

ومثل
ذلك قوله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ ْ} يفهم منها أن ما لم يتنازعوا فيه بل اتفقوا عليه
أنهم غير مأمورين برده إلى الكتاب والسنة، وذلك لا يكون إلا موافقا للكتاب
والسنة فلا يكون مخالفا.

فهذه الأدلة ونحوها تفيد القطع أن إجماع
هذه الأمة حجة قاطعة، ولهذا بيَّن الله قبح ضلال المشركين بقوله:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:50 pm

117 - 121 ْ} { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ
اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا *
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ
خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ
فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا
يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ْ} أي: ما يدعو هؤلاء المشركون
من دون الله إلا إناثا، أي: أوثانا وأصناما مسميات بأسماء الإناث كـ
"العزى" و "مناة" ونحوهما، ومن المعلوم أن الاسم دال على المسمى. فإذا كانت
أسماؤها أسماء مؤنثة ناقصة، دل ذلك على نقص المسميات بتلك الأسماء، وفقدها
لصفات الكمال، كما أخبر الله تعالى في غير موضع من كتابه، أنها لا تخلق
ولا ترزق ولا تدفع عن عابديها بل ولا عن نفسها؛ نفعا ولا ضرا ولا تنصر
أنفسها ممن يريدها بسوء، وليس لها أسماع ولا أبصار ولا أفئدة، فكيف يُعبد
من هذا وصفه ويترك الإخلاص لمن له الأسماء الحسنى والصفات العليا والحمد
والكمال، والمجد والجلال، والعز والجمال، والرحمة والبر والإحسان،
والانفراد بالخلق والتدبير، والحكمة العظيمة في الأمر والتقدير؟" هل هذا
إلا من أقبح القبيح الدال على نقص صاحبه، وبلوغه من الخسة والدناءة أدنى ما
يتصوره متصور، أو يصفه واصف؟" ومع ذلك فعبادتهم إنما صورتها فقط لهذه
الأوثان الناقصة. وبالحقيقة ما عبدوا غير الشيطان الذي هو عدوهم الذي يريد
إهلاكهم ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه، الذي هو في غاية البعد من الله،
لعنه الله وأبعده عن رحمته، فكما أبعده الله من رحمته يسعى في إبعاد العباد
عن رحمة الله. { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ
السَّعِيرِ ْ} ولهذا أخبر الله عن سعيه في إغواء العباد، وتزيين الشر لهم
والفساد وأنه قال لربه مقسما: { لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا
مَفْرُوضًا ْ} أي: مقدرا. علم اللعين أنه لا يقدر على إغواء جميع عباد
الله، وأن عباد الله المخلصين ليس له عليهم سلطان، وإنما سلطانه على من
تولاه، وآثر طاعته على طاعة مولاه. وأقسم في موضع آخر ليغوينهم {
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
ْ} فهذا الذي ظنه الخبيث وجزم به، أخبر الله تعالى بوقوعه بقوله: {
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا
فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ْ} وهذا النصيب المفروض الذي أقسم لله إنه
يتخذهم ذكر ما يريد بهم وما يقصده لهم بقوله: { وَلَأُضِلَّنَّهُمْ ْ} أي:
عن الصراط المستقيم ضلالا في العلم، وضلالا في العمل. {
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ْ} أي: مع الإضلال، لأمنينهم أن ينالوا ما ناله
المهتدون. وهذا هو الغرور بعينه، فلم يقتصر على مجرد إضلالهم حتى زين لهم
ما هم فيه من الضلال. وهذا زيادة شر إلى شرهم حيث عملوا أعمال أهل النار
الموجبة للعقوبة وحسبوا أنها موجبة للجنة، واعتبر ذلك باليهود والنصارى
ونحوهم فإنهم كما حكى الله عنهم، { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ْ} {
كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ْ} { قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا
ْ} الآية. وقال تعالى عن المنافقين إنهم يقولون يوم القيامة للمؤمنين: {
أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ
حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ْ} وقوله: {
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ ْ} أي: بتقطيع
آذانها، وذلك كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فنبه ببعض ذلك على جميعه،
وهذا نوع من الإضلال يقتضي تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، ويلتحق
بذلك من الاعتقادات الفاسدة والأحكام الجائرة ما هو من أكبر الإضلال. {
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ْ} وهذا يتناول تغيير
الخلقة الظاهرة بالوشم، والوشر والنمص والتفلج للحسن، ونحو ذلك مما أغواهم
به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن. وذلك يتضمن التسخط من خلقته والقدح في
حكمته، واعتقاد أن ما يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن، وعدم الرضا
بتقديره وتدبيره، ويتناول أيضا تغيير الخلقة الباطنة، فإن الله تعالى خلق
عباده حنفاء مفطورين على قبول الحق وإيثاره، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن
هذا الخلق الجميل، وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان. فإن كل
مولود يولد على الفطرة ولكن أبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه،
ونحو ذلك مما يغيرون به ما فطر الله عليه العباد من توحيده وحبه ومعرفته.
فافترستهم الشياطين في هذا الموضع افتراس السبع والذئاب للغنم المنفردة.
لولا لطف الله وكرمه بعباده المخلصين لجرى عليهم ما جرى على هؤلاء
المفتونين، وهذا الذي جرى عليهم من توليهم عن ربهم وفاطرهم وتوليهم لعدوهم
المريد لهم الشر من كل وجه، فخسروا الدنيا والآخرة، ورجعوا بالخيبة والصفقة
الخاسرة، ولهذا قال: { وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ
اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ْ} وأي خسار أبين وأعظم ممن
خسر دينه ودنياه وأوبقته معاصيه وخطاياه؟!! فحصل له الشقاء الأبدي، وفاته
النعيم السرمدي. كما أن من تولى مولاه وآثر رضاه، ربح كل الربح، وأفلح كل
الفلاح، وفاز بسعادة الدارين، وأصبح قرير العين، فلا مانع لما أعطيت، ولا
معطي لما منعت، اللهم تولنا فيمن توليت، وعافنا فيمن عافيت. ثم قال: {
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ْ} أي: يعد الشيطان من يسعى في إضلالهم، والوعد
يشمل حتى الوعيد كما قال تعالى: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ْ}
فإنه يعدهم إذا أنفقوا في سبيل الله افتقروا، ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل
وغيره، كما قال تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ
أَوْلِيَاءَهُ ْ} الآية. ويخوفهم عند إيثار مرضاة الله بكل ما يمكن وما لا
يمكن مما يدخله في عقولهم حتى يكسلوا عن فعل الخير، وكذلك يمنيهم الأماني
الباطلة التي هي عند التحقيق كالسراب الذي لا حقيقة له، ولهذا قال: { وَمَا
يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
ْ} أي: من انقاد للشيطان وأعرض عن ربه، وصار من أتباع إبليس وحزبه،
مستقرهم النار. { وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ْ} أي: مخلصا ولا ملجأ
بل هم خالدون فيها أبد الآباد. { 122 ْ} ولما بين مآل الأشقياء أولياء
الشيطان ذكر مآل السعداء أوليائه فقال: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ
أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ْ} أي: { آمَنُوا ْ} بالله وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشره على الوجه الذي أمروا به علما
وتصديقا وإقرارا. { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ْ} الناشئة عن الإيمان؟ وهذا
يشمل سائر المأمورات من واجب ومستحب، الذي على القلب، والذي على اللسان،
والذي على بقية الجوارح. كل له من الثواب المرتب على ذلك بحسب حاله ومقامه،
وتكميله للإيمان والعمل الصالح. ويفوته ما رتب على ذلك بحسب ما أخل به من
الإيمان والعمل، وذلك بحسب ما علم من حكمة الله ورحمته، وكذلك وعده الصادق
الذي يعرف من تتبع كتاب الله وسنة رسوله. ولهذا ذكر الثواب المرتب على ذلك
بقوله: { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ْ}
فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من أنواع المآكل
والمشارب اللذيذة، والمناظر العجيبة، والأزواج الحسنة، والقصور، والغرف
المزخرفة، والأشجار المتدلية، والفواكه المستغربة، والأصوات الشجية، والنعم
السابغة، وتزاور الإخوان، وتذكرهم ما كان منهم في رياض الجنان، وأعلى من
ذلك كله وأجلّ رضوان الله عليهم وتمتع الأرواح بقربه، والعيون برؤيته،
والأسماع بخطابه الذي ينسيهم كل نعيم وسرور، ولولا الثبات من الله لهم
لطاروا وماتوا من الفرح والحبور، فلله ما أحلى ذلك النعيم وما أعلى ما
أنالهم الرب الكريم، وماذا حصل لهم من كل خير وبهجة لا يصفه الواصفون،
وتمام ذلك وكماله الخلود الدائم في تلك المنازل العاليات، ولهذا قال: {
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللَّهِ قِيلًا ْ} فصدق الله العظيم الذي بلغ قولُه وحديثُه في الصدق أعلى
ما يكون، ولهذا لما كان كلامه صدقا وخبره حقا، كان ما يدل عليه مطابقةً
وتضمنًا وملازمةً كل ذلك مراد من كلامه، وكذلك كلام رسوله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 لكونه لا يخبر إلا بأمره ولا ينطق إلا عن
وحيه. { 123 ، 124 ْ} { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ
الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ْ} أي: { لَيْسَ ْ} الأمر والنجاة
والتزكية { بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ْ}
والأماني: أحاديث النفس المجردة عن العمل، المقترن بها دعوى مجردة لو عورضت
بمثلها لكانت من جنسها. وهذا عامّ في كل أمر، فكيف بأمر الإيمان والسعادة
الأبدية؟! فإن أماني أهل الكتاب قد أخبر الله بها أنهم قالوا: { لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ
أَمَانِيُّهُمْ ْ} وغيرهم ممن ليس ينتسب لكتاب ولا رسول من باب أولى وأحرى.
وكذلك أدخل الله في ذلك من ينتسب إلى الإسلام لكمال العدل والإنصاف، فإن
مجرد الانتساب إلى أي دين كان، لا يفيد شيئا إن لم يأت الإنسان ببرهان على
صحة دعواه، فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها ولهذا قال تعالى: { مَنْ
يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ْ} وهذا شامل لجميع العاملين، لأن السوء شامل
لأي ذنب كان من صغائر الذنوب وكبائرها، وشامل أيضا لكل جزاء قليل أو كثير،
دنيوي أو أخروي. والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله، فمستقل
ومستكثر، فمن كان عمله كله سوءا وذلك لا يكون إلا كافرا. فإذا مات من دون
توبة جوزي بالخلود في العذاب الأليم. ومن كان عمله صالحا، وهو مستقيم في
غالب أحواله، وإنما يصدر منه بعض الأحيان بعض الذنوب الصغار فما يصيبه من
الهم والغم والأذى و [بعض] الآلام في بدنه أو قلبه أو حبيبه أو ماله ونحو
ذلك - فإنها مكفرات للذنوب، وهي مما يجزى به على عمله، قيضها الله لطفا
بعباده، وبين هذين الحالين مراتب كثيرة. وهذا الجزاء على عمل السوء العام
مخصوص في غير التائبين، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما دلت على
ذلك النصوص. وقوله: { وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا
نَصِيرًا ْ} لإزالة بعض ما لعله يتوهم أن من استحق المجازاة على عمله قد
يكون له ولي أو ناصر أو شافع يدفع عنه ما استحقه، فأخبر تعالى بانتفاء ذلك،
فليس له ولي يحصل له المطلوب، ولا نصير يدفع عنه المرهوب، إلا ربه ومليكه.
{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ ْ} دخل في ذلك سائر الأعمال القلبية
والبدنية، ودخل أيضا كل عامل من إنس أو جن، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى.
ولهذا قال: { مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ْ} وهذا شرط لجميع
الأعمال، لا تكون صالحة ولا تقبل ولا يترتب عليها الثواب ولا يندفع بها
العقاب إلا بالإيمان. فالأعمال بدون الإيمان كأغصان شجرة قطع أصلها وكبناء
بني على موج الماء، فالإيمان هو الأصل والأساس والقاعدة التي يبنى عليه كل
شيء، وهذا القيد ينبغي التفطن له في كل عمل أطلق، فإنه مقيد به. {
فَأُولَئِكَ ْ} أي: الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح { يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ ْ} المشتملة على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين { وَلَا
يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ْ} أي: لا قليلا ولا كثيرا مما عملوه من الخير، بل
يجدونه كاملا موفرا، مضاعفا أضعافا كثيرة. { 125 ْ} { وَمَنْ أَحْسَنُ
دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا
ْ} أي: لا أحد أحسن من دين من جمع بين الإخلاص للمعبود، وهو إسلام الوجه
لله الدال على استسلام القلب وتوجهه وإنابته وإخلاصه، وتوجه الوجه وسائر
الأعضاء لله. { وَهُوَ ْ} مع هذا الإخلاص والاستسلام { مُحْسِنٌ ْ} أي:
متبع لشريعة الله التي أرسل بها رسله، وأنزل كتبه، وجعلها طريقا لخواص خلقه
وأتباعهم. { وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ْ} أي: دينه وشرعه {
حَنِيفًا ْ} أي: مائلا عن الشرك إلى التوحيد، وعن التوجه للخلق إلى الإقبال
على الخالق، { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ْ} والخُلة أعلى
أنواع المحبة، وهذه المرتبة حصلت للخليلين محمد وإبراهيم عليهما الصلاة
والسلام، وأما المحبة من الله فهي لعموم المؤمنين، وإنما اتخذ الله إبراهيم
خليلا لأنه وفَّى بما أُمر به وقام بما ابْتُلي به، فجعله الله إماما
للناس، واتخذه خليلا، ونوه بذكره في العالمين. { 126 ْ} { وَلِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
مُحِيطًا ْ} وهذه الآية الكريمة فيها بيان إحاطة الله تعالى بجميع الأشياء،
فأخبر أنه له { مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ْ} أي: الجميع
ملكه وعبيده، فهم المملوكون وهو المالك المتفرد بتدبيرهم، وقد أحاط علمه
بجميع المعلومات، وبصره بجميع المبصرات، وسمعه بجميع المسموعات، ونفذت
مشيئته وقدرته بجميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسماوات، وقهر
بعزه وقهره كل مخلوق، ودانت له جميع الأشياء. { 127 ْ} { وَيَسْتَفْتُونَكَ
فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا
تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى
بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ
عَلِيمًا ْ} الاستفتاء: طلب السائل من المسئول بيان الحكم الشرعي في ذلك
المسئول عنه. فأخبر عن المؤمنين أنهم يستفتون الرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 في حكم النساء المتعلق بهم، فتولى الله هذه
الفتوى بنفسه فقال: { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ْ} فاعملوا على
ما أفتاكم به في جميع شئون النساء، من القيام بحقوقهن وترك ظلمهن عموما
وخصوصا. وهذا أمر عام يشمل جميع ما شرع الله أمرا ونهيا في حق النساء
الزوجات وغيرهن، الصغار والكبار، ثم خص -بعد التعميم- الوصية بالضعاف من
اليتامى والولدان اهتماما بهم وزجرا عن التفريط في حقوقهم فقال: { وَمَا
يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ ْ} أي: ويفتيكم
أيضا بما يتلى عليكم في الكتاب في شأن اليتامى من النساء. { اللَّاتِي لَا
تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ ْ} وهذا إخبار عن الحالة الموجودة
الواقعة في ذلك الوقت، فإن اليتيمة إذا كانت تحت ولاية الرجل بخسها حقها
وظلمها، إما بأكل مالها الذي لها أو بعضه، أو منعها من التزوج لينتفع
بمالها، خوفا من استخراجه من يده إنْ زوَّجها، أو يأخذ من مهرها الذي تتزوج
به بشرط أو غيره، هذا إذا كان راغبا عنها، أو يرغب فيها وهي ذات جمال ومال
ولا يقسط في مهرها، بل يعطيها دون ما تستحق، فكل هذا ظلم يدخل تحت هذا
النص ولهذا قال: { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ْ} أي: ترغبون عن
نكاحهن أو في نكاحهن كما ذكرنا تمثيله. { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الْوِلْدَان ْ} أي: ويفتيكم في المستضعفين من الولدان الصغار، أن تعطوهم
حقهم من الميراث وغيره وأن لا تستولوا على أموالهم على وجه الظلم
والاستبداد. { وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ْ} أي: بالعدل
التام، وهذا يشمل القيام عليهم بإلزامهم أمر الله وما أوجبه على عباده،
فيكون الأولياء مكلفين بذلك، يلزمونهم بما أوجبه الله. ويشمل القيام عليهم
في مصالحهم الدنيوية بتنمية أموالهم وطلب الأحظ لهم فيها، وأن لا يقربوها
إلا بالتي هي أحسن، وكذلك لا يحابون فيهم صديقا ولا غيره، في تزوج وغيره،
على وجه الهضم لحقوقهم. وهذا من رحمته تعالى بعباده، حيث حثّ غاية الحث على
القيام بمصالح من لا يقوم بمصلحة نفسه لضعفه وفقد أبيه. ثم حثّ على
الإحسان عموما فقال: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ْ} لليتامى ولغيرهم
سواء كان الخير متعديا أو لازما { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ْ}
أي: قد أحاط علمه بعمل العاملين للخير، قلة وكثرة، حسنا وضده، فيجازي
كُلًّا بحسب عمله. { 128 ْ} { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا
نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا
بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ
وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرًا ْ} أي: إذا خافت المرأة نشوز زوجها أي: ترفعه عنها وعدم رغبته
فيها وإعراضه عنها، فالأحسن في هذه الحالة أن يصلحا بينهما صلحا بأن تسمح
المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها، إما أن ترضى
بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن، أو القسم بأن تسقط حقها
منه، أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها. فإذا اتفقا على هذه الحالة
فلا جناح ولا بأس عليهما فيها، لا عليها ولا على الزوج، فيجوز حينئذ لزوجها
البقاء معها على هذه الحال، وهي خير من الفرقة، ولهذا قال: { وَالصُّلْحُ
خَيْرٌ ْ} ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى أن الصلح بين مَن بينهما حق أو
منازعة في جميع الأشياء أنه خير من استقصاء كل منهما على كل حقه، لما فيها
من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح. وهو جائز في جميع الأشياء
إلا إذا أحلّ حراما أو حرّم حلالا، فإنه لا يكون صلحا وإنما يكون جورا.
واعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء
موانعه، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح، فذكر تعالى المقتضي لذلك
ونبه على أنه خير، والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه، فإن كان -مع ذلك- قد
أمر الله به وحثّ عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه. وذكر المانع بقوله:
{ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحّ ْ} أي: جبلت النفوس على الشح، وهو:
عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس
مجبولة على ذلك طبعا، أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء
من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛
والاقتناع ببعض الحق الذي لك. فمتى وفق الإنسان لهذا الخُلُق الحسن سهل
حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى
المطلوب. بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح
والموافقة، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن
كان خصمه مثله اشتد الأمر. ثم قال: { وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا ْ} أي:
تحسنوا في عبادة الخالق بأن يعبد العبد ربه كأنه يراه فإن لم يكن يراه
فإنه يراه، وتحسنوا إلى المخلوقين بجميع طرق الإحسان، من نفع بمال، أو علم،
أو جاه، أو غير ذلك. { وَتَتَّقُوا ْ} الله بفعل جميع المأمورات، وترك جميع
المحظورات. أو تحسنوا بفعل المأمور، وتتقوا بترك المحظور { فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ} قد أحاط به علما وخبرا،
بظاهره وباطنه، فيحفظه لكم، ويجازيكم عليه أتم الجزاء. { 129 ْ} { وَلَنْ
تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ
تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ْ} يخبر
تعالى: أن الأزواج لا يستطيعون وليس في قدرتهم العدل التام بين النساء،
وذلك لأن العدل يستلزم وجود المحبة على السواء، والداعي على السواء، والميل
في القلب إليهن على السواء، ثم العمل بمقتضى ذلك. وهذا متعذر غير ممكن،
فلذلك عفا الله عما لا يستطاع، ونهى عما هو ممكن بقوله: { فَلَا تَمِيلُوا
كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ْ} أي: لا تميلوا ميلا
كثيرا بحيث لا تؤدون حقوقهن الواجبة، بل افعلوا ما هو باستطاعتكم من العدل.
فالنفقة والكسوة والقسم ونحوها عليكم أن تعدلوا بينهن فيها، بخلاف الحب
والوطء ونحو ذلك، فإن الزوجة إذا ترك زوجها ما يجب لها، صارت كالمعلقة التي
لا زوج لها فتستريح وتستعد للتزوج، ولا ذات زوج يقوم بحقوقها. { وَإِنْ
تُصْلِحُوا ْ} ما بينكم وبين زوجاتكم، بإجبار أنفسكم على فعل ما لا تهواه
النفس، احتسابا وقياما بحق الزوجة، وتصلحوا أيضا فيما بينكم وبين الناس،
وتصلحوا أيضا بين الناس فيما تنازعوا فيه، وهذا يستلزم الحث على كل طريق
يوصل إلى الصلح مطلقا كما تقدم. { وَتَتَّقُوا ْ} الله بفعل المأمور وترك
المحظور، والصبر على المقدور. { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
ْ} يغفر ما صدر منكم من الذنوب والتقصير في الحق الواجب، ويرحمكم كما عطفتم
على أزواجكم ورحمتموهن. { 130 ْ} { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ
كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ْ} هذه الحالة
الثالثة بين الزوجين، إذا تعذر الاتفاق فإنه لا بأس بالفراق، فقال: {
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا ْ} أي: بطلاق أو فسخ أو خلع أو غير ذلك { يُغْنِ
اللَّهُ كُلًّا ْ} من الزوجين { مِنْ سَعَتِهِ ْ} أي: من فضله وإحسانه
الواسع الشامل. فيغني الزوج بزوجة خير له منها، ويغنيها من فضله وإن انقطع
نصيبها من زوجها، فإن رزقها على المتكفل بأرزاق جميع الخلق، القائم
بمصالحهم، ولعل الله يرزقها زوجا خيرا منه، { وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا ْ}
أي: كثير الفضل واسع الرحمة، وصلت رحمته وإحسانه إلى حيث وصل إليه علمه.
ولكنه مع ذلك { حَكِيمًا ْ} أي: يعطي بحكمة، ويمنع لحكمة. فإذا اقتضت حكمته
منع بعض عباده من إحسانه، بسبب من العبد لا يستحق معه الإحسان، حرمه عدلا
وحكمة. { 131 ، 132 ْ} { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ
غَنِيًّا حَمِيدًا * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ْ} يخبر تعالى عن عموم ملكه العظيم الواسع
المستلزم تدبيره بجميع أنواع التدبير، وتصرفه بأنواع التصريف قدرا وشرعا،
فتصرفه الشرعي أن وصى الأولين والآخرين أهل الكتب السابقة واللاحقة بالتقوى
المتضمنة للأمر والنهي، وتشريع الأحكام، والمجازاة لمن قام بهذه الوصية
بالثواب، والمعاقبة لمن أهملها وضيعها بأليم العذاب، ولهذا قال: { وَإِنْ
تَكْفُرُوا ْ} بأن تتركوا تقوى الله، وتشركوا بالله ما لم ينزل به عليكم
سلطانا، فإنكم لا تضرون بذلك إلا أنفسكم، ولا تضرون الله شيئا ولا تنقصون
ملكه، وله عبيد خير منكم وأعظم وأكثر، مطيعون له خاضعون لأمره. ولهذا رتب
على ذلك قوله: { وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ْ} له الجود الكامل
والإحسان الشامل الصادر من خزائن رحمته التي لا ينقصها الإنفاق ولا يغيضها
نفقة، سحاء الليل والنهار، لو اجتمع أهل السماوات وأهل الأرض أولهم
وآخرهم، فسأل كل [واحد] منهم ما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه شيئا، ذلك بأنه
جواد واجد ماجد، عطاؤه كلام وعذابه كلام، إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول
له كن فيكون. ومن تمام غناه أنه كامل الأوصاف، إذ لو كان فيه نقص بوجه من
الوجوه، لكان فيه نوع افتقار إلى ذلك الكمال، بل له كل صفة كمال، ومن تلك
الصفة كمالها، ومن تمام غناه أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولا شريكا في
ملكه ولا ظهيرا، ولا معاونا له على شيء من تدابير ملكه. ومن كمال غناه
افتقار العالم العلوي والسفلي في جميع أحوالهم وشئونهم إليه وسؤالهم إياه
جميع حوائجهم الدقيقة والجليلة، فقام تعالى بتلك المطالب والأسئلة وأغناهم
وأقناهم، ومَنَّ عليهم بلطفه وهداهم. وأما الحميد فهو من أسماء الله تعالى
الجليلة الدال على أنه [هو] المستحق لكل حمد ومحبة وثناء وإكرام، وذلك لما
اتصف به من صفات الحمد، التي هي صفة الجمال والجلال، ولما أنعم به على خلقه
من النِّعم الجزال، فهو المحمود على كل حال. وما أحسن اقتران هذين الاسمين
الكريمين { الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ْ}!! فإنه غني محمود، فله كمال من غناه،
وكمال من حمده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر. ثم كرر إحاطة ملكه لما في
السماوات وما في الأرض، وأنه على كل شيء وكيل، أي: عالم قائم بتدبير
الأشياء على وجه الحكمة، فإن ذلك من تمام الوكالة، فإن الوكالة تستلزم
العلم بما هو وكيل عليه، والقوة والقدرة على تنفيذه وتدبيره، وكون ذلك
التدبير على وجه الحكمة والمصلحة، فما نقص من ذلك فهو لنقص بالوكيل، والله
تعالى منزه عن كل نقص. { 133 - 134 ْ} { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا
النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا *
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ْ} أي: هو
الغني الحميد الذي له القدرة الكاملة والمشيئة النافذة فيكم { إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ْ} غيركم هم أطوع لله
منكم وخير منكم، وفي هذا تهديد للناس على إقامتهم على كفرهم وإعراضهم عن
ربهم، فإن الله لا يعبأ بهم شيئا إن لم يطيعوه، ولكنه يمهل ويملي ولا يهمل.
ثم أخبر أن مَن كانت همته وإرادته دنية غير متجاوزة ثواب الدنيا، وليس له
إرادة في الآخرة فإنه قد قصر سعيه ونظره، ومع ذلك فلا يحصل له من ثواب
الدنيا سوى ما كتب الله له منها، فإنه تعالى هو المالك لكل شيء الذي عنده
ثواب الدنيا والآخرة، فليطلبا منه ويستعان به عليهما، فإنه لا ينال ما عنده
إلا بطاعته، ولا تدرك الأمور الدينية والدنيوية إلا بالاستعانة به،
والافتقار إليه على الدوام. وله الحكمة تعالى في توفيق من يوفقه، وخذلان من
يخذله وفي عطائه ومنعه، ولهذا قال: { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا
ْ} .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:51 pm

{
135 ْ} ثم قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ
الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا
فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا
وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرًا ْ}

يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا { قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ْ} والقوَّام صيغة مبالغة، أي: كونوا في كل
أحوالكم قائمين بالقسط الذي هو العدل في حقوق الله وحقوق عباده، فالقسط في
حقوق الله أن لا يستعان بنعمه على معصيته، بل تصرف في طاعته.

والقسط
في حقوق الآدميين أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك كما تطلب حقوقك. فتؤدي
النفقات الواجبة، والديون، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، من الأخلاق
والمكافأة وغير ذلك.

ومن أعظم أنواع القسط القسط في المقالات
والقائلين، فلا يحكم لأحد القولين أو أحد المتنازعين لانتسابه أو ميله
لأحدهما، بل يجعل وجهته العدل بينهما، ومن القسط أداء الشهادة التي عندك
على أي وجه كان، حتى على الأحباب بل على النفس، ولهذا قال: { شُهَدَاءَ
لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ْ} أي: فلا
تراعوا الغني لغناه، ولا الفقير بزعمكم رحمة له، بل اشهدوا بالحق على من
كان.

والقيام بالقسط من أعظم الأمور وأدل على دين القائم به، وورعه
ومقامه في الإسلام، فيتعين على من نصح نفسه وأراد نجاتها أن يهتم له غاية
الاهتمام، وأن يجعله نُصْب عينيه، ومحل إرادته، وأن يزيل عن نفسه كل مانع
وعائق يعوقه عن إرادة القسط أو العمل به.

وأعظم عائق لذلك اتباع
الهوى، ولهذا نبه تعالى على إزالة هذا المانع بقوله: { فَلَا تَتَّبِعُوا
الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ْ} أي: فلا تتبعوا شهوات أنفسكم المعارضة للحق،
فإنكم إن اتبعتموها عدلتم عن الصواب، ولم توفقوا للعدل، فإن الهوى إما أن
يعمي بصيرة صاحبه حتى يرى الحق باطلا والباطل حقا، وإما أن يعرف الحق
ويتركه لأجل هواه، فمن سلم من هوى نفسه وفق للحق وهدي إلى الصراط المستقيم.

ولما
بيَّن أن الواجب القيام بالقسط نهى عن ما يضاد ذلك، وهو لي اللسان عن الحق
في الشهادات وغيرها، وتحريف النطق عن الصواب المقصود من كل وجه، أو من بعض
الوجوه، ويدخل في ذلك تحريف الشهادة وعدم تكميلها، أو تأويل الشاهد على
أمر آخر، فإن هذا من اللي لأنه الانحراف عن الحق. { أَوْ تُعْرِضُوا ْ} أي:
تتركوا القسط المنوط بكم، كترك الشاهد لشهادته، وترك الحاكم لحكمه الذي
يجب عليه القيام به.

{ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرًا ْ} أي: محيط بما فعلتم، يعلم أعمالكم خفيها وجليها، وفي هذا تهديد
شديد للذي يلوي أو يعرض. ومن باب أولى وأحرى الذي يحكم بالباطل أو يشهد
بالزور، لأنه أعظم جرما، لأن الأولين تركا الحق، وهذا ترك الحق وقام
بالباطل.


{ 136 ْ} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ
وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلَالًا بَعِيدًا ْ}

اعلم أن الأمر إما أن يوجه إلى من لم يدخل في
الشيء ولم يتصف بشيء منه، فهذا يكون أمرا له في الدخول فيه، وذلك كأمر من
ليس بمؤمن بالإيمان، كقوله تعالى: { يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ ْ} الآية.

وإما
أن يوجه إلى من دخل في الشيء فهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه ويحصل ما لم
يوجد، ومنه ما ذكره الله في هذه الآية من أمر المؤمنين بالإيمان، فإن ذلك
يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم من الإخلاص والصدق، وتجنب المفسدات والتوبة
من جميع المنقصات.

ويقتضي أيضا الأمر بما لم يوجد من المؤمن من علوم
الإيمان وأعماله، فإنه كلما وصل إليه نص وفهم معناه واعتقده فإن ذلك من
الإيمان المأمور به.

وكذلك سائر الأعمال الظاهرة والباطنة، كلها من
الإيمان كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة، وأجمع عليه سلف الأمة.

ثم
الاستمرار على ذلك والثبات عليه إلى الممات كما قال تعالى: { يَأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ْ} وأمر هنا بالإيمان به وبرسوله، وبالقرآن
وبالكتب المتقدمة، فهذا كله من الإيمان الواجب الذي لا يكون العبد مؤمنا
إلا به، إجمالا فيما لم يصل إليه تفصيله وتفصيلا فيما علم من ذلك بالتفصيل،
فمن آمن هذا الإيمان المأمور به، فقد اهتدى وأنجح. { وَمَن يَكْفُرْ
بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ْ} وأي ضلال أبعد من ضلال من ترك طريق
الهدى المستقيم، وسلك الطريق الموصلة له إلى العذاب الأليم؟"

واعلم
أن الكفر بشيء من هذه المذكورات كالكفر بجميعها، لتلازمها وامتناع وجود
الإيمان ببعضها دون بعض، ثم قال:

{ 137 ْ} { إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا
كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ
سَبِيلًا ْ}

أي: من تكرر منه الكفر بعد الإيمان فاهتدى ثم ضل، وأبصر
ثم عمي، وآمن ثم كفر واستمر على كفره وازداد منه، فإنه بعيد من التوفيق
والهداية لأقوم الطريق، وبعيد من المغفرة لكونه أتى بأعظم مانع يمنعه من
حصولها. فإن كفره يكون عقوبة وطبعًا لا يزول كما قال تعالى: { فَلَمَّا
زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ْ} { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ْ} ودلت
الآية: أنهم إن لم يزدادوا كفرا بل رجعوا إلى الإيمان، وتركوا ما هم عليه
من الكفران، فإن الله يغفر لهم، ولو تكررت منهم الردة.

وإذا كان هذا
الحكم في الكفر فغيره من المعاصي التي دونه من باب أولى أن العبد لو تكررت
منه ثم عاد إلى التوبة، عاد الله له بالمغفرة.


{ 138 ، 139 ْ} {
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا
ْ}

البشارة تستعمل في الخير، وتستعمل في الشر بقيد كما في هذه
الآية. يقول تعالى: { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ ْ} أي: الذين أظهروا الإسلام
وأبطنوا الكفر، بأقبح بشارة وأسوئها، وهو العذاب الأليم، وذلك بسبب محبتهم
الكفار وموالاتهم ونصرتهم، وتركهم لموالاة المؤمنين، فأي شيء حملهم على
ذلك؟ أيبتغون عندهم العزة؟

وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين، ساء
ظنهم بالله وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين، ولحظوا بعض الأسباب
التي عند الكافرين، وقصر نظرهم عمّا وراء ذلك، فاتخذوا الكافرين أولياء
يتعززون بهم ويستنصرون.

والحال أن العزة لله جميعا، فإن نواصي
العباد بيده، ومشيئته نافذة فيهم. وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين، ولو
تخلل ذلك بعض الامتحان لعباده المؤمنين، وإدالة العدو عليهم إدالة غير
مستمرة، فإن العاقبة والاستقرار للمؤمنين، وفي هذه الآية الترهيب العظيم من
موالاة الكافرين؛ وترك موالاة المؤمنين، وأن ذلك من صفات المنافقين، وأن
الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم.


{
140 ، 141 ْ} { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا
سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا
تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ
إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ
فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا *الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ
لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ
لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ
وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا }

أي: وقد بيَّن الله لكم فيما أنزل عليكم حكمه الشرعي
عند حضور مجالس الكفر والمعاصي { أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ
يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا } أي: يستهان بها. وذلك أن الواجب على
كل مكلف في آيات الله الإيمان بها وتعظيمها وإجلالها وتفخيمها، وهذا
المقصود بإنزالها، وهو الذي خَلَق الله الخَلْق لأجله، فضد الإيمان الكفر
بها، وضد تعظيمها الاستهزاء بها واحتقارها، ويدخل في ذلك مجادلة الكفار
والمنافقين لإبطال آيات الله ونصر كفرهم.

وكذلك المبتدعون على
اختلاف أنواعهم، فإن احتجاجهم على باطلهم يتضمن الاستهانة بآيات الله لأنها
لا تدل إلا على حق، ولا تستلزم إلا صدقا، بل وكذلك يدخل فيه حضور مجالس
المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي
حدها لعباده ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم { حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ } أي: غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها.

{
إِنَّكُمْ إِذًا } أي: إن قعدتم معهم في الحال المذكورة { مِثْلُهُمْ }
لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها، والحاصل أن
من حضر مجلسا يعصى الله به، فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة، أو
القيام مع عدمها.

{ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } كما اجتمعوا على الكفر والموالاة
ولا ينفع الكافرين مجرد كونهم في الظاهر مع المؤمنين كما قال تعالى: {
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا
انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } إلى آخر الآيات.

ثم ذكر
تحقيق موالاة المنافقين للكافرين ومعاداتهم للمؤمنين فقال: { الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ } أي: ينتظرون الحالة التي تصيرون عليها، وتنتهون
إليها من خير أو شر، قد أعدوا لكل حالة جوابا بحسب نفاقهم. { فَإِن كَانَ
لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } فيظهرون
أنهم مع المؤمنين ظاهرا وباطنا ليسلموا من القدح والطعن عليهم، وليشركوهم
في الغنيمة والفيء ولينتصروا بهم.

{ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ
نَصِيبٌ } ولم يقل فتح؛ لأنه لا يحصل لهم فتح، يكون مبدأ لنصرتهم المستمرة،
بل غاية ما يكون أن يكون لهم نصيب غير مستقر، حكمة من الله. فإذا كان ذلك {
قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } أي: نستولي عليكم {
وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي: يتصنعون عندهم بكف أيديهم عنهم
مع القدرة، ومنعهم من المؤمنين بجميع وجوه المنع في تفنيدهم وتزهيدهم في
القتال، ومظاهرة الأعداء عليهم، وغير ذلك مما هو معروف منهم.

{
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فيجازي المؤمنين
ظاهرا وباطنا بالجنة، ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات.

{
وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا }
أي: تسلطا واستيلاء عليهم، بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة،
لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، ولا يزال الله يحدث من أسباب النصر
للمؤمنين، ودفعٍ لتسلط الكافرين، ما هو مشهود بالعيان. حتى إن [بعض]
المسلمين الذين تحكمهم الطوائف الكافرة، قد بقوا محترمين لا يتعرضون
لأديانهم ولا يكونون مستصغرين عندهم، بل لهم العز التام من الله، فله الحمد
أوّلًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا.


{ 142 ، 143 } { إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا
إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ
اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى
هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ سَبِيلًا }

يخبر تعالى عن المنافقين بما كانوا عليه، من قبيح
الصفات وشنائع السمات، وأن طريقتهم مخادعة الله تعالى، أي: بما أظهروه من
الإيمان وأبطنوه من الكفران، ظنوا أنه يروج على الله ولا يعلمه ولا يبديه
لعباده، والحال أن الله خادعهم، فمجرد وجود هذه الحال منهم ومشيهم عليها،
خداع لأنفسهم. وأي: خداع أعظم ممن يسعى سعيًا يعود عليه بالهوان والذل
والحرمان؟"

ويدل بمجرده على نقص عقل صاحبه، حيث جمع بين المعصية،
ورآها حسنة، وظنها من العقل والمكر، فلله ما يصنع الجهل والخذلان بصاحبه"

ومن
خداعه لهم يوم القيامة ما ذكره الله في قوله: { يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا
نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُـوا
نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُـورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ
الرَّحْمَـةُ وَظَاهـِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ
نَكُنْ مَعَكُمْ } إلى آخر الآيات.

" وَ " من صفاتهم أنهم { إِذَا
قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ } -إن قاموا- التي هي أكبر الطاعات العملية {
قَامُوا كُسَالَى } متثاقلين لها متبرمين من فعلها، والكسل لا يكون إلا من
فقد الرغبة من قلوبهم، فلولا أن قلوبهم فارغة من الرغبة إلى الله وإلى ما
عنده، عادمة للإيمان، لم يصدر منهم الكسل، { يُرَاءُونَ النَّاسَ } أي: هذا
الذي انطوت عليه سرائرهم وهذا مصدر أعمالهم، مراءاة الناس، يقصدون رؤية
الناس وتعظيمهم واحترامهم ولا يخلصون لله، فلهذا { لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
إِلَّا قَلِيلًا } لامتلاء قلوبهم من الرياء، فإن ذكر الله تعالى وملازمته
لا يكون إلا من مؤمن ممتلئ قلبه بمحبة الله وعظمته.

{
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ }
أي: مترددين بين فريق المؤمنين وفريق الكافرين. فلا من المؤمنين ظاهرا
وباطنا، ولا من الكافرين ظاهرا وباطنا. أعطوا باطنهم للكافرين وظاهرهم
للمؤمنين، وهذا أعظم ضلال يقدر. ولهذا قـال: { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ
فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } أي: لن تجد طريقا لهدايته ولا وسيلة لترك
غوايته، لأنه انغلق عنه باب الرحمة، وصار بدله كل نقمة.

فهذه
الأوصاف المذمومة تدل بتنبيهها على أن المؤمنين متصفون بضدها، من الصدق
ظاهرا وباطنا، والإخلاص، وأنهم لا يجهل ما عندهم، ونشاطهم في صلاتهم
وعباداتهم، وكثرة ذكرهم لله تعالى. وأنهم قد هداهم الله ووفقهم للصراط
المستقيم. فليعرض العاقل نفسه على هذين الأمرين وليختر أيهما أولى به،
وبالله المستعان.


{ 144 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا }

لما
ذكر أن من صفات المنافقين اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، نهى
عباده المؤمنين أن يتصفوا بهذه الحالة القبيحة، وأن يشابهوا المنافقين، فإن
ذلك موجب لأن { تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا } أي:
حجة واضحة على عقوبتكم، فإنه قد أنذرنا وحذرنا منها، وأخبرنا بما فيها من
المفاسد، فسلوكها بعد هذا موجِب للعقاب.

وفي هذه الآية دليل على
كمال عدل الله، وأن الله لا يُعَذِّب أحدا قبل قيام الحجة عليه، وفيه
التحذير من المعاصي؛ فإن فاعلها يجعل لله عليه سلطانا مبينا.

{ 145 -
147 } { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ
وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا
وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا *
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ
اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا }

يخبر تعالى عن مآل المنافقين أنهم في
أسفل الدركات من العذاب، وأشر الحالات من العقاب. فهم تحت سائر الكفار
لأنهم شاركوهم بالكفر بالله ومعاداة رسله، وزادوا عليهم المكر والخديعة
والتمكن من كثير من أنواع العداوة للمؤمنين، على وجه لا يشعر به ولا يحس.
ورتبوا على ذلك جريان أحكام الإسلام عليهم، واستحقاق ما لا يستحقونه، فبذلك
ونحوه استحقوا أشد العذاب، وليس لهم منقذ من عذابه ولا ناصر يدفع عنهم بعض
عقابه، وهذا عام لكل منافق إلا مَنْ مَنَّ الله عليهم بالتوبة من السيئات.
{ وَأَصْلَحُوا } له الظواهر والبواطن { وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ }
والتجأوا إليه في جلب منافعهم ودفع المضار عنهم. { وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ }
الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان { لِلَّهِ }

فقصدوا وجه الله
بأعمالهم الظاهرة والباطنة وسلِمُوا من الرياء والنفاق، فمن اتصف بهذه
الصفات { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } أي: في الدنيا، والبرزخ، ويوم
القيامة { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } لا
يعلم كنهه إلا الله، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وتأمل كيف خص الاعتصام والإخلاص بالذكر، مع دخولهما في قوله: {
وَأَصْلَحُوا } لأن الاعتصام والإخلاص من جملة الإصلاح، لشدة الحاجة إليهما
خصوصا في هذا المقام الحرج الذي يمكن من القلوب النفاق، فلا يزيله إلا شدة
الاعتصام بالله، ودوام اللجأ والافتقار إليه في دفعه، وكون الإخلاص منافيا
كل المنافاة للنفاق، فذكرهما لفضلهما وتوقفِ الأعمال الظاهرة والباطنة
عليهما، ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما.

وتأمل كيف لما ذكر أن
هؤلاء مع المؤمنين لم يقل: وسوف يؤتيهم أجرا عظيما، مع أن السياق فيهم. بل
قال: { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } لأن هذه
القاعدة الشريفة -لم يزل الله يبدئ فيها ويعيد، إذا كان السياق في بعض
الجزئيات، وأراد أن يرتب عليه ثوابًا أو عقابا وكان ذلك مشتركًا بينه وبين
الجنس الداخل فيه، رتب الثواب في مقابلة الحكم العام الذي تندرج تحته تلك
القضية وغيرها، ولئلا يتوهم اختصاص الحكم بالأمر الجزئي، فهذا من أسرار
القرآن البديعة، فالتائب من المنافقين مع المؤمنين وله ثوابهم.

ثم
أخبر تعالى عن كمال غناه وسعة حلمه ورحمته وإحسانه فقال: { مَا يَفْعَلُ
اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ } والحال أن الله شاكر
عليم. يعطي المتحملين لأجله الأثقال، الدائبين في الأعمال، جزيل الثواب
وواسع الإحسان. ومن ترك شيئًا لله أعطاه الله خيرًا منه.

ومع هذا
يعلم ظاهركم وباطنكم، وأعمالكم وما تصدر عنه من إخلاص وصدق، وضد ذلك. وهو
يريد منكم التوبة والإنابة والرجوع إليه، فإذا أنبتم إليه، فأي شيء يفعل
بعذابكم؟ فإنه لا يتشفى بعذابكم، ولا ينتفع بعقابكم، بل العاصي لا يضر إلا
نفسه، كما أن عمل المطيع لنفسه.

والشكر هو خضوع القلب واعترافه
بنعمة الله، وثناء اللسان على المشكور، وعمل الجوارح بطاعته وأن لا يستعين
بنعمه على معاصيه.


{ 148 ، 149 } { لَا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ
سَمِيعًا عَلِيمًا * إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا
عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا }

يخبر تعالى
أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، أي: يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه، ويشمل
ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن، كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك
فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي يبغضه الله. ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من
القول كالذكر والكلام الطيب اللين.

وقوله: { إِلَّا مَن ظُلِمَ }
أي: فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ويتشكى منه، ويجهر بالسوء لمن جهر له
به، من غير أن يكذب عليه ولا يزيد على مظلمته، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه،
ومع ذلك فعفوه وعـدم مقابلته أولى، كما قـال تعالى: { فَمَنْ عَفَا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }

{ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا
عَلِيمًا } ولما كانت الآية قد اشتملت على الكلام السيئ والحسن والمباح،
أخبر تعالى أنه { سميع } فيسمع أقوالكم، فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم
فيعاقبكم على ذلك. وفيه أيضا ترغيب على القول الحسن. { عَلِيمٌ } بنياتكم
ومصدر أقوالكم.

ثم قال تعالى: { إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ
تُخْفُوهُ } وهذا يشمل كل خير قوليّ وفعليّ، ظاهر وباطن، من واجب ومستحب.

{
أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ } أي: عمن ساءكم في أبدانكم وأموالكم وأعراضكم،
فتسمحوا عنه، فإن الجزاء من جنس العمل. فمن عفا لله عفا الله عنه، ومن أحسن
أحسن الله إليه، فلهذا قال: { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا }
أي: يعفو عن زلات عباده وذنوبهم العظيمة فيسدل عليهم ستره، ثم يعاملهم
بعفوه التام الصادر عن قدرته.

وفي هذه الآية إرشاد إلى التفقه في
معاني أسماء الله وصفاته، وأن الخلق والأمر صادر عنها، وهي مقتضية له،
ولهذا يعلل الأحكام بالأسماء الحسنى، كما في هذه الآية.

لما ذكر عمل
الخير والعفو عن المسيء رتب على ذلك، بأن أحالنا على معرفة أسمائه وأن ذلك
يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص.


{ 150 - 152 } { إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا *
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا رَحِيمًا }

هنا قسمان قد وضحا لكل أحد: مؤمنٌ بالله
وبرسله كلِّهم وكتبه، وكافرٌ بذلك كله.

وبقي قسم ثالث: وهو الذي
يزعم أنه يؤمن ببعض الرسل دون بعض، وأن هذا سبيل ينجيه من عذاب الله، إنْ
هذا إلا مجرد أماني. فإن هؤلاء يريدون التفريق بين الله وبين رسله.

فإن
من تولى الله حقيقة تولى جميع رسله لأن ذلك من تمام توليه، ومن عادى أحدا
من رسله فقد عادى الله وعادى جميع رسله، كما قال تعالى: { مَن كَانَ
عَدُوًّا لِّلَّهِ } الآيات.

وكذلك مَنْ كفر برسول فقد كفر بجميع
الرسل، بل بالرسول الذي يزعم أنه به مؤمن، ولهذا قال: { أُولَئِكَ هُـمُ
الْكَـافِرُونَ حَقًّا } وذلك لئلا يتوهم أن مرتبتهم متوسطة بين الإيمان
والكفر.

ووجه كونهم كافرين - حتى بما زعموا الإيمان به- أن كل دليل
دلهم على الإيمان بمن آمنوا به موجود هو أو مثله أو ما فوقه للنبي الذي
كفروا به، وكل شبهة يزعمون أنهم يقدحون بها في النبي الذي كفروا به موجود
مثلها أو أعظم منها فيمن آمنوا به.

فلم يبق بعد ذلك إلا التشهي
والهوى ومجرد الدعوى التي يمكن كل أحد أن يقابلها بمثلها، ولما ذكر أن
هؤلاء هم الكافرون حقا ذكر عقابا شاملا لهم ولكل كافر فقال: {
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } كما تكبروا عن الإيمان
بالله، أهانهم بالعذاب الأليم المخزي.

{ وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } وهذا يتضمن الإيمان بكل ما أخبر الله به عن نفسه
وبكل ما جاءت به الرسل من الأخبار والأحكام. { وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
أَحَدٍ } من رسله، بل آمنوا بهم كلهم، فهذا هو الإيمان الحقيقي، واليقين
المبني على البرهان.

{ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ }
أي: جزاء إيمانهم وما ترتب عليه من عمل صالح، وقول حسن، وخلق جميل، كُلٌّ
على حسب حاله. ولعل هذا هو السر في إضافة الأجور إليهم، { وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا رَّحِيمًا } يغفر السيئات ويتقبل الحسنات.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:52 pm

{
153 - 161 } { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ
كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ
فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ
بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا
مُبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا
لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي
السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا *فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ
عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا *
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا *
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ
اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ
الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ
رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا * فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ
وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا
وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }

هذا
السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 على وجه العناد والاقتراح، وجعلهم هذا
السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم. وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم
القرآن جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل، وهذا غاية الظلم منهم
والجهل، فإن الرسول بشر عبد مدبر، ليس في يده من الأمر شيء، بل الأمر كله
لله، وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده كما قال تعالى عن الرسول، لما
ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين على محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ
إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا }

وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل
مجرد إنزال الكتاب جملة أو مفرقا، مجرد دعوى لا دليل عليها ولا مناسبة، بل
ولا شبهة، فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء أن الرسول الذي يأتيكم
بكتاب نزل مفرقا فلا تؤمنوا به ولا تصدقوه؟

بل نزول هذا القرآن
مفرقا بحسب الأحوال مما يدل على عظمته واعتناء الله بمن أنزل عليه، كما قال
تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ
جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ
تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ
وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }

فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس
بغريب من أمرهم، بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ما هو أعظم مما سلكوه مع
الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به. من سؤالهم له رؤية الله عيانا، واتخاذهم
العجل إلهًا يعبدونه، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يره غيرهم.

ومن
امتناعهم من قبول أحكام كتابهم وهو التوراة، حتى رفع الطور من فوق رءوسهم
وهددوا أنهم إن لم يؤمنوا أسقط عليهم، فقبلوا ذلك على وجه الإغماض والإيمان
الشبيه بالإيمان الضروري.

ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية التي
أمروا بدخولها سجدا مستغفرين، فخالفوا القول والفعل. ومن اعتداء من اعتدى
منهم في السبت فعاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة.

وبأخذ الميثاق
الغليظ عليهم فنبذوه وراء ظهورهم وكفروا بآيات الله وقتلوا رسله بغير حق.
ومن قولهم: إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه، والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه
بل شُبِّه لهم غيره، فقتلوا غيره وصلبوه.

وادعائهم أن قلوبهم غلف
لا تفقه ما تقول لهم ولا تفهمه، وبصدهم الناس عن سبيل الله، فصدوهم عن
الحق، ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي. وبأخذهم السحت والربا مع نهي
الله لهم عنه والتشديد فيه.

فالذين فعلوا هذه الأفاعيل لا يستنكر
عليهم أن يسألوا الرسول محمدا أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وهذه الطريقة
من أحسن الطرق لمحاجة الخصم المبطل، وهو أنه إذا صدر منه من الاعتراض
الباطل ما جعله شبهة له ولغيره في رد الحق أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله
الشنيعة ما هو من أقبح ما صدر منه، ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك
الوادي الخسيس، وأن له مقدمات يُجعل هذا معها.

وكذلك كل اعتراض
يعترضون به على نبوة محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 يمكن أن يقابل بمثله أو ما هو أقوى منه في
نبوة من يدعون إيمانهم به ليكتفى بذلك شرهم وينقمع باطلهم، وكل حجة سلكوها
في تقريرهم لنبوة من آمنوا به فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها، دالة ومقررة
لنبوة محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999.

ولما كان المراد من تعديد ما عدد
الله من قبائحهم هذه المقابلة لم يبسطها في هذا الموضع، بل أشار إليها،
وأحال على مواضعها وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها.

وقوله:
{ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ
مَوْتِهِ } يحتمل أن الضمير هنا في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعود إلى أهل
الكتاب، فيكون على هذا كل كتابي يحضره الموت ويعاين الأمر حقيقة، فإنه
يؤمن بعيسى عليه السلام ولكنه إيمان لا ينفع، إيمان اضطرار، فيكون مضمون
هذا التهديد لهم والوعيد، وأن لا يستمروا على هذه الحال التي سيندمون عليها
قبل مماتهم، فكيف يكون حالهم يوم حشرهم وقيامهم؟"

ويحتمل أن الضمير
في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } راجع إلى عيسى عليه السلام، فيكون المعنى:
وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالمسيح عليه السلام قبل موت المسيح،
وذلك يكون عند اقتراب الساعة وظهور علاماتها الكبار.

فإنه تكاثرت
الأحاديث الصحيحة في نزوله عليه السلام في آخر هذه الأمة. يقتل الدجال،
ويضع الجزية، ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين. ويوم القيامة يكون عيسى
عليهم شهيدا، يشهد عليهم بأعمالهم، وهل هي موافقة لشرع الله أم لا؟

وحينئذ
لا يشهد إلا ببطلان كل ما هم عليه، مما هو مخالف لشريعة القرآن وَلِمَا
دعاهم إليه محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، علمنا بذلك، لِعِلْمِنَا بكمال عدالة
المسيح عليه السلام وصدقه، وأنه لا يشهد إلا بالحق، إلا أن ما جاء به محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 هو الحق وما عداه فهو ضلال وباطل.

ثم
أخبر تعالى أنه حرم على أهل الكتاب كثيرا من الطيبات التي كانت حلالا
عليهم، وهذا تحريم عقوبة بسبب ظلمهم واعتدائهم، وصدهم الناس عن سبيل الله،
ومنعهم إياهم من الهدى، وبأخذهم الربا وقد نهوا عنه، فمنعوا المحتاجين ممن
يبايعونه عن العدل، فعاقبهم الله من جنس فعلهم فمنعهم من كثير من الطيبات
التي كانوا بصدد حلها، لكونها طيبة، وأما التحريم الذي على هذه الأمة فإنه
تحريم تنزيه لهم عن الخبائث التي تضرهم في دينهم ودنياهم.


{ 162
} { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا }

لما
ذكر معايب أهل الكتاب، ذكر الممدوحين منهم فقال: { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ } أي: الذين ثبت العلم في قلوبهم ورسخ الإيقان في أفئدتهم
فأثمر لهم الإيمان التام العام { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن
قَبْلِكَ }

وأثمر لهم الأعمال الصالحة من إقامة الصلاة وإيتاء
الزكاة اللذين هما أفضل الأعمال، وقد اشتملتا على الإخلاص للمعبود والإحسان
إلى العبيد. وآمنوا باليوم الآخر فخافوا الوعيد ورجوا الوعد.

{
أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } لأنهم جمعوا بين العلم
والإيمان والعمل الصالح، والإيمان بالكتب والرسل السابقة واللاحقة.

{
163 - 165 } { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ
زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا
لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }

يخبر
تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله من الشرع العظيم والأخبار الصادقة ما أوحى
إلى هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفي هذا عدة فوائد:

منها:
أن محمدا تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 ليس ببدع من الرسل، بل أرسل الله قبله من
المرسلين العدد الكثير والجم الغفير فاستغراب رسالته لا وجه له إلا الجهل
والعناد.

ومنها: أنه أوحى إليه كما أوحى إليهم من الأصول والعدل
الذي اتفقوا عليه، وأن بعضهم يصدق بعضا ويوافق بعضهم بعضا.

ومنها:
أنه من جنس هؤلاء الرسل، فليعتبره المعتبر بإخوانه المرسلين، فدعوته
دعوتهم؛ وأخلاقهم متفقة؛ ومصدرهم واحد؛ وغايتهم واحدة، فلم يقرنه
بالمجهولين؛ ولا بالكذابين ولا بالملوك الظالمين.

ومنها: أن في ذكر
هؤلاء الرسل وتعدادهم من التنويه بهم، والثناء الصادق عليهم، وشرح أحوالهم
مما يزداد به المؤمن إيمانا بهم ومحبة لهم، واقتداء بهديهم، واستنانا
بسنتهم ومعرفة بحقوقهم، ويكون ذلك مصداقا لقوله: { سَلَامٌ عَلَى نُــوحٍ
فـِي الْعَـالَمِيـنَ } { سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } { سَلَامٌ عَلَى
مُوسَى وَهَارُونَ } { سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }

فكل محسن له من الثناء الحسن بين الأنام
بحسب إحسانه. والرسل -خصوصا هؤلاء المسمون- في المرتبة العليا من الإحسان.

ولما
ذكر اشتراكهم بوحيه ذكر تخصيص بعضهم، فذكر أنه آتى داود الزبور، وهو
الكتاب المعروف المزبور الذي خص الله به داود عليه السلام لفضله وشرفه،
وأنه كلم موسى تكليما، أي: مشافهة منه إليه لا بواسطة حتى اشتهر بهذا عند
العالمين فيقال: "موسى كليم الرحمن".

وذكر أن الرسل منهم من قصه
الله على رسوله، ومنهم من لم يقصصه عليه، وهذا يدل على كثرتهم وأن الله
أرسلهم مبشرين لمن أطاع الله واتبعهم، بالسعادة الدنيوية والأخروية،
ومنذرين من عصى الله وخالفهم بشقاوة الدارين، لئلا يكون للناس على الله حجة
بعد الرسل فيقولوا: { مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ
جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ }

فلم يبق للخَلْق على الله حجة لإرساله
الرسل تترى يبينون لهم أمر دينهم، ومراضي ربهم ومساخطه وطرق الجنة وطرق
النار، فمن كفر منهم بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

وهذا من كمال عزته
تعالى وحكمته أن أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، وذلك أيضا من فضله
وإحسانه، حيث كان الناس مضطرين إلى الأنبياء أعظم ضرورة تقدر فأزال هذا
الاضطرار، فله الحمد وله الشكر. ونسأله كما ابتدأ علينا نعمته بإرسالهم، أن
يتمها بالتوفيق لسلوك طريقهم، إنه جواد كريم.


{ 166 } { لَكِنِ
اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }

لما ذكر
أن الله أوحى إلى رسوله محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 كما أوحى إلى إخوانه من المرسلين، أخبر هنا
بشهادته تعالى على رسالته وصحة ما جاء به، وأنه { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ }
يحتمل أن يكون المراد أنزله مشتملا على علمه، أي: فيه من العلوم الإلهية
والأحكام الشرعية والأخبار الغيبية ما هو من علم الله تعالى الذي علم به
عباده.

ويحتمل أن يكون المراد: أنزله صادرا عن علمه، ويكون في ذلك
إشارة وتنبيه على وجه شهادته، وأن المعنى: إذا كان تعالى أنزل هذا القرآن
المشتمل على الأوامر والنواهي، وهو يعلم ذلك ويعلم حالة الذي أنزله عليه،
وأنه دعا الناس إليه، فمن أجابه وصدقه كان وليه، ومن كذبه وعاداه كان عدوه
واستباح ماله ودمه، والله تعالى يمكنه ويوالي نصره ويجيب دعواته، ويخذل
أعداءه وينصر أولياءه، فهل توجد شهادة أعظم من هذه الشهادة وأكبر؟" ولا
يمكن القدح في هذه الشهادة إلا بعد القدح بعلم الله وقدرته وحكمته وإخباره
تعالى بشهادة الملائكة على ما أنزل على رسوله، لكمال إيمانهم ولجلالة هذا
المشهود عليه.

فإن الأمور العظيمة لا يستشهد عليها إلا الخواص، كما
قال تعالى في الشهادة على التوحيد: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وكفى بالله شهيدا.

{
167 - 169 } { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا
لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا *
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرًا }

لما أخبر عن رسالة الرسل صلوات الله وسلامه
عليهم وأخبر برسالة خاتمهم محمد، وشهد بها وشهدت ملائكته -لزم من ذلك ثبوت
الأمر المقرر والمشهود به، فوجب تصديقهم، والإيمان بهم واتباعهم.

ثم
توعد من كفر بهم فقال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ
اللَّهِ } أي: جمعوا بين الكفر بأنفسهم وصدِّهم الناس عن سبيل الله. وهؤلاء
هم أئمة الكفر ودعاة الضلال { قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا } وأي ضلال
أعظم من ضلال من ضل بنفسه وأضل غيره، فباء بالإثمين ورجع بالخسارتين وفاتته
الهدايتان، ولهذا قال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا } وهذا
الظلم هو زيادة على كفرهم، وإلا فالكفر عند إطلاق الظلم يدخل فيه.

والمراد
بالظلم هنا أعمال الكفر والاستغراق فيه، فهؤلاء بعيدون من المغفرة
والهداية للصراط المستقيم. ولهذا قال: { لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ
لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ }

وإنما
تعذرت المغفرة لهم والهداية لأنهم استمروا في طغيانهم، وازدادوا في
كفرانهم فطبع على قلوبهم وانسدت عليهم طرق الهداية بما كسبوا، { وَمَا
رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }

{ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرًا } أي: لا يبالي الله بهم ولا يعبأ، لأنهم لا يصلحون للخير، ولا
يليق بهم إلا الحالة التي اختاروها لأنفسهم.


{ 170 } { يَا
أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ
فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }

يأمر
تعالى جميع الناس أن يؤمنوا بعبده ورسوله محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999. وذكر السبب الموجب للإيمان به، والفائدة
في الإيمان به، والمضرة من عدم الإيمان به، فالسبب الموجب هو إخباره بأنه
جاءهم بالحق.أي: فمجيئه نفسه حق، وما جاء به من الشرع حق، فإن العاقل يعرف
أن بقاء الخلق في جهلهم يعمهون، وفي كفرهم يترددون، والرسالة قد انقطعت
عنهم غير لائق بحكمة الله ورحمته، فمن حكمته ورحمته العظيمة نفس إرسال
الرسول إليهم، ليعرفهم الهدى من الضلال، والغي من الرشد، فمجرد النظر في
رسالته دليل قاطع على صحة نبوته.

وكذلك النظر إلى ما جاء به من
الشرع العظيم والصراط المستقيم. فإن فيه من الإخبار بالغيوب الماضية
والمستقبلة، والخبر عن الله وعن اليوم الآخر -ما لا يعرف إلا بالوحي
والرسالة. وما فيه من الأمر بكل خير وصلاح، ورشد وعدل وإحسان، وصدق وبر
وصلة وحسن خلق، ومن النهي عن الشر والفساد والبغي والظلم وسوء الخلق،
والكذب والعقوق، مما يقطع به أنه من عند الله.

وكلما ازداد به العبد
بصيرة، ازداد إيمانه ويقينه، فهذا السبب الداعي للإيمان. وأما الفائدة في
الإيمان فأخبر أنه خير لكم والخير ضد الشر. فالإيمان خير للمؤمنين في
أبدانهم وقلوبهم وأرواحهم ودنياهم وأخراهم. وذلك لما يترتب عليه من المصالح
والفوائد، فكل ثواب عاجل وآجل فمن ثمرات الإيمان، فالنصر والهدى والعلم
والعمل الصالح والسرور والأفراح، والجنة وما اشتملت عليه من النعيم كل ذلك
مسبب عن الإيمان.

كما أن الشقاء الدنيوي والأخروي من عدم الإيمان أو
نقصه. وأما مضرة عدم الإيمان به تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 فيعرف بضد ما يترتب على الإيمان به. وأن
العبد لا يضر إلا نفسه، والله تعالى غني عنه لا تضره معصية العاصين، ولهذا
قال: { فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي: الجميع
خلقه وملكه، وتحت تدبيره وتصريفه { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا } بكل شيء {
حَكِيمًا } في خلقه وأمره. فهو العليم بمن يستحق الهداية والغواية، الحكيم
في وضع الهداية والغواية موضعهما.


{ 171 } { يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ
إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ
اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ
إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ
وَكِيلًا }

ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو في الدين وهو مجاوزة
الحد والقدر المشروع إلى ما ليس بمشروع. وذلك كقول النصارى في غلوهم بعيسى
عليه السلام، ورفعه عن مقام النبوة والرسالة إلى مقام الربوبية الذي لا
يليق بغير الله، فكما أن التقصير والتفريط من المنهيات، فالغلو كذلك، ولهذا
قال: { وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } وهذا الكلام
يتضمن ثلاثة أشياء:

أمرين منهي عنهما، وهما قول الكذب على الله،
والقول بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه ورسله، والثالث: مأمور به
وهو قول الحق في هذه الأمور.

ولما كانت هذه قاعدة عامة كلية، وكان
السياق في شأن عيسى عليه السلام نصَّ على قول الحق فيه، المخالف لطريقة
اليهودية والنصرانية فقال: { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
رَسُولُ اللَّهِ } أي: غاية المسيح عليه السلام ومنتهى ما يصل إليه من
مراتب الكمال أعلى حالة تكون للمخلوقين، وهي درجة الرسالة التي هي أعلى
الدرجات وأجلّ المثوبات.

وأنه { كَلِمَتُهُ } التي { أَلْقَاهَا
إِلَى مَرْيَمَ } أي: كلمة تكلم الله بها فكان بها عيسى، ولم يكن تلك
الكلمة، وإنما كان بها، وهذا من باب إضافة التشريف والتكريم.

وكذلك
قوله: { وَرُوحٌ مّنْهُ } أي: من الأرواح التي خلقها وكملها بالصفات
الفاضلة والأخلاق الكاملة، أرسل الله روحه جبريل عليه السلام فنفخ في فرج
مريم عليها السلام، فحملت بإذن الله بعيسى عليه السلام.

فلما بيّن
حقيقة عيسى عليه السلام، أمر أهل الكتاب بالإيمان به وبرسله، ونهاهم أن
يجعلوا الله ثالث ثلاثة أحدهم عيسى، والثاني مريم، فهذه مقالة النصارى
قبحهم الله.

فأمرهم أن ينتهوا، وأخبر أن ذلك خير لهم، لأنه الذي
يتعين أنه سبيل النجاة، وما سواه فهو طريق الهلاك، ثم نزه نفسه عن الشريك
والولد فقال: { إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي: هو المنفرد
بالألوهية، الذي لا تنبغي العبادة إلا له. { سُبْحَانَهُ } أي: تنزه وتقدس {
أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } لأن { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ } فالكل مملوكون له مفتقرون إليه، فمحال أن يكون له شريك منهم أو
ولد.

ولما أخبر أنه المالك للعالم العلوي والسفلي أخبر أنه قائم
بمصالحهم الدنيوية والأخروية وحافظها، ومجازيهم عليها تعالى.


{
172 ، 173 } { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ
وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ
عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا
وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا }

لما ذكر تعالى غلو
النصارى في عيسى عليه السلام، وذكر أنه عبده ورسوله، ذكر هنا أنه لا يستنكف
عن عبادة ربه، أي: لا يمتنع عنها رغبة عنها، لا هو { وَلَا الْمَلَائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ } فنزههم عن الاستنكاف وتنزيههم عن الاستكبار من باب
أولى، ونفي الشيء فيه إثبات ضده.

أي: فعيسى والملائكة المقربون قد
رغبوا في عبادة ربهم، وأحبوها وسعوا فيها بما يليق بأحوالهم، فأوجب لهم ذلك
الشرف العظيم والفوز العظيم، فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته ولا
لإلهيته، بل يرون افتقارهم لذلك فوق كل افتقار.

ولا يظن أن رفع عيسى
أو غيره من الخلق فوق مرتبته التي أنزله الله فيها وترفعه عن العبادة
كمالا، بل هو النقص بعينه، وهو محل الذم والعقاب، ولهذا قال: { وَمَن
يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ
جَمِيعًا } أي: فسيحشر الخلق كلهم إليه، المستنكفين والمستكبرين وعباده
المؤمنين، فيحكم بينهم بحكمه العدل، وجزائه الفصل.

ثم فصل حكمه فيهم
فقال: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي: جمعوا
بين الإيمان المأمور به، وعمل الصالحات من واجبات ومستحبات، من حقوق الله
وحقوق عباده.

{ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي: الأجور التي رتبها
على الأعمال، كُلٌّ بحسب إيمانه وعمله.

{ وَيَزِيدُهُم مِن
فَضْلِهِ } من الثواب الذي لم تنله أعمالهم ولم تصل إليه أفعالهم، ولم يخطر
على قلوبهم. ودخل في ذلك كل ما في الجنة من المآكل والمشارب، والمناكح،
والمناظر والسرور، ونعيم القلب والروح، ونعيم البدن، بل يدخل في ذلك كل خير
ديني ودنيوي رتب على الإيمان والعمل الصالح.

{ وَأَمَّا الَّذِينَ
اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا } أي: عن عبادة الله تعالى { فَيُعَذِّبُهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا } وهو سخط الله وغضبه، والنار الموقدة التي تطلع على
الأفئدة.

{ وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا
وَلَا نَصِيرًا } أي: لا يجدون أحدا من الخلق يتولاهم فيحصل لهم المطلوب،
ولا مَن ينصرهم فيدفع عنهم المرهوب، بل قد تخلى عنهم أرحم الراحمين، وتركهم
في عذابهم خالدين، وما حكم به تعالى فلا رادّ لحكمه ولا مغيّر لقضائه.


{
174 ، 175 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ
مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا }

يمتن
تعالى على سائر الناس بما أوصل إليهم من البراهين القاطعة والأنوار
الساطعة، ويقيم عليهم الحجة، ويوضح لهم المحجة، فقال: { يَأَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَّبِّكُمْ } أي: حجج قاطعة على الحق
تبينه وتوضحه، وتبين ضده.

وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية،
الآيات الأفقية والنفسية { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ }

وفي
قوله: { مِن رَّبِّكُمْ } ما يدل على شرف هذا البرهان وعظمته، حيث كان من
ربكم الذي رباكم التربية الدينية والدنيوية، فمن تربيته لكم التي يحمد
عليها ويشكر، أن أوصل إليكم البينات، ليهديكم بها إلى الصراط المستقيم،
والوصول إلى جنات النعيم.

{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا
مُّبِينًا } وهو هذا القرآن العظيم، الذي قد اشتمل على علوم الأولين
والآخرين والأخبار الصادقة النافعة، والأمر بكل عدل وإحسان وخير، والنهي عن
كل ظلم وشر، فالناس في ظلمة إن لم يستضيئوا بأنواره، وفي شقاء عظيم إن لم
يقتبسوا من خيره.

ولكن انقسم الناس -بحسب الإيمان بالقرآن والانتفاع
به- قسمين:

{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ } أي: اعترفوا
بوجوده واتصافه بكل وصف كامل، وتنزيهه من كل نقص وعيب. { وَاعْتَصَمُــوا
بِـهِ } أي: لجأوا إلى الله واعتمدوا عليه وتبرأوا من حولهم وقوتهم
واستعانوا بربهم. { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ } أي:
فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة، فيوفقهم للخيرات ويجزل لهم المثوبات، ويدفع عنهم
البليات والمكروهات.

{ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا
مُّسْتَقِيمًا } أي: يوفقهم للعلم والعمل، معرفة الحق والعمل به.

أي:
ومن لم يؤمن بالله ويعتصم به ويتمسك بكتابه، منعهم من رحمته، وحرمهم من
فضله، وخلى بينهم وبين أنفسهم، فلم يهتدوا، بل ضلوا ضلالا مبينا، عقوبة لهم
على تركهم الإيمان فحصلت لهم الخيبة والحرمان، نسأله تعالى العفو والعافية
والمعافاة.

{ 176 ْ} { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ
فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ
فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ
فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ
كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ْ}

أخبر تعالى أن الناس استفتوا رسوله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 أي: في الكلالة بدليل قوله: { قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ْ} وهي الميت يموت وليس له ولد صلب ولا ولد
ابن، ولا أب، ولا جد، ولهذا قال: { إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ
ْ} أي: لا ذكر ولا أنثى، لا ولد صلب ولا ولد ابن.

وكذلك ليس له
والد، بدليل أنه ورث فيه الإخوة، والأخوات بالإجماع لا يرثون مع الوالد،
فإذا هلك وليـس لـه ولـد ولا والـد { وَلَهُ أُخْتٌ ْ} أي: شقيقة أو لأب،
لا لأم، فإنه قد تقدم حكمها. { فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ْ} أي نصف
متروكات أخيها، من نقود وعقار وأثاث وغير ذلك، وذلك من بعد الدين والوصية
كما تقدم.

{ وَهُوَ ْ} أي: أخوها الشقيق أو الذي للأب { يَرِثُهَا
إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ ْ} ولم يقدر له إرثا لأنه عاصب فيأخذ مالها
كله، إن لم يكن صاحب فرض ولا عاصب يشاركه، أو ما أبقت الفروض.

{
فَإِن كَانَتَا ْ} أي: الأختان { اثْنَتَيْنِ ْ} أي: فما فوق { فَلَهُمَا
الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً ْ}
أي: اجتمع الذكور من الإخوة لغير أم مع الإناث { فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ ْ} فيسقط فرض الإناث ويعصبهن إخوتهن.

{ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ْ} أي: يبين لكم أحكامه التي تحتاجونها،
ويوضحها ويشرحها لكم فضلا منه وإحسانا لكي تهتدوا ببيانه، وتعملوا بأحكامه،
ولئلا تضلوا عن الصراط المستقيم بسبب جهلكم وعدم علمكم.

{
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ْ} أي: عالم بالغيب والشهادة والأمور
الماضية والمستقبلة، ويعلم حاجتكم إلى بيانه وتعليمه، فيعلمكم من علمه الذي
ينفعكم على الدوام في جميع الأزمنة والأمكنة.

آخر تفسير سورة
النساء فلله الحمد والشكر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:54 pm

تفسير
سورة المائدة

وهي مدنية

{ 1 ْ} { بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ
يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ْ}

هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما
يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود، أي: بإكمالها، وإتمامها، وعدم نقضها
ونقصها. وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه، من التزام عبوديته،
والقيام بها أتم قيام، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا، والتي بينه وبين
الرسول بطاعته واتباعه، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب، ببرهم وصلتهم،
وعدم قطيعتهم.

والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في
الغنى والفقر، واليسر والعسر، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات،
كالبيع والإجارة، ونحوهما، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها، بل والقيام بحقوق
المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ ْ} بالتناصر على الحق، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم
التقاطع.

فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه، فكلها داخلة في
العقود التي أمر الله بالقيام بها

ثم قال ممتنا على عباده: {
أُحِلَّتْ لَكُمْ ْ} أي: لأجلكم، رحمة بكم { بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ ْ} من
الإبل والبقر والغنم، بل ربما دخل في ذلك الوحشي منها، والظباء وحمر الوحش،
ونحوها من الصيود.

واستدل بعض الصحابة بهذه الآية على إباحة الجنين
الذي يموت في بطن أمه بعدما تذبح.

{ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ
ْ} تحريمه منها في قوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ
وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ ْ} إلى آخر الآية. فإن هذه المذكورات وإن كانت من
بهيمة الأنعام فإنها محرمة.

ولما كانت إباحة بهيمة الأنعام عامة في
جميع الأحوال والأوقات، استثنى منها الصيد في حال الإحرام فقال: { غَيْرَ
مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ْ} أي: أحلت لكم بهيمة الأنعام في كل
حال، إلا حيث كنتم متصفين بأنكم غير محلي الصيد وأنتم حرم، أي: متجرئون على
قتله في حال الإحرام، وفي الحرم، فإن ذلك لا يحل لكم إذا كان صيدا،
كالظباء ونحوه.

والصيد هو الحيوان المأكول المتوحش.

{ إِنَّ
اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ْ} أي: فمهما أراده تعالى حكم به حكما موافقا
لحكمته، كما أمركم بالوفاء بالعقود لحصول مصالحكم ودفع المضار عنكم.

وأحل
لكم بهيمة الأنعام رحمة بكم، وحرم عليكم ما استثنى منها من ذوات العوارض،
من الميتة ونحوها، صونا لكم واحتراما، ومن صيد الإحرام احتراما للإحرام
وإعظاما.


{ 2 ْ} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ
وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ}

يقول تعالى { يَأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ْ} أي: محرماته التي
أمركم بتعظيمها، وعدم فعلها، والنهي يشمل النهي عن فعلها، والنهي عن اعتقاد
حلها؛ فهو يشمل النهي، عن فعل القبيح، وعن اعتقاده.

ويدخل في ذلك
النهي عن محرمات الإحرام، ومحرمات الحرم. ويدخل في ذلك ما نص عليه بقوله: {
وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ْ} أي: لا تنتهكوه بالقتال فيه وغيره من أنواع
الظلم كما قال تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا
عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا
تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ْ}

والجمهور من العلماء على أن
القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ
الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ْ} وغير ذلك
من العمومات التي فيها الأمر بقتال الكفار مطلقا، والوعيد في التخلف عن
قتالهم مطلقا.

وبأن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 قاتل أهل الطائف في ذي القعدة، وهو من
الأشهر الحرم.

وقال آخرون: إن النهي عن القتال في الأشهر الحرم غير
منسوخ لهذه الآية وغيرها، مما فيه النهي عن ذلك بخصوصه، وحملوا النصوص
المطلقة الواردة على ذلك، وقالوا: المطلق يحمل على المقيد.

وفصل
بعضهم فقال: لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، وأما استدامته وتكميله
إذا كان أوله في غيرها، فإنه يجوز.

وحملوا قتال النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 لأهل الطائف على ذلك، لأن أول قتالهم في
"حنين" في "شوال". وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود منه الدفع.

فأما
قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال، فإنه يجوز للمسلمين
القتال، دفعا عن أنفسهم في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء.

وقوله:
{ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ ْ} أي: ولا تحلوا الهدي الذي يهدى
إلى بيت الله في حج أو عمرة، أو غيرهما، من نعم وغيرها، فلا تصدوه عن
الوصول إلى محله، ولا تأخذوه بسرقة أو غيرها، ولا تقصروا به، أو تحملوه ما
لا يطيق، خوفا من تلفه قبل وصوله إلى محله، بل عظموه وعظموا من جاء به. {
وَلَا الْقَلَائِدَ ْ} هذا نوع خاص من أنواع الهدي، وهو الهدي الذي يفتل له
قلائد أو عرى، فيجعل في أعناقه إظهارا لشعائر الله، وحملا للناس على
الاقتداء، وتعليما لهم للسنة، وليعرف أنه هدي فيحترم، ولهذا كان تقليد
الهدي من السنن والشعائر المسنونة.

{ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ
الْحَرَامَ ْ} أي: قاصدين له { يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ
وَرِضْوَانًا ْ} أي: من قصد هذا البيت الحرام، وقصده فضل الله بالتجارة
والمكاسب المباحة، أو قصده رضوان الله بحجه وعمرته والطواف به، والصلاة،
وغيرها من أنواع العبادات، فلا تتعرضوا له بسوء، ولا تهينوه، بل أكرموه،
وعظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم.

ودخل في هذا الأمرُ الأمر
بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت الله وجعل القاصدين له مطمئنين مستريحين، غير
خائفين على أنفسهم من القتل فما دونه، ولا على أموالهم من المكس والنهب
ونحو ذلك.

وهذه الآية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ْ} فالمشرك لا يُمَكَّن من
الدخول إلى الحرم.

والتخصيص في هذه الآية بالنهي عن التعرض لمن قصد
البيت ابتغاء فضل الله أو رضوانه -يدل على أن من قصده ليلحد فيه بالمعاصي،
فإن من تمام احترام الحرم صد من هذه حاله عن الإفساد ببيت الله، كما قال
تعالى: { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ ْ}

ولما نهاهم عن الصيد في حال الإحرام قال: { وَإِذَا
حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ْ} أي: إذا حللتم من الإحرام بالحج والعمرة،
وخرجتم من الحرم حل لكم الاصطياد، وزال ذلك التحريم. والأمر بعد التحريم
يرد الأشياء إلى ما كانت عليه من قبل.

{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا
ْ} أي: لا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم واعتداؤهم عليكم، حيث صدوكم عن
المسجد، على الاعتداء عليهم، طلبا للاشتفاء منهم، فإن العبد عليه أن يلتزم
أمر الله، ويسلك طريق العدل، ولو جُنِي عليه أو ظلم واعتدي عليه، فلا يحل
له أن يكذب على من كذب عليه، أو يخون من خانه.

{ وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ْ} أي: ليعن بعضكم بعضا على البر. وهو: اسم
جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأعمال الظاهرة والباطنة، من حقوق الله
وحقوق الآدميين.

والتقوى في هذا الموضع: اسم جامع لترك كل ما يكرهه
الله ورسوله، من الأعمال الظاهرة والباطنة. وكلُّ خصلة من خصال الخير
المأمور بفعلها، أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها، فإن العبد مأمور
بفعلها بنفسه، وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين عليها، بكل قول يبعث عليها
وينشط لها، وبكل فعل كذلك.

{ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ ْ}
وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها، ويحرج. { وَالْعُدْوَانِ ْ} وهو
التعدي على الخَلْق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فكل معصية وظلم يجب على
العبد كف نفسه عنه، ثم إعانة غيره على تركه.

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ} على من عصاه وتجرأ على محارمه،
فاحذروا المحارم لئلا يحل بكم عقابه العاجل والآجل.

{ 3 ْ} {
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا
ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ
لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ}

هذا الذي حولنا الله
عليه في قوله: { إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ْ} واعلم أن الله تبارك
وتعالى لا يحرّم ما يحرّم إلا صيانة لعباده، وحماية لهم من الضرر الموجود
في المحرمات، وقد يبين للعباد ذلك وقد لا يبين.

فأخبر أنه حرم {
الْمَيْتَة ْ} والمراد بالميتة: ما فُقِدَت حياتُهُ بغير ذكاة شرعية، فإنها
تحرم لضررها، وهو احتقان الدم في جوفها ولحمها المضر بآكلها. وكثيرا ما
تموت بعلة تكون سببا لهلاكها، فتضر بالآكل.

ويستثنى من ذلك ميتة
الجراد والسمك، فإنه حلال.

{ وَالدَّمَ ْ} أي: المسفوح، كما قيد في
الآية الأخرى. { وَلَحْم الْخِنْزِيرِ ْ} وذلك شامل لجميع أجزائه، وإنما نص
الله عليه من بين سائر الخبائث من السباع، لأن طائفة من أهل الكتاب من
النصارى يزعمون أن الله أحله لهم. أي: فلا تغتروا بهم، بل هو محرم من جملة
الخبائث.

{ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ْ} أي: ذُكر عليه
اسم غير الله تعالى، من الأصنام والأولياء والكواكب وغير ذلك من المخلوقين.
فكما أن ذكر الله تعالى يطيب الذبيحة، فذكر اسم غيره عليها، يفيدها خبثا
معنويا، لأنه شرك بالله تعالى.

{ وَالْمُنْخَنِقَةُ ْ} أي: الميتة
بخنق، بيد أو حبل، أو إدخالها رأسها بشيء ضيق، فتعجز عن إخراجه حتى تموت.

{
وَالْمَوْقُوذَةُ ْ} أي: الميتة بسبب الضرب بعصا أو حصى أو خشبة، أو هدم
شيء عليها، بقصد أو بغير قصد.

{ وَالْمُتَرَدِّيَةُ ْ} أي: الساقطة
من علو، كجبل أو جدار أو سطح ونحوه، فتموت بذلك.

{ وَالنَّطِيحَةُ
ْ} وهي التي تنطحها غيرها فتموت.

{ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ْ} من
ذئب أو أسد أو نمر، أو من الطيور التي تفترس الصيود، فإنها إذا ماتت بسبب
أكل السبع، فإنها لا تحل.

وقوله: { إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ْ} راجع
لهذه المسائل، من منخنقة، وموقوذة، ومتردية، ونطيحة، وأكيلة سبع، إذا ذكيت
وفيها حياة مستقرة لتتحقق الذكاة فيها، ولهذا قال الفقهاء: { لو أبان السبع
أو غيره حشوتها، أو قطع حلقومها، كان وجود حياتها كعدمه، لعدم فائدة
الذكاة فيها ْ} [وبعضهم لم يعتبر فيها إلا وجود الحياة فإذا ذكاها وفيها
حياة حلت ولو كانت مبانة الحشوة وهو ظاهر الآية الكريمة]

{ وَأَن
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ْ} أي: وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام.
ومعنى الاستقسام: طلب ما يقسم لكم ويقدر بها، وهي قداح ثلاثة كانت تستعمل
في الجاهلية، مكتوب على أحدها "افعل" وعلى الثاني "لا تفعل" والثالث غفل لا
كتابة فيه.

فإذا هَمَّ أحدهم بسفر أو عرس أو نحوهما، أجال تلك
القداح المتساوية في الجرم، ثم أخرج واحدا منها، فإن خرج المكتوب عليه
"افعل" مضى في أمره، وإن ظهر المكتوب عليه "لا تفعل" لم يفعل ولم يمض في
شأنه، وإن ظهر الآخر الذي لا شيء عليه، أعادها حتى يخرج أحد القدحين فيعمل
به. فحرمه الله عليهم، الذي في هذه الصورة وما يشبهه, وعوضهم عنه
بالاستخارة لربهم في جميع أمورهم.

{ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ْ} الإشارة لكل
ما تقدم من المحرمات، التي حرمها الله صيانة لعباده، وأنها فسق، أي: خروج
عن طاعته إلى طاعة الشيطان.

ثم امتن على عباده بقوله:

{
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ
اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَة غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ ْ}

واليوم المشار إليه يوم عرفة، إذ أتم الله
دينه، ونصر عبده ورسوله، وانخذل أهل الشرك انخذالا بليغا، بعد ما كانوا
حريصين على رد المؤمنين عن دينهم، طامعين في ذلك.

فلما رأوا عز
الإسلام وانتصاره وظهوره، يئسوا كل اليأس من المؤمنين، أن يرجعوا إلى
دينهم، وصاروا يخافون منهم ويخشون، ولهذا في هذه السنة التي حج فيها النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 سنة عشر حجة الوداع - لم يحج فيها
مشرك، ولم يطف بالبيت عريان.

ولهذا قال: { فَلَا تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِ ْ} أي: فلا تخشوا المشركين، واخشوا الله الذي نصركم عليهم
وخذلهم، ورد كيدهم في نحورهم.

{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ ْ} بتمام النصر، وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة، الأصول
والفروع، ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية، في أحكام الدين أصوله
وفروعه.

فكل متكلف يزعم أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم
إلى علوم غير علم الكتاب والسنة، من علم الكلام وغيره، فهو جاهل، مبطل في
دعواه، قد زعم أن الدين لا يكمل إلا بما قاله ودعا إليه، وهذا من أعظم
الظلم والتجهيل لله ولرسوله.

{ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
ْ} الظاهرة والباطنة { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ْ} أي: اخترته
واصطفيته لكم دينا، كما ارتضيتكم له، فقوموا به شكرا لربكم، واحمدوا الذي
مَنَّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها.

{ فَمَنِ اضْطُرَّ ْ}
أي: ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من المحرمات السابقة، في قوله: { حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ْ} { فِي مَخْمَصَةٍ ْ} أي: مجاعة { غَيْرَ
مُتَجَانِفٍ ْ} أي: مائل { لِإِثْمٍ ْ} بأن لا يأكل حتى يضطر، ولا يزيد في
الأكل على كفايته { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ْ} حيث أباح له الأكل
في هذه الحال، ورحمه بما يقيم به بنيته من غير نقص يلحقه في دينه.


{
4 ْ} { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ
تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ْ}

يقول تعالى لنبيه محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ْ}
من الأطعمة؟ { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ْ} وهي كل ما فيه نفع أو
لذة, من غير ضرر بالبدن ولا بالعقل، فدخل في ذلك جميع الحبوب والثمار التي
في القرى والبراري، ودخل في ذلك جميع حيوانات البحر وجميع حيوانات البر،
إلا ما استثناه الشارع، كالسباع والخبائث منها.

ولهذا دلت الآية
بمفهومها على تحريم الخبائث، كما صرح به في قوله تعالى: { وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ْ}

{ وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ ْ} أي: أحل لكم ما علمتم من الجوارح إلى آخر
الآية. دلت هذه الآية على أمور:

أحدها: لطف الله بعباده ورحمته
لهم، حيث وسع عليهم طرق الحلال، وأباح لهم ما لم يذكوه مما صادته الجوارح،
والمراد بالجوارح: الكلاب، والفهود، والصقر، ونحو ذلك، مما يصيد بنابه أو
بمخلبه.

الثاني: أنه يشترط أن تكون معلمة، بما يعد في العرف تعليما،
بأن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر، وإذا أمسك لم يأكل، ولهذا قال: {
تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ ْ} أي: أمسكن من الصيد لأجلكم.

وما أكل منه الجارح فإنه
لا يعلم أنه أمسكه على صاحبه، ولعله أن يكون أمسكه على نفسه.

الثالث:
اشتراط أن يجرحه الكلب أو الطير ونحوهما، لقوله: { مِنَ الْجَوَارِحِ ْ}
مع ما تقدم من تحريم المنخنقة. فلو خنقه الكلب أو غيره، أو قتله بثقله لم
يبح [هذا بناء على أن الجوارح اللاتي يجرحن الصيد بأنيابها أو مخالبها،
والمشهور أن الجوارح بمعنى الكواسب أي: المحصلات للصيد والمدركات لها فلا
يكون فيها على هذا دلالة - والله أعلم-]

الرابع: جواز اقتناء كلب
الصيد، كما ورد في الحديث الصحيح، مع أن اقتناء الكلب محرم، لأن من لازم
إباحة صيده وتعليمه جواز اقتنائه.

الخامس: طهارة ما أصابه فم الكلب
من الصيد، لأن الله أباحه ولم يذكر له غسلا، فدل على طهارته.

السادس:
فيه فضيلة العلم، وأن الجارح المعلم -بسبب العلم- يباح صيده، والجاهل
بالتعليم لا يباح صيده.

السابع: أن الاشتغال بتعليم الكلب أو الطير
أو نحوهما، ليس مذموما، وليس من العبث والباطل. بل هو أمر مقصود، لأنه
وسيلة لحل صيده والانتفاع به.

الثامن: فيه حجة لمن أباح بيع كلب
الصيد، قال: لأنه قد لا يحصل له إلا بذلك.

التاسع: فيه اشتراط
التسمية عند إرسال الجارح، وأنه إن لم يسم الله متعمدا، لم يبح ما قتل
الجارح.

العاشر: أنه يجوز أكل ما صاده الجارح، سواء قتله الجارح أم
لا. وأنه إن أدركه صاحبه، وفيه حياة مستقرة فإنه لا يباح إلا بها.

ثم
حث تعالى على تقواه، وحذر من إتيان الحساب في يوم القيامة، وأن ذلك أمر قد
دنا واقترب، فقال: { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
ْ}


{ 5 ْ} { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ
يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ ْ}

كرر تعالى إحلال الطيبات لبيان الامتنان، ودعوة
للعباد إلى شكره والإكثار من ذكره، حيث أباح لهم ما تدعوهم الحاجة إليه،
ويحصل لهم الانتفاع به من الطيبات.

{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ْ} أي: ذبائح اليهود والنصارى حلال لكم -يا معشر
المسلمين- دون باقي الكفار، فإن ذبائحهم لا تحل للمسلمين، وذلك لأن أهل
الكتاب ينتسبون إلى الأنبياء والكتب.

وقد اتفق الرسل كلهم على تحريم
الذبح لغير الله، لأنه شرك، فاليهود والنصارى يتدينون بتحريم الذبح لغير
الله، فلذلك أبيحت ذبائحهم دون غيرهم.

والدليل على أن المراد
بطعامهم ذبائحهم، أن الطعام الذي ليس من الذبائح كالحبوب والثمار ليس لأهل
الكتاب فيه خصوصية، بل يباح ذلك ولو كان من طعام غيرهم. وأيضا فإنه أضاف
الطعام إليهم.

فدل ذلك، على أنه كان طعاما، بسبب ذبحهم. ولا يقال:
إن ذلك للتمليك، وأن المراد: الطعام الذي يملكون. لأن هذا، لا يباح على وجه
الغصب، ولا من المسلمين.

{ وَطَعَامُكُمْ ْ} أيها المسلمون { حِلٌّ
لَّهُمْ ْ} أي: يحل لكم أن تطعموهم إياه { وَ ْ} أحل لكم { الْمُحْصَنَاتِ
ْ} أي: الحرائر العفيفات { مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ ْ} والحرائر العفيفات {
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ْ} أي: من اليهود
والنصارى.

وهذا مخصص لقوله تعالى { وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ
حَتَّى يُؤْمِنَّ ْ} ومفهوم الآية، أن الأرقاء من المؤمنات لا يباح نكاحهن
للأحرار, وهو كذلك.

وأما الكتابيات فعلى كل حال لا يبحن، ولا يجوز
نكاحهن للأحرار مطلقا، لقوله تعالى: { مِن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ْ}
وأما المسلمات إذا كن رقيقات فإنه لا يجوز للأحرار نكاحهن إلا بشرطين، عدم
الطول وخوف العنت.

وأما الفاجرات غير العفيفات عن الزنا فلا يباح
نكاحهن، سواء كن مسلمات أو كتابيات، حتى يتبن لقوله تعالى: { الزَّانِي لَا
يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ْ} الآية.

وقوله: { إِذَا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ْ} أي: أبحنا لكم نكاحهن، إذا أعطيتموهن
مهورهن، فمن عزم على أن لا يؤتيها مهرها فإنها لا تحل له.

وأمر
بإيتائها إذا كانت رشيدة تصلح للإيتاء، وإلا أعطاه الزوج لوليها.

وإضافة
الأجور إليهن دليل على أن المرأة تملك جميع مهرها، وليس لأحد منه شيء، إلا
ما سمحت به لزوجها أو وليها أو غيرهما. { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
ْ} أي: حالة كونكم -أيها الأزواج- محصنين لنسائكم، بسبب حفظكم لفروجكم عن
غيرهن.

{ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ْ} أي: زانين مع كل أحد { وَلَا
مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ْ}

وهو: الزنا مع العشيقات، لأن الزناة في
الجاهلية، منهم من يزني مع من كان، فهذا المسافح. ومنهم من يزني مع خدنه
ومحبه. فأخبر الله تعالى أن ذلك كله ينافي العفة، وأن شرط التزوج أن يكون
الرجل عفيفا عن الزنا.

وقوله تعالى: { وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ
فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ْ} أي: ومن كفر بالله تعالى، وما يجب الإيمان به
من كتبه ورسله أو شيء من الشرائع، فقد حبط عمله، بشرط أن يموت على كفره،
كما قال تعالى: { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ
كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
ْ} { وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ْ} أي: الذين خسروا أنفسهم
وأموالهم وأهليهم يوم القيامة، وحصلوا على الشقاوة الأبدية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:57 pm

{ 6
ْ} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ
أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ
حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ْ}

هذه آية عظيمة قد اشتملت على
أحكام كثيرة، نذكر منها ما يسره الله وسهله.

أحدها: أن هذه
المذكورات فيها امتثالها والعمل بها من لوازم الإيمان الذي لا يتم إلا به،
لأنه صدرها بقوله { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ْ} إلى آخرها. أي: يا
أيها الذين آمنوا، اعملوا بمقتضى إيمانكم بما شرعناه لكم.

الثاني:
الأمر بالقيام بالصلاة لقوله: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ْ}

الثالث:
الأمر بالنية للصلاة، لقوله: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ْ} أي:
بقصدها ونيتها.

الرابع: اشتراط الطهارة لصحة الصلاة، لأن الله أمر
بها عند القيام إليها، والأصل في الأمر الوجوب.

الخامس: أن الطهارة
لا تجب بدخول الوقت، وإنما تجب عند إرادة الصلاة.

السادس: أن كل ما
يطلق عليه اسم الصلاة، من الفرض والنفل، وفرض الكفاية، وصلاة الجنازة،
تشترط له الطهارة، حتى السجود المجرد عند كثير من العلماء، كسجود التلاوة
والشكر.

السابع: الأمر بغسل الوجه، وهو: ما تحصل به المواجهة من
منابت شعر الرأس المعتاد، إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولا. ومن الأذن
إلى الأذن عرضا.

ويدخل فيه المضمضة والاستنشاق، بالسنة، ويدخل فيه
الشعور التي فيه. لكن إن كانت خفيفة فلا بد من إيصال الماء إلى البشرة، وإن
كانت كثيفة اكتفي بظاهرها.

الثامن: الأمر بغسل اليدين، وأن حدهما
إلى المرفقين و "إلى" كما قال جمهور المفسرين بمعنى "مع" كقوله تعالى: {
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ْ} ولأن الواجب لا يتم
إلا بغسل جميع المرفق.

التاسع: الأمر بمسح الرأس.

العاشر:
أنه يجب مسح جميعه، لأن الباء ليست للتبعيض، وإنما هي للملاصقة، وأنه يعم
المسح بجميع الرأس.

الحادي عشر: أنه يكفي المسح كيفما كان، بيديه أو
إحداهما، أو خرقة أو خشبة أو نحوهما، لأن الله أطلق المسح ولم يقيده بصفة،
فدل ذلك على إطلاقه.

الثاني عشر: أن الواجب المسح. فلو غسل رأسه
ولم يمر يده عليه لم يكف، لأنه لم يأت بما أمر الله به.

الثالث عشر:
الأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين، ويقال فيهما ما يقال في اليدين.

الرابع
عشر: فيها الرد على الرافضة، على قراءة الجمهور بالنصب، وأنه لا يجوز
مسحهما ما دامتا مكشوفتين.

الخامس عشر: فيه الإشارة إلى مسح الخفين،
على قراءة الجر في { وأرجلكم ْ}

وتكون كل من القراءتين، محمولة على
معنى، فعلى قراءة النصب فيها، غسلهما إن كانتا مكشوفتين، وعلى قراءة الجر
فيها، مسحهما إذا كانتا مستورتين بالخف.

السادس عشر: الأمر بالترتيب
في الوضوء، لأن الله تعالى ذكرها مرتبة.

ولأنه أدخل ممسوحا -وهو
الرأس- بين مغسولين، ولا يعلم لذلك فائدة غير الترتيب.

السابع عشر:
أن الترتيب مخصوص بالأعضاء الأربعة المسميات في هذه الآية.

وأما
الترتيب بين المضمضة والاستنشاق والوجه، أو بين اليمنى واليسرى من اليدين
والرجلين، فإن ذلك غير واجب، بل يستحب تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل
الوجه، وتقديم اليمنى على اليسرى من اليدين والرجلين، وتقديم مسح الرأس على
مسح الأذنين.

الثامن عشر: الأمر بتجديد الوضوء عند كل صلاة، لتوجد
صورة المأمور به.

التاسع عشر: الأمر بالغسل من الجنابة.

العشرون:
أنه يجب تعميم الغسل للبدن، لأن الله أضاف التطهر للبدن، ولم يخصصه بشيء
دون شيء.

الحادي والعشرون: الأمر بغسل ظاهر الشعر وباطنه في
الجنابة.

الثاني والعشرون: أنه يندرج الحدث الأصغر في الحدث الأكبر،
ويكفي من هما عليه أن ينوي، ثم يعمم بدنه، لأن الله لم يذكر إلا التطهر،
ولم يذكر أنه يعيد الوضوء.

الثالث والعشرون: أن الجنب يصدق على من
أنزل المني يقظة أو مناما، أو جامع ولو لم ينزل.

الرابع والعشرون:
أن من ذكر أنه احتلم ولم يجد بللا، فإنه لا غسل عليه، لأنه لم تتحقق منه
الجنابة.

الخامس والعشرون: ذكر مِنَّة الله تعالى على العباد،
بمشروعية التيمم.

السادس والعشرون: أن من أسباب جواز التيمم وجود
المرض الذي يضره غسله بالماء، فيجوز له التيمم.

السابع والعشرون: أن
من جملة أسباب جوازه، السفر والإتيان من البول والغائط إذا عدم الماء،
فالمرض يجوز التيمم مع وجود الماء لحصول التضرر به، وباقيها يجوزه العدم
للماء ولو كان في الحضر.

الثامن والعشرون: أن الخارج من السبيلين من
بول وغائط، ينقض الوضوء.

التاسع والعشرون: استدل بها من قال: لا
ينقض الوضوء إلا هذان الأمران، فلا ينتقض بلمس الفرج ولا بغيره.

الثلاثون:
استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ به لقوله تعالى: { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِنكُم مِّنَ الْغَائِطِ ْ}

الحادي والثلاثون: أن لمس المرأة بلذة
وشهوة ناقض للوضوء.

الثاني والثلاثون: اشتراط عدم الماء لصحة
التيمم.

الثالث والثلاثون: أن مع وجود الماء ولو في الصلاة، يبطل
التيمم لأن الله إنما أباحه مع عدم الماء.

الرابع والثلاثون: أنه
إذا دخل الوقت وليس معه ماء، فإنه يلزمه طلبه في رحله وفيما قرب منه، لأنه
لا يقال "لم يجد" لمن لم يطلب.

الخامس والثلاثون: أن من وجد ماء لا
يكفي بعض طهارته، فإنه يلزمه استعماله، ثم يتيمم بعد ذلك.

السادس
والثلاثون: أن الماء المتغير بالطاهرات، مقدم على التيمم، أي: يكون طهورا،
لأن الماء المتغير ماء، فيدخل في قوله: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ْ}

السابع
والثلاثون: أنه لا بد من نية التيمم لقوله: { فَتَيَمَّمُوا ْ} أي:
اقصدوا.

الثامن والثلاثون: أنه يكفي التيمم بكل ما تصاعد على وجه
الأرض من تراب وغيره. فيكون على هذا، قوله: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ْ} إما من باب التغليب، وأن الغالب أن يكون له غبار
يمسح منه ويعلق بالوجه واليدين، وإما أن يكون إرشادا للأفضل، وأنه إذا أمكن
التراب الذي فيه غبار فهو أولى.

التاسع والثلاثون: أنه لا يصح
التيمم بالتراب النجس، لأنه لا يكون طيبا بل خبيثا.

الأربعون: أنه
يمسح في التيمم الوجه واليدان فقط، دون بقية الأعضاء.

الحادي
والأربعون: أن قوله: { بِوُجُوهِكُمْ ْ} شامل لجميع الوجه وأنه يعممه
بالمسح، إلا أنه معفو عن إدخال التراب في الفم والأنف، وفيما تحت الشعور،
ولو خفيفة.

الثاني والأربعون: أن اليدين تمسحان إلى الكوعين فقط،
لأن اليدين عند الإطلاق كذلك.

فلو كان يشترط إيصال المسح إلى
الذراعين لقيده الله بذلك، كما قيده في الوضوء.

الثالث والأربعون:
أن الآية عامة في جواز التيمم، لجميع الأحداث كلها، الحدث الأكبر والأصغر،
بل ولنجاسة البدن، لأن الله جعلها بدلا عن طهارة الماء، وأطلق في الآية فلم
يقيد [وقد يقال أن نجاسة البدن لا تدخل في حكم التيمم لأن السياق في
الأحداث وهو قول جمهور العلماء]

الرابع والأربعون: أن محل التيمم في
الحدث الأصغر والأكبر واحد، وهو الوجه واليدان.

الخامس والأربعون:
أنه لو نوى مَنْ عليه حدثان التيمم عنهما، فإنه يجزئ أخذا من عموم الآية
وإطلاقها.

السادس والأربعون: أنه يكفي المسح بأي شيء كان، بيده أو
غيرها، لأن الله قال { فامسحوا ْ} ولم يذكر الممسوح به، فدل على جوازه بكل
شيء.

السابع والأربعون: اشتراط الترتيب في طهارة التيمم، كما يشترط
ذلك في الوضوء، ولأن الله بدأ بمسح الوجه قبل مسح اليدين.

الثامن
والأربعون: أن الله تعالى -فيما شرعه لنا من الأحكام- لم يجعل علينا في ذلك
من حرج ولا مشقة ولا عسر، وإنما هو رحمة منه بعباده ليطهرهم، وليتم نعمته
عليهم.

وهذا هو التاسع والأربعون: أن طهارة الظاهر بالماء والتراب،
تكميل لطهارة الباطن بالتوحيد، والتوبة النصوح.

الخمسون: أن طهارة
التيمم، وإن لم يكن فيها نظافة وطهارة تدرك بالحس والمشاهدة، فإن فيها
طهارة معنوية ناشئة عن امتثال أمر الله تعالى.

الحادي والخمسون: أنه
ينبغي للعبد أن يتدبر الحِكَم والأسرار في شرائع الله، في الطهارة وغيرها
ليزداد معرفة وعلما، ويزداد شكرا لله ومحبة له، على ما شرع من الأحكام التي
توصل العبد إلى المنازل العالية الرفيعة.


{ 7 ْ} { وَاذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ
قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ ْ}

يأمر تعالى عباده بذكر نعمه الدينية
والدنيوية، بقلوبهم وألسنتهم. فإن في استدامة ذكرها داعيا لشكر الله تعالى
ومحبته، وامتلاء القلب من إحسانه. وفيه زوال للعجب من النفس بالنعم
الدينية، وزيادة لفضل الله وإحسانه. و { مِيثَاقهِ ْ} أي: واذكروا ميثاقه {
الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ ْ} أي: عهده الذي أخذه عليكم.

وليس
المراد بذلك أنهم لفظوا ونطقوا بالعهد والميثاق، وإنما المراد بذلك أنهم
بإيمانهم بالله ورسوله قد التزموا طاعتهما، ولهذا قال: { إِذْ قُلْتُمْ
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ْ} أي: سمعنا ما دعوتنا به من آياتك القرآنية
والكونية، سمع فهم وإذعان وانقياد. وأطعنا ما أمرتنا به بالامتثال، وما
نهيتنا عنه بالاجتناب. وهذا شامل لجميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة.

وأن
المؤمنين يذكرون في ذلك عهد الله وميثاقه عليهم، وتكون منهم على بال،
ويحرصون على أداء ما أُمِرُوا به كاملا غير ناقص.

{ وَاتَّقُوا
اللَّهَ ْ} في جميع أحوالكم { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ْ}
أي: بما تنطوي عليه من الأفكار والأسرار والخواطر. فاحذروا أن يطلع من
قلوبكم على أمر لا يرضاه، أو يصدر منكم ما يكرهه، واعمروا قلوبكم بمعرفته
ومحبته والنصح لعباده. فإنكم -إن كنتم كذلك- غفر لكم السيئات، وضاعف لكم
الحسنات، لعلمه بصلاح قلوبكم.


{ 8 ْ} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ ْ}

أي { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ْ} بما أُمِرُوا
بالإيمان به، قوموا بلازم إيمانكم، بأن تكونوا { قَوَّامِينَ لِلَّهِ
شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ْ} بأن تنشط للقيام بالقسط حركاتكم الظاهرة
والباطنة.

وأن يكون ذلك القيام لله وحده، لا لغرض من الأغراض
الدنيوية، وأن تكونوا قاصدين للقسط، الذي هو العدل، لا الإفراط ولا
التفريط، في أقوالكم ولا أفعالكم، وقوموا بذلك على القريب والبعيد، والصديق
والعدو.

{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ ْ} أي: لا يحملنكم بغض { قَوْمٍ
عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ْ} كما يفعله من لا عدل عنده ولا قسط، بل كما
تشهدون لوليكم، فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، ولو كان
كافرا أو مبتدعا، فإنه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق، لأنه حق
لا لأنه قاله، ولا يرد الحق لأجل قوله، فإن هذا ظلم للحق.

{
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ْ} أي: كلما حرصتم على العدل واجتهدتم
في العمل به، كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم، فإن تم العدل كملت التقوى.

{
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ْ} فمجازيكم بأعمالكم، خيرها
وشرها، صغيرها وكبيرها، جزاء عاجلا، وآجلا.


{ 9 ، 10 ْ} {
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ْ}

أي { وَعَدَ اللَّهُ
ْ} الذي لا يخلف الميعاد وهو أصدق القائلين -المؤمنين به وبكتبه ورسله
واليوم الآخر، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ْ} من واجبات ومستحبات- بالمغفرة
لذنوبهم، بالعفو عنها وعن عواقبها، وبالأجر العظيم الذي لا يعلم عظمه إلا
الله تعالى.

{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُم مِن
قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ْ}

{
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ْ} الدالة على الحق المبين،
فكذبوا بها بعد ما أبانت الحقائق. { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ْ}
الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه.


{ 11 ْ} { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ
قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ ْ}

يُذَكِّر تعالى عباده المؤمنين بنعمه العظيمة،
ويحثهم على تذكرها بالقلب واللسان، وأنهم -كما أنهم يعدون قتلهم لأعدائهم،
وأخذ أموالهم وبلادهم وسبيهم نعمةً - فليعدوا أيضا إنعامه عليهم بكف أيديهم
عنهم، ورد كيدهم في نحورهم نعمة. فإنهم الأعداء، قد هموا بأمر، وظنوا أنهم
قادرون عليه.

فإذا لم يدركوا بالمؤمنين مقصودهم، فهو نصر من الله
لعباده المؤمنين ينبغي لهم أن يشكروا الله على ذلك، ويعبدوه ويذكروه، وهذا
يشمل كل من هَمَّ بالمؤمنين بشر، من كافر ومنافق وباغ، كف الله شره عن
المسلمين، فإنه داخل في هذه الآية.

ثم أمرهم بما يستعينون به على
الانتصار على عدوهم، وعلى جميع أمورهم، فقال: { وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ْ} أي: يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم
الدينية والدنيوية، وتبرؤوا من حولهم وقوتهم، ويثقوا بالله تعالى في حصول
ما يحبون. وعلى حسب إيمان العبد يكون توكله، وهو من واجبات القلب المتفق
عليها.


{ 12 ، 13 ْ} { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ
اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ
الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ
كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * فَبِمَا
نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا
بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا
مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
ْ}

يخبر تعالى أنه أخذ على بني إسرائيل الميثاق الثقيل المؤكد،
وذكر صفة الميثاق وأجرهم إن قاموا به، وإثمهم إن لم يقوموا به، ثم ذكر أنهم
ما قاموا به، وذكر ما عاقبهم به، فقال: { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ْ} أي: عهدهم المؤكد الغليظ، { وَبَعَثْنَا
مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ْ} أي: رئيسا وعريفا على من تحته، ليكون
ناظرا عليهم، حاثا لهم على القيام بما أُمِرُوا به، مطالبا يدعوهم.

{
وَقَالَ اللَّهُ ْ} للنقباء الذين تحملوا من الأعباء ما تحملوا: { إِنِّي
مَعَكُمْ ْ} أي: بالعون والنصر، فإن المعونة بقدر المؤنة.

ثم ذكر ما
واثقهم عليه فقال: { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ ْ} ظاهرا وباطنا،
بالإتيان بما يلزم وينبغي فيها، والمداومة على ذلك { وَآتَيْتُمُ
الزَّكَاةَ ْ} لمستحقيها { وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ْ} جميعهم، الذين أفضلهم
وأكملهم محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ْ} أي: عظمتموهم،
وأديتم ما يجب لهم من الاحترام والطاعة { وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا
حَسَنًا ْ} وهو الصدقة والإحسان، الصادر عن الصدق والإخلاص وطيب المكسب،
فإذا قمتم بذلك { لَأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ْ} فجمع
لهم بين حصول المحبوب بالجنة وما فيها من النعيم، واندفاع المكروه بتكفير
السيئات، ودفع ما يترتب عليها من العقوبات.

{ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ
ذَلِكَ ْ} العهد والميثاق المؤكد بالأيمان والالتزامات، المقرون بالترغيب
بذكر ثوابه.

{ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ْ} أي: عن عمد وعلم،
فيستحق ما يستحقه الضالون من حرمان الثواب، وحصول العقاب. فكأنه قيل: ليت
شعري ماذا فعلوا؟ وهل وفوا بما عاهدوا الله عليه أم نكثوا؟

فبين
أنهم نقضوا ذلك فقال: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ ْ}

أي:
بسببه عاقبناهم بعدة عقوبات: الأولى: أنا { لَعَنَّاهُمْ ْ} أي: طردناهم
وأبعدناهم من رحمتنا، حيث أغلقوا على أنفسهم أبواب الرحمة، ولم يقوموا
بالعهد الذي أخذ عليهم، الذي هو سببها الأعظم.

الثانية: قوله: {
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ْ} أي: غليظة لا تجدي فيها المواعظ، ولا
تنفعها الآيات والنذر، فلا يرغبهم تشويق، ولا يزعجهم تخويف، وهذا من أعظم
العقوبات على العبد، أن يكون قلبه بهذه الصفة التي لا يفيده الهدى, والخير
إلا شرا.

الثالثة: أنهم { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ
ْ} أي: ابتلوا بالتغيير والتبديل، فيجعلون للكلم الذي أراد الله معنى غير
ما أراده الله ولا رسوله.

الرابعة: أنهم { نسوا حَظًّا مِّمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ ْ} فإنهم ذكروا بالتوراة، وبما أنزل الله على موسى، فنسوا
حظا منه، وهذا شامل لنسيان علمه، وأنهم نسوه وضاع عنهم، ولم يوجد كثير مما
أنساهم الله إياه عقوبة منه لهم.

وشامل لنسيان العمل الذي هو الترك،
فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به، ويستدل بهذا على أهل الكتاب بإنكارهم بعض
الذي قد ذكر في كتابهم، أو وقع في زمانهم، أنه مما نسوه.

الخامسة:
الخيانة المستمرة التي { لا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ
ْ} أي: خيانة لله ولعباده المؤمنين.

ومن أعظم الخيانة منهم، كتمهم
[عن] من يعظهم ويحسن فيهم الظن الحق، وإبقاؤهم على كفرهم، فهذه خيانة
عظيمة. وهذه الخصال الذميمة، حاصلة لكل من اتصف بصفاتهم.

فكل من لم
يقم بما أمر الله به، وأخذ به عليه الالتزام، كان له نصيب من اللعنة وقسوة
القلب، والابتلاء بتحريف الكلم، وأنه لا يوفق للصواب، ونسيان حظ مما ذُكِّر
به، وأنه لا بد أن يبتلى بالخيانة، نسأل الله العافية.

وسمى الله
تعالى ما ذكروا به حظا، لأنه هو أعظم الحظوظ، وما عداه فإنما هي حظوظ
دنيوية، كما قال تعالى: { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ
الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا
أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ْ} وقال في الحظ النافع: {
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ ْ}

وقوله: { إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ْ} أي: فإنهم
وفوا بما عاهدوا الله عليه فوفقهم وهداهم للصراط المستقيم.

{
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ْ} أي: لا تؤاخذهم بما يصدر منهم من الأذى،
الذي يقتضي أن يعفى عنهم، واصفح، فإن ذلك من الإحسان { إن اللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ ْ} والإحسان: هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه،
فإنه يراك. وفي حق المخلوقين: بذل النفع الديني والدنيوي لهم.

{ 14
ْ} { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ
فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ
يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ْ}

أي: وكما أخذنا
على اليهود العهد والميثاق، فكذلك أخذنا على { الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا
نَصَارَى ْ} لعيسى ابن مريم، وزكوا أنفسهم بالإيمان بالله ورسله وما جاءوا
به، فنقضوا العهد، { فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ْ} نسيانا
علميا، ونسيانا عمليا. { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ْ} أي: سلطنا بعضهم على بعض،
وصار بينهم من الشرور والإحن ما يقتضي بغض بعضهم بعضا ومعاداة بعضهم بعضا
إلى يوم القيامة، وهذا أمر مشاهد، فإن النصارى لم يزالوا ولا يزالون في بغض
وعداوة وشقاق. { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ ْ} فيعاقبهم عليه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 8:58 pm

{
15 ، 16 ْ} { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ
لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ
كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي
بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ ْ}

لما ذكر تعالى ما أخذه الله على أهل الكتاب من
اليهود والنصارى، وأنهم نقضوا ذلك إلا قليلا منهم، أمرهم جميعا أن يؤمنوا
بمحمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، واحتج عليهم بآية قاطعة دالة على صحة
نبوته، وهي: أنه بين لهم كثيرا مما يُخْفُون عن الناس، حتى عن العوام من
أهل ملتهم، فإذا كانوا هم المشار إليهم في العلم ولا علم عند أحد في ذلك
الوقت إلا ما عندهم، فالحريص على العلم لا سبيل له إلى إدراكه إلا منهم،
فإتيان الرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 بهذا القرآن العظيم الذي بيَّن به ما كانوا
يتكاتمونه بينهم، وهو أُمِّيّ لا يقرأ ولا يكتب - من أدل الدلائل على
القطع برسالته، وذلك مثل صفة محمد في كتبهم، ووجود البشائر به في كتبهم،
وبيان آية الرجم ونحو ذلك.

{ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ْ} أي: يترك
بيان ما لا تقتضيه الحكمة.

{ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ ْ}
وهو القرآن، يستضاء به في ظلمات الجهالة وعماية الضلالة.

{
وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ْ} لكل ما يحتاج الخلق إليه من أمور دينهم ودنياهم. من
العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن العلم بأحكامه الشرعية وأحكامه
الجزائية.

ثم ذكر مَنْ الذي يهتدي بهذا القرآن، وما هو السبب الذي
من العبد لحصول ذلك، فقال: { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ْ} أي: يهدي به من اجتهد وحرص على بلوغ
مرضاة الله، وصار قصده حسنا -سبل السلام التي تسلم صاحبها من العذاب،
وتوصله إلى دار السلام، وهو العلم بالحق والعمل به، إجمالا وتفصيلا.

{
وَيُخْرِجُهُم مِّن ْ} ظلمات الكفر والبدعة والمعصية، والجهل والغفلة، إلى
نور الإيمان والسنة والطاعة والعلم، والذكر. وكل هذه الهداية بإذن الله،
الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. { وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ ْ}


{ 17 ، 18 ْ} { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ
يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ
يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ
لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }

لما ذكر
تعالى أخذ الميثاق على أهل الكتابين، وأنهم لم يقوموا به بل نقضوه، ذكر
أقوالهم الشنيعة.

فذكر قول النصارى، القول الذي ما قاله أحد غيرهم،
بأن الله هو المسيح ابن مريم، ووجه شبهتهم أنه ولد من غير أب، فاعتقدوا فيه
هذا الاعتقاد الباطل مع أن حواء نظيره، خُلِقَت بلا أم، وآدم أولى منه،
خلق بلا أب ولا أم، فهلا ادعوا فيهما الإلهية كما ادعوها في المسيح؟

فدل
على أن قولهم اتباع هوى من غير برهان ولا شبهة. فرد الله عليهم بأدلة
عقلية واضحة فقال: { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ
أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا }

فإذا كان المذكورون لا امتناع عندهم يمنعهم لو
أراد الله أن يهلكهم، ولا قدرة لهم على ذلك - دل على بطلان إلهية من لا
يمتنع من الإهلاك، ولا في قوته شيء من الفكاك.

ومن الأدلة أن {
لِلَّهِ } وحده { مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } يتصرف فيهم بحكمه
الكوني والشرعي والجزائي، وهم مملوكون مدبرون، فهل يليق أن يكون المملوك
العبد الفقير، إلها معبودا غنيا من كل وجه؟ هذا من أعظم المحال.

ولا
وجه لاستغرابهم لخلق المسيح عيسى ابن مريم من غير أب، فإن الله { يَخْلُقُ
مَا يَشَاءُ } إن شاء من أب وأم، كسائر بني آدم، وإن شاء من أب بلا أم،
كحواء. وإن شاء من أم بلا أب، كعيسى. وإن شاء من غير أب ولا أم [كآدم]

فنوع
خليقته تعالى بمشيئته النافذة، التي لا يستعصي عليها شيء، ولهذا قال: {
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

ومن مقالات اليهود والنصارى
أن كلا منهما ادعى دعوى باطلة، يزكون بها أنفسهم، بأن قال كل منهما: {
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }

والابن في لغتهم هو
الحبيب، ولم يريدوا البنوة الحقيقية، فإن هذا ليس من مذهبهم إلا مذهب
النصارى في المسيح.

قال الله ردا عليهم حيث ادعوا بلا برهان: { قُلْ
فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ } ؟

فلو كنتم أحبابه ما عذبكم
[لكون الله لا يحب إلا من قام بمراضيه]

{ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ
مِّمَّنْ خَلَقَ } تجري عليكم أحكام العدل والفضل { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ
وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } إذا أتوا بأسباب المغفرة أو أسباب العذاب، {
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ } أي: فأي شيء خصكم بهذه الفضيلة، وأنتم من جملة المماليك ومن
جملة من يرجع إلى الله في الدار الآخرة، فيجازيكم بأعمالكم.


{
19 } { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ
عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ
وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ }

يدعو تبارك وتعالى أهل الكتاب -بسبب ما من عليهم
من كتابه- أن يؤمنوا برسوله محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، ويشكروا الله تعالى الذي أرسله إليهم على
حين { فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ } وشدة حاجة إليه.

وهذا مما يدعو
إلى الإيمان به، وأنه يبين لهم جميع المطالب الإلهية والأحكام الشرعية.

وقد
قطع الله بذلك حجتهم، لئلا يقولوا: { مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا
نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } يبشر بالثواب العاجل والآجل،
وبالأعمال الموجبة لذلك، وصفة العاملين بها. وينذر بالعقاب العاجل والآجل،
وبالأعمال الموجبة لذلك، وصفة العاملين بها.

{ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } انقادت الأشياء طوعا وإذعانا لقدرته، فلا يستعصي
عليه شيء منها، ومن قدرته أن أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأنه يثيب من أطاعهم
ويعاقب من عصاهم.


{ 20 - 26 } { وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ
فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ
أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ }


إلى آخر القصة

لما امتن الله على موسى
وقومه بنجاتهم من فرعون وقومه وأسرهم واستبعادهم، ذهبوا قاصدين لأوطانهم
ومساكنهم، وهي بيت المقدس وما حواليه، وقاربوا وصول بيت المقدس، وكان الله
قد فرض عليهم جهاد عدوهم ليخرجوه من ديارهم. فوعظهم موسى عليه السلام؛
وذكرهم ليقدموا على الجهاد فقال لهم: { اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ } بقلوبكم وألسنتكم. فإن ذكرها داع إلى محبته تعالى ومنشط على
العبادة، { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ } يدعونكم إلى الهدى، ويحذرونكم
من الردى، ويحثونكم على سعادتكم الأبدية، ويعلمونكم ما لم تكونوا تعلمون {
وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا } تملكون أمركم، بحيث إنه زال عنكم استعباد عدوكم
لكم، فكنتم تملكون أمركم، وتتمكنون من إقامة دينكم.

{ وَآتَاكُمْ }
من النعم الدينية والدنيوية { مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ
} فإنهم في ذلك الزمان خيرة الخلق، وأكرمهم على الله تعالى. وقد أنعم
عليهم بنعم ما كانت لغيرهم.

فذكرهم بالنعم الدينية والدنيوية،
الداعي ذلك لإيمانهم وثباته، وثباتهم على الجهاد، وإقدامهم عليه، ولهذا
قال: { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ }

أي:
المطهرة { الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فأخبرهم خبرا تطمئن به أنفسهم،
إن كانوا مؤمنين مصدقين بخبر الله، وأنه قد كتب الله لهم دخولها، وانتصارهم
على عدوهم. { وَلَا تَرْتَدُّوا } أي: ترجعوا { عَلَى أَدْبَارِكُمْ
فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } قد خسرتم دنياكم بما فاتكم من النصر على
الأعداء وفتح بلادكم. وآخرتكم بما فاتكم من الثواب، وما استحققتم
-بمعصيتكم- من العقاب، فقالوا قولا يدل على ضعف قلوبهم، وخور نفوسهم، وعدم
اهتمامهم بأمر الله ورسوله.

{ يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا
جَبَّارِينَ } شديدي القوة والشجاعة، أي: فهذا من الموانع لنا من دخولها.

{
وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا
مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } وهذا من الجبن وقلة اليقين، وإلا فلو كان
معهم رشدهم، لعلموا أنهم كلهم من بني آدم، وأن القوي من أعانه الله بقوة من
عنده، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولعلموا أنهم سينصرون عليهم، إذ
وعدهم الله بذلك، وعدا خاصا.

{ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ
يَخَافُونَ } الله تعالى، مشجعين لقومهم، منهضين لهم على قتال عدوهم
واحتلال بلادهم. { أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا } بالتوفيق، وكلمة الحق في
هذا الموطن المحتاج إلى مثل كلامهم، وأنعم عليهم بالصبر واليقين.

{
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ
غَالِبُونَ } أي: ليس بينكم وبين نصركم عليهم إلا أن تجزموا عليهم، وتدخلوا
عليهم الباب، فإذا دخلتموه عليهم فإنهم سينهزمون، ثم أمَرَاهم بعدة هي
أقوى العدد، فقالا: { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم
مُّؤْمِنِينَ } فإن في التوكل على الله -وخصوصا في هذا الموطن- تيسيرا
للأمر، ونصرا على الأعداء. ودل هذا على وجوب التوكل، وعلى أنه بحسب إيمان
العبد يكون توكله، فلم ينجع فيهم هذا الكلام، ولا نفع فيهم الملام، فقالوا
قول الأذلين: { يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا
فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }

فما
أشنع هذا الكلام منهم، ومواجهتهم لنبيهم في هذا المقام الحرج الضيق، الذي
قد دعت الحاجة والضرورة إلى نصرة نبيهم، وإعزاز أنفسهم.

وبهذا
وأمثاله يظهر التفاوت بين سائر الأمم، وأمة محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 حيث قال الصحابة لرسول الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 -حين شاورهم في القتال يوم "بدر" مع أنه لم
يحتم عليهم: يا رسول الله، لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ولو بلغت بنا
برك الغماد ما تخلف عنك أحد. ولا نقول كما قال قوم موسى لموسى: { اذْهَبْ
أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت
وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن
يسارك.

فلما رأى موسى عليه السلام عتوهم عليه { قَالَ رَبِّ إِنِّي
لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي } أي: فلا يدان لنا بقتالهم، ولست
بجبار على هؤلاء. { فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }
أي: احكم بيننا وبينهم، بأن تنزل فيهم من العقوبة ما اقتضته حكمتك، ودل
ذلك على أن قولهم وفعلهم من الكبائر العظيمة الموجبة للفسق.

{ قَالَ
} الله مجيبا لدعوة موسى: { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ
أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } أي: إن من عقوبتهم أن نحرم
عليهم دخول هذه القرية التي كتبها الله لهم، مدة أربعين سنة، وتلك المدة
أيضا يتيهون في الأرض، لا يهتدون إلى طريق ولا يبقون مطمئنين، وهذه عقوبة
دنيوية، لعل الله تعالى كفر بها عنهم، ودفع عنهم عقوبة أعظم منها، وفي هذا
دليل على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة، أو دفع نقمة قد
انعقد سبب وجودها أو تأخرها إلى وقت آخر.

ولعل الحكمة في هذه المدة
أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها
ولا ثبات، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه
ارتقاؤها وعلوها، ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء،
وعدم الاستعباد، والذل المانع من السعادة.

ولما علم الله تعالى أن
عبده موسى في غاية الرحمة على الخلق، خصوصا قومه، وأنه ربما رق لهم،
واحتملته الشفقة على الحزن عليهم في هذه العقوبة، أو الدعاء لهم بزوالها،
مع أن الله قد حتمها، قال: { فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }
أي: لا تأسف عليهم ولا تحزن، فإنهم قد فسقوا، وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل
بهم لا ظلما منا.


{ 27 - 31 } { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ }

إلى آخر القصة أي: قص على الناس وأخبرهم
بالقضية التي جرت على ابني آدم بالحق، تلاوة يعتبر بها المعتبرون، صدقا لا
كذبا، وجدا لا لعبا، والظاهر أن ابني آدم هما ابناه لصلبه، كما يدل عليه
ظاهر الآية والسياق، وهو قول جمهور المفسرين.

أي: اتل عليهم نبأهما
في حال تقريبهما للقربان، الذي أداهما إلى الحال المذكورة.

{ إِذْ
قَرَّبَا قُرْبَانًا } أي: أخرج كل منهما شيئا من ماله لقصد التقرب إلى
الله، { فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ }
بأن علم ذلك بخبر من السماء، أو بالعادة السابقة في الأمم، أن علامة تقبل
الله لقربان، أن تنزل نار من السماء فتحرقه.

{ قَالَ } الابن، الذي
لم يتقبل منه للآخر حسدا وبغيا { لَأَقْتُلَنَّكَ } فقال له الآخر -مترفقا
له في ذلك- { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } فأي ذنب
لي وجناية توجب لك أن تقتلني؟ إلا أني اتقيت الله تعالى، الذي تقواه واجبة
عليّ وعليك، وعلى كل أحد، وأصح الأقوال في تفسير المتقين هنا، أي: المتقين
لله في ذلك العمل، بأن يكون عملهم خالصا لوجه الله، متبعين فيه لسنة رسول
الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999.

ثم قال له مخبرا أنه لا يريد أن
يتعرض لقتله، لا ابتداء ولا مدافعة فقال:

{ لَئِن بَسَطْتَ إِلَيَّ
يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ }
وليس ذلك جبنا مني ولا عجزا. وإنما ذلك لأني { أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ } والخائف لله لا يقدم على الذنوب، خصوصا الذنوب الكبار. وفي
هذا تخويف لمن يريد القتل، وأنه ينبغي لك أن تتقي الله وتخافه.

{
إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ } أي: ترجع { بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } أي: إنه
إذا دار الأمر بين أن أكون قاتلا أو تقتلني فإني أوثر أن تقتلني، فتبوء
بالوزرين { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِينَ } دل هذا على أن القتل من كبائر الذنوب، وأنه موجب لدخول
النار.

فلم يرتدع ذلك الجاني ولم ينزجر، ولم يزل يعزم نفسه ويجزمها،
حتى طوعت له قتل أخيه الذي يقتضي الشرع والطبع احترامه.

{
فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } دنياهم وآخرتهم، وأصبح قد سن
هذه السنة لكل قاتل.

"ومن سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها
إلى يوم القيامة". ولهذا ورد في الحديث الصحيح أنه "ما من نفس تقتل إلا
كان على ابن آدم الأول شطر من دمها، لأنه أول من سن القتل".

فلما
قتل أخاه لم يدر كيف يصنع به؛ لأنه أول ميت مات من بني آدم { فَبَعَثَ
اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ } أي: يثيرها ليدفن غرابا آخر
ميتا. { لِيُرِيَهُ } بذلك { كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ } أي: بدنه،
لأن بدن الميت يكون عورة { فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } وهكذا عاقبة
المعاصي الندامة والخسارة.

{ 32 } { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ
أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ
فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }

يقول تعالى { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ }
الذي ذكرناه في قصة ابني آدم، وقتل أحدهما أخاه، وسنه القتل لمن بعده، وأن
القتل عاقبته وخيمة وخسارة في الدنيا والآخرة. { كَتَبْنَا عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ } أهل الكتب السماوية { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ
نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ } أي: بغير حق { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعًا } ؛ لأنه ليس معه داع يدعوه إلى التبيين، وأنه لا يقدم
على القتل إلا بحق، فلما تجرأ على قتل النفس التي لم تستحق القتل علم أنه
لا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره، وإنما ذلك بحسب ما تدعوه إليه نفسه
الأمارة بالسوء. فتجرؤه على قتله، كأنه قتل الناس جميعا.

وكذلك من
أحيا نفسا أي: استبقى أحدا، فلم يقتله مع دعاء نفسه له إلى قتله، فمنعه خوف
الله تعالى من قتله، فهذا كأنه أحيا الناس جميعا، لأن ما معه من الخوف
يمنعه من قتل من لا يستحق القتل.

ودلت الآية على أن القتل يجوز بأحد
أمرين:

إما أن يقتل نفسا بغير حق متعمدا في ذلك، فإنه يحل قتله، إن
كان مكلفا مكافئا، ليس بوالد للمقتول.

وإما أن يكون مفسدا في
الأرض، بإفساده لأديان الناس أو أبدانهم أو أموالهم، كالكفار المرتدين
والمحاربين، والدعاة إلى البدع الذين لا ينكف شرهم إلا بالقتل.

وكذلك
قطاع الطريق ونحوهم، ممن يصول على الناس لقتلهم، أو أخذ أموالهم.

{
وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ } التي لا يبقى معها حجة
لأحد. { ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ } أي: من الناس { بَعْدِ ذَلِكَ }
البيان القاطع للحجة، الموجب للاستقامة في الأرض { لَمُسْرِفُونَ } في
العمل بالمعاصي، ومخالفة الرسل الذين جاءوا بالبينات والحجج.


{
33 ، 34 } { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا
مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

المحاربون
لله ولرسوله، هم الذين بارزوه بالعداوة، وأفسدوا في الأرض بالكفر والقتل،
وأخذ الأموال، وإخافة السبل.

والمشهور أن هذه الآية الكريمة في
أحكام قطاع الطريق، الذين يعرضون للناس في القرى والبوادي، فيغصبونهم
أموالهم، ويقتلونهم، ويخيفونهم، فيمتنع الناس من سلوك الطريق التي هم بها،
فتنقطع بذلك.

فأخبر الله أن جزاءهم ونكالهم -عند إقامة الحد عليهم-
أن يفعل بهم واحد من هذه الأمور.

واختلف المفسرون: هل ذلك على
التخيير، وأن كل قاطع طريق يفعل به الإمام أو نائبه ما رآه المصلحة من هذه
الأمور المذكورة؟ وهذا ظاهر اللفظ، أو أن عقوبتهم تكون بحسب جرائمهم، فكل
جريمة لها قسط يقابلها، كما تدل عليه الآية بحكمتها وموافقتها لحكمة الله
تعالى. وأنهم إن قتلوا وأخذوا مالًا تحتم قتلُهم وصلبهم، حتى يشتهروا
ويختزوا ويرتدع غيرهم.

وإن قتلوا ولم يأخذوا مالا تحتم قتلهم فقط.
وإن أخذوا مالا ولم يقتلوا تحتم أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، اليد
اليمنى والرجل اليسرى. وإن أخافوا الناس ولم يقتلوا، ولا أخذوا مالا، نفوا
من الأرض، فلا يتركون يأوون في بلد حتى تظهر توبتهم. وهذا قول ابن عباس رضي
الله عنه وكثير من الأئمة، على اختلاف في بعض التفاصيل.

{ ذَلِكَ }
النكال { لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا } أي: فضيحة وعار { وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فدل هذا أن قطع الطريق من أعظم الذنوب، موجب
لفضيحة الدنيا وعذاب الآخرة، وأن فاعله محارب لله ولرسوله.

وإذا كان
هذا شأن عظم هذه الجريمة، علم أن تطهير الأرض من المفسدين، وتأمين السبل
والطرق، عن القتل، وأخذ الأموال، وإخافة الناس، من أعظم الحسنات وأجل
الطاعات، وأنه إصلاح في الأرض، كما أن ضده إفساد في الأرض.

{ إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } أي: من هؤلاء
المحاربين، { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي: فيسقط عنه
ما كان لله، من تحتم القتل والصلب والقطع والنفي، ومن حق الآدمي أيضا، إن
كان المحارب كافرا ثم أسلم، فإن كان المحارب مسلما فإن حق الآدمي، لا يسقط
عنه من القتل وأخذ المال. ودل مفهوم الآية على أن توبة المحارب -بعد القدرة
عليه- أنها لا تسقط عنه شيئا، والحكمة في ذلك ظاهرة.

وإذا كانت
التوبة قبل القدرة عليه، تمنع من إقامة الحد في الحرابة، فغيرها من الحدود
-إذا تاب من فعلها، قبل القدرة عليه- من باب أولى.

{ 35 } { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ
الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

هذا
أمر من الله لعباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان من تقوى الله والحذر من
سخطه وغضبه، وذلك بأن يجتهد العبد، ويبذل غاية ما يمكنه من المقدور في
اجتناب ما يَسخطه الله، من معاصي القلب واللسان والجوارح، الظاهرة
والباطنة. ويستعين بالله على تركها، لينجو بذلك من سخط الله وعذابه. {
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } أي: القرب منه، والحظوة لديه، والحب
له، وذلك بأداء فرائضه القلبية، كالحب له وفيه، والخوف والرجاء، والإنابة
والتوكل. والبدنية: كالزكاة والحج. والمركبة من ذلك كالصلاة ونحوها، من
أنواع القراءة والذكر، ومن أنواع الإحسان إلى الخلق بالمال والعلم والجاه،
والبدن، والنصح لعباد الله، فكل هذه الأعمال تقرب إلى الله. ولا يزال العبد
يتقرب بها إلى الله حتى يحبه الله، فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به،
وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي [بها] ويستجيب
الله له الدعاء.

ثم خص تبارك وتعالى من العبادات المقربة إليه،
الجهاد في سبيله، وهو: بذل الجهد في قتال الكافرين بالمال، والنفس، والرأي،
واللسان، والسعي في نصر دين الله بكل ما يقدر عليه العبد، لأن هذا النوع
من أجل الطاعات وأفضل القربات.

ولأن من قام به، فهو على القيام
بغيره أحرى وأولى { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إذا اتقيتم الله بترك
المعاصي، وابتغيتم الوسيلة إلى الله، بفعل الطاعات، وجاهدتم في سبيله
ابتغاء مرضاته.

والفلاح هو الفوز والظفر بكل مطلوب مرغوب، والنجاة
من كل مرهوب، فحقيقته السعادة الأبدية والنعيم المقيم.


{ 36 ،
37 } { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ }

يخبر تعالى عن شناعة حال الكافرين
بالله يوم القيامة ومآلهم الفظيع، وأنهم لو افتدوا من عذاب الله بملء الأرض
ذهبا ومثله معه ما تقبل منهم، ولا أفاد، لأن محل الافتداء قد فات، ولم يبق
إلا العذاب الأليم، الموجع الدائم الذي لا يخرجون منه أبدا، بل هم ماكثون
فيه سرمدا.

{ 38 - 40 } { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ
اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

السارق:
هو من أخذ مال غيره المحترم خفية، بغير رضاه. وهو من كبائر الذنوب الموجبة
لترتب العقوبة الشنيعة، وهو قطع اليد اليمنى، كما هو في قراءة بعض
الصحابة.

وحد اليد عند الإطلاق من الكوع، فإذا سرق قطعت يده من
الكوع، وحسمت في زيت لتنسد العروق فيقف الدم، ولكن السنة قيدت عموم هذه
الآية من عدة أوجه:

منها: الحرز، فإنه لابد أن تكون السرقة من حرز،
وحرز كل مال: ما يحفظ به عادة. فلو سرق من غير حرز فلا قطع عليه.

ومنها:
أنه لابد أن يكون المسروق نصابا، وهو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما
يساوي أحدهما، فلو سرق دون ذلك فلا قطع عليه.

ولعل هذا يؤخذ من لفظ
السرقة ومعناها، فإن لفظ "السرقة" أخذ الشيء على وجه لا يمكن الاحتراز منه،
وذلك أن يكون المال محرزا، فلو كان غير محرز لم يكن ذلك سرقة شرعية.

ومن
الحكمة أيضا أن لا تقطع اليد في الشيء النزر التافه، فلما كان لابد من
التقدير، كان التقدير الشرعي مخصصا للكتاب.

والحكمة في قطع اليد في
السرقة، أن ذلك حفظ للأموال، واحتياط لها، وليقطع العضو الذي صدرت منه
الجناية، فإن عاد السارق قطعت رجله اليسرى، فإن عاد، فقيل: تقطع يده
اليسرى، ثم رجله اليمنى، وقيل: يحبس حتى يموت. وقوله: { جَزَاءً بِمَا
كَسَبَا } أي: ذلك القطع جزاء للسارق بما سرقه من أموال الناس.

{
نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ } أي: تنكيلا وترهيبا للسارق ولغيره، ليرتدع السراق
-إذا علموا- أنهم سيقطعون إذا سرقوا.

{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
أي: عَزَّ وحكم فقطع السارق.

{ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ
وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ } فيغفر لمن تاب فترك الذنوب، وأصلح الأعمال والعيوب.

وذلك
أن لله ملك السماوات والأرض، يتصرف فيهما بما شاء من التصاريف القدرية
والشرعية، والمغفرة والعقوبة، بحسب ما اقتضته حكمته ورحمته الواسعة
ومغفرته.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 9:00 pm

{ 41 - 44 } { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا
يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا
آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ
أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ
يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ *
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ
يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ
وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ
أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا
اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا
تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا
قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ } كان الرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 من شدة حرصه على الخلق يشتد حزنه لمن يظهر
الإيمان، ثم يرجع إلى الكفر، فأرشده الله تعالى، إلى أنه لا يأسى ولا يحزن
على أمثال هؤلاء. فإن هؤلاء لا في العير ولا في النفير. إن حضروا لم
ينفعوا، وإن غابوا لم يفقدوا، ولهذا قال مبينا للسبب الموجب لعدم الحزن
عليهم - فقال: { مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ
تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } فإن الذين يؤسى ويحزن عليهم، من كان معدودا من
المؤمنين، وهم المؤمنون ظاهرا وباطنا, وحاشا لله أن يرجع هؤلاء عن دينهم
ويرتدوا، فإن الإيمان -إذا خالطت بشاشته القلوب- لم يعدل به صاحبه غيره،
ولم يبغ به بدلا. { وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أي: اليهود { سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي: مستجيبون
ومقلدون لرؤسائهم، المبني أمرهم على الكذب والضلال والغي. وهؤلاء الرؤساء
المتبعون { لَمْ يَأْتُوكَ } بل أعرضوا عنك، وفرحوا بما عندهم من الباطل
وهو تحريف الكلم عن مواضعه، أي: جلب معان للألفاظ ما أرادها الله ولا
قصدها، لإضلال الخلق ولدفع الحق، فهؤلاء المنقادون للدعاة إلى الضلال،
المتبعين للمحال، الذين يأتون بكل كذب، لا عقول لهم ولا همم. فلا تبال أيضا
إذا لم يتبعوك، لأنهم في غاية النقص، والناقص لا يؤبه له ولا يبالى به. {
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ
فَاحْذَرُوا } أي: هذا قولهم عند محاكمتهم إليك، لا قصد لهم إلا اتباع
الهوى. يقول بعضهم لبعض: إن حكم لكم محمد بهذا الحكم الذي يوافق أهواءكم،
فاقبلوا حكمه، وإن لم يحكم لكم به، فاحذروا أن تتابعوه على ذلك، وهذا فتنة
واتباع ما تهوى الأنفس. { وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ
لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } كقوله تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } { أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } أي: فلذلك صدر
منهم ما صدر. فدل ذلك على أن من كان مقصوده بالتحاكم إلى الحكم الشرعي
اتباع هواه، وأنه إن حكم له رضي، وإن لم يحكم له سخط، فإن ذلك من عدم طهارة
قلبه، كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع ورضي به، وافق هواه أو خالفه، فإنه
من طهارة القلب، ودل على أن طهارة القلب، سبب لكل خير، وهو أكبر داع إلى
كل قول رشيد وعمل سديد. { لَهُم فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } أي: فضيحة وعار {
وَلَهُم فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } هو: النار وسخط الجبار. {
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } والسمع هاهنا سمع استجابة، أي: من قلة دينهم
وعقلهم، أن استجابوا لمن دعاهم إلى القول الكذب. { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ }
أي: المال الحرام، بما يأخذونه على سفلتهم وعوامهم من المعلومات والرواتب،
التي بغير الحق، فجمعوا بين اتباع الكذب وأكل الحرام. { فَإِنْ جَاءُوكَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } فأنت مخير في ذلك. وليست
هذه منسوخة، فإنه-عند تحاكم هذا الصنف إليه- يخير بين أن يحكم بينهم، أو
يعرض عن الحكم بينهم، بسبب أنه لا قصد لهم في الحكم الشرعي إلا أن يكون
موافقا لأهوائهم، وعلى هذا فكل مستفت ومتحاكم إلى عالم، يعلم من حاله أنه
إن حكم عليه لم يرض، لم يجب الحكم ولا الإفتاء لهم، فإن حكم بينهم وجب أن
يحكم بالقسط، ولهذا قال: { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ
شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } حتى ولو كانوا ظلمة وأعداء، فلا يمنعك ذلك من
العدل في الحكم بينهم. وفي هذا بيان فضيلة العدل والقسط في الحكم بين
الناس، وأن الله تعالى يحبه. ثم قال متعجبا لهم { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ
وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن
بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } فإنهم -لو كانوا مؤمنين
عاملين بما يقتضيه الإيمان ويوجبه- لم يصدفوا عن حكم الله الذي في التوراة
التي بين أيديهم، لعلهم أن يجدوا عندك ما يوافق أهواءهم. وحين حكمت بينهم
بحكم الله الموافق لما عندهم أيضا، لم يرضوا بذلك بل أعرضوا عنه، فلم
يرتضوه أيضا. قال تعالى: { وَمَا أُولَئِكَ } الذين هذا صنيعهم {
بِالْمُؤْمِنِينَ } أي: ليس هذا دأب المؤمنين، وليسوا حريين بالإيمان.
لأنهم جعلوا آلهتهم أهواءهم، وجعلوا أحكام الإيمان تابعة لأهوائهم. {
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ } على موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام.
{ فِيهَا هُدًى } يهدي إلى الإيمان والحق، ويعصم من الضلالة { وَنُورٌ }
يستضاء به في ظلم الجهل والحيرة والشكوك، والشبهات والشهوات، كما قال
تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً
وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ } { يَحْكُمُ بِهَا } بيـن الذيـن هـادوا، أي:
اليـهود فـي القضايـا والفتـاوى { النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا }
لله وانقادوا لأوامره، الذين إسلامهم أعظم من إسلام غيرهم، وهم صفوة الله
من العباد. فإذا كان هؤلاء النبيون الكرام والسادة للأنام قد اقتدوا بها
وائتموا ومشوا خلفها، فما الذي منع هؤلاء الأراذل من اليهود من الاقتداء
بها؟ وما الذي أوجب لهم أن ينبذوا أشرف ما فيها من الإيمان بمحمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، الذي لا يقبل عمل ظاهر وباطن، إلا بتلك
العقيدة؟ هل لهم إمام في ذلك؟ نعم لهم أئمة دأبهم التحريف، وإقامة رياستهم
ومناصبهم بين الناس، والتأكل بكتمان الحق، وإظهار الباطل، أولئك أئمة
الضلال الذين يدعون إلى النار. وقوله: { وَالرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبَارُ } أي: وكذلك يحكم بالتوراة للذين هادواأئمة الدين من
الربانيين، أي: العلماء العاملين المعلمين الذين يربون الناس بأحسن تربية،
ويسلكون معهم مسلك الأنبياء المشفقين. والأحبار أي: العلماء الكبار الذين
يقتدى بأقوالهم، وترمق آثارهم، ولهم لسان الصدق بين أممهم. وذلك الحكم
الصادر منهم الموافق للحق { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ
وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } أي: بسبب أن الله استحفظهم على كتابه،
وجعلهم أمناء عليه، وهو أمانة عندهم، أوجب عليهم حفظه من الزيادة والنقصان
والكتمان، وتعليمه لمن لا يعلمه. وهم شهداء عليه، بحيث أنهم المرجوع إليهم
فيه، وفيما اشتبه على الناس منه، فالله تعالى قد حمل أهل العلم، ما لم
يحمله الجهال، فيجب عليهم القيام بأعباء ما حملوا. وأن لا يقتدوا بالجهال،
بالإخلاد إلى البطالة والكسل، وأن لا يقتصروا على مجرد العبادات القاصرة،
من أنواع الذكر، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، ونحو ذلك من الأمور،
التي إذا قام بها غير أهل العلم سلموا ونجوا. وأما أهل العلم فكما أنهم
مطالبون بالقيام بما عليهم أنفسهم، فإنهم مطالبون أن يعلموا الناس وينبهوهم
على ما يحتاجون إليه من أمور دينهم، خصوصا الأمور الأصولية والتي يكثر
وقوعها وأن لا يخشوا الناس بل يخشون ربهم، ولهذا قال: { فَلَا تَخْشَوُا
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا }
فتكتمون الحق، وتظهرون الباطل، لأجل متاع الدنيا القليل، وهذه الآفات إذا
سلم منها العالم فهو من توفيقه وسعادته، بأن يكون همه الاجتهاد في العلم
والتعليم، ويعلم أن الله قد استحفظه ما أودعه من العلم واستشهده عليه، وأن
يكون خائفا من ربه، ولا يمنعه خوف الناس وخشيتهم من القيام بما هو لازم له،
وأن لا يؤثر الدنيا على الدين. كما أن علامة شقاوة العالم أن يكون مخلدا
للبطالة، غير قائم بما أمر به، ولا مبال بما استحفظ عليه، قد أهمله وأضاعه،
قد باع الدين بالدنيا، قد ارتشى في أحكامه، وأخذ المال على فتاويه، ولم
يعلم عباد الله إلا بأجرة وجعالة. فهذا قد من الله عليه بمنة عظيمة، كفرها
ودفع حظا جسيما، محروما منه غيره، فنسألك اللهم علما نافعا، وعملا متقبلا،
وأن ترزقنا العفو والعافية من كل بلاء يا كريم. { وَمَن لَّمْ يَحْكُم
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } من الحق المبين، وحكم بالباطل الذي يعلمه، لغرض
من أغراضه الفاسدة { فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فالحكم بغير ما أنزل
الله من أعمال أهل الكفر، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة، وذلك إذا اعتقد
حله وجوازه. وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، ومن أعمال الكفر قد استحق من
فعله العذاب الشديد. { 45 } { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ
وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } هذه الأحكام من جملة
الأحكام التي في التوراة، يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا
والربانيون والأحبار. إن الله أوجب عليهم فيها أن النفس -إذا قتلت- تقتل
بالنفس بشرط العمد والمكافأة، والعين تقلع بالعين، والأذن تؤخذ بالأذن،
والسن ينزع بالسن. ومثل هذه ما أشبهها من الأطراف التي يمكن الاقتصاص منها
بدون حيف. { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } والاقتصاص: أن يفعل به كما فعل. فمن
جرح غيره عمدا اقتص من الجارح جرحا مثل جرحه للمجروح، حدا، وموضعا، وطولا،
وعرضا وعمقا، وليعلم أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه. {
فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ } أي: بالقصاص في النفس، وما دونها من الأطراف
والجروح، بأن عفا عمن جنى، وثبت له الحق قبله. { فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ }
أي: كفارة للجاني، لأن الآدمي عفا عن حقه. والله تعالى أحق وأولى بالعفو
عن حقه، وكفارة أيضا عن العافي، فإنه كما عفا عمن جنى عليه، أو على من
يتعلق به، فإن الله يعفو عن زلاته وجناياته. { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } قال ابن عباس: كفر دون
كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، فهو ظلم أكبر، عند استحلاله، وعظيمة
كبيرة عند فعله غير مستحل له. { 46 ، 47 } { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ
بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ } أي: وأتبعنا هؤلاء الأنبياءَ والمرسلين، الذين يحكمون
بالتوراة، بعبدنا ورسولنا عيسى ابن مريم، روحِ الله وكلمتِه التي ألقاها
إلى مريم. بعثه الله مصدقا لما بين يديه من التوراة، فهو شاهد لموسى ولما
جاء به من التوراة بالحق والصدق، ومؤيد لدعوته، وحاكم بشريعته، وموافق له
في أكثر الأمور الشرعية. وقد يكون عيسى عليه السلام أخف في بعض الأحكام،
كما قال تعالى عنه أنه قال لبني إسرائيل: { وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ
الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ْ} { وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ ْ} الكتاب
العظيم المتمم للتوراة. { فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ْ} يهدي إلى الصراط
المستقيم، ويبين الحق من الباطل. { وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ التَّوْرَاةِ ْ} بتثبيتها والشهادة لها والموافقة. { وَهُدًى
وَمَوْعِظَة لِّلْمُتَّقِينَ ْ} فإنهم الذين ينتفعون بالهدى، ويتعظون
بالمواعظ، ويرتدعون عما لا يليق. { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا
أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ْ} أي: يلزمهم التقيد بكتابهم، ولا يجوز لهم العدول
عنه. { وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ ْ} { 48 - 50 } { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ
وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ
عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ
أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ
كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ
يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
يقول تعالى: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ْ} الذي هو القرآن العظيم،
أفضل الكتب وأجلها. { بِالْحَقِّ ْ} أي: إنزالا بالحق، ومشتملا على الحق
في أخباره وأوامره ونواهيه. { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
الْكِتَابِ ْ} لأنه شهد لها ووافقها، وطابقت أخباره أخبارها، وشرائعه
الكبار شرائعها، وأخبرت به، فصار وجوده مصداقا لخبرها. { وَمُهَيْمِنًا
عَلَيْهِ ْ} أي: مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة، وزيادة في
المطالب الإلهية والأخلاق النفسية. فهو الكتاب الذي تتبع كل حق جاءت به
الكتب فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه. وهو الكتاب الذي
فيه نبأ السابقين واللاحقين، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة، والأحكام
الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له
بالرد فهو مردود، قد دخله التحريف والتبديل، وإلا فلو كان من عند الله، لم
يخالفه. { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ْ} من الحكم الشرعي
الذي أنزله الله عليك. { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ
مِنَ الْحَقِّ ْ} أي: لا تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق بدلا
عما جاءك من الحق فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. { لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنكُمْ ْ} أيها الأمم جعلنا { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ْ} أي: سبيلا وسنة،
وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة
والأحوال، وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها، وأما الأصول الكبار التي هي
مصلحة وحكمة في كل زمان، فإنها لا تختلف، فتشرع في جميع الشرائع. { وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ْ} تبعا لشريعة واحدة، لا
يختلف متأخرها و[لا] متقدمها. { وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
ْ} فيختبركم وينظر كيف تعملون، ويبتلي كل أمة بحسب ما تقتضيه حكمته، ويؤتي
كل أحد ما يليق به، وليحصل التنافس بين الأمم فكل أمة تحرص على سبق غيرها،
ولهذا قال: { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ْ} أي: بادروا إليها وأكملوها،
فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب، من حقوق الله وحقوق عباده، لا يصير
فاعلها سابقا لغيره مستوليا على الأمر، إلا بأمرين: المبادرة إليها،
وانتهاز الفرصة حين يجيء وقتها ويعرض عارضها، والاجتهاد في أدائها كاملة
على الوجه المأمور به. ويستدل بهذه الآية، على المبادرة لأداء الصلاة
وغيرها في أول وقتها، وعلى أنه ينبغي أن لا يقتصر العبد على مجرد ما يجزئ
في الصلاة وغيرها من العبادات من الأمور الواجبة، بل ينبغي أن يأتي
بالمستحبات، التي يقدر عليها لتتم وتكمل، ويحصل بها السبق. { إِلَى اللَّهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ْ} الأمم السابقة واللاحقة، كلهم سيجمعهم الله ليوم
لا ريب فيه. { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ْ} من
الشرائع والأعمال، فيثيب أهل الحق والعمل الصالح، ويعاقب أهل الباطل والعمل
السيئ. { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ْ} هذه الآية هي
التي قيل: إنها ناسخة لقوله: { فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ ْ} والصحيح: أنها ليست بناسخة، وأن تلك الآية تدل على أنه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 مخير بين الحكم بينهم وبين عدمه، وذلك لعدم
قصدهم بالتحاكم للحق. وهذه الآية تدل على أنه إذا حكم، فإنه يحكم بينهم
بما أنزل الله من الكتاب والسنة، وهو القسط الذي تقدم أن الله قال: {
وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ْ} ودل هذا على بيان
القسط، وأن مادته هو ما شرعه الله من الأحكام، فإنها المشتملة على غاية
العدل والقسط، وما خالف ذلك فهو جور وظلم. { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
ْ} كرر النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها. ولأن ذلك في مقام الحكم
والفتوى، وهو أوسع، وهذا في مقام الحكم وحده، وكلاهما يلزم فيه أن لا يتبع
أهواءهم المخالفة للحق، ولهذا قال: { وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن
بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ْ} أي: إياك والاغترار بهم، وأن
يفتنوك فيصدوك عن بعض ما أنزل [الله] إليك، فصار اتباع أهوائهم سببا موصلا
إلى ترك الحق الواجب، والفرض اتباعه. { فَإِن تَوَلَّوْا ْ} عن اتباعك
واتباع الحق { فَاعْلَمْ ْ} أن ذلك عقوبة عليهم وأن الله يريد { أَن
يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ْ} فإن للذنوب عقوبات عاجلة وآجلة، ومن
أعظم العقوبات أن يبتلى العبد ويزين له ترك اتباع الرسول، وذلك لفسقه. {
وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ْ} أي: طبيعتهم الفسق
والخروج عن طاعة الله واتباع رسوله. { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ
يَبْغُونَ ْ} أي: أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية، وهو كل حكم
خالف ما أنزل الله على رسوله. فلا ثم إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية.
فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي، ولهذا
أضافه الله للجاهلية، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم، والعدل والقسط،
والنور والهدى. { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ ْ} فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز -بإيقانه- ما
في حكم الله من الحسن والبهاء، وأنه يتعين -عقلا وشرعا- اتباعه. واليقين،
هو العلم التام الموجب للعمل. { 51 - 53 ْ} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ
تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ
أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ
نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ْ} يرشد تعالى عباده المؤمنين حين
بيَّن لهم أحوال اليهود والنصارى وصفاتهم غير الحسنة، أن لا يتخذوهم
أولياء. فإن بَعْضهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يتناصرون فيما بينهم ويكونون يدا
على من سواهم، فأنتم لا تتخذوهم أولياء، فإنهم الأعداء على الحقيقة ولا
يبالون بضركم، بل لا يدخرون من مجهودهم شيئا على إضلالكم، فلا يتولاهم إلا
من هو مثلهم، ولهذا قال: { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ
مِنْهُمْ ْ} لأن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم. والتولي القليل
يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئا فشيئا، حتى يكون العبد منهم. { إِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ْ} أي: الذين وصْفُهم الظلم،
وإليه يَرجعون، وعليه يعولون. فلو جئتهم بكل آية ما تبعوك، ولا انقادوا لك.
ولما نهى الله المؤمنين عن توليهم، أخبر أن ممن يدعي الإيمان طائفةً
تواليهم، فقال: { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ْ} أي: شك
ونفاق، وضعف إيمان، يقولون: إن تولينا إياهم للحاجة، فإننا { نَخْشَى أَن
تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ْ} أي: تكون الدائرة لليهود والنصارى، فإذا كانت
الدائرة لهم، فإذا لنا معهم يد يكافؤننا عنها، وهذا سوء ظن منهم بالإسلام،
قال تعالى -رادا لظنهم السيئ-: { فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ
ْ} الذي يعز الله به الإسلام على اليهود والنصارى، ويقهرهم المسلمون {
أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِندِهِ ْ} ييأس به المنافقون من ظفر الكافرين من اليهود
وغيرهم { فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا ْ} أي: أضمروا { فِي
أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ ْ} على ما كان منهم وضرهم بلا نفع حصل لهم، فحصل
الفتح الذي نصر الله به الإسلام والمسلمين، وأذل به الكفر والكافرين،
فندموا وحصل لهم من الغم ما الله به عليم. { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا
ْ} متعجبين من حال هؤلاء الذين في قلوبهم مرض: { أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ْ} أي:
حلفوا وأكدوا حلفهم، وغلظوه بأنواع التأكيدات: إنهم لمعكم في الإيمان، وما
يلزمه من النصرة والمحبة والموالاة، ظهر ما أضمروه، وتبين ما أسروه، وصار
كيدهم الذي كادوه، وظنهم الذي ظنوه بالإسلام وأهله -باطلا، فبطل كيدهم
وبطلت { أَعْمَالُهُمْ ْ} في الدنيا { فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ْ} حيث
فاتهم مقصودهم، وحضرهم الشقاء والعذاب. { 54 ْ} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا
يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ْ} يخبر تعالى أنه الغني عن العالمين، وأنه من
يرتد عن دينه فلن يضر الله شيئا، وإنما يضر نفسه. وأن لله عبادا مخلصين،
ورجالا صادقين، قد تكفل الرحمن الرحيم بهدايتهم، ووعد بالإتيان بهم، وأنهم
أكمل الخلق أوصافا، وأقواهم نفوسا، وأحسنهم أخلاقا، أجلُّ صفاتهم أن الله {
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ْ} فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها
عليه، وأفضل فضيلة، تفضل الله بها عليه، وإذا أحب الله عبدا يسر له
الأسباب، وهون عليه كل عسير، ووفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات، وأقبل
بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد. ومن لوازم محبة العبد لربه، أنه لابد أن
يتصف بمتابعة الرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 ظاهرا وباطنا، في أقواله وأعماله وجميع
أحواله، كما قال تعالى: { قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ْ} كما أن من لازم محبة الله للعبد،
أن يكثر العبد من التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، كما قال النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 في الحديث الصحيح عن الله: "وما تقرب إليَّ
عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، ولا يزال [عبدي] يتقرب إليَّ
بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر
به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن
استعاذني لأعيذنه". ومن لوازم محبة الله معرفته تعالى، والإكثار من ذكره،
فإن المحبة بدون معرفة بالله ناقصة جدا، بل غير موجودة وإن وجدت دعواها،
ومن أحب الله أكثر من ذكره، وإذا أحب الله عبدا قبل منه اليسير من العمل،
وغفر له الكثير من الزلل. ومن صفاتهم أنهم { أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ْ} فهم للمؤمنين أذلة من
محبتهم لهم، ونصحهم لهم، ولينهم ورفقهم ورأفتهم، ورحمتهم بهم وسهولة
جانبهم، وقرب الشيء الذي يطلب منهم وعلى الكافرين بالله، المعاندين لآياته،
المكذبين لرسله - أعزة، قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم، وبذلوا
جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم، قال تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُم
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ْ} وقال تعالى: { أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ْ} فالغلظة والشدة على أعداء الله مما
يقرب العبد إلى الله، ويوافق العبد ربه في سخطه عليهم، ولا تمنع الغلظة
عليهم والشدة دعوتهم إلى الدين الإسلامي بالتي هي أحسن. فتجتمع الغلظة
عليهم، واللين في دعوتهم، وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم. {
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ْ} بأموالهم وأنفسهم، بأقوالهم وأفعالهم.
{ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ْ} بل يقدمون رضا ربهم والخوف من
لومه على لوم المخلوقين، وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم، فإن ضعيف القلب
ضعيف الهمة، تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين، وتفتر قوته عند عذل العاذلين.
وفي قلوبهم تعبد لغير الله، بحسب ما فيها من مراعاة الخلق وتقديم رضاهم
ولومهم على أمر الله، فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله، حتى لا يخاف في
الله لومة لائم. ولما مدحهم تعالى بما من به عليهم منَّ الصفات الجليلة
والمناقب العالية، المستلزمة لما لم يذكر من أفعال الخير -أخبر أن هذا من
فضله عليهم وإحسانه لئلا يعجبوا بأنفسهم، وليشكروا الذي مَنَّ عليهم بذلك
ليزيدهم من فضله، وليعلم غيرُهم أن فضل الله تعالى ليس عليه حجاب، فقال: {
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ْ}
أي: واسع الفضل والإحسان، جزيل المنن، قد عمت رحمته كل شيء، ويوسع على
أوليائه من فضله، ما لا يكون لغيرهم، ولكنه عليم بمن يستحق الفضل فيعطيه،
فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلا وفرعا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 9:02 pm

{
55 ، 56 ْ} { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ْ}

لما نهى عن ولاية
الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، وذكر مآل توليهم أنه الخسران المبين،
أخبر تعالى مَن يجب ويتعين توليه، وذكر فائدة ذلك ومصلحته فقال: { إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ْ} فولاية الله تدرك بالإيمان والتقوى.
فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا، ومن كان وليا لله فهو ولي لرسوله، ومن
تولى الله ورسوله كان تمام ذلك تولي من تولاه، وهم المؤمنون الذين قاموا
بالإيمان ظاهرا وباطنا، وأخلصوا للمعبود، بإقامتهم الصلاة بشروطها وفروضها
ومكملاتها، وأحسنوا للخلق، وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم.

وقوله:
{ وَهُمْ رَاكِعُونَ ْ} أي: خاضعون لله ذليلون. فأداة الحصر في قوله {
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ْ} تدل على
أنه يجب قصر الولاية على المذكورين، والتبري من ولاية غيرهم.

ثم ذكر
فائدة هذه الولاية فقال: { وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ْ} أي:
فإنه من الحزب المضافين إلى الله إضافة عبودية وولاية، وحزبه هم الغالبون
الذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: { وَإِنَّ جُنْدَنَا
لَهُمُ الْغَالِبُونَ ْ}

وهذه بشارة عظيمة، لمن قام بأمر الله وصار
من حزبه وجنده، أن له الغلبة، وإن أديل عليه في بعض الأحيان لحكمة يريدها
الله تعالى، فآخر أمره الغلبة والانتصار، ومن أصدق من الله قيلا.


{
57 ، 58 ْ} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا
هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ْ}

ينهى
عباده المؤمنين عن اتخاذ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن سائر الكفار
أولياء يحبونهم ويتولونهم، ويبدون لهم أسرار المؤمنين، ويعاونونهم على بعض
أمورهم التي تضر الإسلام والمسلمين، وأن ما معهم من الإيمان يوجب عليهم ترك
موالاتهم، ويحثهم على معاداتهم، وكذلك التزامهم لتقوى الله التي هي امتثال
أوامره واجتناب زواجره مما تدعوهم إلى معاداتهم، وكذلك ما كان عليه
المشركون والكفار المخالفون للمسلمين، من قدحهم في دين المسلمين، واتخاذهم
إياه هزوا ولعبا، واحتقاره واستصغاره، خصوصا الصلاة التي هي أظهر شعائر
المسلمين، وأجلُّ عباداتهم، إنهم إذا نادوا إليها اتخذوها هزوا ولعبا، وذلك
لعدم عقلهم ولجهلهم العظيم، وإلا فلو كان لهم عقول لخضعوا لها، ولعلموا
أنها أكبر من جميع الفضائل التي تتصف بها النفوس.

فإذا علمتم -أيها
المؤمنون- حال الكفار وشدة معاداتهم لكم ولدينكم، فمن لم يعادهم بعد هذا دل
على أن الإسلام عنده رخيص، وأنه لا يبالي بمن قدح فيه أو قدح بالكفر
والضلال، وأنه ليس عنده من المروءة والإنسانية شيء.

فكيف تدعي لنفسك
دينا قيما، وأنه الدين الحق وما سواه باطل، وترضى بموالاة من اتخذه هزوا
ولعبا، وسخر به وبأهله، من أهل الجهل والحمق؟! وهذا فيه من التهييج على
عداوتهم ما هو معلوم لكل من له أدنى مفهوم.


{ 59 - 63 ْ} { قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ
أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ
مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ
وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ
أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * وَإِذَا
جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ
خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى
كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلَا يَنْهَاهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ْ}

أي: { قُلْ ْ} يا
أيها الرسول { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ْ} ملزما لهم، إن دين الإسلام هو
الدين الحق، وإن قدحهم فيه قدح بأمر ينبغي المدح عليه: { هَلْ تَنقِمُونَ
مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا
أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ْ} أي: هل لنا عندكم
من العيب إلا إيماننا بالله، وبكتبه السابقة واللاحقة، وبأنبيائه المتقدمين
والمتأخرين، وبأننا نجزم أن من لم يؤمن كهذا الإيمان فإنه كافر فاسق؟

فهل
تنقمون منا بهذا الذي هو أوجب الواجبات على جميع المكلفين؟"

ومع
هذا فأكثركم فاسقون، أي: خارجون عن طاعة الله، متجرئون على معاصيه، فأولى
لكم -أيها الفاسقون- السكوت، فلو كان عيبكم وأنتم سالمون من الفسق، وهيهات
ذلك - لكان الشر أخف من قدحكم فينا مع فسقكم.

ولما كان قدحهم في
المؤمنين يقتضي أنهم يعتقدون أنهم على شر، قال تعالى: { قُلْ ْ} لهم مخبرا
عن شناعة ما كانوا عليه: { هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ ْ} الذي
نقمتم فيه علينا، مع التنزل معكم. { مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ ْ} أي: أبعده عن
رحمته { وَغَضِبَ عَلَيْهِ ْ} وعاقبه في الدنيا والآخرة { وَجَعَلَ
مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ْ} وهو
الشيطان، وكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت. { أُولَئِكَ ْ} المذكورون بهذه
الخصال القبيحة { شَرٌّ مَّكَانًا ْ} من المؤمنين الذين رحمة الله قريب
منهم، ورضي الله عنهم وأثابهم في الدنيا والآخرة، لأنهم أخلصوا له الدين.

وهذا
النوع من باب استعمال أفعل التفضيل في غير بابه وكذلك قوله: { وَأَضَلُّ
عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ْ} أي: وأبعد عن قصد السبيل.

{ وَإِذَا
جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا ْ} نفاقا ومكرا { و ْ} هم { قد دَّخَلُوا ْ}
مشتملين على الكفر { وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ْ} فمدخلهم ومخرجهم بالكفر
-وهم يزعمون أنهم مؤمنون، فهل أشر من هؤلاء وأقبح حالا منهم؟"

{
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ْ} فيجازيهم بأعمالهم خيرها
وشرها.

ثم استمر تعالى يعدد معايبهم، انتصارا لقدحهم في عباده
المؤمنين، فقال: { وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ ْ} أي: من اليهود {
يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ْ} أي: يحرصون، ويبادرون
المعاصي المتعلقة في حق الخالق والعدوان على المخلوقين.

{
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ْ} الذي هو الحرام. فلم يكتف بمجرد الإخبار أنهم
يفعلون ذلك، حتى أخبر أنهم يسارعون فيه، وهذا يدل على خبثهم وشرهم، وأن
أنفسهم مجبولة على حب المعاصي والظلم. هذا وهم يدعون لأنفسهم المقامات
العالية. { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ْ} وهذا في غاية الذم لهم
والقدح فيهم.

{ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ْ} أي:
هلا ينهاهم العلماء المتصدون لنفع الناس، الذين من الله عليهم بالعلم
والحكمة -عن المعاصي التي تصدر منهم، ليزول ما عندهم من الجهل، وتقوم حجة
الله عليهم، فإن العلماء عليهم أمر الناس ونهيهم، وأن يبينوا لهم الطريق
الشرعي، ويرغبونهم في الخير ويرهبونهم من الشر { لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ ْ}

{ 64 - 66 ْ} { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ
مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُم
مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا
بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ
فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ
أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا
يَعْمَلُونَ ْ}

يخبر تعالى عن مقالة اليهود الشنيعة، وعقيدتهم
الفظيعة، فقال: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ْ} أي: عن
الخير والإحسان والبر.

{ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا
قَالُوا ْ} وهذا دعاء عليهم بجنس مقالتهم. فإن كلامهم متضمن لوصف الله
الكريم، بالبخل وعدم الإحسان. فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم.

فكانوا
أبخل الناس وأقلهم إحسانا، وأسوأهم ظنا بالله، وأبعدهم الله عن رحمته التي
وسعت كل شيء، وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي. ولهذا قال: { بَلْ
يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ْ} لا حجر عليه، ولا مانع
يمنعه مما أراد، فإنه تعالى قد بسط فضله وإحسانه الديني والدنيوي، وأمر
العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده، وأن لا يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه
بمعاصيهم.

فيداه سحاء الليل والنهار، وخيره في جميع الأوقات مدرارا،
يفرج كربا، ويزيل غما، ويغني فقيرا، ويفك أسيرا ويجبر كسيرا, ويجيب سائلا،
ويعطي فقيرا عائلا، ويجيب المضطرين، ويستجيب للسائلين. وينعم على من لم
يسأله، ويعافي من طلب العافية، ولا يحرم من خيره عاصيا، بل خيره يرتع فيه
البر والفاجر، ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال ثم يحمدهم عليها،
ويضيفها إليهم، وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل ما لا
يدركه الوصف، ولا يخطر على بال العبد، ويلطف بهم في جميع أمورهم، ويوصل
إليهم من الإحسان، ويدفع عنهم من النقم ما لا يشعرون بكثير منه، فسبحان من
كل النعم التي بالعباد فمنه، وإليه يجأرون في دفع المكاره، وتبارك من لا
يحصي أحد ثناء عليه, بل هو كما أثنى على نفسه، وتعالى من لا يخلو العباد من
كرمه طرفة عين، بل لا وجود لهم ولا بقاء إلا بجوده.

وقبَّح الله من
استغنى بجهله عن ربه، ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله، بل لو عامل الله
اليهود القائلين تلك المقالة، ونحوهم ممن حاله كحالهم ببعض قولهم، لهلكوا،
وشقوا في دنياهم، ولكنهم يقولون تلك الأقوال، وهو تعالى, يحلم عنهم، ويصفح،
ويمهلهم ولا يهملهم.

وقوله { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم
مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ْ} وهذا أعظم
العقوبات على العبد، أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله، الذي فيه
حياة القلب والروح، وسعادة الدنيا والآخرة, وفلاح الدارين، الذي هو أكبر
منة امتن الله بها على عباده, توجب عليهم المبادرة إلى قبولها, والاستسلام
لله بها, وشكرا لله عليها, أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه، وطغيان إلى
طغيانه، وكفر إلى كفره، وذلك بسبب إعراضه عنها، ورده لها، ومعاندته إياها،
ومعارضته لها بالشبه الباطلة. { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ْ} فلا يتآلفون، ولا يتناصرون,
ولا يتفقون على حالة فيها مصلحتهم، بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم,
متعادين بأفعالهم, إلى يوم القيامة { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا
لِلْحَرْبِ ْ} ليكيدوا بها الإسلام وأهله، وأبدوا وأعادوا، وأجلبوا بخيلهم
ورجلهم { أَطْفَأَهَا اللَّهُ ْ} بخذلانهم وتفرق جنودهم, وانتصار المسلمين
عليهم.

{ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ْ} أي: يجتهدون
ويجدون، ولكن بالفساد في الأرض، بعمل المعاصي، والدعوة إلى دينهم الباطل،
والتعويق عن الدخول في الإسلام. { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ْ}
بل يبغضهم أشد البغض، وسيجازيهم على ذلك.

[ثم قال تعالى]: { وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ْ} وهذا من كرمه
وجوده، حيث ذكر قبائح أهل الكتاب ومعايبهم وأقوالهم الباطلة، دعاهم إلى
التوبة، وأنهم لو آمنوا بالله وملائكته، وجميع كتبه، وجميع رسله، واتقوا
المعاصي، لكفر عنهم سيئاتهم ولو كانت ما كانت، ولأدخلهم جنات النعيم التي
فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا
التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رََّبِّهِمْ ْ}
أي: قاموا بأوامرهما ونواهيهما، كما ندبهم الله وحثهم.

ومن إقامتهما
الإيمان بما دعيا إليه، من الإيمان بمحمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 وبالقرآن، فلو قاموا بهذه النعمة العظيمة
التي أنزلها ربهم إليهم، أي: لأجلهم وللاعتناء بهم { لَأَكَلُوا مِن
فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ْ} أي: لأدر الله عليهم الرزق،
ولأمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض كما قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ
أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ
مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ْ}

{ مِنْهُمْ ْ} أي: من أهل الكتاب {
أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ْ} أي: عاملة بالتوراة والإنجيل، عملا غير قوي ولا
نشيط، { وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ْ} أي: والمسيء منهم
الكثير. وأما السابقون منهم فقليل ما هم.


{ 67 ْ} { يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ْ}

هذا
أمر من الله لرسوله محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 بأعظم الأوامر وأجلها، وهو التبليغ لما
أنزل الله إليه، ويدخل في هذا كل أمر تلقته الأمة عنه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 من العقائد والأعمال والأقوال، والأحكام
الشرعية والمطالب الإلهية. فبلغ تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999 أكمل تبليغ، ودعا وأنذر، وبشر ويسر، وعلم
الجهال الأميين حتى صاروا من العلماء الربانيين، وبلغ بقوله وفعله وكتبه
ورسله. فلم يبق خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذرها عنه، وشهد له
بالتبليغ أفاضل الأمة من الصحابة، فمن بعدهم من أئمة الدين ورجال المسلمين.

{
وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ْ} أي: لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك { فَمَا
بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ْ} أي: فما امتثلت أمره.

{ وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ْ} هذه حماية وعصمة من الله لرسوله من الناس،
وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ، ولا يثنيك عنه خوف من
المخلوقين فإن نواصيهـم بيد الله وقد تكفل بعصمتك، فأنت إنما عليك البلاغ
المبين، فمن اهتدى فلنفسه، وأما الكافرون الذين لا قصد لهم إلا اتباع
أهوائهم فإن الله لا يهديهم ولا يوفقهم للخير، بسبب كفرهم.


{ 68
ْ} { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ْ}

أي:
قل لأهل الكتاب، مناديا على ضلالهم، ومعلنا بباطلهم: { لَسْتُمْ عَلَى
شَيْءٍ ْ} من الأمور الدينية، فإنكم لا بالقرآن ومحمد آمنتم، ولا بنبيكم
وكتابكم صدقتم، ولا بحق تمسكتم، ولا على أصل اعتمدتم { حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ْ} أي: تجعلوهما قائمين بالإيمان بهما
واتباعهما، والتمسك بكل ما يدعوان إليه.

{ و ْ} تقيموا { ما أُنزِلَ
إِلَيْكُمْ مِن رَبِّكُمْ ْ} الذي رباكم، وأنعم عليكم، وجعل أجلَّ إنعامه
إنزالَ الكتب إليكم. فالواجب عليكم، أن تقوموا بشكر الله، وتلتزموا أحكام
الله، وتقوموا بما حملتم من أمانة الله وعهده.

{ وَلَيَزِيدَنَّ
كَثِيرًا مِّنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا
وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ْ}


{ 69
ْ} { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ
وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ
صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ْ}

يخبر
تعالى عن أهل الكتب من أهل القرآن والتوراة والإنجيل، أن سعادتهم ونجاتهم
في طريق واحد، وأصل واحد، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر [والعمل الصالح]
فمن آمن منهم بالله واليوم الآخر، فله النجاة، ولا خوف عليهم فيما
يستقبلونه من الأمور المخوفة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا منها. وهذا الحكم
المذكور يشمل سائر الأزمنة.


{ 70 ، 71 ْ} { لَقَدْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا
جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا
وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ * وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا
وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ
مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ْ}

يقول تعالى: {
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ْ} أي: عهدهم الثقيل
بالإيمان بالله، والقيام بواجباته التي تقدم الكلام عليها في قوله: {
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ
اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ْ} إلى آخر الآيات. { وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ
رُسُلًا ْ} يتوالون عليهم بالدعوة، ويتعاهدونهم بالإرشاد، ولكن ذلك لم ينجع
فيهم، ولم يفد { كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى
أَنفُسُهُمْ ْ} من الحق كذبوه وعاندوه، وعاملوه أقبح المعاملة { فَرِيقًا
كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ْ}

{ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ
فِتْنَةٌ ْ} أي: ظنوا أن معصيتهم وتكذيبهم لا يجر عليهم عذابا ولا عقوبة،
فاستمروا على باطلهم. { فَعَمُوا وَصَمُّوا ْ} عن الحق { ثُمَّ ْ} نعشهم و {
تاب الله عَلَيْهِمْ ْ} حين تابوا إليه وأنابوا { ثُمَّ ْ} لم يستمروا على
ذلك حتى انقلب أكثرهم إلى الحال القبيحة. { فعَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ
مِنْهُمْ ْ} بهذا الوصف، والقليل استمروا على توبتهم وإيمانهم. { وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ْ} فيجازي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير وإن شرا
فشر.

{ 72 - 75 ْ} { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ
النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ
وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ
وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ
صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ
الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ْ}

يخبر تعالى عن كفر
النصارى بقولهم: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ْ} بشبهة
أنه خرج من أم بلا أب، وخالف المعهود من الخلقة الإلهية، والحال أنه عليه
الصلاة والسلام قد كذبهم في هذه الدعوى، وقال لهم: { يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ْ} فأثبت لنفسه
العبودية التامة، ولربه الربوبية الشاملة لكل مخلوق.

{ إِنَّهُ مَن
يُشْرِكْ بِاللَّهِ ْ} أحدا من المخلوقين، لا عيسى ولا غيره. { فَقَدْ
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ْ} وذلك لأنه
سوى الخلق بالخالق، وصرف ما خلقه الله له - وهو العبادة الخالصة - لغير من
هي له، فاستحق أن يخلد في النار.

{ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنصَارٍ ْ} ينقذونهم من عذاب الله، أو يدفعون عنهم بعض ما نزل بهم.

{
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ْ} وهذا
من أقوال النصارى المنصورة عندهم، زعموا أن الله ثالث ثلاثة: الله، وعيسى،
ومريم، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.

وهذا أكبر دليل على قلة
عقول النصارى، كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء، والعقيدة القبيحة؟! كيف
اشتبه عليهم الخالق بالمخلوقين ؟! كيف خفي عليهم رب العالمين؟! قال تعالى
-رادا عليهم وعلى أشباههم -: { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ْ}
متصف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص، منفرد بالخلق والتدبير، ما بالخلق من
نعمة إلا منه. فكيف يجعل معه إله غيره؟" تعالى الله عما يقول الظالمون علوا
كبيرا.

ثم توعدهم بقوله: { وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا
يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ْ}

ثم
دعاهم إلى التوبة عما صدر منهم، وبين أنه يقبل التوبة عن عباده فقال: {
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ ْ} أي: يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من
الإقرار لله بالتوحيد، وبأن عيسى عبد الله ورسوله، عما كانوا يقولونه {
وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ْ} عن ما صدر منهم { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ْ}
أي: يغفر ذنوب التائبين، ولو بلغت عنان السماء، ويرحمهم بقبول توبتهم،
وتبديل سيئاتهم حسنات.

وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية
اللطف واللين في قوله: { أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ ْ}

ثم
ذكر حقيقة المسيح وأُمِّه، الذي هو الحق، فقال: { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ْ} أي: هذا
غايته ومنتهى أمره، أنه من عباد الله المرسلين، الذين ليس لهم من الأمر ولا
من التشريع، إلا ما أرسلهم به الله، وهو من جنس الرسل قبله، لا مزية له
عليهم تخرجه عن البشرية إلى مرتبة الربوبية.

{ وَأُمَّهُ ْ} مريم {
صِدِّيقَةٌ ْ} أي: هذا أيضا غايتها، أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى
الخلق رتبة بعد الأنبياء. والصديقية، هي العلم النافع المثمر لليقين،
والعمل الصالح. وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية، بل أعلى أحوالها
الصديقية، وكفى بذلك فضلا وشرفا. وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبية، لأن
الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين، في الرجال كما قال تعالى: { وَمَا
أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ْ} فإذا كان
عيسى عليه السلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله، وأمه صديقة، فلأي شيء
اتخذهما النصارى إلهين مع الله؟

وقوله: { كَانَا يَأْكُلَانِ
الطَّعَامَ ْ} دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران، محتاجان كما يحتاج بنو
آدم إلى الطعام والشراب، فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب، ولم
يحتاجا إلى شيء، فإن الإله هو الغني الحميد.

ولما بين تعالى البرهان
قال: { انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ْ} الموضحة للحق،
الكاشفة لليقين، ومع هذا لا تفيد فيهم شيئا، بل لا يزالون على إفكهم وكذبهم
وافترائهم، وذلك ظلم وعناد منهم.


{ 76 ْ} { قُلْ أَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا
وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ْ}

أي: { قُلْ ْ} لهم أيها
الرسول: { أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ْ} من المخلوقين الفقراء
المحتاجين، { ما لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ْ} وتدعون من
انفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع، { وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ْ} لجميع
الأصوات باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات.

{ الْعَلِيمُ ْ}
بالظواهر والبواطن، والغيب والشهادة، والأمور الماضية والمستقبلة، فالكامل
تعالى الذي هذه أوصافه هو الذي يستحق أن يفرد بجميع أنواع العبادة، ويخلص
له الدين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 28965
العمر : 36
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 Icon_minitime1/1/2011, 9:04 pm


- 81 } { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ
الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ
وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * لُعِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ
وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ *
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ
أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }

يقول تعالى
لنبيه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا
تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ } أي: لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق
إلى الباطل، وذلك كقولهم في المسيح، ما تقدم حكايته عنهم.

وكغلوهم
في بعض المشايخ، اتباعا لـ { أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ }
أي: تقدم ضلالهم.

{ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا } من الناس بدعوتهم إياهم
إلى الدين، الذي هم عليه. { وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } أي: قصد
الطريق، فجمعوا بين الضلال والإضلال، وهؤلاء هم أئمة الضلال الذين حذر الله
عنهم وعن اتباع أهوائهم المردية، وآرائهم المضلة.

ثم قال تعالى: {
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي: طردوا وأبعدوا عن
رحمة الله { عَلَى لِسَـانِ دَاوُدَ وَعِيسَـى ابْنِ مَرْيَــمَ } أي:
بشهادتهما وإقرارهما، بأن الحجة قد قامت عليهم، وعاندوها. { ذَلِكَ } الكفر
واللعن { بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } أي: بعصيانهم لله، وظلمهم
لعباد الله، صار سببا لكفرهم وبعدهم عن رحمة الله، فإن للذنوب والظلم
عقوبات.

ومن معاصيهم التي أحلت بهم المثلات، وأوقعت بهم العقوبات
أنهم: { كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ } أي: كانوا
يفعلون المنكر، ولا ينهى بعضهم بعضا، فيشترك بذلك المباشر، وغيره الذي سكت
عن النهي عن المنكر مع قدرته على ذلك.

وذلك يدل على تهاونهم بأمر
الله، وأن معصيته خفيفة عليهم، فلو كان لديهم تعظيم لربهم لغاروا لمحارمه،
ولغضبوا لغضبه، وإنما كان السكوت عن المنكر -مع القدرة- موجبا للعقوبة، لما
فيه من المفاسد العظيمة:

منها: أن مجرد السكوت، فعل معصية، وإن لم
يباشرها الساكت. فإنه -كما يجب اجتناب المعصية- فإنه يجب الإنكار على من
فعل المعصية.

ومنها: ما تقدم أنه يدل على التهاون بالمعاصي، وقلة
الاكتراث بها.

ومنها: أن ذلك يجرئ العصاة والفسقة على الإكثار من
المعاصي إذا لم يردعوا عنها، فيزداد الشر، وتعظم المصيبة الدينية
والدنيوية، ويكون لهم الشوكة والظهور، ثم بعد ذلك يضعف أهل الخير عن مقاومة
أهل الشر، حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أوَّلًا.

ومنها:
أن - في ترك الإنكار للمنكر- يندرس العلم، ويكثر الجهل، فإن المعصية- مع
تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص، وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها - يظن
أنها ليست بمعصية، وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة، وأي مفسدة أعظم من
اعتقاد ما حرَّم الله حلالا؟ وانقلاب الحقائق على النفوس ورؤية الباطل
حقا؟"

ومنها: أن السكوت على معصية العاصين، ربما تزينت المعصية في
صدور الناس، واقتدى بعضهم ببعض، فالإنسان مولع بالاقتداء بأضرابه وبني
جنسه، ومنها ومنها.

فلما كان السكوت عن الإنكار بهذه المثابة، نص
الله تعالى أن بني إسرائيل الكفار منهم لعنهم بمعاصيهم واعتدائهم، وخص من
ذلك هذا المنكر العظيم.

{ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } {
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } بالمحبة
والموالاة والنصرة.

{ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ }
هذه البضاعةَ الكاسدة، والصفقةَ الخاسرة، وهي سخط الله الذي يسخط لسخطه كل
شيء، والخلود الدائم في العذاب العظيم، فقد ظلمتهم أنفسهم حيث قدمت لهم
هذا النزل غير الكريم، وقد ظلموا أنفسهم إذ فوتوها النعيم المقيم.

{
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } فإن الإيمان بالله وبالنبي وما
أنزل إليه، يوجب على العبد موالاة ربه، وموالاة أوليائه، ومعاداة من كفر به
وعاداه، وأوضع في معاصيه، فشرط ولايةِ الله والإيمانِ به، أن لا يتخذ
أعداء الله أولياء، وهؤلاء لم يوجد منهم الشرط، فدل على انتفاء المشروط. {
وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي: خارجون عن طاعة الله
والإيمان به وبالنبي. ومن فسقهم موالاةُ أعداء الله.


{ 82 - 86 }
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ
آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ
قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا
سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا
فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ
الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ
الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }

يقول تعالى في بيان أقرب الطائفتين إلى
المسلمين، وإلى ولايتهم ومحبتهم، وأبعدهم من ذلك: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا }
فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين،
وأكثرهم سعيا في إيصال الضرر إليهم، وذلك لشدة بغضهم لهم، بغيا وحسدا
وعنادا وكفرا.

{ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ
آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } وذكر تعالى لذلك عدة أسباب:

منها:
أن { مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا } أي: علماء متزهدين، وعُبَّادًا
في الصوامع متعبدين. والعلم مع الزهد وكذلك العبادة مما يلطف القلب ويرققه،
ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة، فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود،
وشدة المشركين.

ومنها: { أنهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ } أي: ليس فيهم
تكبر ولا عتو عن الانقياد للحق، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومن محبتهم،
فإن المتواضع أقرب إلى الخير من المستكبر.

ومنها: أنهم { إذا
سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ } محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا له، وفاضت
أعينهم بسبب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه، فلذلك آمنوا وأقروا به فقالوا: {
رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } وهم أمة محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، يشهدون لله بالتوحيد، ولرسله بالرسالة
وصحة ما جاءوا به، ويشهدون على الأمم السابقة بالتصديق والتكذيب.

وهم
عدول، شهادتهم مقبولة، كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }

فكأنهم ليموا على إيمانهم ومسارعتهم فيه،
فقالوا: { وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ
الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ
الصَّالِحِينَ } أي: وما الذي يمنعنا من الإيمان بالله، والحال أنه قد
جاءنا الحق من ربنا، الذي لا يقبل الشك والريب، ونحن إذا آمنا واتبعنا الحق
طمعنا أن يدخلنا الله الجنة مع القوم الصالحين، فأي مانع يمنعنا؟ أليس ذلك
موجبا للمسارعة والانقياد للإيمان وعدم التخلف عنه.

قال الله
تعالى: { فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا } أي: بما تفوهوا به من
الإيمان ونطقوا به من التصديق بالحق { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } وهذه
الآيات نزلت في النصارى الذين آمنوا بمحمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 2 0099999، كالنجاشي وغيره ممن آمن منهم. وكذلك لا
يزال يوجد فيهم من يختار دين الإسلام، ويتبين له بطلان ما كانوا عليه، وهم
أقرب من اليهود والمشركين إلى دين الإسلام.

ولما ذكر ثواب المحسنين،
ذكر عقاب المسيئين قال: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } لأنهم كفروا بالله، وكذبوا بآياته
المبينة للحق.


{ 87 - 88 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ
مُؤْمِنُونَ }

يقول تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } من المطاعم والمشارب،
فإنها نعم أنعم الله بها عليكم، فاحمدوه إذ أحلها لكم، واشكروه ولا تردوا
نعمته بكفرها أو عدم قبولها، أو اعتقاد تحريمها، فتجمعون بذلك بين القول
على الله الكذب، وكفر النعمة، واعتقاد الحلال الطيب حراما خبيثا، فإن هذا
من الاعتداء.

والله قد نهى عن الاعتداء فقال: { وَلَا تَعْتَدُوا
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم
على ذلك.

ثم أمر بضد ما عليه المشركون، الذين يحرمون ما أحل الله
فقال: { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا } أي: كلوا
من رزقه الذي ساقه إليكم، بما يسره من الأسباب، إذا كان حلَالًا لا سرقة
ولا غصبا ولا غير ذلك من أنواع الأموال التي تؤخذ بغير حق، وكان أيضا طيبا،
وهو الذي لا خبث فيه، فخرج بذلك الخبيث من السباع والخبائث.

{
وَاتَّقُوا اللَّهَ } في امتثال أوامره، واجتناب نواهيه. { الَّذِي
أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } فإن إيمانكم بالله يوجب عليكم تقواه ومراعاة
حقه، فإنه لا يتم إلا بذلك.

ودلت الآية الكريمة على أنه إذا حرم
حلالا عليه من طعام وشراب، وسرية وأمة، ونحو ذلك، فإنه لا يكون حراما
بتحريمه، لكن لو فعله فعليه كفارة يمين، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } الآية.

إلا
أن تحريم الزوجة فيه كفارة ظهار، ويدخل في هذه الآية أنه لا ينبغي للإنسان
أن يتجنب الطيبات ويحرمها على نفسه، بل يتناولها مستعينا بها على طاعة ربه.


{
89 } { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ }

أي:
في أيمانكم التي صدرت على وجه اللغو، وهي الأيمان التي حلف بها المقسم من
غير نية ولا قصد، أو عقدها يظن صدق نفسه، فبان بخلاف ذلك. { وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } أي: بما عزمتم عليه، وعقدت
عليه قلوبكم. كما قال في الآية الأخرى: { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } { فَكَفَّارَتُهُ } أي: كفارة اليمين الذي عقدتموها
بقصدكم { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ }

وذلك الإطعام { مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } أي: كسوة عشرة
مساكين، والكسوة هي التي تجزئ في الصلاة. { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي:
عتق رقبة مؤمنة كما قيدت في غير هذا الموضع، فمتى فعل واحدا من هذه الثلاثة
فقد انحلت يمينه.

{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } واحدا من هذه الثلاثة {
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ } المذكور { كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ
إِذَا حَلَفْتُمْ } تكفرها وتمحوها وتمنع من الإثم.

{ وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُمْ } عن الحلف بالله كاذبا، وعن كثرة الأيمان، واحفظوها إذا
حلفتم عن الحنث فيهـا، إلا إذا كان الحنث خيرا، فتمام الحفظ: أن يفعل
الخير، ولا يكون يمينه عرضة لذلك الخير.

{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } المبينة للحلال من الحرام، الموضحة للأحكام. {
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } اللهَ حيث علمكم ما لم تكونوا تعلمون. فعلى
العباد شكر الله تعالى على ما منَّ به عليهم، من معرفة الأحكام الشرعية
وتبيينها.

{ 90 ، 91 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ
الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ }

يذم تعالى هذه الأشياء
القبيحة، ويخبر أنها من عمل الشيطان، وأنها رجس. { فَاجْتَنِبُوهُ } أي:
اتركوه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإن الفلاح لا يتم إلا بترك ما حرم
الله، خصوصا هذه الفواحش المذكورة، وهي الخمر وهي: كل ما خامر العقل أي:
غطاه بسكره، والميسر، وهو: جميع المغالبات التي فيها عوض من الجانبين،
كالمراهنة ونحوها، والأنصاب التي هي: الأصنام والأنداد ونحوها، مما يُنصب
ويُعبد من دون الله، والأزلام التي يستقسمون بها، فهذه الأربعة نهى الله
عنها وزجر، وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها واجتنابها. فمنها: أنها
رجس، أي: خبث، نجس معنى، وإن لم تكن نجسة حسا.

والأمور الخبيثة مما
ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بأوضارها. ومنها: أنها من عمل الشيطان، الذي هو
أعدى الأعداء للإنسان.

ومن المعلوم أن العدو يحذر منه، وتحذر
مصايده وأعماله، خصوصا الأعمال التي يعملها ليوقع فيها عدوه، فإنها فيها
هلاكه، فالحزم كل الحزم البعد عن عمل العدو المبين، والحذر منهـا، والخوف
من الوقوع فيها.

ومنها: أنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها،
فإن الفلاح هو: الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المرهوب، وهذه الأمور
مانعة من الفلاح ومعوقة له.

ومنها: أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء
بين الناس، والشيطان حريص على بثها، خصوصا الخمر والميسر، ليوقع بين
المؤمنين العداوة والبغضاء.

فإن في الخمر من انغلاب العقل وذهاب
حجاه، ما يدعو إلى البغضاء بينه وبين إخوانه المؤمنين، خصوصا إذا اقترن
بذلك من السباب ما هو من لوازم شارب الخمر، فإنه ربما أوصل إلى القتل. وما
في الميسر من غلبة أحدهما للآخر، وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة، ما هو من
أكبر الأسباب للعداوة والبغضاء.

ومنها: أن هذه الأشياء تصد القلب،
ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلاة، اللذين خلق لهما العبد، وبهما
سعادته، فالخمر والميسر، يصدانه عن ذلك أعظم صد، ويشتغل قلبه، ويذهل لبه في
الاشتغال بهما، حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو لا يدري أين هو.

فأي
معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها، وتجعله من أهل الخبث، وتوقعه في
أعمال الشيطان وشباكه، فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها، وتحول
بين العبد وبين فلاحه، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وتصد عن ذكر
الله وعن الصلاة؟" فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر منها؟"

ولهذا عرض
تعالى على العقول السليمة النهي عنها، عرضا بقوله: { فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ } لأن العاقل -إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد- انزجر عنها وكفت
نفسه، ولم يحتج إلى وعظ كثير ولا زجر بليغ.

{ 92 } { وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }

طاعة
الله وطاعة رسوله واحدة، فمن أطاع الله، فقد أطاع الرسول، ومن أطاع الرسول
فقد أطاع الله. وذلك شامل للقيام بما أمر الله به ورسوله من الأعمال،
والأقوال الظاهرة والباطنة، الواجبة والمستحبة، المتعلقة بحقوق الله وحقوق
خلقه والانتهاء عما نهى الله ورسوله عنه كذلك.

وهذا الأمر أعم
الأوامر، فإنه كما ترى يدخل فيه كل أمر ونهي، ظاهر وباطن، وقوله: {
وَاحْذَرُوا } أي: من معصية الله ومعصية رسوله، فإن في ذلك الشر والخسران
المبين. { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ } عما أمرتم به ونهيتم عنه. { فَاعْلَمُوا
أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وقد أدى ذلك. فإن
اهتديتم فلأنفسكم، وإن أسأتم فعليها، والله هو الذي يحاسبكم، والرسول قد
أدى ما عليه وما حمل به.

{ 93 } { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا
وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ
اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }

لما نزل
تحريم الخمر والنهي الأكيد والتشديد فيه، تمنى أناس من المؤمنين أن يعلموا
حال إخوانهم الذين ماتوا على الإسلام قبل تحريم الخمر وهم يشربونها.

فأنزل
الله هذه الآية، وأخبر تعالى أنه { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ } أي: حرج وإثم { فِيمَا طَعِمُوا } من
الخمر والميسر قبل تحريمهما.

ولما كان نفي الجناح يشمل المذكورات
وغيرها، قيد ذلك بقوله: { إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ } أي: بشرط أنهم تاركون للمعاصي، مؤمنون بالله إيمانا صحيحا،
موجبا لهم عمل الصالحات، ثم استمروا على ذلك. وإلا فقد يتصف العبد بذلك في
وقت دون آخر. فلا يكفي حتى يكون كذلك حتى يأتيه أجله، ويدوم على إحسانه،
فإن الله يحب المحسنين في عبادة الخالق، المحسنين في نفع العبيد، ويدخل في
هذه الآية الكريمة، من طعم المحرم، أو فعل غيره بعد التحريم، ثم اعترف
بذنبه وتاب إلى الله، واتقى وآمن وعمل صالحا، فإن الله يغفر له، ويرتفع عنه
الإثم في ذلك.

{ 94 - 96 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ
وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ
اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ
يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ
كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ
وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ
اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ
الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ
عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }

هذا من منن الله على عباده، أن
أخبرهم بما سيفعل قضاء وقدرا، ليطيعوه ويقدموا على بصيرة، ويهلك من هلك عن
بينة، ويحيا من حي عن بينة، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا }
لابد أن يختبر الله إيمانكم.

{ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ
مِنَ الصَّيْدِ } أي: بشيء غير كثير، فتكون محنة يسيرة، تخفيفا منه تعالى
ولطفا، وذلك الصيد الذي يبتليكم الله به { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ
وَرِمَاحُكُمْ } أي: تتمكنون من صيده، ليتم بذلك الابتلاء، لا غير مقدور
عليه بيد ولا رمح، فلا يبقى للابتلاء فائدة.

ثم ذكر الحكمة في ذلك
الابتلاء، فقال: { لِيَعْلَمَ اللَّهُ } علما ظاهرا للخلق يترتب عليه
الثواب والعقاب { مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } فيكف عما نهى الله عنه مع
قدرته عليه وتمكنه، فيثيبه الثواب الجزيل، ممن لا يخافه بالغيب، فلا يرتدع
عن معصية تعرض له فيصطاد ما تمكن منه { فَمَنِ اعْتَدَى } منكم { بَعْدِ
ذَلِكَ } البيان، الذي قطع الحجج، وأوضح السبيل. { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
أي: مؤلم موجع، لا يقدر على وصفه إلا الله، لأنه لا عذر لذلك المعتدي،
والاعتبار بمن يخافه بالغيب، وعدم حضور الناس عنده. وأما إظهار مخافة الله
عند الناس، فقد يكون ذلك لأجل مخافة الناس، فلا يثاب على ذلك.

ثم
صرح بالنهي عن قتل الصيد في حال الإحرام، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } أي: محرمون في الحج
والعمرة، والنهي عن قتله يشمل النهي عن مقدمات القتل، وعن المشاركة في
القتل، والدلالة عليه، والإعانة على قتله، حتى إن من تمام ذلك أنه ينهى
المحرم عن أكل ما قُتل أو صيد لأجله، وهذا كله تعظيم لهذا النسك العظيم،
أنه يحرم على المحرم قتل وصيد ما كان حلالا له قبل الإحرام.

وقوله: {
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } أي: قتل صيدا عمدا { فـ } عليه {
جزاء مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } أي: الإبل، أو البقر، أو الغنم،
فينظر ما يشبه شيئا من ذلك، فيجب عليه مثله، يذبحه ويتصدق به. والاعتبار
بالمماثلة أن { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي: عدلان يعرفان
الحكم، ووجه الشبه، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم، حيث قضوا بالحمامة شاة،
وفي النعامة بدنة، وفي بقر الوحش -على اختلاف أنواعه- بقرة، وهكذا كل ما
يشبه شيئا من النعم، ففيه مثله، فإن لم يشبه شيئا ففيه قيمته، كما هو
القاعدة في المتلفات، وذلك الهدي لا بد أن يكون { هَدْيًا بَالِغَ
الْكَعْبَةِ } أي: يذبح في الحرم.

{ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ
مَسَاكِينَ } أي: كفارة ذلك الجزاء طعام مساكين، أي: يجعل مقابلة المثل من
النعم، طعام يطعم المساكين.

قال كثير من العلماء: يقوم الجزاء،
فيشترى بقيمته طعام، فيطعم كل مسكين مُدَّ بُرٍّ أو نصفَ صاع من غيره. {
أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ } الطعام { صِيَامًا } أي: يصوم عن إطعام كل مسكين
يوما. { لِيَذُوقَ } بإيجاب الجزاء المذكور عليه { وَبَالَ أَمْرِهِ } {
وَمَنْ عَادَ } بعد ذلك { فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
ذُو انْتِقَامٍ } وإنما نص الله على المتعمد لقتل الصيد، مع أن الجزاء يلزم
المتعمد والمخطيء، كما هو القاعدة الشرعية -أن المتلف للنفوس والأموال
المحترمة، فإنه يضمنها على أي حال كان، إذا كان إتلافه بغير حق، لأن الله
رتب عليه الجزاء والعقوبة والانتقام، وهذا للمتعمد. وأما المخطئ فليس عليه
عقوبة، إنما عليه الجزاء، [هذا جواب الجمهور من هذا القيد الذي ذكره الله.
وطائفة من أهل العلم يرون تخصيص الجزاء بالمتعمد وهو ظاهر الآية. والفرق
بين هذا وبين التضمين في الخطأ في النفوس والأموال في هذا الموضع الحق فيه
لله، فكما لا إثم لا جزاء لإتلافه نفوس الآدميين وأموالهم]

ولما كان
الصيد يشمل الصيد البري والبحري، استثنى تعالى الصيد البحري فقال: {
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } أي: أحل لكم -في حال
إحرامكم- صيد البحر، وهو الحي من حيواناته، وطعامه، وهو الميت منها، فدل
ذلك على حل ميتة البحر. { مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } أي: الفائدة
في إباحته لكم أنه لأجل انتفاعكم وانتفاع رفقتكم الذين يسيرون معكم. {
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } ويؤخذ من لفظ
"الصيد" أنه لا بد أن يكون وحشيا، لأن الإنسي ليس بصيد. ومأكولا، فإن غير
المأكول لا يصاد ولا يطلق عليه اسم الصيد. { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي: اتقوه بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه،
واستعينوا على تقواه بعلمكم أنكم إليه تحشرون. فيجازيكم، هل قمتم بتقواه
فيثيبكم الثواب الجزيل، أم لم تقوموا بها فيعاقبكم؟.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تفسير القران الكريم كاملا
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 4انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
»  القران الكريم كاملا بصيغه Mp3
» تفسير القرأن للشيخ الشعراوي كاملا صوت وصورة
»  برنامج لتحميل القرآن الكريم كاملا في 5 ثواني بصوت 28 قارئ ؟؟
»  تعريف القران الكريم
»  علوم القران الكريم

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ :: `·.¸¸.·´´¯`··._.· ( واحة الايمان ) `·.¸¸.·´´¯`··._.·` :: :: المنتـ ـ ـ ـ ــدى الاســ ـ ـ ــلامـ ـ ــى العــ ـ ـ ـــام ::-
انتقل الى:  
.: اتصل بنا :.
لو فى اى مشكلة فى المنتدى