ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ
تفسير القران الكريم كاملا Ouooou10
ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ
تفسير القران الكريم كاملا Ouooou10
ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ

اهلا,.بك،.,فى.،ملتقى.شلة:شباب.فى،ـبنات,,معانا:هتستمتع.,بالوقت،افتح,.قلبك,ـواتكلم’.معانا.هتسمع،،أحـلى.,اغانى,,واحلى:،كلام.,فى,:الحب،دا،إحنا.شباب،.علي:.كيفك
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول


 

 تفسير القران الكريم كاملا

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
انتقل الى الصفحة : 1, 2, 3, 4  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 7:41 pm

تفسير القران الكريم كاملا



تفسير
القران الكريم كلو والجزاء عند الله ان شاء الله


وكل عام وانت
فى اتم صحه وعافيه وراحه بال


ويكون علينا باليمن والبركه ان شاء
الله


هذا هو عبارة تفسير عظيم وموجز ومختصر للقرآن الكريم
كاملاً

المـؤلـف: عبدالرحمن بن ناصر السعدي


ونتمنى من
العزيز الجليل ان يكون فيه الفائدة


عنوانه : (( تيسير الكريم
الرحمن في تفسير كلام المنان ))


ونبدأان شاء الله عليه نستعين


المقدمة

تفسير
الشيخ السعدي

رحمه الله وغفر له

مقدمة المؤلف

تفسير القران الكريم كاملا 00666666666

الحمد لله الذى أنزل
على عبده الفرقان الفارق بين الحلال والحرام، والسعداء والأشقياء، والحق
والباطل.

وجعله برحمته هدىً للناس عموماً، وللمتقين خصوصاً، من ضلال
الكفر والمعاصي، والجهل، إلى نور الإيمان والتقوى والعلم، وأنزله شفاء
للصدور من أمراض الشبهات والشهوات ويحصل به اليقين والعلم في المطالب
العاليات، وشفاء للأبدان من أمراضها وعللها وآلامها وسقمها. وأخبر أنه لا
ريب فيه ولا شك بوجه من الوجوه، وذلك لاشتماله على الحق العظيم، في أخباره،
وأوامره، ونواهيه، وأنزله مباركاً، فيه الخير الكثير، والعلم الغزير،
والأسرار البديعة، والمطالب الرفيعة، فكل بركة وسعادة تنال في الدنيا
والآخرة، فسببها الاهتداء به واتباعه، وأخبر أنه مصدق ومهيمن على الكتب
السابقة، فما يشهد له فهو الحق، وما رده فهو المردود، لأنه تضمنها وزاد
عليها، وقال تعالى فيه(يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام)، فهو هاد
لدار السلام، مبين لطريق الوصول إليها، وحاثٌّ عليها، كاشف عن الطريق
الموصلة إلى دارالآلام ومحذًُر منها، وقال تعالى مخبراً عنه: (كتاب أحكمت
آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) فبين آياته أكمل تبيين وأتقنها أى إتقان،
وفصلها بتبيين الحق من الباطل والرشد من الضلال، تفصيلاً كاشفاً للبس،
لكونه صادراً من حكيم خبير، فلا يخبر إلا بالصدق والحق واليقين، ولا يأمر
إلا بالعدل والإحسان والبر، ولا ينهى إلا عن المضار الدينية والدنيوية.
وأقسم
تعالى بالقرآن ووصفه بأنه "مجيد" والمجد: سعةُ الأوصاف وعظمتها، وذلك لسعة
معانى القرآن وعظمتها، ووصفه بأنه "ذو الذكر" أى يتذكر به العلوم الإلهية
والأخلاق الجميلة والأعمال الصالحة، ويتعظ به من يخشى.
وقال تعالى: (إنا
أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) فأنزله بهذا اللسان لنعقله ونتفهمه،
وأمرنا بتدبره، والتفكير فيه، والاستنباط لعلومه، وما ذاك إلا لأن تدبره
مفتاح لكل خير، محصل للعلوم والأسرار. فلله الحمد والشكر والثناء، الذى جعل
كتابه هدى وشفاء ورحمة ونوراً، وتبصرة وتذكرة، وبركة وهدى وبشرى للمسلمين.
فإذا
علم هذا، علم افتقار كل مكلف لمعرفة معانيه والإهتداء بها.
وكان حقيقاً
بالعبد أن يبذل جهده، ويستفرغ وسعه في تعلمه وتفهمه بأقرب الطرق الموصلة
إلى ذلك.
وقد كثرت تفاسير الأئمة رحمهم الله لكتاب الله، فمن مُطَوِّل
خارج في أكثر بحوثه عن المقصود، ومن مُقَصِّر يقتصر على حل بعض الألفاظ
اللغوية.
وكان الذى ينبغى في ذلك، أن يجعل المعنى هو المقصود، واللفظ
وسيلة إليه، فينظر في سياق الكلام، وما سيق لأجله، ويقابل بينه وبين نظيره
في موضع آخر، ويعرف أنه سيق لهداية الخلق كلهم، عالمهم وجاهلهم، حضريهم
وبدويهم، فالنظر لسياق الآيات مع العلم بأحوال الرسول وسيرته مع أصحابه
وأعدائه وقت نزوله، من أعظم ما يعين على معرفته وفهم المراد منه، خصوصاً
إذا انضم إلى ذلك معرفة علوم العربية على اختلاف أنواعها فمن وفق لذلك لم
يبق عليه إلا الإقبال على تدبره وتفهمه وكثرة التفكير في ألفاظه ومعانيه
ولوازمها، وما تتضمنه، وما تدل عليه منطوقاً ومفهوماً، فإذا بذل وسعه في
ذلك، فالرب أكرم من عبده، فلابد أن يفتح عليه من علومه أموراً لا تدخل تحت
كسبه.
ولما منَّ الباري علىَّ وعلى إخوانى بالاشتغال بكتابه العزيز بحسب
الحال اللائقة [بنا] أحببت أن أرسم من تفسير كتاب الله ما تيسر، وما من به
الله علينا، ليكون تذكرة للمحصلين، وآلة للمستبصرين، ومعونة للسالكين
ولأقيده خوفَ الضياع، ولم يكن قصدى في ذلك إلا أن يكون المعنى هو المقصود
ولم أشتغل في حل الألفاظ والعقود، للمعنى الذى ذكرت، ولأن المفسرين قد كفوا
مَنْ بعدهم، فجزاهم الله عن المسلمين خيراً.
والله أرجوا، وعليه أعتمد،
أن ييسر ما قصدت، ويذلل ما أردت، فإنه إن لم ييسره الله، فلا سبيل إلى
حصوله، وإن لم يعن عليه، فلا طريق إلى نيل العبد مأموله.
وأسأله تعالى
أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به النفع العميم، إنه جواد كريم.
اللهم صلِ على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.


يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 7:42 pm

تفسير الجزء الأول

تفسير
الفاتحة

وهي مكية

{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ }

{
بِسْمِ اللَّهِ } أي: أبتدئ بكل اسم لله تعالى, لأن لفظ { اسم } مفرد
مضاف, فيعم جميع الأسماء [الحسنى]. { اللَّهِ } هو المألوه المعبود,
المستحق لإفراده بالعبادة, لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال. {
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة
العظيمة التي وسعت كل شيء, وعمت كل حي, وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه
ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة, ومن عداهم فلهم نصيب منها.

واعلم
أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها, الإيمان بأسماء الله
وصفاته, وأحكام الصفات.

فيؤمنون مثلا, بأنه رحمن رحيم, ذو الرحمة
التي اتصف بها, المتعلقة بالمرحوم. فالنعم كلها, أثر من آثار رحمته, وهكذا
في سائر الأسماء. يقال في العليم: إنه عليم ذو علم, يعلم [به] كل شيء,
قدير, ذو قدرة يقدر على كل شيء.

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ } [هو] الثناء
على الله بصفات الكمال, وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل, فله الحمد
الكامل, بجميع الوجوه. { رَبِّ الْعَالَمِينَ } الرب, هو المربي جميع
العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه إياهم, وإعداده لهم الآلات, وإنعامه
عليهم بالنعم العظيمة, التي لو فقدوها, لم يمكن لهم البقاء. فما بهم من
نعمة, فمنه تعالى.

وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة.

فالعامة:
هي خلقه للمخلوقين, ورزقهم, وهدايتهم لما فيه مصالحهم, التي فيها بقاؤهم
في الدنيا.

والخاصة: تربيته لأوليائه, فيربيهم بالإيمان, ويوفقهم
له, ويكمله لهم, ويدفع عنهم الصوارف, والعوائق الحائلة بينهم وبينه,
وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير, والعصمة عن كل شر. ولعل هذا [المعنى] هو
السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب. فإن مطالبهم كلها داخلة تحت
ربوبيته الخاصة.

فدل قوله { رَبِّ الْعَالَمِينَ } على انفراده
بالخلق والتدبير, والنعم, وكمال غناه, وتمام فقر العالمين إليه, بكل وجه
واعتبار.

{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } المالك: هو من اتصف بصفة
الملك التي من آثارها أنه يأمر وينهى, ويثيب ويعاقب, ويتصرف بمماليكه بجميع
أنواع التصرفات, وأضاف الملك ليوم الدين, وهو يوم القيامة, يوم يدان الناس
فيه بأعمالهم, خيرها وشرها, لأن في ذلك اليوم, يظهر للخلق تمام الظهور,
كمال ملكه وعدله وحكمته, وانقطاع أملاك الخلائق. حتى [إنه] يستوي في ذلك
اليوم, الملوك والرعايا والعبيد والأحرار.

كلهم مذعنون لعظمته,
خاضعون لعزته, منتظرون لمجازاته, راجون ثوابه, خائفون من عقابه, فلذلك خصه
بالذكر, وإلا, فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام.

وقوله {
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أي: نخصك وحدك بالعبادة

والاستعانة,
لأن تقديم المعمول يفيد الحصر, وهو إثبات الحكم للمذكور, ونفيه عما عداه.
فكأنه يقول: نعبدك, ولا نعبد غيرك, ونستعين بك, ولا نستعين بغيرك.

وقدم
العبادة على الاستعانة, من باب تقديم العام على الخاص, واهتماما بتقديم
حقه تعالى على حق عبده.

و { العبادة } اسم جامع لكل ما يحبه الله
ويرضاه من الأعمال, والأقوال الظاهرة والباطنة. و { الاستعانة } هي
الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع, ودفع المضار, مع الثقة به في
تحصيل ذلك.

والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة
الأبدية, والنجاة من جميع الشرور, فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما.
وإنما تكون العبادة عبادة, إذا كانت مأخوذة عن رسول الله تفسير القران الكريم كاملا 0099999 مقصودا بها وجه الله. فبهذين الأمرين تكون
عبادة, وذكر { الاستعانة } بعد { العبادة } مع دخولها فيها, لاحتياج العبد
في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. فإنه إن لم يعنه الله, لم يحصل
له ما يريده من فعل الأوامر, واجتناب النواهي.

ثم قال تعالى: {
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } أي: دلنا وأرشدنا, ووفقنا للصراط
المستقيم, وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله, وإلى جنته, وهو معرفة الحق
والعمل به, فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط. فالهداية إلى الصراط: لزوم
دين الإسلام, وترك ما سواه من الأديان, والهداية في الصراط, تشمل الهداية
لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها
للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته, لضرورته
إلى ذلك.

وهذا الصراط المستقيم هو: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ } من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. { غَيْرِ } صراط {
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم. وغير
صراط { الضَّالِّينَ } الذين تركوا الحق على جهل وضلال, كالنصارى ونحوهم.

فهذه
السورة على إيجازها, قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن,
فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يؤخذ من قوله: { رَبِّ
الْعَالَمِينَ }

وتوحيد الإلهية وهو إفراد الله بالعبادة, يؤخذ من
لفظ: { اللَّهِ } ومن قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وتوحيد الأسماء والصفات,
وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى, التي أثبتها لنفسه, وأثبتها له رسوله من
غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه, وقد دل على ذلك لفظ { الْحَمْدُ } كما
تقدم. وتضمنت إثبات النبوة في قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }
لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة.

وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله: {
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وأن الجزاء يكون بالعدل, لأن الدين معناه
الجزاء بالعدل.

وتضمنت إثبات القدر, وأن العبد فاعل حقيقة, خلافا
للقدرية والجبرية. بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [والضلال] في قوله: {
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لأنه معرفة الحق والعمل به. وكل
مبتدع [وضال] فهو مخالف لذلك.

وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى, عبادة
واستعانة في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالحمد
لله رب العالمين.

يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 7:43 pm

- 7 } { إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى
سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

فلهذا
لما ذكر صفات المؤمنين حقا, ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم، المعاندين
للرسول فقال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ
عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يخبر تعالى أن الذين كفروا, أي: اتصفوا بالكفر,
وانصبغوا به, وصار وصفا لهم لازما, لا يردعهم عنه رادع, ولا ينجع فيهم
وعظ، إنهم مستمرون على كفرهم, فسواء عليهم أأنذرتهم, أم لم تنذرهم لا
يؤمنون، وحقيقة الكفر: هو الجحود لما جاء به الرسول, أو جحد بعضه، فهؤلاء
الكفار لا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة, وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول تفسير القران الكريم كاملا 0099999 في إيمانهم, وأنك لا تأس عليهم,
ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.

ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان
فقال: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } أي: طبع
عليها بطابع لا يدخلها الإيمان, ولا ينفذ فيها، فلا يعون ما ينفعهم, ولا
يسمعون ما يفيدهم.

{ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } أي: غشاء
وغطاء وأكنة تمنعها عن النظر الذي ينفعهم, وهذه طرق العلم والخير, قد سدت
عليهم, فلا مطمع فيهم, ولا خير يرجى عندهم، وإنما منعوا ذلك, وسدت عنهم
أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق, كما قال
تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ
يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وهذا عقاب عاجل.

ثم ذكر العقاب
الآجل، فقال: { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو عذاب النار, وسخط الجبار
المستمر الدائم.

ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم
الإسلام وباطنهم الكفر فقال:

{ 8 - 10 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا
يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا
كَانُوا يَكْذِبُونَ }

واعلم أن النفاق هو: إظهار الخير وإبطان
الشر، ويدخل في هذا التعريف النفاق الاعتقادي, والنفاق العملي، كالذي ذكر
النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 في قوله: " آية المنافق ثلات: إذا حدث كذب,
وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان " وفي رواية: " وإذا خاصم فجر "

وأما
النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام, فهو الذي وصف الله به
المنافقين في هذه السورة وغيرها، ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة الرسول تفسير القران الكريم كاملا 0099999 [من مكة] إلى المدينة, وبعد أن
هاجر, فلما كانت وقعة " بدر " وأظهر الله المؤمنين وأعزهم، ذل من في
المدينة ممن لم يسلم, فأظهر بعضهم الإسلام خوفا ومخادعة, ولتحقن دماؤهم,
وتسلم أموالهم, فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم منهم, وفي الحقيقة
ليسوا منهم.

فمن لطف الله بالمؤمنين, أن جلا أحوالهم ووصفهم بأوصاف
يتميزون بها, لئلا يغتر بهم المؤمنون, ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم
[قال تعالى]: { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ
سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ } فوصفهم الله بأصل النفاق
فقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في
قلوبهم، فأكذبهم الله بقوله: { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } لأن الإيمان
الحقيقي, ما تواطأ عليه القلب واللسان, وإنما هذا مخادعة لله ولعباده
المؤمنين.

والمخادعة: أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا, ويبطن خلافه
لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع، فهؤلاء المنافقون, سلكوا مع الله وعباده
هذا المسلك, فعاد خداعهم على أنفسهم، فإن هذا من العجائب؛ لأن المخادع, إما
أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد أو يسلم, لا له ولا عليه، وهؤلاء عاد
خداعهم عليهم, وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها
وكيدها؛ لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم [شيئا] وعباده المؤمنون, لا يضرهم
كيدهم شيئا، فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان, فسلمت بذلك
أموالهم وحقنت دماؤهم, وصار كيدهم في نحورهم, وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة
في الدنيا, والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة.

ثم
في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع, بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم,
والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك.

وقوله: { فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } والمراد بالمرض هنا: مرض الشك والشبهات والنفاق، لأن
القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة, ومرض
الشهوات المردية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع, كلها من مرض الشبهات،
والزنا, ومحبة [الفواحش و]المعاصي وفعلها, من مرض الشهوات ، كما قال تعالى:
{ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } وهي شهوة الزنا، والمعافى من
عوفي من هذين المرضين, فحصل له اليقين والإيمان, والصبر عن كل معصية, فرفل
في أثواب العافية.

وفي قوله عن المنافقين: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على
العاصين, وأنه بسبب ذنوبهم السابقة, يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة
لعقوباتها كما قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ
كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وقال تعالى: { فَلَمَّا
زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وقال تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } فعقوبة
المعصية, المعصية بعدها, كما أن من ثواب الحسنة, الحسنة بعدها، قال تعالى: {
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى }


{ 11 - 12 } {
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا
نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا
يَشْعُرُونَ }

أي: إذا نهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض,
وهو العمل بالكفر والمعاصي, ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم
للكافرين { قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } فجمعوا بين العمل
بالفساد في الأرض, وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح, قلبا للحقائق,
وجمعا بين فعل الباطل واعتقاده حقا، وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية, مع
اعتقاد أنها معصية فهذا أقرب للسلامة, وأرجى لرجوعه.

ولما كان في
قولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } حصر للإصلاح في جانبهم - وفي ضمنه
أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح - قلب الله عليهم دعواهم بقوله: { ألا
إنهم هم المفسدون } فإنه لا أعظم فسادا ممن كفر بآيات الله, وصد عن سبيل
الله، وخادع الله وأولياءه, ووالى المحاربين لله ورسوله, وزعم مع ذلك أن
هذا إصلاح, فهل بعد هذا الفساد فساد؟" ولكن لا يعلمون علما ينفعهم, وإن
كانوا قد علموا بذلك علما تقوم به عليهم حجة الله، وإنما كان العمل
بالمعاصي في الأرض إفسادا, لأنه يتضمن فساد ما على وجه الأرض من الحبوب
والثمار والأشجار, والنبات, بما يحصل فيها من الآفات بسبب المعاصي، ولأن
الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله والإيمان به, لهذا خلق الله الخلق,
وأسكنهم في الأرض, وأدر لهم الأرزاق, ليستعينوا بها على طاعته [وعبادته]،
فإذا عمل فيها بضده, كان سعيا فيها بالفساد فيها, وإخرابا لها عما خلقت له.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 7:44 pm

{ 13 } { وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ
السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ
}

أي: إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس, أي: كإيمان الصحابة
رضي الله عنهم، وهو الإيمان بالقلب واللسان, قالوا بزعمهم الباطل: أنؤمن
كما آمن السفهاء؟ يعنون - قبحهم الله - الصحابة رضي الله عنهم, بزعمهم أن
سفههم أوجب لهم الإيمان, وترك الأوطان, ومعاداة الكفار، والعقل عندهم يقتضي
ضد ذلك, فنسبوهم إلى السفه; وفي ضمنه أنهم هم العقلاء أرباب الحجى والنهى.

فرد
الله ذلك عليهم, وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة, لأن حقيقة السفه جهل
الإنسان بمصالح نفسه, وسعيه فيما يضرها, وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقة
عليهم، كما أن العقل والحجا, معرفة الإنسان بمصالح نفسه, والسعي فيما
ينفعه, و[في] دفع ما يضره، وهذه الصفة منطبقة على [الصحابة و]المؤمنين
وصادقة عليهم، فالعبرة بالأوصاف والبرهان, لا بالدعاوى المجردة, والأقوال
الفارغة.


ثم قال تعالى: { 14 - 15 } { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ
آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا
إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

هذا من قولهم
بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، و[ذلك] أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين, أظهروا
أنهم على طريقتهم وأنهم معهم, فإذا خلوا إلى شياطينهم - أي: رؤسائهم
وكبرائهم في الشر - قالوا: إنا معكم في الحقيقة, وإنما نحن مستهزءون
بالمؤمنين بإظهارنا لهم, أنا على طريقتهم، فهذه حالهم الباطنة والظاهرة,
ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

قال تعالى: { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وهذا جزاء لهم, على
استهزائهم بعباده، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء
والحالة الخبيثة, حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين, لما لم يسلط الله المؤمنين
عليهم، ومن استهزائه بهم يوم القيامة, أنه يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا,
فإذا مشي المؤمنون بنورهم, طفئ نور المنافقين, وبقوا في الظلمة بعد النور
متحيرين, فما أعظم اليأس بعد الطمع، { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ
مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ } الآية.

قوله: { وَيَمُدُّهُمْ }
أي: يزيدهم { فِي طُغْيَانِهِمْ } أي: فجورهم وكفرهم، { يَعْمَهُونَ } أي:
حائرون مترددون, وهذا من استهزائه تعالى بهم.

ثم قال تعالى كاشفا عن
حقيقة أحوالهم:


{ 16 } { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِينَ }

أولئك, أي: المنافقون الموصوفون بتلك الصفات {
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى } أي: رغبوا في الضلالة,
رغبة المشتري بالسلعة, التي من رغبته فيها يبذل فيها الأثمان النفيسة. وهذا
من أحسن الأمثلة, فإنه جعل الضلالة, التي هي غاية الشر, كالسلعة، وجعل
الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن، فبذلوا الهدى رغبة عنه بالضلالة
رغبة فيها، فهذه تجارتهم, فبئس التجارة, وبئس الصفقة صفقتهم

وإذا
كان من بذل دينارا في مقابلة درهم خاسرا, فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها
درهما؟" فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضلالة, واختار الشقاء على السعادة,
ورغب في سافل الأمور عن عاليها ؟" فما ربحت تجارته, بل خسر فيها أعظم
خسارة. { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ }

وقوله: { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } تحقيق لضلالهم,
وأنهم لم يحصل لهم من الهداية شيء, فهذه أوصافهم القبيحة.

ثم ذكر
مثلهم الكاشف لها غاية الكشف، فقال:

{ 17 - 20 } { مَثَلُهُمْ
كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ *
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ
فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ
بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا
أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

أي: مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي
استوقد نارا، أي: كان في ظلمة عظيمة, وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من
غيره, ولم تكن عنده معدة, بل هي خارجة عنه، فلما أضاءت النار ما حوله, ونظر
المحل الذي هو فيه, وما فيه من المخاوف وأمنها, وانتفع بتلك النار, وقرت
بها عينه, وظن أنه قادر عليها, فبينما هو كذلك, إذ ذهب الله بنوره, فذهب
عنه النور, وذهب معه السرور, وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة, فذهب
ما فيها من الإشراق, وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة
الليل, وظلمة السحاب, وظلمة المطر, والظلمة الحاصلة بعد النور, فكيف يكون
حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون, استوقدوا نار الإيمان من
المؤمنين, ولم تكن صفة لهم, فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم, وسلمت
أموالهم, وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم
الموت, فسلبهم الانتفاع بذلك النور, وحصل لهم كل هم وغم وعذاب, وحصل لهم
ظلمة القبر, وظلمة الكفر, وظلمة النفاق, وظلم المعاصي على اختلاف أنواعها,
وبعد ذلك ظلمة النار [وبئس القرار].

فلهذا قال تعالى [عنهم]: {
صُمٌّ } أي: عن سماع الخير، { بُكْمٌ } [أي]: عن النطق به، { عُمْيٌ } عن
رؤية الحق، { فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه, فلا
يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال, فإنه لا يعقل, وهو أقرب
رجوعا منهم.

ثم قال تعالى: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ }
يعني: أو مثلهم كصيب، أي: كصاحب صيب من السماء، وهو المطر الذي يصوب, أي:
ينزل بكثرة، { فِيهِ ظُلُمَاتٌ } ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمات المطر، {
وَرَعْدٌ } وهو الصوت الذي يسمع من السحاب، { وَبَرْقٌ } وهو الضوء
[اللامع] المشاهد مع السحاب.

{ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ } البرق في
تلك الظلمات { مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } أي:
وقفوا.

فهكذا حال المنافقين, إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه
ووعده ووعيده, جعلوا أصابعهم في آذانهم, وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده
ووعيده, فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم,
ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد, ويجعل أصابعه في أذنيه خشية
الموت, فهذا تمكن له السلامة. وأما المنافقون فأنى لهم السلامة, وهو تعالى
محيط بهم, قدرة وعلما فلا يفوتونه ولا يعجزونه, بل يحفظ عليهم أعمالهم,
ويجازيهم عليها أتم الجزاء.

ولما كانوا مبتلين بالصمم, والبكم,
والعمى المعنوي, ومسدودة عليهم طرق الإيمان، قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } أي: الحسية, ففيه تحذير
لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية, ليحذروا, فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم، {
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه
إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض.

وفي هذه الآية وما
أشبهها, رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله
تعالى, لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله: { إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 7:45 pm

- 22 } { يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

هذا أمر عام لكل
الناس, بأمر عام, وهو العبادة الجامعة, لامتثال أوامر الله, واجتناب
نواهيه, وتصديق خبره, فأمرهم تعالى بما خلقهم له، قال تعالى: { وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }

ثم استدل على
وجوب عبادته وحده, بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم, فخلقكم بعد العدم,
وخلق الذين من قبلكم, وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة, فجعل لكم الأرض
فراشا تستقرون عليها, وتنتفعون بالأبنية, والزراعة, والحراثة, والسلوك من
محل إلى محل, وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم,
وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم, كالشمس, والقمر,
والنجوم.

{ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } والسماء: [هو] كل ما
علا فوقك فهو سماء, ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا: السحاب،
فأنزل منه تعالى ماء، { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ } كالحبوب,
والثمار, من نخيل, وفواكه, [وزروع] وغيرها { رِزْقًا لَكُمْ } به ترتزقون,
وتقوتون وتعيشون وتفكهون.

{ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا }
أي: نظراء وأشباها من المخلوقين, فتعبدونهم كما تعبدون الله, وتحبونهم كما
تحبون الله, وهم مثلكم, مخلوقون, مرزوقون مدبرون, لا يملكون مثقال ذرة في
السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون، { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
أن الله ليس له شريك, ولا نظير, لا في الخلق, والرزق, والتدبير, ولا في
العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب,
وأسفه السفه.

وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده, والنهي
عن عبادة ما سواه, وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته, وبطلان عبادة من
سواه, وهو [ذكر] توحيد الربوبية, المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير،
فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك, فكذلك فليكن إقراره بأن
[الله] لا شريك له في العبادة, وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري،
وبطلان الشرك.

وقوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يحتمل أن
المعنى: أنكم إذا عبدتم الله وحده, اتقيتم بذلك سخطه وعذابه, لأنكم أتيتم
بالسبب الدافع لذلك، ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم الله, صرتم من
المتقين الموصوفين بالتقوى, وكلا المعنيين صحيح, وهما متلازمان، فمن أتى
بالعبادة كاملة, كان من المتقين، ومن كان من المتقين, حصلت له النجاة من
عذاب الله وسخطه. ثم قال تعالى:

{ 23 - 24 } { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ
مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا
النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ }

وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله تفسير القران الكريم كاملا 0099999, وصحة ما جاء به، فقال: { وإن كنتم } معشر
المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه في شك واشتباه, مما نزلنا
على عبدنا, هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه،
وهو أنه بشر مثلكم, ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم,
لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله, وقلتم أنتم أنه
تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله,
واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم،
خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة, والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم
بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية
العجز, ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل
معكم، فهذا آية كبرى, ودليل واضح [جلي] على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين
عليكم اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [والشدة], أن
كانت وقودها الناس والحجارة, ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب, وهذه
النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله,
بعد ما تبين لكم أنه رسول الله.

وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات
التحدي, وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى { قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ
هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }

وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه
ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه, أن يأتي بكلام
ككلام الكامل, الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس
في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [بأنواع]
الكلام, إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء, ظهر له الفرق
العظيم.

وفي قوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } إلى آخره, دليل
على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة: [هو] الشاك الحائر الذي لم يعرف
الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في
طلب الحق.

وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه,
لأنه ترك الحق بعد ما تبين له, لم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه.

وكذلك
الشاك غير الصادق في طلب الحق, بل هو معرض غير مجتهد في طلبه, فهذا في
الغالب أنه لا يوفق.

وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام
العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه تفسير القران الكريم كاملا 0099999, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد
من الأولين والآخرين.

كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال: {
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وفي مقام الإنزال، فقال: {
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ }

وفي قوله:
{ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة
والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضا, أن
الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار, لأنه قال: {
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فلو كان [عصاة الموحدين] يخلدون فيها, لم تكن
معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة.

وفيها دلالة على أن
العذاب مستحق بأسبابه, وهو الكفر, وأنواع المعاصي على اختلافها.

{
25 } { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا
مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ
وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ }



لما ذكر جزاء الكافرين, ذكر جزاء
المؤمنين, أهل الأعمال الصالحات, على طريقته تعالى في القرآن يجمع بين
الترغيب والترهيب, ليكون العبد راغبا راهبا, خائفا راجيا فقال: { وَبَشِّرِ
} أي: [يا أيها الرسول ومن قام مقامه] { الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم {
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بجوارحهم, فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة.

ووصفت
أعمال الخير بالصالحات, لأن بها تصلح أحوال العبد, وأمور دينه ودنياه,
وحياته الدنيوية والأخروية, ويزول بها عنه فساد الأحوال, فيكون بذلك من
الصالحين, الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.

فبشرهم { أَنَّ
لَهُمْ جَنَّاتٍ } أي: بساتين جامعة من الأشجار العجيبة, والثمار الأنيقة,
والظل المديد, [والأغصان والأفنان وبذلك] صارت جنة يجتن بها داخلها, وينعم
فيها ساكنها.

{ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } أي: أنهار
الماء, واللبن, والعسل, والخمر، يفجرونها كيف شاءوا, ويصرفونها أين أرادوا,
وتشرب منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار.

{ كُلَّمَا رُزِقُوا
مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ
قَبْلُ } أي: هذا من جنسه, وعلى وصفه, كلها متشابهة في الحسن واللذة، ليس
فيها ثمرة خاصة, وليس لهم وقت خال من اللذة, فهم دائما متلذذون بأكلها.

وقوله:
{ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قيل: متشابها في الاسم, مختلف الطعوم
وقيل: متشابها في اللون, مختلفا في الاسم، وقيل: يشبه بعضه بعضا, في الحسن,
واللذة, والفكاهة, ولعل هذا الصحيح

ثم لما ذكر مسكنهم, وأقواتهم من
الطعام والشراب وفواكههم, ذكر أزواجهم, فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه, وأوضحه
فقال: { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } فلم يقل " مطهرة من العيب
الفلاني " ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق, مطهرات الخلق,
مطهرات اللسان, مطهرات الأبصار، فأخلاقهن, أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن
بالخلق الحسن, وحسن التبعل, والأدب القولي والفعلي, ومطهر خلقهن من الحيض
والنفاس والمني, والبول والغائط, والمخاط والبصاق, والرائحة الكريهة،
ومطهرات الخلق أيضا, بكمال الجمال, فليس فيهن عيب, ولا دمامة خلق, بل هن
خيرات حسان, مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن, وقاصرات
ألسنتهن عن كل كلام قبيح.

ففي هذه الآية الكريمة, ذكر المبشِّر
والمبشَّر, والمبشَّرُ به, والسبب الموصل لهذه البشارة، فالمبشِّر: هو
الرسول تفسير القران الكريم كاملا 0099999 ومن قام مقامه من أمته، والمبشَّر: هم
المؤمنون العاملون الصالحات، والمبشَّر به: هي الجنات الموصوفات بتلك
الصفات، والسبب الموصل لذلك, هو الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى
الوصول إلى هذه البشارة, إلا بهما، وهذا أعظم بشارة حاصلة, على يد أفضل
الخلق, بأفضل الأسباب.

وفيه استحباب بشارة المؤمنين, وتنشيطهم على
الأعمال بذكر جزائها [وثمراتها], فإنها بذلك تخف وتسهل، وأعظم بشرى حاصلة
للإنسان, توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده
البشرى عند الموت، ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل الله أن
يجعلنا منهم

{ 26 - 27 } { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ
يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ
بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا
الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }

يقول
تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا } أي:
أيَّ مثل كان { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } لاشتمال الأمثال على الحكمة,
وإيضاح الحق, والله لا يستحيي من الحق، وكأن في هذا, جوابا لمن أنكر ضرب
الأمثال في الأشياء الحقيرة، واعترض على الله في ذلك. فليس في ذلك محل
اعتراض. بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم. فيجب أن تتلقى بالقبول
والشكر. ولهذا قال: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } فيتفهمونها، ويتفكرون فيها.

فإن علموا ما
اشتملت عليه على وجه التفصيل، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلا علموا أنها
حق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم
يضربها عبثا، بل لحكمة بالغة، ونعمة سابغة.

{ وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } فيعترضون
ويتحيرون، فيزدادون كفرا إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون إيمانا على
إيمانهم، ولهذا قال: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا }
فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية. قال تعالى: {
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ
زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ
إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ
كَافِرُونَ } فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا
تكون لقوم محنة وحيرة [وضلالة] وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة [ورحمة]
وزيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية
والإضلال.

ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى
فقال: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } أي: الخارجين عن طاعة
الله; المعاندين لرسل الله; الذين صار الفسق وصفهم; فلا يبغون به بدلا،
فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله
هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة.

والفسق نوعان: نوع
مخرج من الدين، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان; كالمذكور في هذه
الآية ونحوها، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا }
[الآية].

ثم وصف الفاسقين فقال: { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ
اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه والذي
بينهم وبين عباده الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات، فلا
يبالون بتلك المواثيق; بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه;
وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق.

{ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ
اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، فإن الله أمرنا أن
نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته، وما بيننا وبين رسوله
بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه، وما بيننا وبين الوالدين
والأقارب والأصحاب; وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق التي أمر الله أن
نصلها.

فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق،
وقاموا بها أتم القيام، وأما الفاسقون، فقطعوها، ونبذوها وراء ظهورهم;
معتاضين عنها بالفسق والقطيعة; والعمل بالمعاصي; وهو: الإفساد في الأرض.

فـ
{ فَأُولَئِكَ } أي: من هذه صفته { هُمُ الْخَاسِرُونَ } في الدنيا
والآخرة، فحصر الخسارة فيهم; لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم; ليس لهم نوع
من الربح؛ لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان; فمن لا إيمان له لا عمل له; وهذا
الخسار هو خسار الكفر، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا; وقد يكون معصية; وقد
يكون تفريطا في ترك مستحب، المذكور في قوله تعالى: { إِنَّ الْإِنْسَانَ
لَفِي خُسْرٍ } فهذا عام لكل مخلوق; إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح;
والتواصي بالحق; والتواصي بالصبر; وحقيقة فوات الخير; الذي [كان] العبد
بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه.


{ 28 } ثم قال تعالى: { كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

هذا
استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار، أي: كيف يحصل منكم الكفر بالله;
الذي خلقكم من العدم; وأنعم عليكم بأصناف النعم; ثم يميتكم عند استكمال
آجالكم; ويجازيكم في القبور; ثم يحييكم بعد البعث والنشور; ثم إليه ترجعون;
فيجازيكم الجزاء الأوفى، فإذا كنتم في تصرفه; وتدبيره; وبره; وتحت أوامره
الدينية; ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي; أفيليق بكم أن تكفروا به; وهل هذا
إلا جهل عظيم وسفه وحماقة ؟ بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه وتشكروه
وتخافوا عذابه; وترجوا ثوابه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 7:46 pm

} { هُوَ الَّذِي
خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

{
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } أي: خلق لكم,
برا بكم ورحمة, جميع ما على الأرض, للانتفاع والاستمتاع والاعتبار.

وفي
هذه الآية العظيمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة, لأنها
سيقت في معرض الامتنان، يخرج بذلك الخبائث, فإن [تحريمها أيضا] يؤخذ من
فحوى الآية, ومعرفة المقصود منها, وأنه خلقها لنفعنا, فما فيه ضرر, فهو
خارج من ذلك، ومن تمام نعمته, منعنا من الخبائث, تنزيها لنا.

وقوله:
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

{ اسْتَوَى } ترد في القرآن على
ثلاثة معاني: فتارة لا تعدى بالحرف، فيكون معناها, الكمال والتمام, كما في
قوله عن موسى: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } وتارة تكون بمعنى "
علا " و " ارتفع " وذلك إذا عديت بـ " على " كما في قوله تعالى: { ثم
استوى على العرش } { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } وتارة تكون بمعنى "
قصد " كما إذا عديت بـ " إلى " كما في هذه الآية، أي: لما خلق تعالى الأرض,
قصد إلى خلق السماوات { فسواهن سبع سماوات } فخلقها وأحكمها, وأتقنها, {
وهو بكل شيء عليم } فـ { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من
السماء وما يعرج فيها } و { يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ }
يعلم السر وأخفى.

وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في
هذه الآية, وكما في قوله تعالى: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } لأن خلقه للمخلوقات, أدل دليل على علمه, وحكمته,
وقدرته.

{ 30 - 34 } { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ
فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ
لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ
أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ
فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي
أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ
الْكَافِرِينَ }

هذا شروع في ذكر فضل آدم عليه السلام أبي البشر أن
الله حين أراد خلقه أخبر الملائكة بذلك, وأن الله مستخلفه في الأرض.

فقالت
الملائكة عليهم السلام: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا }
بالمعاصي { وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } [و]هذا تخصيص بعد تعميم, لبيان [شدة]
مفسدة القتل، وهذا بحسب ظنهم أن الخليفة المجعول في الأرض سيحدث منه ذلك,
فنزهوا الباري عن ذلك, وعظموه, وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه
خال من المفسدة فقالوا: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } أي: ننزهك
التنزيه اللائق بحمدك وجلالك، { وَنُقَدِّسُ لَكَ } يحتمل أن معناها:
ونقدسك, فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص، ويحتمل أن يكون: ونقدس لك
أنفسنا، أي: نطهرها بالأخلاق الجميلة, كمحبة الله وخشيته وتعظيمه, ونطهرها
من الأخلاق الرذيلة.

قال الله تعالى للملائكة: { إِنِّي أَعْلَمُ }
من هذا الخليفة { مَا لَا تَعْلَمُونَ } ؛ لأن كلامكم بحسب ما ظننتم, وأنا
عالم بالظواهر والسرائر, وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة, أضعاف
أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر فلو لم يكن في ذلك, إلا أن الله تعالى أراد أن
يجتبي منهم الأنبياء والصديقين, والشهداء والصالحين, ولتظهر آياته للخلق,
ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة, كالجهاد وغيره,
وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم من الخير والشر بالامتحان, وليتبين عدوه
من وليه, وحزبه من حربه, وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى
عليه, واتصف به, فهذه حكم عظيمة, يكفي بعضها في ذلك.

ثم لما كان قول
الملائكة عليهم السلام, فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله الله
في الأرض, أراد الله تعالى, أن يبين لهم من فضل آدم, ما يعرفون به فضله,
وكمال حكمة الله وعلمه فـ { عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } أي:
أسماء الأشياء, وما هو مسمى بها، فعلمه الاسم والمسمى, أي: الألفاظ
والمعاني, حتى المكبر من الأسماء كالقصعة، والمصغر كالقصيعة.

{
ثُمَّ عَرَضَهُمْ } أي: عرض المسميات { عَلَى الْمَلَائِكَةِ } امتحانا
لهم, هل يعرفونها أم لا؟.

{ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ
هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في قولكم وظنكم, أنكم أفضل من هذا
الخليفة.

{ قَالُوا سُبْحَانَكَ } أي: ننزهك من الاعتراض منا عليك,
ومخالفة أمرك. { لَا عِلْمَ لَنَا } بوجه من الوجوه { إِلَّا مَا
عَلَّمْتَنَا } إياه, فضلا منك وجودا، { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ } العليم الذي أحاط علما بكل شيء, فلا يغيب عنه ولا يعزب مثقال
ذرة في السماوات والأرض, ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

الحكيم: من له
الحكمة التامة التي لا يخرج عنها مخلوق, ولا يشذ عنها مأمور، فما خلق شيئا
إلا لحكمة: ولا أمر بشيء إلا لحكمة، والحكمة: وضع الشيء في موضعه اللائق
به، فأقروا, واعترفوا بعلم الله وحكمته, وقصورهم عن معرفة أدنى شيء،
واعترافهم بفضل الله عليهم; وتعليمه إياهم ما لا يعلمون.

فحينئذ قال
الله: { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } أي: أسماء المسميات
التي عرضها الله على الملائكة; فعجزوا عنها، { فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ } تبين للملائكة فضل آدم عليهم; وحكمة الباري وعلمه في
استخلاف هذا الخليفة، { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وهو ما غاب عنا; فلم نشاهده، فإذا كان عالما
بالغيب; فالشهادة من باب أولى، { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } أي: تظهرون {
وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }

ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم; إكراما
له وتعظيما; وعبودية لله تعالى، فامتثلوا أمر الله; وبادروا كلهم بالسجود، {
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى } امتنع عن السجود; واستكبر عن أمر الله وعلى آدم،
قال: { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } وهذا الإباء منه والاستكبار;
نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه; فتبينت حينئذ عداوته لله ولآدم وكفره
واستكباره.

وفي هذه الآيات من العبر والآيات; إثبات الكلام لله
تعالى; وأنه لم يزل متكلما; يقول ما شاء; ويتكلم بما شاء; وأنه عليم حكيم،
وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالوجب
عليه; التسليم; واتهام عقله; والإقرار لله بالحكمة، وفيه اعتناء الله بشأن
الملائكة; وإحسانه بهم; بتعليمهم ما جهلوا; وتنبيههم على ما لم يعلموه.

وفيه
فضيلة العلم من وجوه:

منها: أن الله تعرف لملائكته; بعلمه وحكمته ،
ومنها: أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم; وأنه أفضل صفة تكون في العبد،
ومنها: أن الله أمرهم بالسجود لآدم; إكراما له; لما بان فضل علمه، ومنها:
أن الامتحان للغير; إذا عجزوا عما امتحنوا به; ثم عرفه صاحب الفضيلة; فهو
أكمل مما عرفه ابتداء، ومنها: الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن; وبيان فضل
آدم; وأفضال الله عليه; وعداوة إبليس له; إلى غير ذلك من العبر.

{
35 - 36 } { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ
الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ
عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ
إِلَى حِينٍ }

لما خلق الله آدم وفضله; أتم نعمته عليه; بأن خلق
منه زوجة ليسكن إليها; ويستأنس بها; وأمرهما بسكنى الجنة; والأكل منها
رغدا; أي: واسعا هنيئا، { حَيْثُ شِئْتُمَا } أي: من أصناف الثمار
والفواكه; وقال الله له: { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى
وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى }

{ وَلَا تَقْرَبَا
هَذِهِ الشَّجَرَةَ } نوع من أنواع شجر الجنة; الله أعلم بها، وإنما نهاهما
عنها امتحانا وابتلاء [أو لحكمة غير معلومة لنا] { فَتَكُونَا مِنَ
الظَّالِمِينَ } دل على أن النهي للتحريم; لأنه رتب عليه الظلم.

فلم
يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه; حتى أزلهما، أي:
حملهما على الزلل بتزيينه. { وَقَاسَمَهُمَا } بالله { إِنِّي لَكُمَا
لَمِنَ النَّاصِحِينَ } فاغترا به وأطاعاه; فأخرجهما مما كانا فيه من
النعيم والرغد; وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة.

{
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي: آدم وذريته; أعداء لإبليس وذريته، ومن
المعلوم أن العدو; يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق;
وحرمانه الخير بكل طريق، ففي ضمن هذا, تحذير بني آدم من الشيطان كما قال
تعالى { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا
إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } {
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ
عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا }

ثم ذكر منتهى الإهباط إلى
الأرض، فقال: { وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } أي: مسكن وقرار، {
وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } انقضاء آجالكم, ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم
لها, وخلقت لكم، ففيها أن مدة هذه الحياة, مؤقتة عارضة, ليست مسكنا حقيقيا,
وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار, ولا تعمر للاستقرار.

{ 37 } {
فَتَلَقَّى آدَمُ }

{ فَتَلَقَّى آدَمُ } أي: تلقف وتلقن, وألهمه
الله { مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } وهي قوله: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنَا } الآية، فاعترف بذنبه وسأل الله مغفرته { فَتَابَ } الله {
عَلَيْهِ } ورحمه { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ } لمن تاب إليه وأناب.

وتوبته
نوعان: توفيقه أولا, ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا.

{
الرَّحِيمِ } بعباده, ومن رحمته بهم, أن وفقهم للتوبة, وعفا عنهم وصفح.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 7:47 pm

{ 49 - 57 } { وَإِذْ
نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ
بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ
فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ *
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ
الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ * وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا
عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
}

هذا شروع في تعداد نعمه على بني إسرائيل على وجه التفصيل فقال: {
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ } أي: من فرعون وملئه وجنوده
وكانوا قبل ذلك { يَسُومُونَكُمْ } أي: يولونهم ويستعملونهم، { سُوءَ
الْعَذَابِ } أي: أشده بأن كانوا { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ } خشية
نموكم، { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } أي: فلا يقتلونهن، فأنتم بين قتيل
ومذلل بالأعمال الشاقة، مستحيي على وجه المنة عليه والاستعلاء عليه فهذا
غاية الإهانة، فمن الله عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون لتقر
أعينهم.

{ وَفِي ذَلِكم } أي: الإنجاء { بَلَاءٌ } أي: إحسان {
مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } فهذا مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره.

ثم
ذكر منته عليهم بوعده لموسى أربعين ليلة لينزل عليهم التوراة المتضمنة
للنعم العظيمة والمصالح العميمة، ثم إنهم لم يصبروا قبل استكمال الميعاد
حتى عبدوا العجل من بعده, أي: ذهابه.

{ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ }
عالمون بظلمكم, قد قامت عليكم الحجة, فهو أعظم جرما وأكبر إثما.

ثم
إنه أمركم بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضا فعفا الله عنكم
بسبب ذلك { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله.

{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا
مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } وهذا غاية
الظلم والجراءة على الله وعلى رسوله، { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ } إما
الموت أو الغشية العظيمة، { وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } وقوع ذلك, كل ينظر
إلى صاحبه، { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ }

ثم ذكر نعمته عليكم في التيه والبرية الخالية من
الظلال وسعة الأرزاق، فقال: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ
وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } وهو اسم جامع لكل رزق حسن يحصل بلا
تعب، ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك.

{ وَالسَّلْوَى } طائر
صغير يقال له السماني، طيب اللحم، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما
يكفيهم ويقيتهم { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي: رزقا لا
يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين, فلم يشكروا هذه النعمة, واستمروا على
قساوة القلوب وكثرة الذنوب.

{ وَمَا ظَلَمُونَا } يعني بتلك الأفعال
المخالفة لأوامرنا لأن الله لا تضره معصية العاصين, كما لا تنفعه طاعات
الطائعين، { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } فيعود ضرره
عليهم.

{ 58 - 59 } { وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ
فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا
وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي
قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ
السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }

وهذا أيضا من نعمته عليهم
بعد معصيتهم إياه, فأمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا ومسكنا, ويحصل لهم
فيها الرزق الرغد، وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله فيه بالفعل, وهو
دخول الباب { سجدا } أي: خاضعين ذليلين، وبالقول وهو أن يقولوا: { حِطَّةٌ }
أي أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته.

{ نَغْفِرْ لَكُمْ
خَطَايَاكُمْ } بسؤالكم المغفرة، { وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } بأعمالهم,
أي: جزاء عاجل وآجلا.

{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا } منهم, ولم
يقل فبدلوا لأنهم لم يكونوا كلهم بدلوا { قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ
لَهُمْ } فقالوا بدل حطة: حبة في حنطة، استهانة بأمر الله, واستهزاء وإذا
بدلوا القول مع خفته فتبديلهم للفعل من باب أولى وأحرى، ولهذا دخلوا يزحفون
على أدبارهم, ولما كان هذا الطغيان أكبر سبب لوقوع عقوبة الله بهم، قال: {
فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } منهم { رِجْزًا } أي: عذابا {
مِنَ السَّمَاءِ } بسبب فسقهم وبغيهم.

{ 60 } { وَإِذِ اسْتَسْقَى
مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ
مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ
كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ }

استسقى, أي: طلب لهم ماء يشربون منه.

{
فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ } إما حجر مخصوص معلوم عنده, وإما
اسم جنس، { فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } وقبائل بني
إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة، { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ } منهم {
مَشْرَبَهُمْ } أي: محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين, فلا يزاحم بعضهم
بعضا, بل يشربونه متهنئين لا متكدرين, ولهذا قال: { كُلُوا وَاشْرَبُوا
مِنْ رِزْقِ اللَّهِ } أي: الذي آتاكم من غير سعي ولا تعب، { وَلَا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ } أي: تخربوا على وجه الإفساد.

{ 61 } {
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ
لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا
وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ
الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ
لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ
وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ
بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }

أي: واذكروا, إذ قلتم لموسى,
على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها، { لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ
وَاحِدٍ } أي: جنس من الطعام, وإن كان كما تقدم أنواعا, لكنها لا تتغير، {
فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ
بَقْلِهَا } أي: نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه، { وَقِثَّائِهَا }
وهو الخيار { وَفُومِهَا } أي: ثومها، والعدس والبصل معروف، قال لهم موسي {
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى } وهو الأطعمة المذكورة، {
بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وهو المن والسلوى, فهذا غير لائق بكم، فإن هذه
الأطعمة التي طلبتم, أي مصر هبطتموه وجدتموها، وأما طعامكم الذي من الله به
عليكم, فهو خير الأطعمة وأشرفها, فكيف تطلبون به بدلا؟

ولما كان
الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم لأوامر الله ونعمه,
جازاهم من جنس عملهم فقال: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } التي
تشاهد على ظاهر أبدانهم { وَالْمَسْكَنَةُ } بقلوبهم، فلم تكن أنفسهم
عزيزة, ولا لهم همم عالية, بل أنفسهم أنفس مهينة, وهممهم أردأ الهمم، {
وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } أي: لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها
وفازوا, إلا أن رجعوا بسخطه عليهم, فبئست الغنيمة غنيمتهم, وبئست الحالة
حالتهم.

{ ذَلِكَ } الذي استحقوا به غضبه { بِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } الدالات على الحق الموضحة لهم, فلما كفروا
بها عاقبهم بغضبه عليهم, وبما كانوا { يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ
الْحَقِّ }

وقوله: { بِغَيْرِ الْحَقِّ } زيادة شناعة, وإلا فمن
المعلوم أن قتل النبي لا يكون بحق, لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم.

{
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا } بأن ارتكبوا معاصي الله { وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }
على عباد الله, فإن المعاصي يجر بعضها بعضا، فالغفلة ينشأ عنها الذنب
الصغير, ثم ينشأ عنه الذنب الكبير, ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير
ذلك, فنسأل الله العافية من كل بلاء.

واعلم أن الخطاب في هذه الآيات
لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن, وهذه الأفعال
المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلافهم, ونسبت لهم لفوائد عديدة، منها: أنهم
كانوا يتمدحون ويزكون أنفسهم, ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به، فبين
الله من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم, ما يبين به لكل أحد [منهم] أنهم
ليسوا من أهل الصبر ومكارم الأخلاق, ومعالي الأعمال، فإذا كانت هذه حالة
سلفهم، مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم فكيف الظن
بالمخاطبين؟".

ومنها: أن نعمة الله على المتقدمين منهم, نعمة واصلة
إلى المتأخرين, والنعمة على الآباء, نعمة على الأبناء، فخوطبوا بها, لأنها
نعم تشملهم وتعمهم.

ومنها: أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم, مما يدل على
أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها, حتى كان متقدمهم
ومتأخرهم في وقت واحد, وكان الحادث من بعضهم حادثا من الجميع.

لأن
ما يعمله بعضهم من الخير يعود بمصلحة الجميع, وما يعمله من الشر يعود بضرر
الجميع.

ومنها: أن أفعالهم أكثرها لم ينكروها, والراضي بالمعصية
شريك للعاصي، إلى غير ذلك من الحِكَم التي لا يعلمها إلا الله.

{62 }
ثم قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }

وهذا
الحكم على أهل الكتاب خاصة, لأن الصابئين, الصحيح أنهم من جملة فرق
النصارى، فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة, واليهود والنصارى,
والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر, وصدقوا رسلهم, فإن لهم الأجر العظيم
والأمن, ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم
الآخر, فهو بضد هذه الحال, فعليه الخوف والحزن.

والصحيح أن هذا
الحكم بين هذه الطوائف, من حيث هم, لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد, فإن هذا
إخبار عنهم قبل بعثة محمد تفسير القران الكريم كاملا 0099999 وأن هذا مضمون أحوالهم، وهذه طريقة القرآن
إذا وقع في بعض النفوس عند سياق الآيات بعض الأوهام, فلا بد أن تجد ما يزيل
ذلك الوهم, لأنه تنزيل مَنْ يعلم الأشياء قبل وجودها, ومَنْ رحمته وسعت كل
شيء.

وذلك والله أعلم - أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم, وذكر
معاصيهم وقبائحهم, ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم، فأراد
الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه، ولما كان أيضا ذكر بني
إسرائيل خاصة يوهم الاختصاص بهم. ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها,
ليتضح الحق, ويزول التوهم والإشكال، فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول
العالمين.

ثم عاد تبارك وتعالى يوبخ بني إسرائيل بما فعل سلفهم:

{
63-64 } { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ
خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

أي:
واذكروا { إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } وهو العهد الثقيل المؤكد
بالتخويف لهم, برفع الطور فوقهم وقيل لهم: { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ } من
التوراة { بِقُوَّةٍ } أي: بجد واجتهاد, وصبر على أوامر الله، {
وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ } أي: ما في كتابكم بأن تتلوه وتتعلموه، {
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } عذاب الله وسخطه, أو لتكونوا من أهل التقوى.

فبعد
هذا التأكيد البليغ { تَوَلَّيْتُمْ } وأعرضتم, وكان ذلك موجبا لأن يحل
بكم أعظم العقوبات، ولكن { لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

{ 65-66 } { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا
قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا
وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ }

أي: ولقد تقرر عندكم
حالة { الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ } وهم الذين ذكر الله
قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف في قوله: { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ
الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ }
الآيات.

فأوجب لهم هذا الذنب العظيم, أن غضب الله عليهم وجعلهم {
قِرَدَةً خَاسِئِينَ } حقيرين ذليلين.

وجعل الله هذه العقوبة {
نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } أي: لمن حضرها من الأمم, وبلغه خبرها,
ممن هو في وقتهم. { وَمَا خَلْفَهَا } أي: من بعدهم, فتقوم على العباد حجة
الله, وليرتدعوا عن معاصيه, ولكنها لا تكون موعظة نافعة إلا للمتقين، وأما
من عداهم فلا ينتفعون بالآيات.

{ 67 - 74 } { وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا
أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ
بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ
صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا
وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ
مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ
فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا
فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ *
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ
مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ }

أي: واذكروا ما جرى لكم مع موسى, حين قتلتم قتيلا,
وادارأتم فيه, أي: تدافعتم واختلفتم في قاتله, حتى تفاقم الأمر بينكم وكاد -
لولا تبيين الله لكم - يحدث بينكم شر كبير، فقال لكم موسى في تبيين
القاتل: اذبحوا بقرة، وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره, وعدم
الاعتراض عليه، ولكنهم أبوا إلا الاعتراض, فقالوا: { أَتَتَّخِذُنَا
هُزُوًا } فقال نبي الله: { أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ } فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه, وهو
الذي يستهزئ بالناس، وأما العاقل فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين
والعقل, استهزاءه بمن هو آدمي مثله، وإن كان قد فضل عليه, فتفضيله يقتضي
منه الشكر لربه, والرحمة لعباده. فلما قال لهم موسى ذلك, علموا أن ذلك صدق
فقالوا: { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ }

أي: ما
سنها؟ { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ } أي: كبيرة {
وَلَا بِكْرٌ } أي: صغيرة { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا
تُؤْمَرُونَ } واتركوا التشديد والتعنت.

{ قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا
بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا } أي: شديد { تَسُرُّ النَّاظِرِينَ }
من حسنها.

{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ
إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } فلم نهتد إلى ما تريد { وَإِنَّا
إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ }

{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ } أي: مذللة بالعمل، { تُثِيرُ الْأَرْضَ }
بالحراثة { وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ } أي: ليست بساقية، { مُسَلَّمَةٌ } من
العيوب أو من العمل { لَا شِيَةَ فِيهَا } أي: لا لون فيها غير لونها
الموصوف المتقدم.

{ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } أي: بالبيان
الواضح، وهذا من جهلهم, وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة، فلو أنهم اعترضوا
أي: بقرة لحصل المقصود, ولكنهم شددوا بكثرة الأسئلة فشدد الله عليهم, ولو
لم يقولوا " إن شاء الله " لم يهتدوا أيضا إليها، { فَذَبَحُوهَا } أي:
البقرة التي وصفت بتلك الصفات، { وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } بسبب التعنت
الذي جرى منهم.

فلما ذبحوها, قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها, أي:
بعضو منها, إما معين, أو أي عضو منها, فليس في تعيينه فائدة, فضربوه ببعضها
فأحياه الله, وأخرج ما كانوا يكتمون, فأخبر بقاتله، وكان في إحيائه وهم
يشاهدون ما يدل على إحياء الله الموتى، { لعلكم تعقلون } فتنزجرون عن ما
يضركم.

{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } أي: اشتدت وغلظت, فلم تؤثر
فيها الموعظة، { مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي: من بعد ما أنعم عليكم بالنعم
العظيمة وأراكم الآيات، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم, لأن ما شاهدتم, مما
يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها بأنها { كَالْحِجَارَةِ } التي هي
أشد قسوة من الحديد، لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار, ذاب بخلاف
الأحجار.

وقوله: { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } أي: إنها لا تقصر عن
قساوة الأحجار، وليست " أو " بمعنى " بل " ثم ذكر فضيلة الأحجار على
قلوبهم، فقال: { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ
الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } فبهذه الأمور
فضلت قلوبكم. ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال: { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها, وسيجازيكم على
ذلك أتم الجزاء وأوفاه.

واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله, قد
أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل, ونزلوا عليها الآيات القرآنية,
وجعلوها تفسيرا لكتاب الله, محتجين بقوله تفسير القران الكريم كاملا 0099999: " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج "

والذي
أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة, ولا منزلة
على كتاب الله, فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن
رسول الله تفسير القران الكريم كاملا 0099999، وذلك أن مرتبتها كما قال تفسير القران الكريم كاملا 0099999: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم "
فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها, وكان من المعلوم بالضرورة من دين
الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه، فلا يجوز أن
تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة, التي يغلب على الظن كذبها أو
كذب أكثرها, معاني لكتاب الله, مقطوعا بها ولا يستريب بهذا أحد، ولكن بسبب
الغفلة عن هذا حصل ما حصل، والله الموفق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 7:48 pm

{ 75 - 78 } {
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا
عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا
آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ
بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
أَفَلَا تَعْقِلُونَ *

أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا
يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ }

هذا
قطع لأطماع المؤمنين من إيمان أهل الكتاب, أي: فلا تطمعوا في إيمانهم
وحالتهم لا تقتضي الطمع فيهم, فإنهم كانوا يحرفون كلام الله من بعد ما
عقلوه وعلموه, فيضعون له معاني ما أرادها الله, ليوهموا الناس أنها من عند
الله, وما هي من عند الله، فإذا كانت هذه حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم
ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله, فكيف يرجى منهم إيمان لكم؟! فهذا من
أبعد الأشياء.

ثم ذكر حال منافقي أهل الكتاب فقال: { وَإِذَا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } فأظهروا لهم الإيمان قولا بألسنتهم,
ما ليس في قلوبهم، { وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } فلم يكن
عندهم أحد من غير أهل دينهم، قال بعضهم لبعض: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا
فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي: أتظهرون لهم الإيمان وتخبروهم أنكم مثلهم,
فيكون ذلك حجة لهم عليكم؟

يقولون: إنهم قد أقروا بأن ما نحن عليه
حق, وما هم عليه باطل, فيحتجون عليكم بذلك عند ربكم { أَفَلَا تَعْقِلُونَ }
أي: أفلا يكون لكم عقل, فتتركون ما هو حجة عليكم؟ هذا يقوله بعضهم لبعض.

{
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ } فهم وإن أسروا ما يعتقدونه فيما بينهم, وزعموا أنهم بإسرارهم
لا يتطرق عليهم حجة للمؤمنين, فإن هذا غلط منهم وجهل كبير, فإن الله يعلم
سرهم وعلنهم, فيظهر لعباده ما أنتم عليه.

{ وَمِنْهُمْ } أي: من أهل
الكتاب { أُمِّيُّونَ } أي: عوام, ليسوا من أهل العلم، { لَا يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ } أي: ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة
فقط, وليس عندهم خبر بما عند الأولين الذين يعلمون حق المعرفة حالهم,
وهؤلاء إنما معهم ظنون وتقاليد لأهل العلم منهم.

فذكر في هذه الآيات
علماءهم, وعوامهم, ومنافقيهم, ومن لم ينافق منهم, فالعلماء منهم متمسكون
بما هم عليه من الضلال، والعوام مقلدون لهم, لا بصيرة عندهم فلا مطمع لكم
في الطائفتين.

{ 79 } { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ
بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا
بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ
وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ }

توعد تعالى المحرفين للكتاب,
الذين يقولون لتحريفهم وما يكتبون: { هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وهذا فيه
إظهار الباطل وكتم الحق, وإنما فعلوا ذلك مع علمهم { لِيَشْتَرُوا بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلًا } والدنيا كلها من أولها إلى آخرها ثمن قليل، فجعلوا
باطلهم شركا يصطادون به ما في أيدي الناس, فظلموهم من وجهين: من جهة تلبيس
دينهم عليهم, ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق, بل بأبطل الباطل, وذلك أعظم ممن
يأخذها غصبا وسرقة ونحوهما، ولهذا توعدهم بهذين الأمرين فقال: { فَوَيْلٌ
لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } أي: من التحريف والباطل { وَوَيْلٌ
لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } من الأموال، والويل: شدة العذاب والحسرة, وفي
ضمنها الوعيد الشديد.

قال شيخ الإسلام لما ذكر هذه الآيات من قوله: {
أَفَتَطْمَعُونَ } إلى { يَكْسِبُونَ } فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن
مواضعه, وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة, على ما أصله من البدع الباطلة.

وذم
الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني, وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن ولم
يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه، ومتناول لمن كتب كتابا بيده مخالفا لكتاب الله,
لينال به دنيا وقال: إنه من عند الله, مثل أن يقول: هذا هو الشرع والدين,
وهذا معنى الكتاب والسنة, وهذا معقول السلف والأئمة, وهذا هو أصول الدين,
الذي يجب اعتقاده على الأعيان والكفاية، ومتناول لمن كتم ما عنده من الكتاب
والسنة, لئلا يحتج به مخالفه في الحق الذي يقوله.

وهذه الأمور
كثيرة جدا في أهل الأهواء جملة, كالرافضة, وتفصيلا مثل كثير من المنتسبين
إلى الفقهاء.

{ 80 - 82 } { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ
إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا
فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ
فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ }

ذكر أفعالهم القبيحة, ثم ذكر مع هذا أنهم يزكون
أنفسهم, ويشهدون لها بالنجاة من عذاب الله, والفوز بثوابه, وأنهم لن تمسهم
النار إلا أياما معدودة, أي: قليلة تعد بالأصابع, فجمعوا بين الإساءة
والأمن.

ولما كان هذا مجرد دعوى, رد الله تعالى عليهم فقال: { قُلْ }
لهم يا أيها الرسول { أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا } أي بالإيمان
به وبرسله وبطاعته, فهذا الوعد الموجب لنجاة صاحبه الذي لا يتغير ولا
يتبدل. { أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } ؟ فأخبر
تعالى أن صدق دعواهم متوقفة على أحد هذين الأمرين اللذين لا ثالث لهما: إما
أن يكونوا قد اتخذوا عند الله عهدا, فتكون دعواهم صحيحة.

وإما أن
يكونوا متقولين عليه فتكون كاذبة, فيكون أبلغ لخزيهم وعذابهم، وقد علم من
حالهم أنهم لم يتخذوا عند الله عهدا, لتكذيبهم كثيرا من الأنبياء, حتى وصلت
بهم الحال إلى أن قتلوا طائفة منهم, ولنكولهم عن طاعة الله ونقضهم
المواثيق، فتعين بذلك أنهم متقولون مختلقون, قائلون عليه ما لا يعلمون،
والقول عليه بلا علم, من أعظم المحرمات, وأشنع القبيحات.

ثم ذكر
تعالى حكما عاما لكل أحد, يدخل به بنو إسرائيل وغيرهم, وهو الحكم الذي لا
حكم غيره, لا أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين، فقال: { بَلَى }
أي: ليس الأمر كما ذكرتم, فإنه قول لا حقيقة له، ولكن { مَنْ كَسَبَ
سَيِّئَةً } وهو نكرة في سياق الشرط, فيعم الشرك فما دونه، والمراد به هنا
الشرك, بدليل قوله: { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } أي: أحاطت بعاملها,
فلم تدع له منفذا, وهذا لا يكون إلا الشرك, فإن من معه الإيمان لا تحيط به
خطيئته.

{ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية, وهي حجة عليهم كما ترى, فإنها
ظاهرة في الشرك, وهكذا كل مبطل يحتج بآية, أو حديث صحيح على قوله الباطل
فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه.

{ وَالَّذِينَ آمَنُوا }
بالله وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }
ولا تكون الأعمال صالحة إلا بشرطين: أن تكون خالصة لوجه الله, متبعا بها
سنة رسوله.

فحاصل هاتين الآيتين, أن أهل النجاة والفوز, هم أهل
الإيمان والعمل الصالح، والهالكون أهل النار المشركون بالله, الكافرون به.

{
83 } { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ
إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا
مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ }

وهذه الشرائع من أصول الدين,
التي أمر الله بها في كل شريعة, لاشتمالها على المصالح العامة, في كل زمان
ومكان, فلا يدخلها نسخ, كأصل الدين، ولهذا أمرنا بها في قوله: {
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } إلى آخر الآية.

فقوله:
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } هذا من قسوتهم أن كل
أمر أمروا به, استعصوا؛ فلا يقبلونه إلا بالأيمان الغليظة, والعهود الموثقة
{ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } هذا أمر بعبادة الله وحده, ونهى عن
الشرك به، وهذا أصل الدين, فلا تقبل الأعمال كلها إن لم يكن هذا أساسها,
فهذا حق الله تعالى على عباده, ثم قال: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }
أي: أحسنوا بالوالدين إحسانا، وهذا يعم كل إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان
إليهم، وفيه النهي عن الإساءة إلى الوالدين, أو عدم الإحسان والإساءة، لأن
الواجب الإحسان, والأمر بالشيء نهي عن ضده.

وللإحسان ضدان: الإساءة,
وهي أعظم جرما، وترك الإحسان بدون إساءة, وهذا محرم, لكن لا يجب أن يلحق
بالأول، وكذا يقال في صلة الأقارب واليتامى, والمساكين، وتفاصيل الإحسان لا
تنحصر بالعد, بل تكون بالحد, كما تقدم.

ثم أمر بالإحسان إلى الناس
عموما فقال: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } ومن القول الحسن أمرهم
بالمعروف, ونهيهم عن المنكر, وتعليمهم العلم, وبذل السلام, والبشاشة وغير
ذلك من كل كلام طيب.

ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله, أمر بأمر
يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق, وهو الإحسان بالقول, فيكون في ضمن ذلك
النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار, ولهذا قال تعالى: { وَلَا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }

ومن
أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده, أن يكون الإنسان نزيها في أقواله
وأفعاله, غير فاحش ولا بذيء, ولا شاتم, ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق, واسع
الحلم, مجاملا لكل أحد, صبورا على ما يناله من أذى الخلق, امتثالا لأمر
الله, ورجاء لثوابه.

ثم أمرهم بإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, لما
تقدم أن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود, والزكاة متضمنة للإحسان إلى
العبيد.

{ ثُمَّ } بعد هذا الأمر لكم بهذه الأوامر الحسنة التي إذا
نظر إليها البصير العاقل, عرف أن من إحسان الله على عباده أن أمرهم بها,,
وتفضل بها عليهم وأخذ المواثيق عليكم { تَوَلَّيْتُمْ } على وجه الإعراض،
لأن المتولي قد يتولى, وله نية رجوع إلى ما تولى عنه، وهؤلاء ليس لهم رغبة
ولا رجوع في هذه الأوامر، فنعوذ بالله من الخذلان.

وقوله: { إِلَّا
قَلِيلًا مِنْكُمْ } هذا استثناء, لئلا يوهم أنهم تولوا كلهم، فأخبر أن
قليلا منهم, عصمهم الله وثبتهم.

{ 84 - 86 } { وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ
مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ
أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا
مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ
إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ
إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ *
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }

وهذا الفعل
المذكور في هذه الآية, فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة، وذلك أن
الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 مشركين, وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية،
فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود, بنو قريظة, وبنو النضير, وبنو
قينقاع، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة.

فكانوا إذا
اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم الفرقة الأخرى من
اليهود, فيقتل اليهودي اليهودي, ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب، ثم إذا
وضعت الحرب أوزارها, وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا.

والأمور
الثلاثة كلها قد فرضت عليهم، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض, ولا
يخرج بعضهم بعضا، وإذا وجدوا أسيرا منهم, وجب عليهم فداؤه، فعملوا بالأخير
وتركوا الأولين, فأنكر الله عليهم ذلك فقال: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
الْكِتَابِ } وهو فداء الأسير { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وهو القتل
والإخراج.

وفيها أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر
واجتناب النواهي، وأن المأمورات من الإيمان، قال تعالى: { فَمَا جَزَاءُ
مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }
وقد وقع ذلك فأخزاهم الله, وسلط رسوله عليهم, فقتل من قتل, وسبى من سبى
منهم, وأجلى من أجلى.

{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى
أَشَدِّ الْعَذَابِ } أي: أعظمه { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ }

ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض
الكتاب, والإيمان ببعضه فقال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ } توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار,
فاختاروا النار على العار، فلهذا قال: { فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ
الْعَذَابُ } بل هو باق على شدته, ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات، {
وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي: يدفع عنهم مكروه.

{ 87 } { وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }

يمتن
تعالى على بني إسرائيل أن أرسل لهم كليمه موسى, وآتاه التوراة, ثم تابع من
بعده بالرسل الذين يحكمون بالتوراة, إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى ابن مريم
عليه السلام، وآتاه من الآيات البينات ما يؤمن على مثله البشر، {
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } أي: قواه الله بروح القدس.

قال
أكثر المفسرين: إنه جبريل عليه السلام, وقيل: إنه الإيمان الذي يؤيد الله
به عباده.

ثم مع هذه النعم التي لا يقدر قدرها, لما أتوكم { بِمَا
لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ } عن الإيمان بهم، { فَفَرِيقًا }
منهم { كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } فقدمتم الهوى على الهدى,
وآثرتم الدنيا على الآخرة، وفيها من التوبيخ والتشديد ما لا يخفى.

{
88 } { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ
فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ }

أي: اعتذروا عن الإيمان لما دعوتهم
إليه, يا أيها الرسول, بأن قلوبهم غلف, أي: عليها غلاف وأغطية, فلا تفقه ما
تقول، يعني فيكون لهم - بزعمهم - عذر لعدم العلم, وهذا كذب منهم، فلهذا
قال تعالى: { بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } أي: أنهم مطرودون
ملعونون, بسبب كفرهم، فقليلا المؤمن منهم, أو قليلا إيمانهم، وكفرهم هو
الكثير.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 7:51 pm

89
- 90 } { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ
مُهِينٌ }

أي: ولما جاءهم كتاب من عند الله على يد أفضل الخلق وخاتم
الأنبياء, المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة, وقد علموا به, وتيقنوه
حتى إنهم كانوا إذا وقع بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب, استنصروا
بهذا النبي, وتوعدوهم بخروجه, وأنهم يقاتلون المشركين معه، فلما جاءهم هذا
الكتاب والنبي الذي عرفوا, كفروا به, بغيا وحسدا, أن ينزل الله من فضله على
من يشاء من عباده، فلعنهم الله, وغضب عليهم غضبا بعد غضب, لكثرة كفرهم
وتوالى شكهم وشركهم.

{ وللكافرين عذاب مهين } أي: مؤلم موجع, وهو
صلي الجحيم, وفوت النعيم المقيم، فبئس الحال حالهم, وبئس ما استعاضوا
واستبدلوا من الإيمان بالله وكتبه ورسله, الكفر به, وبكتبه, وبرسله, مع
علمهم وتيقنهم, فيكون أعظم لعذابهم.

{ 91 - 93 } { وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا
مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا
يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }

أي:
وإذا أمر اليهود بالإيمان بما أنزل الله على رسوله, وهو القرآن استكبروا
وعتوا, و { قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا
وَرَاءَهُ } أي: بما سواه من الكتب، مع أن الواجب أن يؤمن بما أنزل الله
مطلقا, سواء أنزل عليهم, أو على غيرهم, وهذا هو الإيمان النافع, الإيمان
بما أنزل الله على جميع رسل الله.

وأما التفريق بين الرسل والكتب,
وزعم الإيمان ببعضها دون بعض, فهذا ليس بإيمان, بل هو الكفر بعينه, ولهذا
قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ
نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا
بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا }

ولهذا
رد عليهم تبارك وتعالى هنا ردا شافيا, وألزمهم إلزاما لا محيد لهم عنه,
فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين فقال: { وَهُوَ الْحَقُّ } فإذا كان هو
الحق في جميع ما اشتمل عليه من الإخبارات, والأوامر والنواهي, وهو من عند
ربهم, فالكفر به بعد ذلك كفر بالله, وكفر بالحق الذي أنزله.

ثم قال:
{ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ } أي: موافقا له في كل ما دل عليه من الحق
ومهيمنا عليه.

فلم تؤمنون بما أنزل عليكم, وتكفرون بنظيره؟ هل هذا
إلا تعصب واتباع للهوى لا للهدى؟

وأيضا, فإن كون القرآن مصدقا لما
معهم, يقتضي أنه حجة لهم على صدق ما في أيديهم من الكتب, قلا سبيل لهم إلى
إثباتها إلا به، فإذا كفروا به وجحدوه, صاروا بمنزلة من ادعى دعوى بحجة
وبينة ليس له غيرها, ولا تتم دعواه إلا بسلامة بينته, ثم يأتي هو لبينته
وحجته, فيقدح فيها ويكذب بها; أليس هذا من الحماقة والجنون؟ فكان كفرهم
بالقرآن, كفرا بما في أيديهم ونقضا له.

ثم نقض عليهم تعالى دعواهم
الإيمان بما أنزل إليهم بقوله: { قُلْ } لهم: { فَلِمَ تَقْتُلُونَ
أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَقَدْ
جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ }

أي: بالأدلة الواضحات المبينة
للحق، { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ } أي: بعد مجيئه {
وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } في ذلك ليس لكم عذر.

{ وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ
بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا } أي: سماع قبول وطاعة واستجابة، { قَالُوا
سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي: صارت هذه حالتهم { وَأُشْرِبُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } بسبب كفرهم.

{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ
بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي: أنتم تدعون الإيمان
وتتمدحون بالدين الحق, وأنتم قتلتم أنبياء الله, واتخذتم العجل إلها من دون
الله, لما غاب عنكم موسى, نبي الله, ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إلا بعد
التهديد ورفع الطور فوقكم, فالتزمتم بالقول, ونقضتم بالفعل، فما هذا
الإيمان الذي ادعيتم, وما هذا الدين؟.

فإن كان هذا إيمانا على
زعمكم, فبئس الإيمان الداعي صاحبه إلى الطغيان, والكفر برسل الله, وكثرة
العصيان، وقد عهد أن الإيمان الصحيح, يأمر صاحبه بكل خير, وينهاه عن كل شر،
فوضح بهذا كذبهم, وتبين تناقضهم.

{ 94 - 96 } { قُلْ إِنْ كَانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ *
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ }

أي: { قُلْ } لهم على وجه تصحيح دعواهم: { إِنْ
كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ } يعني الجنة { خَالِصَةً مِنْ دُونِ
النَّاسِ } كما زعمتم, أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى, وأن
النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، فإن كنتم صادقين بهذه الدعوى {
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ } وهذا نوع مباهلة بينهم وبين رسول الله تفسير القران الكريم كاملا 0099999.

وليس بعد هذا الإلجاء والمضايقة
لهم بعد العناد منهم, إلا أحد أمرين: إما أن يؤمنوا بالله ورسوله، وإما أن
يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير عليهم, وهو تمني الموت الذي يوصلهم إلى
الدار التي هي خالصة لهم, فامتنعوا من ذلك.

فعلم كل أحد أنهم في
غاية المعاندة والمحادة لله ولرسوله, مع علمهم بذلك، ولهذا قال تعالى {
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من الكفر
والمعاصي, لأنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى المجازاة بأعمالهم الخبيثة،
فالموت أكره شيء إليهم, وهم أحرص على الحياة من كل أحد من الناس, حتى من
المشركين الذين لا يؤمنون بأحد من الرسل والكتب.

ثم ذكر شدة محبتهم
للدنيا فقال: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } وهذا
أبلغ ما يكون من الحرص, تمنوا حالة هي من المحالات، والحال أنهم لو عمروا
العمر المذكور, لم يغن عنهم شيئا ولا دفع عنهم من العذاب شيئا.

{
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم.

{
97 - 98 } { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ
عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى
وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ
لِلْكَافِرِينَ }

أي: قل لهؤلاء اليهود, الذين زعموا أن الذي منعهم
من الإيمان بك, أن وليك جبريل عليه السلام, ولو كان غيره من ملائكة الله,
لآمنوا بك وصدقوا، إن هذا الزعم منكم تناقض وتهافت, وتكبر على الله، فإن
جبريل عليه السلام هو الذي نزل بالقرآن من عند الله على قلبك, وهو الذي
ينزل على الأنبياء قبلك, والله هو الذي أمره, وأرسله بذلك, فهو رسول محض.

مع
أن هذا الكتاب الذي نزل به جبريل مصدقا لما تقدمه من الكتب غير مخالف لها
ولا مناقض, وفيه الهداية التامة من أنواع الضلالات, والبشارة بالخير
الدنيوي والأخروي, لمن آمن به، فالعداوة لجبريل الموصوف بذلك, كفر بالله
وآياته, وعداوة لله ولرسله وملائكته، فإن عداوتهم لجبريل, لا لذاته بل لما
ينزل به من عند الله من الحق على رسل الله.

فيتضمن الكفر والعداوة
للذي أنزله وأرسله, والذي أرسل به, والذي أرسل إليه, فهذا وجه ذلك.

{
99 } { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ
بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ }

يقول لنبيه تفسير القران الكريم كاملا 0099999: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ } تحصل بها الهداية لمن استهدى, وإقامة الحجة على من عاند, وهي
في الوضوح والدلالة على الحق, قد بلغت مبلغا عظيما ووصلت إلى حالة لا يمتنع
من قبولها إلا من فسق عن أمر الله, وخرج عن طاعة الله, واستكبر غاية
التكبر.

{ 100 } { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }

وهذا فيه التعجيب من
كثرة معاهداتهم, وعدم صبرهم على الوفاء بها.

فـ " كُلَّمَا " تفيد
التكرار, فكلما وجد العهد ترتب عليه النقض، ما السبب في ذلك؟ السبب أن
أكثرهم لا يؤمنون، فعدم إيمانهم هو الذي أوجب لهم نقض العهود، ولو صدق
إيمانهم, لكانوا مثل من قال الله فيهم: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ }

{ 101 - 103 } {
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا
أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا
يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا
تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ
وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ
وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }

أي: ولما جاءهم هذا الرسول
الكريم بالكتاب العظيم بالحق الموافق لما معهم، وكانوا يزعمون أنهم متمسكون
بكتابهم, فلما كفروا بهذا الرسول وبما جاء به، { نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ } الذي أنزل إليهم أي: طرحوه
رغبة عنه { وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } وهذا أبلغ في الإعراض كأنهم في فعلهم
هذا من الجاهلين وهم يعلمون صدقه، وحقيّة ما جاء به.

تبين بهذا أن
هذا الفريق من أهل الكتاب لم يبق في أيديهم شيء حيث لم يؤمنوا بهذا الرسول,
فصار كفرهم به كفرا بكتابهم من حيث لا يشعرون.

ولما كان من العوائد
القدرية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه، وأمكنه الانتفاع به فلم
ينتفع, ابتلي بالاشتغال بما يضره, فمن ترك عبادة الرحمن, ابتلي بعبادة
الأوثان, ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه, ابتلي بمحبة غير الله وخوفه
ورجائه, ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان, ومن ترك
الذل لربه, ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل.

كذلك
هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من
السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر، وزعموا أن سليمان
عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم.

وهم كذبة في ذلك،
فلم يستعمله سليمان، بل نزهه الصادق في قيله: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ }
أي: بتعلم السحر, فلم يتعلمه، { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } بذلك.

{
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم،
وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض
العراق، أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم
السحر.

{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى } ينصحاه, و {
يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } أي: لا تتعلم السحر
فإنه كفر، فينهيانه عن السحر، ويخبرانه عن مرتبته, فتعليم الشياطين للسحر
على وجه التدليس والإضلال، ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان
عليه السلام، وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة.

فهؤلاء
اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين, والسحر الذي يعلمه الملكان,
فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين, وكل يصبو إلى ما
يناسبه.

ثم ذكر مفاسد السحر فقال: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } مع أن محبة الزوجين لا
تقاس بمحبة غيرهما, لأن الله قال في حقهما: { وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ
مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يضر بإذن
الله، أي: بإرادة الله، والإذن نوعان: إذن قدري، وهو المتعلق بمشيئة الله,
كما في هذه الآية، وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة: {
فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وفي هذه الآية وما
أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير، فإنها تابعة للقضاء والقدر
ليست مستقلة في التأثير, ولم يخالف في هذا الأصل من فرق الأمة غير القدرية
في أفعال العباد، زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة, فأخرجوها عن قدرة
الله، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين.

ثم
ذكر أن علم السحر مضرة محضة, ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد
بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي، كما قال تعالى في الخمر والميسر: {
قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا
أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فهذا السحر مضرة محضة, فليس له داع أصلا,
فالمنهيات كلها إما مضرة محضة, أو شرها أكبر من خيرها.

كما أن
المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها.

{ وَلَقَدْ
عَلِمُوا } أي: اليهود { لَمَنِ اشْتَرَاهُ } أي: رغب في السحر رغبة
المشتري في السلعة.

{ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } أي:
نصيب, بل هو موجب للعقوبة, فلم يكن فعلهم إياه جهلا, ولكنهم استحبوا الحياة
الدنيا على الآخرة.

{ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } علما يثمر العمل ما فعلوه.


{ 104 -
105 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا
انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ
يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }

كان
المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين: { رَاعِنَا }
أي: راع أحوالنا, فيقصدون بها معنى صحيحا، وكان اليهود يريدون بها معنى
فاسدا, فانتهزوا الفرصة, فصاروا يخاطبون الرسول بذلك, ويقصدون المعنى
الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة, سدا لهذا الباب، ففيه النهي عن
الجائز, إذا كان وسيلة إلى محرم، وفيه الأدب, واستعمال الألفاظ, التي لا
تحتمل إلا الحسن, وعدم الفحش, وترك الألفاظ القبيحة, أو التي فيها نوع
تشويش أو احتمال لأمر غير لائق، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن فقال: {
وَقُولُوا انْظُرْنَا } فإنها كافية يحصل بها المقصود من غير محذور، {
وَاسْمَعُوا } لم يذكر المسموع, ليعم ما أمر باستماعه، فيدخل فيه سماع
القرآن, وسماع السنة التي هي الحكمة, لفظا ومعنى واستجابة، ففيه الأدب
والطاعة.

ثم توعد الكافرين بالعذاب المؤلم الموجع, وأخبر عن عداوة
اليهود والمشركين للمؤمنين, أنهم ما يودون { أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ
مِنْ خَيْرٍ } أي: لا قليلا ولا كثيرا { مِنْ رَبِّكُمْ } حسدا منهم, وبغضا
لكم أن يختصكم بفضله فإنه { ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ومن فضله عليكم,
إنزال الكتاب على رسولكم, ليزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة, ويعلمكم ما لم
تكونوا تعلمون, فله الحمد والمنة.

{ 106 - 107 } { مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }

النسخ: هو النقل,
فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع, إلى حكم آخر, أو إلى إسقاطه، وكان
اليهود ينكرون النسخ, ويزعمون أنه لا يجوز, وهو مذكور عندهم في التوراة,
فإنكارهم له كفر وهوى محض.

فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ،
وأنه ما ينسخ من آية { أَوْ نُنْسِهَا } أي: ننسها العباد, فنزيلها من
قلوبهم، { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } وأنفع لكم { أَوْ مِثْلِهَا }

فدل
على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول؛ لأن فضله تعالى يزداد
خصوصا على هذه الأمة, التي سهل عليها دينها غاية التسهيل.

وأخبر أن
من قدح في النسخ فقد قدح في ملكه وقدرته فقال: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

فإذا كان مالكا لكم, متصرفا
فيكم, تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه, فكما أنه لا حجر
عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير, كذلك لا يعترض عليه
فيما يشرعه لعباده من الأحكام. فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية
والقدرية, فما له والاعتراض؟

وهو أيضا, ولي عباده, ونصيرهم،
فيتولاهم في تحصيل منافعهم, وينصرهم في دفع مضارهم، فمن ولايته لهم, أن
يشرع لهم من الأحكام, ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم.

ومن تأمل ما وقع
في القرآن والسنة من النسخ, عرف بذلك حكمة الله ورحمته عباده, وإيصالهم إلى
مصالحهم, من حيث لا يشعرون بلطفه.


{ 108 - 110 } { أَمْ
تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ
السَّبِيلِ * وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ
مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى
يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

ينهى الله المؤمنين, أو اليهود, بأن يسألوا
رسولهم { كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } والمراد بذلك, أسئلة التعنت
والاعتراض, كما قال تعالى: { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ
عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ
ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً }

وقال تعالى: { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } فهذه ونحوها, هي المنهي عنها.

وأما سؤال
الاسترشاد والتعلم, فهذا محمود قد أمر الله به كما قال تعالى { فَاسْأَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ويقررهم عليه, كما في
قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } و { يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْيَتَامَى } ونحو ذلك.

ولما كانت المسائل المنهي عنها
مذمومة, قد تصل بصاحبها إلى الكفر، قال: { وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ }

ثم أخبر عن حسد
كثير من أهل الكتاب, وأنهم بلغت بهم الحال, أنهم ودوا { لَوْ
يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا } وسعوا في ذلك,
وأعملوا المكايد, وكيدهم راجع عليهم [كما] قال تعالى: { وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ } وهذا من حسدهم الصادر من عند أنفسهم.

فأمرهم الله
بمقابلة من أساء إليهم غاية الإساءة بالعفو عنهم والصفح حتى يأتي الله
بأمره.

ثم بعد ذلك, أتى الله بأمره إياهم بالجهاد, فشفى الله أنفس
المؤمنين منهم, فقتلوا من قتلوا, واسترقوا من استرقوا, وأجلوا من أجلوا {
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

ثم أمرهم [الله]
بالاشتغال في الوقت الحاضر, بإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة وفعل كل القربات،
ووعدهم أنهم مهما فعلوا من خير, فإنه لا يضيع عند الله, بل يجدونه عنده
وافرا موفرا قد حفظه { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 7:53 pm

{ 111 - 112 } {
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ
نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ
أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }

أي:
قال اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة
إلا من كان نصارى، فحكموا لأنفسهم بالجنة وحدهم, وهذا مجرد أماني غير
مقبولة, إلا بحجة وبرهان, فأتوا بها إن كنتم صادقين، وهكذا كل من ادعى
دعوى, لا بد أن يقيم البرهان على صحة دعواه، وإلا, فلو قلبت عليه دعواه,
وادعى مدع عكس ما ادعى بلا برهان لكان لا فرق بينهما، فالبرهان هو الذي
يصدق الدعاوى أو يكذبها، ولما لم يكن بأيديهم برهان, علم كذبهم بتلك
الدعوى.

ثم ذكر تعالى البرهان الجلي العام لكل أحد, فقال: { بَلَى }
أي: ليس بأمانيكم ودعاويكم, ولكن { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } أي:
أخلص لله أعماله, متوجها إليه بقلبه، { وَهُوَ } مع إخلاصه { مُحْسِنٌ } في
عبادة ربه, بأن عبده بشرعه, فأولئك هم أهل الجنة وحدهم.

{ فَلَهُ
أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } وهو الجنة بما اشتملت عليه من النعيم، { وَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فحصل لهم المرغوب, ونجوا من
المرهوب.

ويفهم منها, أن من ليس كذلك, فهو من أهل النار الهالكين،
فلا نجاة إلا لأهل الإخلاص للمعبود, والمتابعة للرسول.

{ 113 } {
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ
النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ
كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ }

وذلك أنه بلغ بأهل الكتاب الهوى والحسد, إلى أن
بعضهم ضلل بعضا, وكفر بعضهم بعضا, كما فعل الأميون من مشركي العرب وغيرهم.

فكل
فرقة تضلل الفرقة الأخرى, ويحكم الله في الآخرة بين المختلفين بحكمه
العدل, الذي أخبر به عباده, فإنه لا فوز ولا نجاة إلا لمن صدق جميع
الأنبياء والمرسلين, وامتثل أوامر ربه, واجتنب نواهيه, ومن عداهم, فهو
هالك.


{ 114 } { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ
اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ
مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي
الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

أي:
لا أحد أظلم وأشد جرما, ممن منع مساجد الله, عن ذكر الله فيها, وإقامة
الصلاة وغيرها من الطاعات.

{ وَسَعَى } أي: اجتهد وبذل وسعه { فِي
خَرَابِهَا } الحسي والمعنوي، فالخراب الحسي: هدمها وتخريبها, وتقذيرها،
والخراب المعنوي: منع الذاكرين لاسم الله فيها، وهذا عام, لكل من اتصف بهذه
الصفة, فيدخل في ذلك أصحاب الفيل, وقريش, حين صدوا رسول الله عنها عام
الحديبية, والنصارى حين أخربوا بيت المقدس, وغيرهم من أنواع الظلمة,
الساعين في خرابها, محادة لله, ومشاقة، فجازاهم الله, بأن منعهم دخولها
شرعا وقدرا, إلا خائفين ذليلين, فلما أخافوا عباد الله, أخافهم الله،
فالمشركون الذين صدوا رسوله, لم يلبث رسول الله تفسير القران الكريم كاملا 0099999 إلا يسيرا, حتى أذن الله له في فتح مكة،
ومنع المشركين من قربان بيته, فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }

وأصحاب الفيل, قد ذكر الله ما
جرى عليهم، والنصارى, سلط الله عليهم المؤمنين, فأجلوهم عنه.

وهكذا
كل من اتصف بوصفهم, فلا بد أن يناله قسطه, وهذا من الآيات العظيمة, أخبر
بها الباري قبل وقوعها, فوقعت كما أخبر.

واستدل العلماء بالآية
الكريمة, على أنه لا يجوز تمكين الكفار من دخول المساجد.

{ لَهُمْ
فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } أي: فضيحة كما تقدم { وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
عَذَابٌ عَظِيمٌ }

وإذا كان لا أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر
فيها اسمه, فلا أعظم إيمانا ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسية
والمعنوية, كما قال تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }

بل قد أمر الله تعالى برفع
بيوته وتعظيمها وتكريمها, فقال تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ
تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ }

وللمساجد أحكام كثيرة, يرجع
حاصلها إلى مضون هذه الآيات الكريمة.


{ 115 } { وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

أي: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ } خصهما بالذكر, لأنهما محل الآيات العظيمة, فهما مطالع
الأنوار ومغاربها، فإذا كان مالكا لها, كان مالكا لكل الجهات.

{
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا } وجوهكم من الجهات, إذا كان توليكم إياها بأمره,
إما أن يأمركم باستقبال الكعبة بعد أن كنتم مأمورين باستقبال بيت المقدس,
أو تؤمرون بالصلاة في السفر على الراحلة ونحوها, فإن القبلة حيثما توجه
العبد أو تشتبه القبلة, فيتحرى الصلاة إليها, ثم يتبين له الخطأ, أو يكون
معذورا بصلب أو مرض ونحو ذلك، فهذه الأمور, إما أن يكون العبد فيها معذورا
أو مأمورا.

وبكل حال, فما استقبل جهة من الجهات, خارجة عن ملك ربه.

{
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } فيه إثبات الوجه
لله تعالى, على الوجه اللائق به تعالى, وأن لله وجها لا تشبهه الوجوه, وهو -
تعالى - واسع الفضل والصفات عظيمها, عليم بسرائركم ونياتكم.

فمن
سعته وعلمه, وسع لكم الأمر, وقبل منكم المأمور, فله الحمد والشكر.


{
116 - 117 } { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ }

{ وَقَالُوا } أي: اليهود والنصارى والمشركون, وكل
من قال ذلك: { اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } فنسبوه إلى ما لا يليق بجلاله,
وأساءوا كل الإساءة, وظلموا أنفسهم.

وهو - تعالى - صابر على ذلك
منهم, قد حلم عليهم, وعافاهم, ورزقهم مع تنقصهم إياه.

{ سُبْحَانَهُ
} أي: تنزه وتقدس عن كل ما وصفه به المشركون والظالمون مما لا يليق
بجلاله، فسبحان من له الكمال المطلق, من جميع الوجوه, الذي لا يعتريه نقص
بوجه من الوجوه.

ومع رده لقولهم, أقام الحجة والبرهان على تنزيهه عن
ذلك فقال: { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي: جميعهم
ملكه وعبيده, يتصرف فيهم تصرف المالك بالمماليك, وهم قانتون له مسخرون تحت
تدبيره، فإذا كانوا كلهم عبيده, مفتقرين إليه, وهو غني عنهم, فكيف يكون
منهم أحد, يكون له ولدا, والولد لا بد أن يكون من جنس والده, لأنه جزء منه.

والله
تعالى المالك القاهر, وأنتم المملوكون المقهورون, وهو الغني وأنتم
الفقراء، فكيف مع هذا, يكون له ولد؟ هذا من أبطل الباطل وأسمجه.

والقنوت
نوعان: قنوت عام: وهو قنوت الخلق كلهم, تحت تدبير الخالق، وخاص: وهو قنوت
العبادة.

فالنوع الأول كما في هذه الآية، والنوع الثاني: كما في
قوله تعالى: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }

ثم قال: { بَدِيعُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي: خالقهما على وجه قد أتقنهما وأحسنهما على
غير مثال سبق.

{ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ } فلا يستعصى عليه, ولا يمتنع منه.


{ 118 - 119 }
{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ
تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ
قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا
تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }

أي: قال الجهلة من أهل الكتاب
وغيرهم: هلا يكلمنا, كما كلم الرسل، { أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } يعنون آيات
الاقتراح, التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة, وآرائهم الكاسدة, التي تجرأوا
بها على الخالق, واستكبروا على رسله كقولهم: { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى
نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ
عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ
ذَلِكَ } الآية، وقالوا: { لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ
مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ }
الآيات وقوله: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ
الْأَرْضِ يَنْبُوعًا } الآيات.

فهذا دأبهم مع رسلهم, يطلبون آيات
التعنت, لا آيات الاسترشاد, ولم يكن قصدهم تبين الحق، فإن الرسل, قد جاءوا
من الآيات, بما يؤمن بمثله البشر, ولهذا قال تعالى: { قَدْ بَيَّنَّا
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فكل موقن, فقد عرف من آيات الله الباهرة,
وبراهينه الظاهرة, ما حصل له به اليقين, واندفع عنه كل شك وريب.

ثم
ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة للآيات الدالة على صدقه تفسير القران الكريم كاملا 0099999 وصحة ما جاء به فقال: { إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } فهذا مشتمل على الآيات
التي جاء بها, وهي ترجع إلى ثلاثة أمور:

الأول: في نفس إرساله,
والثاني: في سيرته وهديه ودله، والثالث: في معرفة ما جاء به من القرآن
والسنة.

فالأول والثاني, قد دخلا في قوله: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ }
والثالث دخل في قوله: { بِالْحَقِّ }

وبيان الأمر الأول وهو - نفس
إرساله - أنه قد علم حالة أهل الأرض قبل بعثته تفسير القران الكريم كاملا 0099999 وما كانوا عليه من عبادة الأوثان والنيران,
والصلبان, وتبديلهم للأديان, حتى كانوا في ظلمة من الكفر, قد عمتهم
وشملتهم, إلا بقايا من أهل الكتاب, قد انقرضوا قبيل البعثة.

وقد علم
أن الله تعالى لم يخلق خلقه سدى, ولم يتركهم هملا, لأنه حكيم عليم, قدير
رحيم، فمن حكمته ورحمته بعباده, أن أرسل إليهم هذا الرسول العظيم, يأمرهم
بعبادة الرحمن وحده لا شريك له, فبمجرد رسالته يعرف العاقل صدقه, وهو آية
كبيرة على أنه رسول الله، وأما الثاني: فمن عرف النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 معرفة تامة, وعرف سيرته وهديه قبل البعثة,
ونشوءه على أكمل الخصال, ثم من بعد ذلك,

قد ازدادت مكارمه وأخلاقه
العظيمة الباهرة للناظرين, فمن عرفها, وسبر أحواله, عرف أنها لا تكون إلا
أخلاق الأنبياء الكاملين, لأن الله تعالى جعل الأوصاف أكبر دليل على معرفة
أصحابها وصدقهم وكذبهم.

وأما الثالث: فهو معرفة ما جاء به تفسير القران الكريم كاملا 0099999 من الشرع العظيم, والقرآن الكريم, المشتمل
على الإخبارات الصادقة, والأوامر الحسنة, والنهي عن كل قبيح, والمعجزات
الباهرة, فجميع الآيات تدخل في هذه الثلاثة.

قوله: { بَشِيرًا } أي
لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والأخروية، { نَذِيرًا } لمن عصاك بالشقاوة
والهلاك الدنيوي والأخروي.

{ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ
الْجَحِيمِ } أي: لست مسئولا عنهم, إنما عليك البلاغ, وعلينا الحساب.

{
120 } { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ
مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * }

يخبر تعالى رسوله, أنه
لا يرضى منه اليهود ولا النصارى, إلا باتباعه دينهم, لأنهم دعاة إلى الدين
الذي هم عليه, ويزعمون أنه الهدى، فقل لهم: { إِنَّ هُدَى اللَّهِ } الذي
أرسلت به { هُوَ الْهُدَى }

وأما ما أنتم عليه, فهو الهوى بدليل
قوله { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }

فهذا
فيه النهي العظيم, عن اتباع أهواء اليهود والنصارى, والتشبه بهم فيما يختص
به دينهم، والخطاب وإن كان لرسول الله تفسير القران الكريم كاملا 0099999 فإن أمته داخلة في ذلك، لأن الاعتبار بعموم
المعنى لا بخصوص المخاطب، كما أن العبرة بعموم اللفظ, لا بخصوص السبب.


ثم
قال: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ
أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ * يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ *
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ
مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * }


يخبر
تعالى أن الذين آتاهم الكتاب, ومنَّ عليهم به منة مطلقة, أنهم {
يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } أي: يتبعونه حق اتباعه, والتلاوة:
الاتباع، فيحلون حلاله, ويحرمون حرامه, ويعملون بمحكمه, ويؤمنون بمتشابهه،
وهؤلاء هم السعداء من أهل الكتاب, الذين عرفوا نعمة الله وشكروها,

وآمنوا
بكل الرسل, ولم يفرقوا بين أحد منهم.

فهؤلاء, هم المؤمنون حقا, لا
من قال منهم: { نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه }

ولهذا
توعدهم بقوله { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } وقد
تقدم تفسير الآية التي بعدها.


{ 124 - 125 } { وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }

يخبر تعالى, عن عبده
وخليله, إبراهيم عليه السلام, المتفق على إمامته وجلالته, الذي كل من طوائف
أهل الكتاب تدعيه, بل وكذلك المشركون: أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات, أي:
بأوامر ونواهي, كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده, ليتبين الكاذب الذي
لا يثبت عند الابتلاء, والامتحان من الصادق, الذي ترتفع درجته, ويزيد قدره,
ويزكو عمله, ويخلص ذهبه، وكان من أجلِّهم في هذا المقام, الخليل عليه
السلام.

فأتم ما ابتلاه الله به, وأكمله ووفاه, فشكر الله له ذلك,
ولم يزل الله شكورا فقال: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } أي:
يقتدون بك في الهدى, ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية, ويحصل لك الثناء
الدائم, والأجر الجزيل, والتعظيم من كل أحد.

وهذه - لعمر الله -
أفضل درجة, تنافس فيها المتنافسون, وأعلى مقام, شمر إليه العاملون, وأكمل
حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم, من كل صديق متبع لهم, داع إلى
الله وإلى سبيله.

فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام, وأدرك هذا, طلب
ذلك لذريته, لتعلو درجته ودرجة ذريته، وهذا أيضا من إمامته, ونصحه لعباد
الله, ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون، فلله عظمة هذه الهمم العالية,
والمقامات السامية.

فأجابه الرحيم اللطيف, وأخبر بالمانع من نيل هذا
المقام فقال: { لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } أي: لا ينال الإمامة
في الدين, من ظلم نفسه وضرها, وحط قدرها, لمنافاة الظلم لهذا المقام, فإنه
مقام آلته الصبر واليقين، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان
والأعمال الصالحة, والأخلاق الجميلة, والشمائل السديدة, والمحبة التامة,
والخشية والإنابة، فأين الظلم وهذا المقام؟

ودل مفهوم الآية, أن غير
الظالم, سينال الإمامة, ولكن مع إتيانه بأسبابها.

ثم ذكر تعالى,
نموذجا باقيا دالا على إمامة إبراهيم, وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده,
ركنا من أركان الإسلام, حاطا للذنوب والآثام.

وفيه من آثار الخليل
وذريته, ما عرف به إمامته, وتذكرت به حالته فقال: { وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } أي: مرجعا يثوبون إليه, لحصول منافعهم
الدينية والدنيوية, يترددون إليه, ولا يقضون منه وطرا، { و } جعله {
أَمْنًا } يأمن به كل أحد, حتى الوحش, وحتى الجمادات كالأشجار.

ولهذا
كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام, ويجد أحدهم قاتل
أبيه في الحرم, فلا يهيجه، فلما جاء الإسلام, زاده حرمة وتعظيما, وتشريفا
وتكريما.

{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }
يحتمل أن يكون المراد بذلك, المقام المعروف الذي قد جعل الآن, مقابل باب
الكعبة، وأن المراد بهذا, ركعتا الطواف, يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم,
وعليه جمهور المفسرين، ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا, فيعم جميع
مقامات إبراهيم في الحج، وهي المشاعر كلها: من الطواف, والسعي, والوقوف
بعرفة, ومزدلفة ورمي الجمار والنحر, وغير ذلك من أفعال الحج.

فيكون
معنى قوله: { مُصَلًّى } أي: معبدا, أي: اقتدوا به في شعائر الحج، ولعل هذا
المعنى أولى, لدخول المعنى الأول فيه, واحتمال اللفظ له.

{
وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أي: أوحينا إليهما,
وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك, والكفر والمعاصي, ومن الرجس والنجاسات
والأقذار, ليكون { لِلطَّائِفِينَ } فيه { وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ } أي: المصلين، قدم الطواف, لاختصاصه بالمسجد [الحرام]، ثم
الاعتكاف, لأن من شرطه المسجد مطلقا، ثم الصلاة, مع أنها أفضل, لهذا
المعنى.

وأضاف الباري البيت إليه لفوائد، منها: أن ذلك يقتضي شدة
اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره, لكونه بيت الله، فيبذلان جهدهما,
ويستفرغان وسعهما في ذلك.

ومنها: أن الإضافة تقتضي التشريف
والإكرام، ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه.

ومنها: أن هذه
الإضافة هي السبب الجاذب للقلوب إليه.


{ 126 } { وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ
الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ
وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ
النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }

أي: وإذ دعا إبراهيم لهذا البيت, أن
يجعله الله بلدا آمنا, ويرزق أهله من أنواع الثمرات، ثم قيد عليه السلام
هذا الدعاء للمؤمنين, تأدبا مع الله, إذ كان دعاؤه الأول, فيه الإطلاق,
فجاء الجواب فيه مقيدا بغير الظالم.

فلما دعا لهم بالرزق, وقيده
بالمؤمن, وكان رزق الله شاملا للمؤمن والكافر, والعاصي والطائع, قال تعالى:
{ وَمَنْ كَفَرَ } أي: أرزقهم كلهم, مسلمهم وكافرهم، أما المسلم فيستعين
بالرزق على عبادة الله, ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة، وأما الكافر, فيتمتع
فيها قليلا { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } أي: ألجئه وأخرجه مكرها { إِلَى عَذَابِ
النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
}
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 7:54 pm

{ 127 - 129 } {
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً
مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

أي: واذكر
إبراهيم وإسماعيل, في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس, واستمرارهما
على هذا العمل العظيم، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء, حتى إنهما مع
هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما, حتى يحصل فيه النفع العميم.

ودعوا
لأنفسهما, وذريتهما بالإسلام, الذي حقيقته, خضوع القلب, وانقياده لربه
المتضمن لانقياد الجوارح. { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أي: علمناها على وجه
الإراءة والمشاهدة, ليكون أبلغ. يحتمل أن يكون المراد بالمناسك: أعمال الحج
كلها, كما يدل عليه السياق والمقام، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من
ذلك وهو الدين كله, والعبادات كلها, كما يدل عليه عموم اللفظ, لأن النسك:
التعبد, ولكن غلب على متعبدات الحج, تغليبا عرفيا، فيكون حاصل دعائهما,
يرجع إلى التوفيق للعلم النافع, والعمل الصالح، ولما كان العبد - مهما كان -
لا بد أن يعتريه التقصير, ويحتاج إلى التوبة قالا: { وَتُبْ عَلَيْنَا
إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }

{ رَبَّنَا وَابْعَثْ
فِيهِمْ } أي: في ذريتنا { رَسُولًا مِنْهُمْ } ليكون أرفع لدرجتهما,
ولينقادوا له, وليعرفوه حقيقة المعرفة. { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ }
لفظا, وحفظا, وتحفيظا { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } معنى.

{
وَيُزَكِّيهِمْ } بالتربية على الأعمال الصالحة والتبري من الأعمال
الردية, التي لا تزكي النفوس معها. { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ } أي:
القاهر لكل شيء, الذي لا يمتنع على قوته شيء. { الْحَكِيمُ } الذي يضع
الأشياء مواضعها، فبعزتك وحكمتك, ابعث فيهم هذا الرسول. فاستجاب الله لهما,
فبعث الله هذا الرسول الكريم, الذي رحم الله به ذريتهما خاصة, وسائر الخلق
عامة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " أنا دعوة أبي إبراهيم "

ولما
عظم الله إبراهيم هذا التعظيم, وأخبر عن صفاته الكاملة قال تعالى:


{
130 - 134 } { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ
سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ
أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ
وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ
حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ
بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ
وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

أي: ما يرغب { عَنْ
مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } بعد ما عرف من فضله { إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ
} أي: جهلها وامتهنها, ورضي لها بالدون, وباعها بصفقة المغبون، كما أنه لا
أرشد وأكمل, ممن رغب في ملة إبراهيم، ثم أخبر عن حالته في الدنيا والآخرة
فقال: { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } أي: اخترناه ووفقناه
للأعمال, التي صار بها من المصطفين الأخيار.

{ وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } الذين لهم أعلى الدرجات.

{ إِذْ
قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ } امتثالا لربه { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ } إخلاصا وتوحيدا, ومحبة, وإنابة فكان التوحيد لله نعته.

ثم
ورثه في ذريته, ووصاهم به, وجعلها كلمة باقية في عقبه, وتوارثت فيهم, حتى
وصلت ليعقوب فوصى بها بنيه.

فأنتم - يا بني يعقوب - قد وصاكم أبوكم
بالخصوص, فيجب عليكم كمال الانقياد, واتباع خاتم الأنبياء قال: { يَا
بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ } أي: اختاره وتخيره لكم,
رحمة بكم, وإحسانا إليكم, فقوموا به, واتصفوا بشرائعه, وانصبغوا بأخلاقه,
حتى تستمروا على ذلك فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه, لأن من عاش على شيء,
مات عليه, ومن مات على شيء, بعث عليه.

ولما كان اليهود يزعمون أنهم
على ملة إبراهيم, ومن بعده يعقوب, قال تعالى منكرا عليهم: { أَمْ كُنْتُمْ
شُهَدَاءَ } أي: حضورا { إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } أي: مقدماته
وأسبابه، فقال لبنيه على وجه الاختبار, ولتقر عينه في حياته بامتثالهم ما
وصاهم به: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي } ؟ فأجابوه بما قرت به عينه
فقالوا: { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا } فلا نشرك به شيئا, ولا نعدل
به أحدا، { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فجمعوا بين التوحيد والعمل.

ومن
المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب, لأنهم لم يوجدوا بعد، فإذا لم يحضروا, فقد
أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية, لا باليهودية.

ثم قال تعالى:
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي: مضت { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ
مَا كَسَبْتُمْ } أي: كل له عمله, وكل سيجازى بما فعله, لا يؤخذ أحد بذنب
أحد ولا ينفع أحدا إلا إيمانه وتقواه فاشتغالكم بهم وادعاؤكم, أنكم على
ملتهم, والرضا بمجرد القول, أمر فارغ لا حقيقة له، بل الواجب عليكم, أن
تنظروا حالتكم التي أنتم عليها, هل تصلح للنجاة أم لا؟

{ 135 } {
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

أي: دعا
كل من اليهود والنصارى المسلمين إلى الدخول في دينهم, زاعمين أنهم هم
المهتدون وغيرهم ضال.

قل له مجيبا جوابا شافيا: { بَلْ } نتبع {
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } أي: مقبلا على الله, معرضا عما سواه,
قائما بالتوحيد, تاركا للشرك والتنديد.

فهذا الذي في اتباعه
الهداية, وفي الإعراض عن ملته الكفر والغواية.

{ 136 } { قُولُوا
آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }

هذه
الآية الكريمة, قد اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به.

واعلم أن
الإيمان الذي هو تصديق القلب التام, بهذه الأصول, وإقراره المتضمن لأعمال
القلوب والجوارح، وهو بهذا الاعتبار يدخل فيه الإسلام, وتدخل فيه الأعمال
الصالحة كلها، فهي من الإيمان, وأثر من آثاره، فحيث أطلق الإيمان, دخل فيه
ما ذكر، وكذلك الإسلام, إذا أطلق دخل فيه الإيمان، فإذا قرن بينهما, كان
الإيمان اسما لما في القلب من الإقرار والتصديق، والإسلام, اسما للأعمال
الظاهرة وكذلك إذا جمع بين الإيمان والأعمال الصالحة، فقوله تعالى: {
قُولُوا } أي: بألسنتكم, متواطئة عليها قلوبكم، وهذا هو القول التام,
المترتب عليه الثواب والجزاء، فكما أن النطق باللسان, بدون اعتقاد القلب,
نفاق وكفر، فالقول الخالي من العمل عمل القلب, عديم التأثير, قليل الفائدة,
وإن كان العبد يؤجر عليه, إذا كان خيرا ومعه أصل الإيمان، لكن فرق بين
القول المجرد, والمقترن به عمل القلب.

وفي قوله: { قُولُوا } إشارة
إلى الإعلان بالعقيدة, والصدع بها, والدعوة لها, إذ هي أصل الدين وأساسه.

وفي
قوله: { آمَنَّا } ونحوه مما فيه صدور الفعل, منسوبا إلى جميع الأمة,
إشارة إلى أنه يجب على الأمة, الاعتصام بحبل الله جميعا, والحث على
الائتلاف حتى يكون داعيهم واحدا, وعملهم متحدا, وفي ضمنه النهي عن
الافتراق، وفيه: أن المؤمنين كالجسد الواحد.

وفي قوله: { قُولُوا
آمَنَّا بِاللَّهِ } إلخ دلالة على جواز إضافة الإنسان إلى نفسه الإيمان,
على وجه التقييد, بل على وجوب ذلك، بخلاف قوله: "أنا مؤمن" ونحوه, فإنه لا
يقال إلا مقرونا بالاستثناء بالمشيئة, لما فيه من تزكية النفس, والشهادة
على نفسه بالإيمان.

فقوله: { آمَنَّا بِاللَّهِ } أي: بأنه موجود,
واحد أحد, متصف بكل صفة كمال, منزه عن كل نقص وعيب, مستحق لإفراده بالعبادة
كلها, وعدم الإشراك به في شيء منها, بوجه من الوجوه.

{ وَمَا
أُنْزِلَ إِلَيْنَا } يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى: { وَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فيدخل فيه الإيمان بما تضمنه
كتاب الله وسنة رسوله, من صفات الباري, وصفات رسله, واليوم الآخر, والغيوب
الماضية والمستقبلة, والإيمان بما تضمنه ذلك من الأحكام الشرعية الأمرية,
وأحكام الجزاء وغير ذلك.

{ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ } إلى
آخر الآية، فيه الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء، والإيمان
بالأنبياء عموما وخصوصا, ما نص عليه في الآية, لشرفهم ولإتيانهم بالشرائع
الكبار. فالواجب في الإيمان بالأنبياء والكتب, أن يؤمن بهم على وجه العموم
والشمول، ثم ما عرف منهم بالتفصيل, وجب الإيمان به مفصلا.

وقوله: {
لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ } أي: بل نؤمن بهم كلهم، هذه خاصية
المسلمين, التي انفردوا بها عن كل من يدعي أنه على دين.

فاليهود
والنصارى والصابئون وغيرهم - وإن زعموا أنهم يؤمنون بما يؤمنون به من الرسل
والكتب - فإنهم يكفرون بغيره، فيفرقون بين الرسل والكتب, بعضها يؤمنون به
وبعضها يكفرون به، وينقض تكذيبهم تصديقهم، فإن الرسول الذي زعموا, أنهم قد
آمنوا به, قد صدق سائر الرسل وخصوصا محمد تفسير القران الكريم كاملا 0099999، فإذا كذبوا محمدا, فقد كذبوا رسولهم فيما
أخبرهم به, فيكون كفرا برسولهم.

وفي قوله: { وَمَا أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ } دلالة على أن عطية الدين, هي العطية
الحقيقية المتصلة بالسعادة الدنيوية والأخروية. لم يأمرنا أن نؤمن بما أوتي
الأنبياء من الملك والمال ونحو ذلك، بل أمرنا أن نؤمن بما أعطوا من الكتب
والشرائع.

وفيه أن الأنبياء مبلغون عن الله, ووسائط بين الله وبين
خلقه في تبليغ دينه, ليس لهم من الأمر شيء.

وفي قوله: { مِنْ
رَبِّهِمْ } إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده, أن ينزل عليهم الكتب,
ويرسل إليهم الرسل, فلا تقتضي ربوبيته, تركهم سدى ولا هملا.

وإذا
كان ما أوتي النبيون, إنما هو من ربهم, ففيه الفرق بين الأنبياء وبين من
يدعي النبوة, وأنه يحصل الفرق بينهم بمجرد معرفة ما يدعون إليه، فالرسل لا
يدعون إلا إلى لخير, ولا ينهون إلا عن كل شر، وكل واحد منهم, يصدق الآخر,
ويشهد له بالحق, من غير تخالف ولا تناقض لكونه من عند ربهم { وَلَوْ كَانَ
مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }

وهذا
بخلاف من ادعى النبوة, فلا بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم ونواهيهم,
كما يعلم ذلك من سبر أحوال الجميع, وعرف ما يدعون إليه.

فلما بيَّن
تعالى جميع ما يؤمن به, عموما وخصوصا, وكان القول لا يغني عن العمل قال: {
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي: خاضعون لعظمته, منقادون لعبادته, بباطننا
وظاهرنا, مخلصون له العبادة بدليل تقديم المعمول, وهو { لَهُ } على العامل
وهو { مُسْلِمُونَ }

فقد اشتملت هذه الآية الكريمة - على إيجازها
واختصارها - على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية,
وتوحيد الأسماء والصفات، واشتملت على الإيمان بجميع الرسل, وجميع الكتب،
وعلى التخصيص الدال على الفضل بعد التعميم، وعلى التصديق بالقلب واللسان
والجوارح والإخلاص لله في ذلك، وعلى الفرق بين الرسل الصادقين, ومن ادعى
النبوة من الكاذبين، وعلى تعليم الباري عباده, كيف يقولون, ورحمته وإحسانه
عليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة، فسبحان من جعل كتابه
تبيانا لكل شيء, وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.


{ 137 } { فَإِنْ
آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ }

أي: فإن آمن أهل الكتاب { بمثل ما آمنتم به } - يا
معشر المؤمنين - من جميع الرسل, وجميع الكتب, الذين أول من دخل فيهم, وأولى
خاتمهم وأفضلهم محمد تفسير القران الكريم كاملا 0099999 والقرآن, وأسلموا لله وحده, ولم يفرقوا بين
أحد من رسل الله { فَقَدِ اهْتَدَوْا } للصراط المستقيم, الموصل لجنات
النعيم، أي: فلا سبيل لهم إلى الهداية, إلا بهذا الإيمان، لا كما زعموا
بقولهم: " كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " فزعموا أن الهداية خاصة بما كانوا
عليه، و " الهدى " هو العلم بالحق, والعمل به, وضده الضلال عن العلم
والضلال عن العمل بعد العلم, وهو الشقاق الذي كانوا عليه, لما تولوا
وأعرضوا، فالمشاق: هو الذي يكون في شق والله ورسوله في شق، ويلزم من
المشاقة المحادة, والعداوة البليغة, التي من لوازمها, بذل ما يقدرون عليه
من أذية الرسول، فلهذا وعد الله رسوله, أن يكفيه إياهم, لأنه السميع لجميع
الأصوات, باختلاف اللغات, على تفنن الحاجات, العليم بما بين أيديهم وما
خلفهم, بالغيب والشهادة, بالظواهر والبواطن، فإذا كان كذلك, كفاك الله
شرهم.

وقد أنجز الله لرسوله وعده, وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم, وسبى
بعضهم, وأجلى بعضهم, وشردهم كل مشرد.

ففيه معجزة من معجزات القرآن,
وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه, فوقع طبق ما أخبر.


{ 138 } {
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ
عَابِدُونَ }

أي: الزموا صبغة الله, وهو دينه, وقوموا به قياما
تاما, بجميع أعماله الظاهرة والباطنة, وجميع عقائده في جميع الأوقات, حتى
يكون لكم صبغة, وصفة من صفاتكم، فإذا كان صفة من صفاتكم, أوجب ذلك لكم
الانقياد لأوامره, طوعا واختيارا ومحبة, وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ
التام للثوب الذي صار له صفة, فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية, لحث
الدين على مكارم الأخلاق, ومحاسن الأعمال, ومعالي الأمور، فلهذا قال - على
سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية-: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
صِبْغَةً } أي: لا أحسن صبغة من صبغته

وإذا أردت أن تعرف نموذجا
يبين لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصبغ, فقس الشيء بضده، فكيف
ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا, أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح،
فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن, وفعل جميل, وخلق كامل, ونعت جليل، ويتخلى من كل
وصف قبيح, ورذيلة وعيب، فوصفه: الصدق في قوله وفعله, والصبر والحلم,
والعفة, والشجاعة, والإحسان القولي والفعلي, ومحبة الله وخشيته, وخوفه,
ورجاؤه، فحاله الإخلاص للمعبود, والإحسان لعبيده، فقسه بعبد كفر بربه, وشرد
عنه, وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة, من الكفر,
والشرك والكذب, والخيانة, والمكر, والخداع, وعدم العفة, والإساءة إلى
الخلق, في أقواله, وأفعاله، فلا إخلاص للمعبود, ولا إحسان إلى عبيده.

فإنه
يظهر لك الفرق العظيم بينهما, ويتبين لك أنه لا أحسن صبغة من صبغة الله,
وفي ضمنه أنه لا أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه.

وفي قوله: {
وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } بيان لهذه الصبغة, وهي القيام بهذين الأصلين:
الإخلاص والمتابعة, لأن " العبادة " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من
الأعمال, والأقوال الظاهرة والباطنة، ولا تكون كذلك, حتى يشرعها الله على
لسان رسوله، والإخلاص: أن يقصد العبد وجه الله وحده, في تلك الأعمال،
فتقديم المعمول, يؤذن بالحصر.

وقال: { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ }
فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار, ليدل على اتصافهم بذلك
وكونه صار صبغة لهم ملازما.


{ 139 } { قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا
فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ }

المحاجة هي: المجادلة
بين اثنين فأكثر, تتعلق بالمسائل الخلافية, حتى يكون كل من الخصمين يريد
نصرة قوله, وإبطال قول خصمه، فكل واحد منهما, يجتهد في إقامة الحجة على
ذلك، والمطلوب منها, أن تكون بالتي هي أحسن, بأقرب طريق يرد الضال إلى
الحق, ويقيم الحجة على المعاند, ويوضح الحق, ويبين الباطل، فإن خرجت عن هذه
الأمور, كانت مماراة, ومخاصمة لا خير فيها,

وأحدثت من الشر ما
أحدثت، فكان أهل الكتاب, يزعمون أنهم أولى بالله من المسلمين, وهذا مجرد
دعوى, تفتقر إلى برهان ودليل. فإذا كان رب الجميع واحدا, ليس ربا لكم
دوننا, وكل منا ومنكم له عمله, فاستوينا نحن وإياكم بذلك. فهذا لا يوجب أن
يكون أحد الفريقين أولى بالله من غيره؛ لأن التفريق مع الاشتراك في الشيء,
من غير فرق مؤثر, دعوى باطلة, وتفريق بين متماثلين, ومكابرة ظاهرة. وإنما
يحصل التفضيل, بإخلاص الأعمال الصالحة لله وحده، وهذه الحالة, وصف المؤمنين
وحدهم, فتعين أنهم أولى بالله من غيرهم؛ لأن الإخلاص, هو الطريق إلى
الخلاص، فهذا هو الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان, بالأوصاف
الحقيقية التي يسلمها أهل العقول, ولا ينازع فيها إلا كل مكابر جهول، ففي
هذه الآية, إرشاد لطيف لطريق المحاجة, وأن الأمور مبنية على الجمع بين
المتماثلين, والفرق بين المختلفين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 7:55 pm

{ 140 } { أَمْ
تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ
أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ
اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

وهذه دعوى
أخرى منهم, ومحاجة في رسل الله, زعموا أنهم أولى بهؤلاء الرسل المذكورين من
المسلمين.

فرد الله عليهم بقوله: { أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ
اللَّهُ } فالله يقول: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا
نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ } وهم يقولون: بل كان يهوديا أو نصرانيا.

فإما أن
يكونوا, هم الصادقين العالمين, أو يكون الله تعالى هو الصادق العالم بذلك,
فأحد الأمرين متعين لا محالة، وصورة الجواب مبهم, وهو في غاية الوضوح
والبيان، حتى إنه - من وضوحه - لم يحتج أن يقول بل الله أعلم وهو أصدق,
ونحو ذلك, لانجلائه لكل أحد، كما إذا قيل: الليل أنور, أم النهار؟ والنار
أحر أم الماء؟ والشرك أحسن أم التوحيد؟ ونحو ذلك.

وهذا يعرفه كل من
له أدنى عقل حتى إنهم بأنفسهم يعرفون ذلك, ويعرفون أن إبراهيم وغيره من
الأنبياء, لم يكونوا هودا ولا نصارى, فكتموا هذا العلم وهذه الشهادة, فلهذا
كان ظلمهم أعظم الظلم. ولهذا قال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ
شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ } فهي شهادة عندهم, مودعة من الله, لا من
الخلق, فيقتضي الاهتمام بإقامتها, فكتموها, وأظهروا ضدها، جمعوا بين كتم
الحق, وعدم النطق به, وإظهار الباطل, والدعوة إليه، أليس هذا أعظم الظلم؟
بلى والله, وسيعاقبهم عليه أشد العقوبة، فلهذا قال: { وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل قد أحصى أعمالهم, وعدها وادخر لهم
جزاءها, فبئس الجزاء جزاؤهم, وبئست النار, مثوى للظالمين، وهذه طريقة
القرآن في ذكر العلم والقدرة, عقب الآيات المتضمنة للأعمال التي يجازى
عليها.

فيفيد ذلك الوعد والوعيد, والترغيب والترهيب، ويفيد أيضا ذكر
الأسماء الحسنى بعد الأحكام, أن الأمر الديني والجزائي, أثر من آثارها,
وموجب من موجباتها, وهي مقتضية له.


{ 141 } ثم قال تعالى: {
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ
وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

تقدم تفسيرها,
وكررها, لقطع التعلق بالمخلوقين, وأن المعول عليه ما اتصف به الإنسان, لا
عمل أسلافه وآبائه، فالنفع الحقيقي بالأعمال, لا بالانتساب المجرد للرجال.


{
142 - 143 } { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ
قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ
الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ
لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }

قد
اشتملت الآية الأولى على معجزة, وتسلية, وتطمين قلوب المؤمنين, واعتراض
وجوابه, من ثلاثة أوجه, وصفة المعترض, وصفة المسلم لحكم الله دينه.

فأخبر
تعالى أنه سيعترض السفهاء من الناس, وهم الذين لا يعرفون مصالح أنفسهم, بل
يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن, وهم اليهود والنصارى, ومن أشبههم من
المعترضين على أحكام الله وشرائعه، وذلك أن المسلمين كانوا مأمورين
باستقبال بيت المقدس, مدة مقامهم بمكة، ثم بعد الهجرة إلى المدينة, نحو سنة
ونصف - لما لله تعالى في ذلك من الحكم التي سيشير إلى بعضها, وكانت حكمته
تقتضي أمرهم باستقبال الكعبة، فأخبرهم أنه لا بد أن يقول السفهاء من الناس:
{ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } وهي
استقبال بيت المقدس، أي: أيُّ شيء صرفهم عنه؟ وفي ذلك الاعتراض على حكم
الله وشرعه, وفضله وإحسانه، فسلاهم, وأخبر بوقوعه, وأنه إنما يقع ممن اتصف
بالسفه, قليل العقل, والحلم, والديانة، فلا تبالوا بهم, إذ قد علم مصدر هذا
الكلام، فالعاقل لا يبالي باعتراض السفيه, ولا يلقي له ذهنه. ودلت الآية
على أنه لا يعترض على أحكام الله, إلا سفيه جاهل معاند، وأما الرشيد المؤمن
العاقل, فيتلقى أحكام ربه بالقبول, والانقياد, والتسليم كما قال تعالى: {
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } { فَلَا
وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ }
الآية، { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا } وقد كان في قوله { السفهاء } ما يغني عن رد قولهم, وعدم
المبالاة به.

ولكنه تعالى مع هذا لم يترك هذه الشبهة, حتى أزالها
وكشفها مما سيعرض لبعض القلوب من الاعتراض, فقال تعالى: { قُلْ } لهم
مجيبا: { لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي: فإذا كان المشرق والمغرب ملكا لله, ليس جهة من
الجهات خارجة عن ملكه, ومع هذا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم, ومنه هدايتكم
إلى هذه القبلة التي هي من ملة أبيكم إبراهيم، فلأي شيء يعترض المعترض
بتوليتكم قبلة داخلة تحت ملك الله, لم تستقبلوا جهة ليست ملكا له؟ فهذا
يوجب التسليم لأمره, بمجرد ذلك، فكيف وهو من فضل الله عليكم, وهدايته
وإحسانه, أن هداكم لذلك فالمعترض عليكم, معترض على فضل الله, حسدا لكم
وبغيا.

ولما كان قوله: { يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } والمطلق يحمل على المقيد, فإن الهداية والضلال, لهما أسباب
أوجبتها حكمة الله وعدله, وقد أخبر في غير موضع من كتابه بأسباب الهداية,
التي إذا أتى بها العبد حصل له الهدى كما قال تعالى: { يَهْدِي بِهِ
اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } ذكر في هذه الآية
السبب الموجب لهداية هذه الأمة مطلقا بجميع أنواع الهداية, ومنة الله عليها
فقال:

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أي: عدلا
خيارا، وما عدا الوسط, فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة, وسطا
في كل أمور الدين، وسطا في الأنبياء, بين من غلا فيهم, كالنصارى, وبين من
جفاهم, كاليهود, بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك، ووسطا في
الشريعة, لا تشديدات اليهود وآصارهم, ولا تهاون النصارى.

وفي باب
الطهارة والمطاعم, لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم
وكنائسهم, ولا يطهرهم الماء من النجاسات, وقد حرمت عليهم الطيبات, عقوبة
لهم، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئا, ولا يحرمون شيئا, بل أباحوا ما دب
ودرج.

بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها، وأباح الله لهم الطيبات من
المطاعم والمشارب والملابس والمناكح, وحرم عليهم الخبائث من ذلك، فلهذه
الأمة من الدين أكمله, ومن الأخلاق أجلها, ومن الأعمال أفضلها.

ووهبهم
الله من العلم والحلم, والعدل والإحسان, ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك
كانوا { أُمَّةً وَسَطًا } [كاملين] ليكونوا { شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }
بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط, يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان, ولا
يحكم عليهم غيرهم، فما شهدت له هذه الأمة بالقبول, فهو مقبول, وما شهدت له
بالرد, فهو مردود. فإن قيل: كيف يقبل حكمهم على غيرهم, والحال أن كل
مختصمين غير مقبول قول بعضهم على بعض؟ قيل: إنما لم يقبل قول أحد
المتخاصمين, لوجود التهمة فأما إذا انتفت التهمة, وحصلت العدالة التامة,
كما في هذه الأمة, فإنما المقصود, الحكم بالعدل والحق، وشرط ذلك, العلم
والعدل, وهما موجودان في هذه الأمة, فقبل قولها.

فإن شك شاك في
فضلها, وطلب مزكيا لها, فهو أكمل الخلق, نبيهم تفسير القران الكريم كاملا 0099999، فلهذا قال تعالى: { وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }

ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم, أنه إذا كان
يوم القيامة, وسأل الله المرسلين عن تبليغهم, والأمم المكذبة عن ذلك,
وأنكروا أن الأنبياء بلغتهم، استشهدت الأنبياء بهذه الأمة, وزكاها نبيها.

وفي
الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة, حجة قاطعة, وأنهم معصومون عن الخطأ,
لإطلاق قوله: { وَسَطًا } فلو قدر اتفاقهم على الخطأ, لم يكونوا وسطا, إلا
في بعض الأمور, ولقوله: { ولتكونوا شهداء على الناس } يقتضي أنهم إذا شهدوا
على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه، فإنها معصومة في ذلك. وفيها
اشتراط العدالة في الحكم, والشهادة, والفتيا, ونحو ذلك.

يقول تعالى:
{ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا } وهي استقبال
بيت المقدس أولا { إِلَّا لِنَعْلَمَ } أي: علما يتعلق به الثواب والعقاب,
وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها.

ولكن هذا العلم, لا
يعلق عليه ثوابا ولا عقابا, لتمام عدله, وإقامة الحجة على عباده، بل إذا
وجدت أعمالهم, ترتب عليها الثواب والعقاب، أي: شرعنا تلك القبلة لنعلم
ونمتحن { مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } ويؤمن به, فيتبعه على كل حال, لأنه
عبد مأمور مدبر، ولأنه قد أخبرت الكتب المتقدمة, أنه يستقبل الكعبة،
فالمنصف الذي مقصوده الحق, مما يزيده ذلك إيمانا, وطاعة للرسول.

وأما
من انقلب على عقبيه, وأعرض عن الحق, واتبع هواه, فإنه يزداد كفرا إلى
كفره, وحيرة إلى حيرته, ويدلي بالحجة الباطلة, المبنية على شبهة لا حقيقة
لها.

{ وَإِنْ كَانَتْ } أي: صرفك عنها { لَكَبِيرَةٌ } أي: شاقة {
إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم,
وشكروا, وأقروا له بالإحسان, حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم, الذي فضله
على سائر بقاع الأرض، وجعل قصده, ركنا من أركان الإسلام, وهادما للذنوب
والآثام, فلهذا خف عليهم ذلك, وشق على من سواهم.

ثم قال تعالى: {
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي: ما ينبغي له ولا يليق به
تعالى, بل هي من الممتنعات عليه، فأخبر أنه ممتنع عليه, ومستحيل, أن يضيع
إيمانكم، وفي هذا بشارة عظيمة لمن مَنَّ الله عليهم بالإسلام والإيمان, بأن
الله سيحفظ عليهم إيمانهم, فلا يضيعه, وحفظه نوعان:

حفظ عن الضياع
والبطلان, بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص من المحن المقلقة,
والأهواء الصادة، وحفظ له بتنميته لهم, وتوفيقهم لما يزداد به إيمانهم,
ويتم به إيقانهم، فكما ابتدأكم, بأن هداكم للإيمان, فسيحفظه لكم, ويتم
نعمته بتنميته وتنمية أجره, وثوابه, وحفظه من كل مكدر، بل إذا وجدت المحن
المقصود منها, تبيين المؤمن الصادق من الكاذب، فإنها تمحص المؤمنين, وتظهر
صدقهم، وكأن في هذا احترازا عما قد يقال إن قوله: { وَمَا جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ
الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } قد يكون سببا لترك بعض
المؤمنين إيمانهم, فدفع هذا الوهم بقوله: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ } بتقديره لهذه المحنة أو غيرها.

ودخل في ذلك من مات
من المؤمنين قبل تحويل الكعبة, فإن الله لا يضيع إيمانهم, لكونهم امتثلوا
أمر الله وطاعة رسوله في وقتها، وطاعة الله, امتثال أمره في كل وقت, بحسب
ذلك، وفي هذه الآية, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الإيمان تدخل فيه
أعمال الجوارح.

وقوله: { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ
رَحِيمٌ } أي: شديد الرحمة بهم عظيمها، فمن رأفته ورحمته بهم, أن يتم عليهم
نعمته التي ابتدأهم بها، وأن ميَّزَ عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون
قلبه، وأن امتحنهم امتحانا, زاد به إيمانهم, وارتفعت به درجتهم، وأن وجههم
إلى أشرف البيوت, وأجلها.


{ 144 } { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
يَعْمَلُونَ }

يقول الله لنبيه: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ
فِي السَّمَاءِ } أي: كثرة تردده في جميع جهاته, شوقا وانتظارا لنزول الوحي
باستقبال الكعبة، وقال: { وَجْهِكَ } ولم يقل: " بصرك " لزيادة اهتمامه,
ولأن تقليب الوجه مستلزم لتقليب البصر.

{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ } أي:
نوجهك لولايتنا إياك، { قِبْلَةً تَرْضَاهَا } أي: تحبها, وهي الكعبة، وفي
هذا بيان لفضله وشرفه تفسير القران الكريم كاملا 0099999, حيث إن الله تعالى يسارع في رضاه, ثم صرح
له باستقبالها فقال: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }
والوجه: ما أقبل من بدن الإنسان، { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ } أي: من بر وبحر,
وشرق وغرب, جنوب وشمال. { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } أي: جهته.

ففيها
اشتراط استقبال الكعبة, للصلوات كلها, فرضها, ونفلها, وأنه إن أمكن
استقبال عينها, وإلا فيكفي شطرها وجهتها، وأن الالتفات بالبدن, مبطل
للصلاة, لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ولما ذكر تعالى فيما تقدم, المعترضين
على ذلك من أهل الكتاب وغيرهم، وذكر جوابهم, ذكر هنا, أن أهل الكتاب
والعلم منهم, يعلمون أنك في ذلك على حق وأمر، لما يجدونه في كتبهم,
فيعترضون عنادا وبغيا، فإذا كانوا يعلمون بخطئهم فلا تبالوا بذلك، فإن
الإنسان إنما يغمه اعتراض من اعترض عليه, إذا كان الأمر مشتبها, وكان ممكنا
أن يكون معه صواب.

فأما إذا تيقن أن الصواب والحق مع المعترض عليه,
وأن المعترض معاند, عارف ببطلان قوله, فإنه لا محل للمبالاة, بل ينتظر
بالمعترض العقوبة الدنيوية والأخروية, فلهذا قال تعالى: { وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } بل يحفظ عليهم أعمالهم, ويجازيهم عليها،
وفيها وعيد للمعترضين, وتسلية للمؤمنين.


{ 145 } { وَلَئِنْ
أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا
قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ
بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ }

كان
النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 من كمال حرصه على هداية الخلق يبذل لهم
غاية ما يقدر عليه من النصيحة, ويتلطف بهدايتهم, ويحزن إذا لم ينقادوا لأمر
الله، فكان من الكفار, من تمرد عن أمر الله, واستكبر على رسل الله, وترك
الهدى, عمدا وعدوانا، فمنهم: اليهود والنصارى, أهل الكتاب الأول, الذين
كفروا بمحمد تفسير القران الكريم كاملا 0099999 عن يقين, لا عن جهل، فلهذا أخبره الله
تعالى أنك لو { أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ } أي:
بكل برهان ودليل يوضح قولك ويبين ما تدعو إليه، { مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ
} أي: ما تبعوك, لأن اتباع القبلة, دليل على اتباعه، ولأن السبب هو شأن
القبلة، وإنما كان الأمر كذلك, لأنهم معاندون, عرفوا الحق وتركوه، فالآيات
إنما تفيد وينتفع بها من يتطلب الحق, وهو مشتبه عليه, فتوضح له الآيات
البينات، وأما من جزم بعدم اتباع الحق, فلا حيلة فيه.

وأيضا فإن
اختلافهم فيما بينهم, حاصل, وبعضهم, غير تابع قبلة بعض، فليس بغريب منهم مع
ذلك أن لا يتبعوا قبلتك يا محمد, وهم الأعداء حقيقة الحسدة، وقوله: {
وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } أبلغ من قوله: " وَلَا تَتَّبِعْ "
لأن ذلك يتضمن أنه تفسير القران الكريم كاملا 0099999 اتصف بمخالفتهم, فلا يمكن وقوع ذلك منه،
ولم يقل: " ولو أتوا بكل آية " لأنهم لا دليل لهم على قولهم.

وكذلك
إذا تبين الحق بأدلته اليقينية, لم يلزم الإتيان بأجوبة الشبه الواردة
عليه, لأنها لا حد لها, ولأنه يعلم بطلانها, للعلم بأن كل ما نافى الحق
الواضح, فهو باطل, فيكون حل الشبه من باب التبرع.

{ وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ } إنما قال: " أهواءهم " ولم يقل " دينهم " لأن
ما هم عليه مجرد أهوية نفس, حتى هم في قلوبهم يعلمون أنه ليس بدين، ومن ترك
الدين, اتبع الهوى ولا محالة، قال تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
إِلَهَهُ هَوَاهُ }

{ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ }
بأنك على الحق, وهم على الباطل، { إِنَّكَ إِذًا } أي: إن اتبعتهم, فهذا
احتراز, لئلا تنفصل هذه الجملة عما قبلها, ولو في الأفهام، { لَمِنَ
الظَّالِمِينَ } أي: داخل فيهم, ومندرج في جملتهم، وأي ظلم أعظم, من ظلم,
من علم الحق والباطل, فآثر الباطل على الحق، وهذا, وإن كان الخطاب له تفسير القران الكريم كاملا 0099999, فإن أمته داخلة في ذلك، وأيضا, فإذا كان
هو تفسير القران الكريم كاملا 0099999 لو فعل ذلك -وحاشاه- صار ظالما مع
علو مرتبته, وكثرة حسناته فغيره من باب أولى وأحرى.

{ 146 - 147 }
ثم قال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا
يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ
مِنَ الْمُمْتَرِينَ }



يخبر تعالى: أن أهل الكتاب قد تقرر
عندهم, وعرفوا أن محمدا رسول الله, وأن ما جاء به, حق وصدق, وتقينوا ذلك,
كما تيقنوا أبناءهم بحيث لا يشتبهون عليهم بغيرهم، فمعرفتهم بمحمد تفسير القران الكريم كاملا 0099999, وصلت إلى حد لا يشكون فيه ولا يمترون،
ولكن فريقا منهم - وهم أكثرهم - الذين كفروا به, كتموا هذه الشهادة مع
تيقنها, وهم يعلمون { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ
مِنَ اللَّهِ } وفي ضمن ذلك, تسلية للرسول والمؤمنين, وتحذير له من شرهم
وشبههم، وفريق منهم لم يكتموا الحق وهم يعلمون، فمنهم من آمن [به] ومنهم من
كفر [به] جهلا، فالعالم عليه إظهار الحق, وتبيينه وتزيينه, بكل ما يقدر
عليه من عبارة وبرهان ومثال, وغير ذلك, وإبطال الباطل وتمييزه عن الحق,
وتشيينه, وتقبيحه للنفوس, بكل طريق مؤد لذلك، فهولاء الكاتمون, عكسوا
الأمر, فانعكست أحوالهم.

{ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أي: هذا الحق
الذي هو أحق أن يسمى حقا من كل شيء, لما اشتمل عليه من المطالب العالية,
والأوامر الحسنة, وتزكية النفوس وحثها على تحصيل مصالحها, ودفع مفاسدها,
لصدوره من ربك, الذي من جملة تربيته لك أن أنزل عليك هذا القرآن الذي فيه
تربية العقول والنفوس, وجميع المصالح.

{ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ } أي: فلا يحصل لك أدنى شك وريبة فيه، بل تفكَّر فيه وتأمل,
حتى تصل بذلك إلى اليقين, لأن التفكر فيه لا محالة, دافع للشك, موصل
لليقين.


{ 148 } { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ
جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

أي: كل أهل
دين وملة, له وجهة يتوجه إليها في عبادته، وليس الشأن في استقبال القبلة,
فإنه من الشرائع التي تتغير بها الأزمنة والأحوال, ويدخلها النسخ والنقل,
من جهة إلى جهة، ولكن الشأن كل الشأن, في امتثال طاعة الله, والتقرب إليه,
وطلب الزلفى عنده، فهذا هو عنوان السعادة ومنشور الولاية، وهو الذي إذا لم
تتصف به النفوس, حصلت لها خسارة الدنيا والآخرة، كما أنها إذا اتصفت به فهي
الرابحة على الحقيقة, وهذا أمر متفق عليه في جميع الشرائع, وهو الذي خلق
الله له الخلق, وأمرهم به.

والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد
على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها, يتضمن فعلها, وتكميلها,
وإيقاعها على أكمل الأحوال, والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى
الخيرات, فهو السابق في الآخرة إلى الجنات, فالسابقون أعلى الخلق درجة،
والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل, من صلاة, وصيام, وزكوات وحج, عمرة,
وجهاد, ونفع متعد وقاصر.

ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة
إلى الخير, وينشطها, ما رتب الله عليها من الثواب قال: { أَيْنَمَا
تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيجمعكم ليوم القيامة بقدرته, فيجازي كل عامل بعمله {
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى }

ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان
بكل فضيلة يتصف بها العمل، كالصلاة في أول وقتها, والمبادرة إلى إبراء
الذمة, من الصيام, والحج, والعمرة, وإخراج الزكاة, والإتيان بسنن العبادات
وآدابها, فلله ما أجمعها وأنفعها من آية".


{ 149 - 150 } {
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

أي: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } في
أسفارك وغيرها, وهذا للعموم, { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ } أي: جهته.

ثم خاطب الأمة عموما فقال: { وَحَيْثُمَا
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وقال: { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ } أكده بـ " إن " واللام, لئلا يقع لأحد فيه أدنى شبهة, ولئلا
يظن أنه على سبيل التشهي لا الامتثال.

{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم, فتأدبوا معه,
وراقبوه بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه، فإن أعمالكم غير مغفول عنها, بل
مجازون عليها أتم الجزاء, إن خيرا فخير, وإن شرا فشر.

وقال هنا: {
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي: شرعنا لكم استقبال
الكعبة المشرفة, لينقطع عنكم احتجاج الناس من أهل الكتاب والمشركين، فإنه
لو بقي مستقبلا بيت المقدس, لتوجهت عليه الحجة، فإن أهل الكتاب, يجدون في
كتابهم أن قبلته المستقرة, هي الكعبة البيت الحرام، والمشركون يرون أن من
مفاخرهم, هذا البيت العظيم, وأنه من ملة إبراهيم, وأنه إذا لم يستقبله محمد
تفسير القران الكريم كاملا 0099999, توجهت نحوه حججهم, وقالوا: كيف
يدعي أنه على ملة إبراهيم, وهو من ذريته, وقد ترك استقبال قبلته؟

فباستقبال
الكعبة قامت الحجة على أهل الكتاب والمشركين, وانقطعت حججهم عليه.

{
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } أي: من احتج منهم بحجة, هو ظالم
فيها, وليس لها مستند إلا اتباع الهوى والظلم, فهذا لا سبيل إلى إقناعه
والاحتجاج عليه، وكذلك لا معنى لجعل الشبهة التي يوردونها على سبيل
الاحتجاج محلا يؤبه لها, ولا يلقى لها بال, فلهذا قال تعالى: { فَلَا
تَخْشَوْهُمْ } لأن حجتهم باطلة, والباطل كاسمه مخذول, مخذول صاحبه، وهذا
بخلاف صاحب الحق, فإن للحق صولة وعزا, يوجب خشية من هو معه, وأمر تعالى
بخشيته, التي هي أصل كل خير، فمن لم يخش الله, لم ينكف عن معصيته, ولم
يمتثل أمره.

وكان صرف المسلمين إلى الكعبة, مما حصلت فيه فتنة
كبيرة, أشاعها أهل الكتاب, والمنافقون, والمشركون, وأكثروا فيها من الكلام
والشبه، فلهذا بسطها الله تعالى, وبينها أكمل بيان, وأكدها بأنواع من
التأكيدات, التي تضمنتها هذه الآيات.

منها: الأمر بها, ثلاث مرات,
مع كفاية المرة الواحدة، ومنها: أن المعهود, أن الأمر, إما أن يكون للرسول,
فتدخل فيه الأمة تبعا, أو للأمة عموما، وفي هذه الآية أمر فيها الرسول
بالخصوص في قوله: { فَوَلِّ وَجْهَكَ } والأمة عموما في قوله: { فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ }

ومنها: أنه رد فيه جميع الاحتجاجات الباطلة, التي
أوردها أهل العناد وأبطلها شبهة شبهة, كما تقدم توضيحها، ومنها: أنه قطع
الأطماع من اتباع الرسول قبلة أهل الكتاب، ومنها قوله: { وَإِنَّهُ
لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف, ولكن مع هذا
قال: { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ }

ومنها: أنه أخبر - وهو
العالم بالخفيات - أن أهل الكتاب متقرر عندهم, صحة هذا الأمر, ولكنهم
يكتمون هذه الشهادة مع العلم.

ولما كان توليته لنا إلى استقبال
القبلة, نعمة عظيمة, وكان لطفه بهذه الأمة ورحمته, لم يزل يتزايد, وكلما
شرع لهم شريعة, فهي نعمة عظيمة قال: { وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ }

فأصل
النعمة, الهداية لدينه, بإرسال رسوله, وإنزال كتابه، ثم بعد ذلك, النعم
المتممات لهذا الأصل, لا تعد كثرة, ولا تحصر, منذ بعث الله رسوله إلى أن
قرب رحيله من الدنيا، وقد أعطاه الله من الأحوال والنعم, وأعطى أمته, ما
أتم به نعمته عليه وعليهم, وأنزل الله عليه: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلَامَ دِينًا }

فلله الحمد على فضله, الذي لا نبلغ له عدا,
فضلا عن القيام بشكره، { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي: تعلمون الحق,
وتعملون به، فالله تبارك وتعالى - من رحمته - بالعباد, قد يسر لهم أسباب
الهداية غاية التيسير, ونبههم على سلوك طرقها, وبينها لهم أتم تبيين، حتى
إن من جملة ذلك أنه يقيض للحق, المعاندين له فيجادلون فيه, فيتضح بذلك
الحق, وتظهر آياته وأعلامه, ويتضح بطلان الباطل, وأنه لا حقيقة له، ولولا
قيامه في مقابلة الحق, لربما لم يتبين حاله لأكثر الخلق، وبضدها تتبين
الأشياء، فلولا الليل, ما عرف فضل النهار، ولولا القبيح, ما عرف فضل الحسن،
ولولا الظلمة ما عرف منفعة النور، ولولا الباطل ما اتضح الحق اتضاحا
ظاهرا، فلله الحمد على ذلك.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 7:57 pm

{ 151 - 152 } {
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا
وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ
مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا
لِي وَلَا تَكْفُرُونِ }

يقول تعالى: إن إنعامنا عليكم باستقبال
الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم المتممة, ليس ذلك ببدع من إحساننا, ولا
بأوله, بل أنعمنا عليكم بأصول النعم ومتمماتها, فأبلغها إرسالنا إليكم هذا
الرسول الكريم منكم, تعرفون نسبه وصدقه, وأمانته وكماله ونصحه.

{
يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } وهذا يعم الآيات القرآنية وغيرها، فهو يتلو
عليكم الآيات المبينة للحق من الباطل, والهدى من الضلال, التي دلتكم أولا,
على توحيد الله وكماله, ثم على صدق رسوله, ووجوب الإيمان به, ثم على جميع
ما أخبر به من المعاد والغيوب, حتى حصل لكم الهداية التامة, والعلم
اليقيني.

{ وَيُزَكِّيكُمْ } أي: يطهر أخلاقكم ونفوسكم, بتربيتها
على الأخلاق الجميلة, وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة, وذلك كتزكيتكم من
الشرك, إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص, ومن الكذب إلى الصدق, ومن
الخيانة إلى الأمانة, ومن الكبر إلى التواضع, ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق,
ومن التباغض والتهاجر والتقاطع, إلى التحاب والتواصل والتوادد, وغير ذلك
من أنواع التزكية.

{ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ } أي: القرآن,
ألفاظه ومعانيه، { وَالْحِكْمَةَ } قيل: هي السنة, وقيل: الحكمة, معرفة
أسرار الشريعة والفقه فيها, وتنزيل الأمور منازلها.

فيكون - على هذا
- تعليم السنة داخلا في تعليم الكتاب, لأن السنة, تبين القرآن وتفسره,
وتعبر عنه، { وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } لأنهم
كانوا قبل بعثته, في ضلال مبين, لا علم ولا عمل، فكل علم أو عمل, نالته هذه
الأمة فعلى يده تفسير القران الكريم كاملا 0099999, وبسببه كان، فهذه النعم هي أصول النعم على
الإطلاق, ولهي أكبر نعم ينعم بها على عباده، فوظيفتهم شكر الله عليها
والقيام بها؛ فلهذا قال تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } فأمر تعالى
بذكره, ووعد عليه أفضل جزاء, وهو ذكره لمن ذكره, كما قال تعالى على لسان
رسوله: { من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ
خير منهم }

وذكر الله تعالى, أفضله, ما تواطأ عليه القلب واللسان,
وهو الذكر الذي يثمر معرفة الله ومحبته, وكثرة ثوابه، والذكر هو رأس الشكر,
فلهذا أمر به خصوصا, ثم من بعده أمر بالشكر عموما فقال: { وَاشْكُرُوا لِي
} أي: على ما أنعمت عليكم بهذه النعم، ودفعت عنكم صنوف النقم، والشكر يكون
بالقلب, إقرارا بالنعم, واعترافا, وباللسان, ذكرا وثناء, وبالجوارح, طاعة
لله وانقيادا لأمره, واجتنابا لنهيه, فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة,
وزيادة في النعم المفقودة، قال تعالى: { لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ } وفي الإتيان بالأمر بالشكر بعد النعم الدينية, من العلم
وتزكية الأخلاق والتوفيق للأعمال, بيان أنها أكبر النعم, بل هي النعم
الحقيقية؟ التي تدوم, إذا زال غيرها وأنه ينبغي لمن وفقوا لعلم أو عمل, أن
يشكروا الله على ذلك, ليزيدهم من فضله, وليندفع عنهم الإعجاب, فيشتغلوا
بالشكر.

ولما كان الشكر ضده الكفر, نهى عن ضده فقال: { وَلَا
تَكْفُرُونِ } المراد بالكفر هاهنا ما يقابل الشكر, فهو كفر النعم وجحدها,
وعدم القيام بها، ويحتمل أن يكون المعنى عاما, فيكون الكفر أنواعا كثيرة,
أعظمه الكفر بالله, ثم أنواع المعاصي, على اختلاف أنواعها وأجناسها, من
الشرك, فما دونه.


{ 153 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }

أمر
الله تعالى المؤمنين, بالاستعانة على أمورهم الدينية والدنيوية {
بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } فالصبر هو: حبس النفس وكفها عما تكره, فهو
ثلاثة أقسام: صبرها على طاعة الله حتى تؤديها, وعن معصية الله حتى تتركها,
وعلى أقدار الله المؤلمة فلا تتسخطها، فالصبر هو المعونة العظيمة على كل
أمر, فلا سبيل لغير الصابر, أن يدرك مطلوبه، خصوصا الطاعات الشاقة
المستمرة, فإنها مفتقرة أشد الافتقار, إلى تحمل الصبر, وتجرع المرارة
الشاقة، فإذا لازم صاحبها الصبر, فاز بالنجاح, وإن رده المكروه والمشقة عن
الصبر والملازمة عليها, لم يدرك شيئا, وحصل على الحرمان، وكذلك المعصية
التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي في محل قدرة العبد، فهذه لا يمكن
تركها إلا بصبر عظيم, وكف لدواعي قلبه ونوازعها لله تعالى, واستعانة بالله
على العصمة منها, فإنها من الفتن الكبار. وكذلك البلاء الشاق, خصوصا إن
استمر, فهذا تضعف معه القوى النفسانية والجسدية, ويوجد مقتضاها, وهو
التسخط, إن لم يقاومها صاحبها بالصبر لله, والتوكل عليه, واللجأ إليه,
والافتقار على الدوام.

فعلمت أن الصبر محتاج إليه العبد, بل مضطر
إليه في كل حالة من أحواله، فلهذا أمر الله تعالى به, وأخبر أنه { مَعَ
الصَّابِرِينَ } أي: مع من كان الصبر لهم خلقا, وصفة, وملكة بمعونته
وتوفيقه, وتسديده، فهانت عليهم بذلك, المشاق والمكاره, وسهل عليهم كل عظيم,
وزالت عنهم كل صعوبة، وهذه معية خاصة, تقتضي محبته ومعونته, ونصره وقربه,
وهذه [منقبة عظيمة] للصابرين، فلو لم يكن للصابرين فضيلة إلا أنهم فازوا
بهذه المعية من الله, لكفى بها فضلا وشرفا، وأما المعية العامة, فهي معية
العلم والقدرة, كما في قوله تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ }
وهذه عامة للخلق.

وأمر تعالى بالاستعانة بالصلاة لأن الصلاة هي
عماد الدين, ونور المؤمنين, وهي الصلة بين العبد وبين ربه، فإذا كانت صلاة
العبد صلاة كاملة, مجتمعا فيها ما يلزم فيها, وما يسن, وحصل فيها حضور
القلب, الذي هو لبها فصار العبد إذا دخل فيها, استشعر دخوله على ربه,
ووقوفه بين يديه, موقف العبد الخادم المتأدب, مستحضرا لكل ما يقوله وما
يفعله, مستغرقا بمناجاة ربه ودعائه لا جرم أن هذه الصلاة, من أكبر المعونة
على جميع الأمور فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولأن هذا الحضور الذي
يكون في الصلاة, يوجب للعبد في قلبه, وصفا, وداعيا يدعوه إلى امتثال أوامر
ربه, واجتناب نواهيه، هذه هي الصلاة التي أمر الله أن نستعين بها على كل
شيء.

{ 154 } { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ }

لما
ذكر تبارك وتعالى, الأمر بالاستعانة بالصبر على جميع الأمور ذكر نموذجا مما
يستعان بالصبر عليه, وهو الجهاد في سبيله, وهو أفضل الطاعات البدنية,
وأشقها على النفوس, لمشقته في نفسه, ولكونه مؤديا للقتل, وعدم الحياة, التي
إنما يرغب الراغبون في هذه الدنيا لحصول الحياة ولوازمها، فكل ما يتصرفون
به, فإنه سعى لها, ودفع لما يضادها.

ومن المعلوم أن المحبوب لا
يتركه العاقل إلا لمحبوب أعلى منه وأعظم، فأخبر تعالى: أن من قتل في سبيله,
بأن قاتل في سبيل الله, لتكون كلمة الله هي العليا, ودينه الظاهر, لا لغير
ذلك من الأغراض, فإنه لم تفته الحياة المحبوبة, بل حصل له حياة أعظم
وأكمل, مما تظنون وتحسبون.

فالشهداء { أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ
أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُؤْمِنِينَ }

فهل أعظم من هذه الحياة المتضمنة للقرب من الله
تعالى, وتمتعهم برزقه البدني في المأكولات والمشروبات اللذيذة, والرزق
الروحي, وهو الفرح، والاستبشار وزوال كل خوف وحزن، وهذه حياة برزخية أكمل
من الحياة الدنيا، بل قد أخبر النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترد
أنهار الجنة, وتأكل من ثمارها, وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. وفي هذه
الآية, أعظم حث على الجهاد في سبيل الله, وملازمة الصبر عليه، فلو شعر
العباد بما للمقتولين في سبيل الله من الثواب لم يتخلف عنه أحد، ولكن عدم
العلم اليقيني التام, هو الذي فتر العزائم, وزاد نوم النائم, وأفات الأجور
العظيمة والغنائم، لم لا يكون كذلك والله تعالى قد: { اشْتَرَى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ }

فوالله
لو كان للإنسان ألف نفس, تذهب نفسا فنفسا في سبيل الله, لم يكن عظيما في
جانب هذا الأجر العظيم، ولهذا لا يتمنى الشهداء بعدما عاينوا من ثواب الله
وحسن جزائه إلا أن يردوا إلى الدنيا, حتى يقتلوا في سبيله مرة بعد مرة.

وفي
الآية, دليل على نعيم البرزخ وعذابه, كما تكاثرت بذلك النصوص.


{
155 - 157 } { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ
وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ
مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }

أخبر
تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن, ليتبين الصادق من الكاذب, والجازع
من الصابر, وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان,
ولم يحصل معها محنة, لحصل الاختلاط الذي هو فساد, وحكمة الله تقتضي تمييز
أهل الخير من أهل الشر. هذه فائدة المحن, لا إزالة ما مع المؤمنين من
الإيمان, ولا ردهم عن دينهم, فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين، فأخبر في
هذه الآية أنه سيبتلي عباده { بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ } من الأعداء {
وَالْجُوعِ } أي: بشيء يسير منهما؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله, أو الجوع,
لهلكوا, والمحن تمحص لا تهلك.

{ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ } وهذا
يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية, وغرق, وضياع, وأخذ
الظلمة للأموال من الملوك الظلمة, وقطاع الطريق وغير ذلك.

{
وَالْأَنْفُسِ } أي: ذهاب الأحباب من الأولاد, والأقارب, والأصحاب, ومن
أنواع الأمراض في بدن العبد, أو بدن من يحبه، { وَالثَّمَرَاتِ } أي:
الحبوب, وثمار النخيل, والأشجار كلها, والخضر ببرد, أو برد, أو حرق, أو آفة
سماوية, من جراد ونحوه.

فهذه الأمور, لا بد أن تقع, لأن العليم
الخبير, أخبر بها, فوقعت كما أخبر، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين: جازعين
وصابرين، فالجازع, حصلت له المصيبتان, فوات المحبوب, وهو وجود هذه المصيبة،
وفوات ما هو أعظم منها, وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر، ففاز بالخسارة
والحرمان, ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكران, وحصل
[له] السخط الدال على شدة النقصان.

وأما من وفقه الله للصبر عند
وجود هذه المصائب, فحبس نفسه عن التسخط, قولا وفعلا, واحتسب أجرها عند
الله, وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له, بل
المصيبة تكون نعمة في حقه, لأنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع
منها, فقد امتثل أمر الله, وفاز بالثواب، فلهذا قال تعالى: { وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ } أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب.

فالصابرين,
هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة, والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: {
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ } وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن
أو كليهما مما تقدم ذكره.

{ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ } أي: مملوكون
لله, مدبرون تحت أمره وتصريفه, فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا
ابتلانا بشيء منها, فقد تصرف أرحم الراحمين, بمماليكه وأموالهم, فلا اعتراض
عليه، بل من كمال عبودية العبد, علمه, بأن وقوع البلية من المالك الحكيم,
الذي أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك, الرضا عن الله, والشكر له على
تدبيره, لما هو خير لعبده, وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله, فإنا
إليه راجعون يوم المعاد, فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا
أجرنا موفورا عنده، وإن جزعنا وسخطنا, لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر،
فكون العبد لله, وراجع إليه, من أقوى أسباب الصبر.

{ أُولَئِكَ }
الموصوفون بالصبر المذكور { عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ } أي:
ثناء وتنويه بحالهم { وَرَحْمَةٌ } عظيمة، ومن رحمته إياهم, أن وفقهم للصبر
الذي ينالون به كمال الأجر، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } الذين
عرفوا الحق, وهو في هذا الموضع, علمهم بأنهم لله, وأنهم إليه راجعون,
وعملوا به وهو هنا صبرهم لله.

ودلت هذه الآية, على أن من لم يصبر,
فله ضد ما لهم, فحصل له الذم من الله, والعقوبة, والضلال والخسار، فما أعظم
الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين, وأعظم عناء الجازعين، فقد
اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها, لتخف
وتسهل, إذا وقعت، وبيان ما تقابل به, إذا وقعت, وهو الصبر، وبيان ما يعين
على الصبر, وما للصابر من الأجر، ويعلم حال غير الصابر, بضد حال الصابر.

وأن
هذا الابتلاء والامتحان, سنة الله التي قد خلت, ولن تجد لسنة الله تبديلا،
وبيان أنواع المصائب.


{ 158 } { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ
مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا
فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }

يخبر تعالى أن الصفا والمروة
وهما معروفان { مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } أي أعلام دينه الظاهرة, التي تعبد
الله بها عباده, وإذا كانا من شعائر الله, فقد أمر الله بتعظيم شعائره
فقال: { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى
الْقُلُوبِ } فدل مجموع النصين أنهما من شعائر الله, وأن تعظيم شعائره, من
تقوى القلوب.

والتقوى واجبة على كل مكلف, وذلك يدل على أن السعي
بهما فرض لازم للحج والعمرة, كما عليه الجمهور, ودلت عليه الأحاديث النبوية
وفعله النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 وقال: " خذوا عني مناسككم "

{
فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ
يَطَّوَّفَ بِهِمَا } هذا دفع لوهم من توهم وتحرج من المسلمين عن الطواف
بينهما, لكونهما في الجاهلية تعبد عندهما الأصنام، فنفى تعالى الجناح لدفع
هذا الوهم, لا لأنه غير لازم.

ودل تقييد نفي الجناح فيمن تطوف بهما
في الحج والعمرة, أنه لا يتطوع بالسعي مفردا إلا مع انضمامه لحج أو عمرة،
بخلاف الطواف بالبيت, فإنه يشرع مع العمرة والحج, وهو عبادة مفردة.

فأما
السعي والوقوف بعرفة ومزدلفة, ورمي الجمار فإنها تتبع النسك، فلو فعلت غير
تابعة للنسك, كانت بدعة, لأن البدعة نوعان: نوع يتعبد لله بعبادة, لم
يشرعها أصلا، ونوع يتعبد له بعبادة قد شرعها على صفة مخصوصة, فتفعل على غير
تلك الصفة, وهذا منه.

وقوله: { وَمَنْ تَطَوَّعَ } أي: فعل طاعة
مخلصا بها لله تعالى { خَيْرًا } من حج وعمرة, وطواف, وصلاة, وصوم وغير ذلك
{ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ } فدل هذا, على أنه كلما ازداد العبد من طاعة الله,
ازداد خيره وكماله, ودرجته عند الله, لزيادة إيمانه.

ودل تقييد
التطوع بالخير, أن من تطوع بالبدع, التي لم يشرعها الله ولا رسوله, أنه لا
يحصل له إلا العناء, وليس بخير له, بل قد يكون شرا له إن كان متعمدا عالما
بعدم مشروعية العمل.

{ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } الشاكر
والشكور, من أسماء الله تعالى, الذي يقبل من عباده اليسير من العمل,
ويجازيهم عليه, العظيم من الأجر, الذي إذا قام عبده بأوامره, وامتثل طاعته,
أعانه على ذلك, وأثنى عليه ومدحه, وجازاه في قلبه نورا وإيمانا, وسعة, وفي
بدنه قوة ونشاطا, وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء, وفي أعماله زيادة
توفيق.

ثم بعد ذلك, يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملا موفرا, لم
تنقصه هذه الأمور.

ومن شكره لعبده, أن من ترك شيئا لله, أعاضه الله
خيرا منه، ومن تقرب منه شبرا, تقرب منه ذراعا, ومن تقرب منه ذراعا, تقرب
منه باعا, ومن أتاه يمشي, أتاه هرولة, ومن عامله, ربح عليه أضعافا مضاعفة.

ومع
أنه شاكر, فهو عليم بمن يستحق الثواب الكامل, بحسب نيته وإيمانه وتقواه,
ممن ليس كذلك، عليم بأعمال العباد, فلا يضيعها, بل يجدونها أوفر ما كانت,
على حسب نياتهم التي اطلع عليها العليم الحكيم.


{ 159 - 162 } {
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ
أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ
عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ }

هذه الآية
وإن كانت نازلة في أهل الكتاب, وما كتموا من شأن الرسول تفسير القران الكريم كاملا 0099999 وصفاته, فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان
ما أنزل الله { مِنَ الْبَيِّنَاتِ } الدالات على الحق المظهرات له، {
وَالْهُدَى } وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم, ويتبين
به طريق أهل النعيم, من طريق أهل الجحيم، فإن الله أخذ الميثاق على أهل
العلم, بأن يبينوا الناس ما منّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه،
فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين, كتم ما أنزل الله, والغش لعباد الله،
فأولئك { يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ } أي: يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته.

{
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } وهم جميع الخليقة, فتقع عليهم اللعنة من
جميع الخليقة, لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم, وإبعادهم من رحمة الله,
فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير, يصلي الله عليه وملائكته,
حتى الحوت في جوف الماء, لسعيه في مصلحة الخلق, وإصلاح أديانهم, وقربهم من
رحمة الله, فجوزي من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله, مضاد لأمر الله,
مشاق لله, يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يطمسها فهذا عليه هذا
الوعيد الشديد.

{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا } أي رجعوا عما هم عليه
من الذنوب, ندما وإقلاعا, وعزما على عدم المعاودة { وَأَصْلَحُوا } ما فسد
من أعمالهم، فلا يكفي ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن.

ولا يكفي ذلك
في الكاتم أيضا, حتى يبين ما كتمه, ويبدي ضد ما أخفى، فهذا يتوب الله عليه,
لأن توبة الله غير محجوب عنها، فمن أتى بسبب التوبة, تاب الله عليه, لأنه {
التَّوَّابُ } أي: الرجاع على عباده بالعفو والصفح, بعد الذنب إذا تابوا,
وبالإحسان والنعم بعد المنع, إذا رجعوا، { الرَّحِيمُ } الذي اتصف بالرحمة
العظيمة, التي وسعت كل شيء ومن رحمته أن وفقهم للتوبة والإنابة فتابوا
وأنابوا, ثم رحمهم بأن قبل ذلك منهم, لطفا وكرما, هذا حكم التائب من الذنب.

وأما
من كفر واستمر على كفره حتى مات ولم يرجع إلى ربه, ولم ينب إليه, ولم يتب
عن قريب فأولئك { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ } لأنه لما صار كفرهم وصفا ثابتا, صارت اللعنة عليهم وصفا
ثابتا لا تزول, لأن الحكم يدور مع علته, وجودا وعدما.

و {
خَالِدِينَ فِيهَا } أي: في اللعنة, أو في العذاب والمعنيان

{ لَا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } بل عذابهم دائم شديد مستمر { وَلَا هُمْ
يُنْظَرُونَ } أي: يمهلون, لأن وقت الإمهال وهو الدنيا قد مضى, ولم يبق لهم
عذر فيعتذرون.


{ 163 } { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ }

يخبر تعالى - وهو أصدق
القائلين - أنه { إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي: متوحد منفرد في ذاته, وأسمائه,
وصفاته, وأفعاله، فليس له شريك في ذاته, ولا سمي له ولا كفو له, ولا مثل,
ولا نظير, ولا خالق, ولا مدبر غيره، فإذا كان كذلك, فهو المستحق لأن يؤله
ويعبد بجميع أنواع العبادة, ولا يشرك به أحد من خلقه, لأنه { الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ } المتصف بالرحمة العظيمة, التي لا يماثلها رحمة أحد, فقد وسعت
كل شيء وعمت كل حي، فبرحمته وجدت المخلوقات, وبرحمته حصلت لها أنواع
الكمالات، وبرحمته اندفع عنها كل نقمة، وبرحمته عرّف عباده نفسه بصفاته
وآلائه, وبيَّن لهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم, بإرسال
الرسل, وإنزال الكتب.

فإذا علم أن ما بالعباد من نعمة, فمن الله,
وأن أحدا من المخلوقين, لا ينفع أحدا، علم أن الله هو المستحق لجميع أنواع
العبادة, وأن يفرد بالمحبة والخوف, والرجاء, والتعظيم, والتوكل, وغير ذلك
من أنواع الطاعات.

وأن من أظلم الظلم, وأقبح القبيح, أن يعدل عن
عبادته إلى عبادة العبيد, وأن يشرك المخلوق من تراب, برب الأرباب, أو يعبد
المخلوق المدبر العاجز من جميع الوجوه, مع الخالق المدبر القادر القوي،
الذي قد قهر كل شيء ودان له كل شيء.

ففي هذه الآية, إثبات وحدانية
الباري وإلهيته، وتقريرها بنفيها عن غيره من المخلوقين وبيان أصل الدليل
على ذلك وهو إثبات رحمته التي من آثارها وجود جميع النعم, واندفاع [جميع]
النقم، فهذا دليل إجمالي على وحدانيته تعالى.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 7:58 pm

{ 164 } ثم ذكر الأدلة
التفصيلية فقال: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ
مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا
مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }


أخبر
تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة, آيات أي: أدلة على وحدانية الباري
وإلهيته، وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته، ولكنها { لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
أي: لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له، فعلى حسب ما منّ الله على عبده
من العقل, ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبُّره، ففي { خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ } في ارتفاعها واتساعها, وإحكامها, وإتقانها, وما جعل الله
فيها من الشمس والقمر, والنجوم, وتنظيمها لمصالح العباد.

وفي خلق {
الْأَرْضِ } مهادا للخلق, يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها,
والاعتبار. ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير, وبيان قدرته
العظيمة التي بها خلقها, وحكمته التي بها أتقنها, وأحسنها ونظمها, وعلمه
ورحمته التي بها أودع ما أودع, من منافع الخلق ومصالحهم, وضروراتهم
وحاجاتهم. وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله, واستحقاقه أن يفرد بالعبادة,
لانفراده بالخلق والتدبير, والقيام بشئون عباده { و } في { اخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } وهو تعاقبهما على الدوام, إذا ذهب أحدهما, خلفه
الآخر، وفي اختلافهما في الحر, والبرد, والتوسط, وفي الطول, والقصر,
والتوسط, وما ينشأ عن ذلك من الفصول, التي بها انتظام مصالح بني آدم
وحيواناتهم, وجميع ما على وجه الأرض, من أشجار ونوابت، كل ذلك بانتظام
وتدبير, وتسخير, تنبهر له العقول, وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحول, ما
يدل ذلك على قدرة مصرفها, وعلمه وحكمته, ورحمته الواسعة, ولطفه الشامل,
وتصريفه وتدبيره, الذي تفرد به, وعظمته, وعظمة ملكه وسلطانه, مما يوجب أن
يؤله ويعبد, ويفرد بالمحبة والتعظيم, والخوف والرجاء, وبذل الجهد في محابه
ومراضيه.

{ و } في { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ }
وهي السفن والمراكب ونحوها, مما ألهم الله عباده صنعتها, وخلق لهم من
الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها.

ثم سخر لها هذا البحر
العظيم والرياح, التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال, والبضائع التي
هي من منافع الناس, وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم.

فمن الذي
ألهمهم صنعتها, وأقدرهم عليها, وخلق لهم من الآلات ما به يعملونها؟ أم من
الذي سخر لها البحر, تجري فيه بإذنه وتسخيره, والرياح؟ أم من الذي خلق
للمراكب البرية والبحرية, النار والمعادن المعينة على حملها, وحمل ما فيها
من الأموال؟ فهل هذه الأمور, حصلت اتفاقا, أم استقل بعملها هذا المخلوق
الضعيف العاجز, الذي خرج من بطن أمه, لا علم له ولا قدرة، ثم خلق له ربه
القدرة, وعلمه ما يشاء تعليمه، أم المسخر لذلك رب واحد, حكيم عليم, لا
يعجزه شيء, ولا يمتنع عليه شيء؟ بل الأشياء قد دانت لربوبيته, واستكانت
لعظمته, وخضعت لجبروته.

وغاية العبد الضعيف, أن جعله الله جزءا من
أجزاء الأسباب, التي بها وجدت هذه الأمور العظام, فهذا يدل على رحمة الله
وعنايته بخلقه, وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له, والخوف والرجاء, وجميع
الطاعة, والذل والتعظيم.

{ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ
مِنْ مَاءٍ } وهو المطر النازل من السحاب.

{ فَأَحْيَا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فأظهرت من أنواع الأقوات, وأصناف النبات, ما
هو من ضرورات الخلائق, التي لا يعيشون بدونها.

أليس ذلك دليلا على
قدرة من أنزله, وأخرج به ما أخرج ورحمته, ولطفه بعباده, وقيامه بمصالحهم,
وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم
وإلههم؟ أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟ { وَبَثَّ
فِيهَا } أي: في الأرض { مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ } أي: نشر في أقطار الأرض من
الدواب المتنوعة, ما هو دليل على قدرته وعظمته, ووحدانيته وسلطانه العظيم،
وسخرها للناس, ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع.

فمنها: ما يأكلون
من لحمه, ويشربون من دره، ومنها: ما يركبون، ومنها: ما هو ساع في مصالحهم
وحراستهم, ومنها: ما يعتبر به، ومع أنه بث فيها من كل دابة، فإنه سبحانه هو
القائم بأرزاقهم, المتكفل بأقواتهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله
رزقها, ويعلم مستقرها ومستودعها.

وفي { تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ }
باردة وحارة, وجنوبا وشمالا, وشرقا ودبورا وبين ذلك، وتارة تثير السحاب,
وتارة تؤلف بينه, وتارة تلقحه, وتارة تدره, وتارة تمزقه وتزيل ضرره, وتارة
تكون رحمة, وتارة ترسل بالعذاب.

فمن الذي صرفها هذا التصريف, وأودع
فيها من منافع العباد, ما لا يستغنون عنه؟ وسخرها ليعيش فيها جميع
الحيوانات, وتصلح الأبدان والأشجار, والحبوب والنوابت, إلا العزيز الحكيم
الرحيم, اللطيف بعباده المستحق لكل ذل وخضوع, ومحبة وإنابة وعبادة؟.

وفي
تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير,
فيسوقه الله إلى حيث شاء، فيحيي به البلاد والعباد, ويروي التلول والوهاد,
وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه، فإذا كان يضرهم كثرته, أمسكه عنهم,
فينزله رحمة ولطفا, ويصرفه عناية وعطفا، فما أعظم سلطانه, وأغزر إحسانه,
وألطف امتنانه"

أليس من القبيح بالعباد, أن يتمتعوا برزقه, ويعيشوا
ببره وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه؟ أليس ذلك دليلا على حلمه
وصبره, وعفوه وصفحه, وعميم لطفه؟

فله الحمد أولا وآخرا, وباطنا
وظاهرا.

والحاصل, أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات, وتغلغل
فكره في بدائع المبتدعات, وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر
والحكمة, علم بذلك, أنها خلقت للحق وبالحق, وأنها صحائف آيات, وكتب
دلالات, على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته, وما أخبرت به الرسل من
اليوم الآخر, وأنها مسخرات, ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها.

فتعرف
أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون, وإليه صامدون، وأنه الغني
بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا الله, ولا رب سواه.


{
165 - 167 } ثم قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ
الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ
اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ *
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ
مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ
أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ
}



ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها، فإنه تعالى, لما بين
وحدانيته وأدلتها القاطعة, وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين,
المزيلة لكل شك، ذكر هنا أن { مِنَ النَّاسِ } مع هذا البيان التام من يتخذ
من المخلوقين أندادا لله أي: نظراء ومثلاء, يساويهم في الله بالعبادة
والمحبة, والتعظيم والطاعة.

ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة,
وبيان التوحيد - علم أنه معاند لله, مشاق له, أو معرض عن تدبر آياته
والتفكر في مخلوقاته, فليس له أدنى عذر في ذلك, بل قد حقت عليه كلمة
العذاب.

وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله, لا يسوونهم بالله في
الخلق والرزق والتدبير, وإنما يسوونهم به في العبادة, فيعبدونهم، ليقربوهم
إليه، وفي قوله: { اتخذوا } دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا
بعض المخلوقات أندادا له, تسمية مجردة, ولفظا فارغا من المعنى، كما قال
تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ
تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ
الْقَوْلِ }

{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ
وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } فالمخلوق ليس ندا لله لأن الله هو الخالق,
وغيره مخلوق, والرب الرازق ومن عداه مرزوق, والله هو الغني وأنتم الفقراء،
وهو الكامل من كل الوجوه, والعبيد ناقصون من جميع الوجوه، والله هو النافع
الضار, والمخلوق ليس له من النفع والضر والأمر شيء، فعلم علما يقينا, بطلان
قول من اتخذ من دون الله آلهة وأندادا، سواء كان ملكا أو نبيا, أو صالحا,
صنما, أو غير ذلك، وأن الله هو المستحق للمحبة الكاملة, والذل التام، فلهذا
مدح الله المؤمنين بقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ }
أي: من أهل الأنداد لأندادهم, لأنهم أخلصوا محبتهم له, وهؤلاء أشركوا بها،
ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة, الذي محبته هي عين صلاح العبد
وسعادته وفوزه، والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئا, ومحبته عين شقاء
العبد وفساده, وتشتت أمره.

فلهذا توعدهم الله بقوله: { وَلَوْ
يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد
وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله, وسعيهم فيما يضرهم.

{ إِذْ
يَرَوْنَ الْعَذَابَ } أي: يوم القيامة عيانا بأبصارهم، { أَنَّ الْقُوَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } أي: لعلموا علما
جازما, أن القوة والقدرة لله كلها, وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء،
فتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها, لا كما اشتبه عليهم في الدنيا, وظنوا
أن لها من الأمر شيئا, وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه، فخاب ظنهم, وبطل
سعيهم, وحق عليهم شدة العذاب, ولم تدفع عنهم أندادهم شيئا, ولم تغن عنهم
مثقال ذرة من النفع، بل يحصل لهم الضرر منها, من حيث ظنوا نفعها.

وتبرأ
المتبوعون من التابعين, وتقطعت بينهم الوصل, التي كانت في الدنيا, لأنها
كانت لغير الله, وعلى غير أمر الله, ومتعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له,
فاضمحلت أعمالهم, وتلاشت أحوالهم، وتبين لهم أنهم كانوا كاذبين, وأن
أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها, انقلبت عليهم حسرة وندامة, وأنهم
خالدون في النار لا يخرجون منها أبدا، فهل بعد هذا الخسران خسران؟ ذلك
بأنهم اتبعوا الباطل، فعملوا العمل الباطل ورجوا غير مرجو, وتعلقوا بغير
متعلق, فبطلت الأعمال ببطلان متعلقها، ولما بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من
الأمل فيها, فضرتهم غاية الضرر، وهذا بخلاف من تعلق بالله الملك الحق
المبين, وأخلص العمل لوجهه, ورجا نفعه، فهذا قد وضع الحق في موضعه, فكانت
أعماله حقا, لتعلقها بالحق, ففاز بنتيجة عمله, ووجد جزاءه عند ربه, غير
منقطع كما قال تعالى: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ
كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ
أَمْثَالَهُمْ }

وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا
فيتبرأوا من متبوعيهم, بأن يتركوا الشرك بالله, ويقبلوا على إخلاص العمل
لله، وهيهات, فات الأمر, وليس الوقت وقت إمهال وإنظار، ومع هذا, فهم كذبة,
فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنما هو قول يقولونه, وأماني يتمنونها,
حنقا وغيظا على المتبوعين لما تبرأوا منهم والذنب ذنبهم، فرأس المتبوعين
على الشر, إبليس, ومع هذا يقول لأتباعه لما قضي الأمر { إِنَّ اللَّهَ
وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ
لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ
لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ }


{ 168 - 170 } {
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا
وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ *
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ *


وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا
يَهْتَدُونَ }

هذا خطاب للناس كلهم, مؤمنهم وكافرهم، فامتن عليهم
بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض، من حبوب, وثمار, وفواكه,
وحيوانات, حالة كونها { حَلَالًا } أي: محللا لكم تناوله، ليس بغصب ولا
سرقة, ولا محصلا بمعاملة محرمة أو على وجه محرم، أو معينا على محرم.

{
طَيِّبًا } أي: ليس بخبيث, كالميتة والدم, ولحم الخنزير, والخبائث كلها،
ففي هذه الآية, دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة، أكلا وانتفاعا, وأن
المحرم نوعان: إما محرم لذاته, وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب، وإما محرم لما
عرض له, وهو المحرم لتعلق حق الله, أو حق عباده به, وهو ضد الحلال.

وفيه
دليل على أن الأكل بقدر ما يقيم البنية واجب, يأثم تاركه لظاهر الأمر،
ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به - إذ هو عين صلاحهم - نهاهم عن اتباع {
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي: طرقه التي يأمر بها, وهي جميع المعاصي من
كفر, وفسوق, وظلم، ويدخل في ذلك تحريم السوائب, والحام, ونحو ذلك، ويدخل
فيه أيضا تناول المأكولات المحرمة، { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } أي:
ظاهر العداوة, فلا يريد بأمركم إلا غشكم, وأن تكونوا من أصحاب السعير، فلم
يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته, حتى أخبرنا - وهو أصدق القائلين -
بعداوته الداعية للحذر منه, ثم لم يكتف بذلك, حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر
به, وأنه أقبح الأشياء, وأعظمها مفسدة فقال: { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ
بِالسُّوءِ }

أي: الشر الذي يسوء صاحبه, فيدخل في ذلك, جميع
المعاصي، فيكون قوله: { وَالْفَحْشَاءِ } من باب عطف الخاص على العام؛ لأن
الفحشاء من المعاصي, ما تناهى قبحه, كالزنا, وشرب الخمر, والقتل, والقذف,
والبخل ونحو ذلك, مما يستفحشه من له عقل، { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ
مَا لَا تَعْلَمُونَ } فيدخل في ذلك, القول على الله بلا علم, في شرعه,
وقدره، فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه, أو وصفه به رسوله, أو نفى عنه ما
أثبته لنفسه, أو أثبت له ما نفاه عن نفسه, فقد قال على الله بلا علم، ومن
زعم أن لله ندا, وأوثانا, تقرب من عبدها من الله, فقد قال على الله بلا
علم، ومن قال: إن الله أحل كذا, أو حرم كذا, أو أمر بكذا, أو نهى عن كذا,
بغير بصيرة, فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: الله خلق هذا الصنف من
المخلوقات, للعلة الفلانية بلا برهان له بذلك, فقد قال على الله بلا علم،
ومن أعظم القول على الله بلا علم, أن يتأول المتأول كلامه, أو كلام رسوله,
على معان اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال, ثم يقول: إن الله أرادها،
فالقول على الله بلا علم, من أكبر المحرمات, وأشملها, وأكبر طرق الشيطان
التي يدعو إليها, فهذه طرق الشيطان التي يدعو إليها هو وجنوده, ويبذلون
مكرهم وخداعهم, على إغواء الخلق بما يقدرون عليه.

وأما الله تعالى,
فإنه يأمر بالعدل والإحسان, وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر
والبغي، فلينظر العبد نفسه, مع أي الداعيين هو, ومن أي الحزبين؟ أتتبع داعي
الله الذي يريد لك الخير والسعادة الدنيوية والأخروية, الذي كل الفلاح
بطاعته, وكل الفوز في خدمته, وجميع الأرباح في معاملة المنعم بالنعم
الظاهرة والباطنة, الذي لا يأمر إلا بالخير, ولا ينهى إلا عن الشر، أم تتبع
داعي الشيطان, الذي هو عدو الإنسان, الذي يريد لك الشر, ويسعى بجهده على
إهلاكك في الدنيا والآخرة؟ الذي كل الشر في طاعته, وكل الخسران في ولايته،
الذي لا يأمر إلا بشر, ولا ينهى إلا عن خير.

ثم أخبر تعالى عن حال
المشركين إذا أمروا باتباع ما أنزل الله على رسوله - مما تقدم وصفه - رغبوا
عن ذلك وقالوا: { بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا }
فاكتفوا بتقليد الآباء, وزهدوا في الإيمان بالأنبياء، ومع هذا فآباؤهم أجهل
الناس, وأشدهم ضلالا وهذه شبهة لرد الحق واهية، فهذا دليل على إعراضهم عن
الحق, ورغبتهم عنه, وعدم إنصافهم، فلو هدوا لرشدهم, وحسن قصدهم, لكان الحق
هو القصد، ومن جعل الحق قصده, ووازن بينه وبين غيره, تبين له الحق قطعا,
واتبعه إن كان منصفا.



ثم قال [تعالى]: { وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً
وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }

لما بين
تعالى عدم انقيادهم لما جاءت به الرسل, وردهم لذلك بالتقليد, علم من ذلك
أنهم غير قابلين للحق, ولا مستجيبين له, بل كان معلوما لكل أحد أنهم لن
يزولوا عن عنادهم، أخبر تعالى, أن مثلهم عند دعاء الداعي لهم إلى الإيمان
كمثل البهائم التي ينعق لها راعيها, وليس لها علم بما يقول راعيها
ومناديها، فهم يسمعون مجرد الصوت, الذي تقوم به عليهم الحجة, ولكنهم لا
يفقهونه فقها ينفعهم, فلهذا كانوا صما, لا يسمعون الحق سماع فهم وقبول,
عميا, لا ينظرون نظر اعتبار, بكما, فلا ينطقون بما فيه خير لهم.

والسبب
الموجب لذلك كله, أنه ليس لهم عقل صحيح, بل هم أسفه السفهاء, وأجهل
الجهلاء.

فهل يستريب العاقل, أن من دعي إلى الرشاد, وذيد عن الفساد,
ونهي عن اقتحام العذاب, وأمر بما فيه صلاحه وفلاحه, وفوزه, ونعيمه فعصى
الناصح, وتولى عن أمر ربه, واقتحم النار على بصيرة, واتبع الباطل, ونبذ
الحق - أن هذا ليس له مسكة من عقل, وأنه لو اتصف بالمكر والخديعة والدهاء,
فإنه من أسفه السفهاء.


{ 172 - 173 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ
اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

هذا أمر للمؤمنين خاصة, بعد الأمر
العام, وذلك أنهم هم المنتفعون على الحقيقة بالأوامر والنواهي, بسبب
إيمانهم, فأمرهم بأكل الطيبات من الرزق, والشكر لله على إنعامه, باستعمالها
بطاعته, والتقوي بها على ما يوصل إليه، فأمرهم بما أمر به المرسلين في
قوله { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا
صَالِحًا }

فالشكر في هذه الآية, هو العمل الصالح، وهنا لم يقل "
حلالا " لأن المؤمن أباح الله له الطيبات من الرزق خالصة من التبعة، ولأن
إيمانه يحجزه عن تناول ما ليس له.

وقوله { إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ } أي: فاشكروه، فدل على أن من لم يشكر الله, لم يعبده وحده,
كما أن من شكره, فقد عبده, وأتى بما أمر به، ويدل أيضا على أن أكل الطيب,
سبب للعمل الصالح وقبوله، والأمر بالشكر, عقيب النعم؛ لأن الشكر يحفظ النعم
الموجودة, ويجلب النعم المفقودة كما أن الكفر, ينفر النعم المفقودة ويزيل
النعم الموجودة.

ولما ذكر تعالى إباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث
فقال { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } وهي: ما مات بغير تذكية
شرعية, لأن الميتة خبيثة مضرة, لرداءتها في نفسها, ولأن الأغلب, أن تكون عن
مرض, فيكون زيادة ضرر واستثنى الشارع من هذا العموم, ميتة الجراد, وسمك
البحر, فإنه حلال طيب.

{ وَالدَّمَ } أي: المسفوح كما قيد في الآية
الأخرى.

{ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } أي: ذبح لغير
الله, كالذي يذبح للأصنام والأوثان من الأحجار, والقبور ونحوها, وهذا
المذكور غير حاصر للمحرمات، جيء به لبيان أجناس الخبائث المدلول عليها
بمفهوم قوله: { طَيِّبَاتِ } فعموم المحرمات, تستفاد من الآية السابقة, من
قوله: { حَلَالًا طَيِّبًا } كما تقدم.

وإنما حرم علينا هذه الخبائث
ونحوها, لطفا بنا, وتنزيها عن المضر، ومع هذا { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي:
ألجئ إلى المحرم, بجوع وعدم, أو إكراه، { غَيْرَ بَاغٍ } أي: غير طالب
للمحرم, مع قدرته على الحلال, أو مع عدم جوعه، { وَلَا عَادٍ } أي: متجاوز
الحد في تناول ما أبيح له, اضطرارا، فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال،
وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها، { فَلَا إِثْمَ } [أي: جناح] عليه، وإذا
ارتفع الجناح الإثم رجع الأمر إلى ما كان عليه، والإنسان بهذه الحالة,
مأمور بالأكل, بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة, وأن يقتل نفسه.

فيجب,
إذًا عليه الأكل, ويأثم إن ترك الأكل حتى مات, فيكون قاتلا لنفسه.

وهذه
الإباحة والتوسعة, من رحمته تعالى بعباده, فلهذا ختمها بهذين الاسمين
الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال: { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

ولما
كان الحل مشروطا بهذين الشرطين, وكان الإنسان في هذه الحالة, ربما لا
يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها - أخبر تعالى أنه غفور, فيغفر ما أخطأ
فيه في هذه الحال, خصوصا وقد غلبته الضرورة, وأذهبت حواسه المشقة.

وفي
هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة: " الضرورات تبيح المحظورات " فكل
محظور, اضطر إليه الإنسان, فقد أباحه له, الملك الرحمن. [فله الحمد والشكر,
أولا وآخرا, وظاهرا وباطنا].


{ 174 - 176 } { إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا
النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا
يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ
عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }

هذا
وعيد شديد لمن كتم ما أنزل الله على رسله, من العلم الذي أخذ الله الميثاق
على أهله, أن يبينوه للناس ولا يكتموه، فمن تعوض عنه بالحطام الدنيوي,
ونبذ أمر الله, فأولئك: { مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ
} لأن هذا الثمن الذي اكتسبوه, إنما حصل لهم بأقبح المكاسب, وأعظم
المحرمات, فكان جزاؤهم من جنس عملهم، { وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } بل قد سخط عليهم وأعرض عنهم، فهذا أعظم عليهم من عذاب
النار، { وَلَا يُزَكِّيهِمْ } أي: لا يطهرهم من الأخلاق الرذيلة, وليس لهم
أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها، وإنما لم يزكهم لأنهم فعلوا أسباب
عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب الله, والاهتداء به, والدعوة
إليه، فهؤلاء نبذوا كتاب الله, وأعرضوا عنه, واختاروا الضلالة على الهدى,
والعذاب على المغفرة، فهؤلاء لا يصلح لهم إلا النار, فكيف يصبرون عليها,
وأنى لهم الجلد عليها؟"

{ ذَلِكَ } المذكور, وهو مجازاته بالعدل,
ومنعه أسباب الهداية, ممن أباها واختار سواها.

{ بِأَنَّ اللَّهَ
نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } ومن الحق, مجازاة المحسن بإحسانه, والمسيء
بإساءته.

وأيضا ففي قوله: { نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } ما
يدل على أن الله أنزله لهداية خلقه, وتبيين الحق من الباطل, والهدى من
الضلال، فمن صرفه عن مقصوده, فهو حقيق بأن يجازى بأعظم العقوبة.

{
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي:
وإن الذين اختلفوا في الكتاب, فآمنوا ببعضه, وكفروا ببعضه، والذين حرفوه
وصرفوه على أهوائهم ومراداتهم { لَفِي شِقَاقٍ } أي: محادة، { بَعِيدٍ } عن
الحق لأنهم قد خالفوا الكتاب الذي جاء بالحق الموجب للاتفاق وعدم التناقض،
فمرج أمرهم, وكثر شقاقهم, وترتب على ذلك افتراقهم، بخلاف أهل الكتاب الذين
آمنوا به, وحكموه في كل شيء, فإنهم اتفقوا وارتفقوا بالمحبة والاجتماع
عليه.

وقد تضمنت هذه الآيات, الوعيد للكاتمين لما أنزل الله,
المؤثرين عليه, عرض الدنيا بالعذاب والسخط, وأن الله لا يطهرهم بالتوفيق,
ولا بالمغفرة، وذكر السبب في ذلك بإيثارهم الضلالة على الهدى، فترتب على
ذلك اختيار العذاب على المغفرة، ثم توجع لهم بشدة صبرهم على النار, لعملهم
بالأسباب التي يعلمون أنها موصلة إليها، وأن الكتاب مشتمل على الحق الموجب
للاتفاق عليه, وعدم الافتراق، وأن كل من خالفه, فهو في غاية البعد عن الحق,
والمنازعة والمخاصمة, والله اعلم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 8:00 pm

{ 177 } { لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى
حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }

يقول تعالى: { لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ }
أي: ليس هذا هو البر المقصود من العباد, فيكون كثرة البحث فيه والجدال من
العناء الذي ليس تحته إلا الشقاق والخلاف، وهذا نظير قوله تفسير القران الكريم كاملا 0099999: " ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي
يملك نفسه عند الغضب " ونحو ذلك.

{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ } أي: بأنه إله واحد, موصوف بكل صفة كمال, منزه عن كل نقص.

{
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وهو كل ما أخبر الله به في كتابه, أو أخبر به
الرسول, مما يكون بعد الموت.

{ وَالْمَلَائِكَةِ } الذين وصفهم الله
لنا في كتابه, ووصفهم رسوله تفسير القران الكريم كاملا 0099999 { وَالْكِتَابِ } أي: جنس الكتب التي
أنزلها الله على رسوله, وأعظمها القرآن, فيؤمن بما تضمنه من الأخبار
والأحكام، { وَالنَّبِيِّينَ } عموما, خصوصا خاتمهم وأفضلهم محمد تفسير القران الكريم كاملا 0099999.

{ وَآتَى الْمَالَ } وهو كل ما
يتموله الإنسان من مال, قليلا كان أو كثيرا، أي: أعطى المال { عَلَى
حُبِّهِ } أي: حب المال ، بيَّن به أن المال محبوب للنفوس, فلا يكاد يخرجه
العبد.

فمن أخرجه مع حبه له تقربا إلى الله تعالى, كان هذا برهانا
لإيمانه، ومن إيتاء المال على حبه, أن يتصدق وهو صحيح شحيح, يأمل الغنى,
ويخشى الفقر، وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة, كانت أفضل, لأنه في هذه الحال,
يحب إمساكه, لما يتوهمه من العدم والفقر.

وكذلك إخراج النفيس من
المال, وما يحبه من ماله كما قال تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فكل هؤلاء ممن آتى المال على حبه.

ثم
ذكر المنفق عليهم, وهم أولى الناس ببرك وإحسانك. من الأقارب الذين تتوجع
لمصابهم, وتفرح بسرورهم, الذين يتناصرون ويتعاقلون، فمن أحسن البر وأوفقه,
تعاهد الأقارب بالإحسان المالي والقولي, على حسب قربهم وحاجتهم.

ومن
اليتامى الذين لا كاسب لهم, وليس لهم قوة يستغنون بها، وهذا من رحمته
[تعالى] بالعباد, الدالة على أنه تعالى أرحم بهم من الوالد بولده، فالله قد
أوصى العباد, وفرض عليهم في أموالهم, الإحسان إلى من فقد آباؤهم ليصيروا
كمن لم يفقد والديه، ولأن الجزاء من جنس العمل فمن رحم يتيم غيره, رُحِمَ
يتيمه.

{ وَالْمَسَاكِين } وهم الذين أسكنتهم الحاجة, وأذلهم الفقر
فلهم حق على الأغنياء, بما يدفع مسكنتهم أو يخففها, بما يقدرون عليه, وبما
يتيسر، { وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو الغريب المنقطع به في غير بلده، فحث
الله عباده على إعطائه من المال, ما يعينه على سفره, لكونه مظنة الحاجة,
وكثرة المصارف، فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته, وخوله من نعمته, أن
يرحم أخاه الغريب, الذي بهذه الصفة, على حسب استطاعته, ولو بتزويده أو
إعطائه آلة لسفره, أو دفع ما ينوبه من المظالم وغيرها.

{
وَالسَّائِلِينَ } أي: الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج, توجب السؤال، كمن
ابتلي بأرش جناية, أو ضريبة عليه من ولاة الأمور, أو يسأل الناس لتعمير
المصالح العامة, كالمساجد, والمدارس, والقناطر, ونحو ذلك, فهذا له حق وإن
كان غنيا { وَفِي الرِّقَابِ } فيدخل فيه العتق والإعانة عليه, وبذل مال
للمكاتب ليوفي سيده, وفداء الأسرى عند الكفار أو عند الظلمة.

{
وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } قد تقدم مرارا, أن الله تعالى
يقرن بين الصلاة والزكاة, لكونهما أفضل العبادات, وأكمل القربات, عبادات
قلبية, وبدنية, ومالية, وبهما يوزن الإيمان, ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان.

{
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } والعهد: هو الالتزام بإلزام
الله أو إلزام العبد لنفسه. فدخل في ذلك حقوق الله كلها, لكون الله ألزم
بها عباده والتزموها, ودخلوا تحت عهدتها, ووجب عليهم أداؤها, وحقوق العباد,
التي أوجبها الله عليهم, والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور,
ونحو ذلك.

{ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ } أي: الفقر, لأن
الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة, لكونه يحصل له من الآلام القلبية
والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره.

فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر
عليه تألم، وإن جاع أو جاعت عياله تألم، وإن أكل طعاما غير موافق لهواه
تألم، وإن عرى أو كاد تألم, وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من
المستقبل الذي يستعد له تألم, وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم.

فكل
هذه ونحوها, مصائب, يؤمر بالصبر عليها, والاحتساب, ورجاء الثواب من الله
عليها.

{ وَالضَّرَّاءِ } أي: المرض على اختلاف أنواعه, من حمى,
وقروح, ورياح, ووجع عضو, حتى الضرس والإصبع ونحو ذلك, فإنه يحتاج إلى الصبر
على ذلك؛ لأن النفس تضعف, والبدن يألم, وذلك في غاية المشقة على النفوس,
خصوصا مع تطاول ذلك, فإنه يؤمر بالصبر, احتسابا لثواب الله [تعالى].

{
وَحِينَ الْبَأْسِ } أي: وقت القتال للأعداء المأمور بقتالهم, لأن الجلاد,
يشق غاية المشقة على النفس, ويجزع الإنسان من القتل, أو الجراح أو الأسر,
فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابا, ورجاء لثواب الله [تعالى] الذي منه النصر
والمعونة, التي وعدها الصابرين.

{ أُولَئِكَ } أي: المتصفون بما
ذكر من العقائد الحسنة, والأعمال التي هي آثار الإيمان, وبرهانه ونوره,
والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية، فأولئك هم { الَّذِينَ
صَدَقُوا } في إيمانهم, لأن أعمالهم صدقت إيمانهم، { وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ } لأنهم تركوا المحظور, وفعلوا المأمور؛ لأن هذه الأمور
مشتملة على كل خصال الخير, تضمنا ولزوما, لأن الوفاء بالعهد, يدخل فيه
الدين كله، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات، ومن
قام بها, كان بما سواها أقوم, فهؤلاء هم الأبرار الصادقون المتقون.

وقد
علم ما رتب الله على هذه الأمور الثلاثة, من الثواب الدنيوي والأخروي, مما
لا يمكن تفصيله في [مثل] هذا الموضع.


{ 178 - 179 } { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى
الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ
وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ *
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ }

يمتن تعالى على عباده المؤمنين, بأنه فرض عليهم {
الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } أي: المساواة فيه, وأن يقتل القاتل على الصفة,
التي قتل عليها المقتول, إقامة للعدل والقسط بين العباد.

وتوجيه
الخطاب لعموم المؤمنين, فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم، حتى أولياء
القاتل حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول, إذا طلب القصاص وتمكينه من
القاتل, وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد, ويمنعوا الولي من
الاقتصاص, كما عليه عادة الجاهلية, ومن أشبههم من إيواء المحدثين.

ثم
بيَّن تفصيل ذلك فقال: { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } يدخل بمنطقوقها, الذكر
بالذكر، { وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } والأنثى بالذكر, والذكر بالأنثى,
فيكون منطوقها مقدما على مفهوم قوله: " الأنثى بالأنثى " مع دلالة السنة,
على أن الذكر يقتل بالأنثى، وخرج من عموم هذا الأبوان وإن علوا، فلا يقتلان
بالولد, لورود السنة بذلك، مع أن في قوله: { الْقِصَاصُ } ما يدل على أنه
ليس من العدل, أن يقتل الوالد بولده، ولأن في قلب الوالد من الشفقة
والرحمة, ما يمنعه من القتل لولده إلا بسبب اختلال في عقله, أو أذية شديدة
جدا من الولد له.

وخرج من العموم أيضا, الكافر بالسنة, مع أن الآية
في خطاب المؤمنين خاصة.

وأيضا فليس من العدل أن يقتل ولي الله
بعدوه، والعبد بالعبد, ذكرا كان أو أنثى, تساوت قيمتهما أو اختلفت، ودل
بمفهومها على أن الحر, لا يقتل بالعبد, لكونه غير مساو له، والأنثى
بالأنثى, أخذ بمفهومها بعض أهل العلم فلم يجز قتل الرجل بالمرأة, وتقدم وجه
ذلك.

وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل, وأن
الدية بدل عنه، فلهذا قال: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } أي:
عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية, أو عفا بعض الأولياء, فإنه يسقط
القصاص, وتجب الدية, وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي.

فإذا
عفا عنه وجب على الولي, [أي: ولي المقتول] أن يتبع القاتل {
بِالْمَعْرُوفِ } من غير أن يشق عليه, ولا يحمله ما لا يطيق, بل يحسن
الاقتضاء والطلب, ولا يحرجه.

وعلى القاتل { أَدَاءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسَانٍ } من غير مطل ولا نقص, ولا إساءة فعلية أو قولية, فهل جزاء
الإحسان إليه بالعفو, إلا الإحسان بحسن القضاء، وهذا مأمور به في كل ما ثبت
في ذمم الناس للإنسان، مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف، ومن عليه
الحق, بالأداء بإحسان

وفي قوله: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ }
ترقيق وحث على العفو إلى الدية، وأحسن من ذلك العفو مجانا.

وفي
قوله: { أَخِيهِ } دليل على أن القاتل لا يكفر, لأن المراد بالأخوة هنا
أخوة الإيمان, فلم يخرج بالقتل منها، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي
دون الكفر, لا يكفر بها فاعلها, وإنما ينقص بذلك إيمانه.

وإذا عفا
أولياء المقتول, أو عفا بعضهم, احتقن دم القاتل, وصار معصوما منهم ومن
غيرهم, ولهذا قال: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } أي: بعد العفو {
فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: في الآخرة، وأما قتله وعدمه, فيؤخذ مما تقدم,
لأنه قتل مكافئا له, فيجب قتله بذلك.

وأما من فسر العذاب الأليم
بالقتل, فإن الآية تدل على أنه يتعين قتله, ولا يجوز العفو عنه, وبذلك قال
بعض العلماء والصحيح الأول, لأن جنايته لا تزيد على جناية غيره.

ثم
بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال: { وَلَكُمْ فِي
الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } أي: تنحقن بذلك الدماء, وتنقمع به الأشقياء, لأن من
عرف أنه مقتول إذا قتل, لا يكاد يصدر منه القتل, وإذا رئي القاتل مقتولا
انذعر بذلك غيره وانزجر, فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل, لم يحصل انكفاف
الشر, الذي يحصل بالقتل، وهكذا سائر الحدود الشرعية, فيها من النكاية
والانزجار, ما يدل على حكمة الحكيم الغفار، ونكَّر " الحياة " لإفادة
التعظيم والتكثير.

ولما كان هذا الحكم, لا يعرف حقيقته, إلا أهل
العقول الكاملة والألباب الثقيلة, خصهم بالخطاب دون غيرهم، وهذا يدل على أن
الله تعالى, يحب من عباده, أن يعملوا أفكارهم وعقولهم, في تدبر ما في
أحكامه من الحكم, والمصالح الدالة على كماله, وكمال حكمته وحمده, وعدله
ورحمته الواسعة، وأن من كان بهذه المثابة, فقد استحق المدح بأنه من ذوي
الألباب الذين وجه إليهم الخطاب, وناداهم رب الأرباب, وكفى بذلك فضلا وشرفا
لقوم يعقلون.

وقوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وذلك أن من عرف
ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات
الرفيعة, أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله, ويعظم معاصيه فيتركها, فيستحق
بذلك أن يكون من المتقين.

{ 180 - 182 } { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا
حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ
عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ
خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ
عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

أي: فرض الله عليكم, يا
معشر المؤمنين { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي: أسبابه, كالمرض
المشرف على الهلاك, وحضور أسباب المهالك، وكان قد { تَرَكَ خَيْرًا } [أي:
مالا] وهو المال الكثير عرفا, فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه
بالمعروف, على قدر حاله من غير سرف, ولا اقتصار على الأبعد, دون الأقرب، بل
يرتبهم على القرب والحاجة, ولهذا أتى فيه بأفعل التفضيل.

وقوله: {
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } دل على وجوب ذلك, لأن الحق هو: الثابت، وقد
جعله الله من موجبات التقوى.

واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه
الآية منسوخة بآية المواريث، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير
الوارثين, مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل، والأحسن في هذا أن يقال:
إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة, ردها الله تعالى إلى العرف
الجاري.

ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب
الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث, بعد أن كان مجملا، وبقي الحكم
فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو
وصف, فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره، وهذا القول
تتفق عليه الأمة, ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين, لأن كلا من
القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا, واختلف المورد.

فبهذا الجمع, يحصل
الاتفاق, والجمع بين الآيات, لأنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء
النسخ, الذي لم يدل عليه دليل صحيح.

ولما كان الموصي قد يمتنع من
الوصية, لما يتوهمه أن من بعده, قد يبدل ما وصى به قال تعالى: { فَمَنْ
بَدَّلَهُ } أي: الإيصاء للمذكورين أو غيرهم { بَعْدَمَا سَمِعَهُ } [أي:]
بعدما عقله, وعرف طرقه وتنفيذه، { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ
يُبَدِّلُونَهُ } وإلا فالموصي وقع أجره على الله, وإنما الإثم على المبدل
المغير.

{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } يسمع سائر الأصوات, ومنه سماعه
لمقالة الموصي ووصيته، فينبغي له أن يراقب من يسمعه ويراه, وأن لا يجور في
وصيته، { عَلِيمٌ } بنيته, وعليم بعمل الموصى إليه، فإذا اجتهد الموصي,
وعلم الله من نيته ذلك, أثابه ولو أخطأ، وفيه التحذير للموصى إليه من
التبديل، فإن الله عليم به, مطلع على ما فعله, فليحذر من الله، هذا حكم
الوصية العادلة.

وأما الوصية التي فيها حيف وجنف, وإثم، فينبغي لمن
حضر الموصي وقت الوصية بها, أن ينصحه بما هو الأحسن والأعدل, وأن ينهاه عن
الجور والجنف, وهو: الميل بها عن خطأ, من غير تعمد, والإثم: وهو التعمد
لذلك.

فإن لم يفعل ذلك, فينبغي له أن يصلح بين الموصى إليهم, ويتوصل
إلى العدل بينهم على وجه التراضي والمصالحة, ووعظهم بتبرئة ذمة ميتهم فهذا
قد فعل معروفا عظيما, وليس عليهم إثم, كما على مبدل الوصية الجائزة، ولهذا
قال: { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } أي: يغفر جميع الزلات, ويصفح عن التبعات
لمن تاب إليه, ومنه مغفرته لمن غض من نفسه, وترك بعض حقه لأخيه, لأن من
سامح, سامحه الله، غفور لميتهم الجائر في وصيته, إذا احتسبوا بمسامحة بعضهم
بعضا لأجل براءة ذمته، رحيم بعباده, حيث شرع لهم كل أمر به يتراحمون
ويتعاطفون، فدلت هذه الآيات على الحث على الوصية, وعلى بيان من هي له, وعلى
وعيد المبدل للوصية العادلة, والترغيب في الإصلاح في الوصية الجائرة.


{
183 - 185 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ
خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى
مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

يخبر تعالى بما منَّ به
على عباده, بأنه فرض عليهم الصيام, كما فرضه على الأمم السابقة, لأنه من
الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان.

وفيه تنشيط لهذه
الأمة, بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال, والمسارعة إلى
صالح الخصال, وأنه ليس من الأمور الثقيلة, التي اختصيتم بها.

ثم ذكر
تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فإن
الصيام من أكبر أسباب التقوى, لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.

فمما
اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب
والجماع ونحوها, التي تميل إليها نفسه, متقربا بذلك إلى الله, راجيا
بتركها, ثوابه، فهذا من التقوى.

ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على
مراقبة الله تعالى, فيترك ما تهوى نفسه, مع قدرته عليه, لعلمه باطلاع الله
عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان, فإنه يجري من ابن آدم مجرى
الدم, فبالصيام, يضعف نفوذه, وتقل منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في
الغالب, تكثر طاعته, والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم
الجوع, أوجب له ذلك, مواساة الفقراء المعدمين, وهذا من خصال التقوى.

ولما
ذكر أنه فرض عليهم الصيام, أخبر أنه أيام معدودات, أي: قليلة في غاية
السهولة.

ثم سهل تسهيلا آخر. فقال: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وذلك للمشقة,
في الغالب, رخص الله لهما, في الفطر.

ولما كان لا بد من حصول مصلحة
الصيام لكل مؤمن, أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض, وانقضى
السفر, وحصلت الراحة.

وفي قوله: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ } فيه
دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان, كاملا كان, أو ناقصا, وعلى أنه يجوز أن
يقضي أياما قصيرة باردة, عن أيام طويلة حارة كالعكس.

وقوله: {
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي: يطيقون الصيام { فِدْيَةٌ } عن كل
يوم يفطرونه { طَعَامُ مِسْكِينٍ } وهذا في ابتداء فرض الصيام, لما كانوا
غير معتادين للصيام, وكان فرضه حتما, فيه مشقة عليهم, درجهم الرب الحكيم,
بأسهل طريق، وخيَّر المطيق للصوم بين أن يصوم, وهو أفضل, أو يطعم، ولهذا
قال: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }

ثم بعد ذلك, جعل الصيام
حتما على المطيق وغير المطيق, يفطر ويقضيه في أيام أخر [وقيل: { وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي: يتكلفونه، ويشق عليهم مشقة غير محتملة,
كالشيخ الكبير, فدية عن كل يوم مسكين وهذا هو الصحيح]

{ شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أي: الصوم المفروض عليكم,
هو شهر رمضان, الشهر العظيم, الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم،
وهو القرآن الكريم, المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية,
وتبيين الحق بأوضح بيان, والفرقان بين الحق والباطل, والهدى والضلال, وأهل
السعادة وأهل الشقاوة.

فحقيق بشهر, هذا فضله, وهذا إحسان الله عليكم
فيه, أن يكون موسما للعباد مفروضا فيه الصيام.

فلما قرره, وبين
فضيلته, وحكمة الله تعالى في تخصيصه قال: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح الحاضر.

ولما
كان النسخ للتخيير, بين الصيام والفداء خاصة, أعاد الرخصة للمريض
والمسافر, لئلا يتوهم أن الرخصة أيضا منسوخة [فقال] { يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } أي: يريد الله تعالى أن
ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير, ويسهلها أشد تسهيل،
ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله.

وإذا
حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله, سهَّله تسهيلا آخر, إما بإسقاطه, أو
تخفيفه بأنواع التخفيفات.

وهذه جملة لا يمكن تفصيلها, لأن تفاصيلها,
جميع الشرعيات, ويدخل فيها جميع الرخص والتخفيفات.

{
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } وهذا - والله أعلم - لئلا يتوهم متوهم, أن
صيام رمضان, يحصل المقصود منه ببعضه, دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته،
ويشكر الله [تعالى] عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده,
وبالتكبير عند انقضائه, ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال إلى فراغ
خطبة العيد.
{ 177 } { لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى
حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }

يقول تعالى: { لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ }
أي: ليس هذا هو البر المقصود من العباد, فيكون كثرة البحث فيه والجدال من
العناء الذي ليس تحته إلا الشقاق والخلاف، وهذا نظير قوله تفسير القران الكريم كاملا 0099999: " ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي
يملك نفسه عند الغضب " ونحو ذلك.

{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ } أي: بأنه إله واحد, موصوف بكل صفة كمال, منزه عن كل نقص.

{
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وهو كل ما أخبر الله به في كتابه, أو أخبر به
الرسول, مما يكون بعد الموت.

{ وَالْمَلَائِكَةِ } الذين وصفهم الله
لنا في كتابه, ووصفهم رسوله تفسير القران الكريم كاملا 0099999 { وَالْكِتَابِ } أي: جنس الكتب التي
أنزلها الله على رسوله, وأعظمها القرآن, فيؤمن بما تضمنه من الأخبار
والأحكام، { وَالنَّبِيِّينَ } عموما, خصوصا خاتمهم وأفضلهم محمد تفسير القران الكريم كاملا 0099999.

{ وَآتَى الْمَالَ } وهو كل ما
يتموله الإنسان من مال, قليلا كان أو كثيرا، أي: أعطى المال { عَلَى
حُبِّهِ } أي: حب المال ، بيَّن به أن المال محبوب للنفوس, فلا يكاد يخرجه
العبد.

فمن أخرجه مع حبه له تقربا إلى الله تعالى, كان هذا برهانا
لإيمانه، ومن إيتاء المال على حبه, أن يتصدق وهو صحيح شحيح, يأمل الغنى,
ويخشى الفقر، وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة, كانت أفضل, لأنه في هذه الحال,
يحب إمساكه, لما يتوهمه من العدم والفقر.

وكذلك إخراج النفيس من
المال, وما يحبه من ماله كما قال تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فكل هؤلاء ممن آتى المال على حبه.

ثم
ذكر المنفق عليهم, وهم أولى الناس ببرك وإحسانك. من الأقارب الذين تتوجع
لمصابهم, وتفرح بسرورهم, الذين يتناصرون ويتعاقلون، فمن أحسن البر وأوفقه,
تعاهد الأقارب بالإحسان المالي والقولي, على حسب قربهم وحاجتهم.

ومن
اليتامى الذين لا كاسب لهم, وليس لهم قوة يستغنون بها، وهذا من رحمته
[تعالى] بالعباد, الدالة على أنه تعالى أرحم بهم من الوالد بولده، فالله قد
أوصى العباد, وفرض عليهم في أموالهم, الإحسان إلى من فقد آباؤهم ليصيروا
كمن لم يفقد والديه، ولأن الجزاء من جنس العمل فمن رحم يتيم غيره, رُحِمَ
يتيمه.

{ وَالْمَسَاكِين } وهم الذين أسكنتهم الحاجة, وأذلهم الفقر
فلهم حق على الأغنياء, بما يدفع مسكنتهم أو يخففها, بما يقدرون عليه, وبما
يتيسر، { وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو الغريب المنقطع به في غير بلده، فحث
الله عباده على إعطائه من المال, ما يعينه على سفره, لكونه مظنة الحاجة,
وكثرة المصارف، فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته, وخوله من نعمته, أن
يرحم أخاه الغريب, الذي بهذه الصفة, على حسب استطاعته, ولو بتزويده أو
إعطائه آلة لسفره, أو دفع ما ينوبه من المظالم وغيرها.

{
وَالسَّائِلِينَ } أي: الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج, توجب السؤال، كمن
ابتلي بأرش جناية, أو ضريبة عليه من ولاة الأمور, أو يسأل الناس لتعمير
المصالح العامة, كالمساجد, والمدارس, والقناطر, ونحو ذلك, فهذا له حق وإن
كان غنيا { وَفِي الرِّقَابِ } فيدخل فيه العتق والإعانة عليه, وبذل مال
للمكاتب ليوفي سيده, وفداء الأسرى عند الكفار أو عند الظلمة.

{
وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } قد تقدم مرارا, أن الله تعالى
يقرن بين الصلاة والزكاة, لكونهما أفضل العبادات, وأكمل القربات, عبادات
قلبية, وبدنية, ومالية, وبهما يوزن الإيمان, ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان.

{
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } والعهد: هو الالتزام بإلزام
الله أو إلزام العبد لنفسه. فدخل في ذلك حقوق الله كلها, لكون الله ألزم
بها عباده والتزموها, ودخلوا تحت عهدتها, ووجب عليهم أداؤها, وحقوق العباد,
التي أوجبها الله عليهم, والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور,
ونحو ذلك.

{ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ } أي: الفقر, لأن
الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة, لكونه يحصل له من الآلام القلبية
والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره.

فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر
عليه تألم، وإن جاع أو جاعت عياله تألم، وإن أكل طعاما غير موافق لهواه
تألم، وإن عرى أو كاد تألم, وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من
المستقبل الذي يستعد له تألم, وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم.

فكل
هذه ونحوها, مصائب, يؤمر بالصبر عليها, والاحتساب, ورجاء الثواب من الله
عليها.

{ وَالضَّرَّاءِ } أي: المرض على اختلاف أنواعه, من حمى,
وقروح, ورياح, ووجع عضو, حتى الضرس والإصبع ونحو ذلك, فإنه يحتاج إلى الصبر
على ذلك؛ لأن النفس تضعف, والبدن يألم, وذلك في غاية المشقة على النفوس,
خصوصا مع تطاول ذلك, فإنه يؤمر بالصبر, احتسابا لثواب الله [تعالى].

{
وَحِينَ الْبَأْسِ } أي: وقت القتال للأعداء المأمور بقتالهم, لأن الجلاد,
يشق غاية المشقة على النفس, ويجزع الإنسان من القتل, أو الجراح أو الأسر,
فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابا, ورجاء لثواب الله [تعالى] الذي منه النصر
والمعونة, التي وعدها الصابرين.

{ أُولَئِكَ } أي: المتصفون بما
ذكر من العقائد الحسنة, والأعمال التي هي آثار الإيمان, وبرهانه ونوره,
والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية، فأولئك هم { الَّذِينَ
صَدَقُوا } في إيمانهم, لأن أعمالهم صدقت إيمانهم، { وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ } لأنهم تركوا المحظور, وفعلوا المأمور؛ لأن هذه الأمور
مشتملة على كل خصال الخير, تضمنا ولزوما, لأن الوفاء بالعهد, يدخل فيه
الدين كله، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات، ومن
قام بها, كان بما سواها أقوم, فهؤلاء هم الأبرار الصادقون المتقون.

وقد
علم ما رتب الله على هذه الأمور الثلاثة, من الثواب الدنيوي والأخروي, مما
لا يمكن تفصيله في [مثل] هذا الموضع.


{ 178 - 179 } { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى
الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ
وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ *
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ }

يمتن تعالى على عباده المؤمنين, بأنه فرض عليهم {
الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } أي: المساواة فيه, وأن يقتل القاتل على الصفة,
التي قتل عليها المقتول, إقامة للعدل والقسط بين العباد.

وتوجيه
الخطاب لعموم المؤمنين, فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم، حتى أولياء
القاتل حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول, إذا طلب القصاص وتمكينه من
القاتل, وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد, ويمنعوا الولي من
الاقتصاص, كما عليه عادة الجاهلية, ومن أشبههم من إيواء المحدثين.

ثم
بيَّن تفصيل ذلك فقال: { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } يدخل بمنطقوقها, الذكر
بالذكر، { وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } والأنثى بالذكر, والذكر بالأنثى,
فيكون منطوقها مقدما على مفهوم قوله: " الأنثى بالأنثى " مع دلالة السنة,
على أن الذكر يقتل بالأنثى، وخرج من عموم هذا الأبوان وإن علوا، فلا يقتلان
بالولد, لورود السنة بذلك، مع أن في قوله: { الْقِصَاصُ } ما يدل على أنه
ليس من العدل, أن يقتل الوالد بولده، ولأن في قلب الوالد من الشفقة
والرحمة, ما يمنعه من القتل لولده إلا بسبب اختلال في عقله, أو أذية شديدة
جدا من الولد له.

وخرج من العموم أيضا, الكافر بالسنة, مع أن الآية
في خطاب المؤمنين خاصة.

وأيضا فليس من العدل أن يقتل ولي الله
بعدوه، والعبد بالعبد, ذكرا كان أو أنثى, تساوت قيمتهما أو اختلفت، ودل
بمفهومها على أن الحر, لا يقتل بالعبد, لكونه غير مساو له، والأنثى
بالأنثى, أخذ بمفهومها بعض أهل العلم فلم يجز قتل الرجل بالمرأة, وتقدم وجه
ذلك.

وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل, وأن
الدية بدل عنه، فلهذا قال: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } أي:
عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية, أو عفا بعض الأولياء, فإنه يسقط
القصاص, وتجب الدية, وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي.

فإذا
عفا عنه وجب على الولي, [أي: ولي المقتول] أن يتبع القاتل {
بِالْمَعْرُوفِ } من غير أن يشق عليه, ولا يحمله ما لا يطيق, بل يحسن
الاقتضاء والطلب, ولا يحرجه.

وعلى القاتل { أَدَاءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسَانٍ } من غير مطل ولا نقص, ولا إساءة فعلية أو قولية, فهل جزاء
الإحسان إليه بالعفو, إلا الإحسان بحسن القضاء، وهذا مأمور به في كل ما ثبت
في ذمم الناس للإنسان، مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف، ومن عليه
الحق, بالأداء بإحسان

وفي قوله: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ }
ترقيق وحث على العفو إلى الدية، وأحسن من ذلك العفو مجانا.

وفي
قوله: { أَخِيهِ } دليل على أن القاتل لا يكفر, لأن المراد بالأخوة هنا
أخوة الإيمان, فلم يخرج بالقتل منها، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي
دون الكفر, لا يكفر بها فاعلها, وإنما ينقص بذلك إيمانه.

وإذا عفا
أولياء المقتول, أو عفا بعضهم, احتقن دم القاتل, وصار معصوما منهم ومن
غيرهم, ولهذا قال: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } أي: بعد العفو {
فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: في الآخرة، وأما قتله وعدمه, فيؤخذ مما تقدم,
لأنه قتل مكافئا له, فيجب قتله بذلك.

وأما من فسر العذاب الأليم
بالقتل, فإن الآية تدل على أنه يتعين قتله, ولا يجوز العفو عنه, وبذلك قال
بعض العلماء والصحيح الأول, لأن جنايته لا تزيد على جناية غيره.

ثم
بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال: { وَلَكُمْ فِي
الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } أي: تنحقن بذلك الدماء, وتنقمع به الأشقياء, لأن من
عرف أنه مقتول إذا قتل, لا يكاد يصدر منه القتل, وإذا رئي القاتل مقتولا
انذعر بذلك غيره وانزجر, فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل, لم يحصل انكفاف
الشر, الذي يحصل بالقتل، وهكذا سائر الحدود الشرعية, فيها من النكاية
والانزجار, ما يدل على حكمة الحكيم الغفار، ونكَّر " الحياة " لإفادة
التعظيم والتكثير.

ولما كان هذا الحكم, لا يعرف حقيقته, إلا أهل
العقول الكاملة والألباب الثقيلة, خصهم بالخطاب دون غيرهم، وهذا يدل على أن
الله تعالى, يحب من عباده, أن يعملوا أفكارهم وعقولهم, في تدبر ما في
أحكامه من الحكم, والمصالح الدالة على كماله, وكمال حكمته وحمده, وعدله
ورحمته الواسعة، وأن من كان بهذه المثابة, فقد استحق المدح بأنه من ذوي
الألباب الذين وجه إليهم الخطاب, وناداهم رب الأرباب, وكفى بذلك فضلا وشرفا
لقوم يعقلون.

وقوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وذلك أن من عرف
ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات
الرفيعة, أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله, ويعظم معاصيه فيتركها, فيستحق
بذلك أن يكون من المتقين.

{ 180 - 182 } { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا
حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ
عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ
خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ
عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

أي: فرض الله عليكم, يا
معشر المؤمنين { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي: أسبابه, كالمرض
المشرف على الهلاك, وحضور أسباب المهالك، وكان قد { تَرَكَ خَيْرًا } [أي:
مالا] وهو المال الكثير عرفا, فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه
بالمعروف, على قدر حاله من غير سرف, ولا اقتصار على الأبعد, دون الأقرب، بل
يرتبهم على القرب والحاجة, ولهذا أتى فيه بأفعل التفضيل.

وقوله: {
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } دل على وجوب ذلك, لأن الحق هو: الثابت، وقد
جعله الله من موجبات التقوى.

واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه
الآية منسوخة بآية المواريث، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير
الوارثين, مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل، والأحسن في هذا أن يقال:
إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة, ردها الله تعالى إلى العرف
الجاري.

ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب
الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث, بعد أن كان مجملا، وبقي الحكم
فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو
وصف, فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره، وهذا القول
تتفق عليه الأمة, ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين, لأن كلا من
القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا, واختلف المورد.

فبهذا الجمع, يحصل
الاتفاق, والجمع بين الآيات, لأنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء
النسخ, الذي لم يدل عليه دليل صحيح.

ولما كان الموصي قد يمتنع من
الوصية, لما يتوهمه أن من بعده, قد يبدل ما وصى به قال تعالى: { فَمَنْ
بَدَّلَهُ } أي: الإيصاء للمذكورين أو غيرهم { بَعْدَمَا سَمِعَهُ } [أي:]
بعدما عقله, وعرف طرقه وتنفيذه، { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ
يُبَدِّلُونَهُ } وإلا فالموصي وقع أجره على الله, وإنما الإثم على المبدل
المغير.

{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } يسمع سائر الأصوات, ومنه سماعه
لمقالة الموصي ووصيته، فينبغي له أن يراقب من يسمعه ويراه, وأن لا يجور في
وصيته، { عَلِيمٌ } بنيته, وعليم بعمل الموصى إليه، فإذا اجتهد الموصي,
وعلم الله من نيته ذلك, أثابه ولو أخطأ، وفيه التحذير للموصى إليه من
التبديل، فإن الله عليم به, مطلع على ما فعله, فليحذر من الله، هذا حكم
الوصية العادلة.

وأما الوصية التي فيها حيف وجنف, وإثم، فينبغي لمن
حضر الموصي وقت الوصية بها, أن ينصحه بما هو الأحسن والأعدل, وأن ينهاه عن
الجور والجنف, وهو: الميل بها عن خطأ, من غير تعمد, والإثم: وهو التعمد
لذلك.

فإن لم يفعل ذلك, فينبغي له أن يصلح بين الموصى إليهم, ويتوصل
إلى العدل بينهم على وجه التراضي والمصالحة, ووعظهم بتبرئة ذمة ميتهم فهذا
قد فعل معروفا عظيما, وليس عليهم إثم, كما على مبدل الوصية الجائزة، ولهذا
قال: { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } أي: يغفر جميع الزلات, ويصفح عن التبعات
لمن تاب إليه, ومنه مغفرته لمن غض من نفسه, وترك بعض حقه لأخيه, لأن من
سامح, سامحه الله، غفور لميتهم الجائر في وصيته, إذا احتسبوا بمسامحة بعضهم
بعضا لأجل براءة ذمته، رحيم بعباده, حيث شرع لهم كل أمر به يتراحمون
ويتعاطفون، فدلت هذه الآيات على الحث على الوصية, وعلى بيان من هي له, وعلى
وعيد المبدل للوصية العادلة, والترغيب في الإصلاح في الوصية الجائرة.


{
183 - 185 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ
خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى
مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

يخبر تعالى بما منَّ به
على عباده, بأنه فرض عليهم الصيام, كما فرضه على الأمم السابقة, لأنه من
الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان.

وفيه تنشيط لهذه
الأمة, بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال, والمسارعة إلى
صالح الخصال, وأنه ليس من الأمور الثقيلة, التي اختصيتم بها.

ثم ذكر
تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فإن
الصيام من أكبر أسباب التقوى, لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.

فمما
اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب
والجماع ونحوها, التي تميل إليها نفسه, متقربا بذلك إلى الله, راجيا
بتركها, ثوابه، فهذا من التقوى.

ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على
مراقبة الله تعالى, فيترك ما تهوى نفسه, مع قدرته عليه, لعلمه باطلاع الله
عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان, فإنه يجري من ابن آدم مجرى
الدم, فبالصيام, يضعف نفوذه, وتقل منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في
الغالب, تكثر طاعته, والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم
الجوع, أوجب له ذلك, مواساة الفقراء المعدمين, وهذا من خصال التقوى.

ولما
ذكر أنه فرض عليهم الصيام, أخبر أنه أيام معدودات, أي: قليلة في غاية
السهولة.

ثم سهل تسهيلا آخر. فقال: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وذلك للمشقة,
في الغالب, رخص الله لهما, في الفطر.

ولما كان لا بد من حصول مصلحة
الصيام لكل مؤمن, أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض, وانقضى
السفر, وحصلت الراحة.

وفي قوله: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ } فيه
دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان, كاملا كان, أو ناقصا, وعلى أنه يجوز أن
يقضي أياما قصيرة باردة, عن أيام طويلة حارة كالعكس.

وقوله: {
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي: يطيقون الصيام { فِدْيَةٌ } عن كل
يوم يفطرونه { طَعَامُ مِسْكِينٍ } وهذا في ابتداء فرض الصيام, لما كانوا
غير معتادين للصيام, وكان فرضه حتما, فيه مشقة عليهم, درجهم الرب الحكيم,
بأسهل طريق، وخيَّر المطيق للصوم بين أن يصوم, وهو أفضل, أو يطعم، ولهذا
قال: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }

ثم بعد ذلك, جعل الصيام
حتما على المطيق وغير المطيق, يفطر ويقضيه في أيام أخر [وقيل: { وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي: يتكلفونه، ويشق عليهم مشقة غير محتملة,
كالشيخ الكبير, فدية عن كل يوم مسكين وهذا هو الصحيح]

{ شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أي: الصوم المفروض عليكم,
هو شهر رمضان, الشهر العظيم, الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم،
وهو القرآن الكريم, المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية,
وتبيين الحق بأوضح بيان, والفرقان بين الحق والباطل, والهدى والضلال, وأهل
السعادة وأهل الشقاوة.

فحقيق بشهر, هذا فضله, وهذا إحسان الله عليكم
فيه, أن يكون موسما للعباد مفروضا فيه الصيام.

فلما قرره, وبين
فضيلته, وحكمة الله تعالى في تخصيصه قال: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح الحاضر.

ولما
كان النسخ للتخيير, بين الصيام والفداء خاصة, أعاد الرخصة للمريض
والمسافر, لئلا يتوهم أن الرخصة أيضا منسوخة [فقال] { يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } أي: يريد الله تعالى أن
ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير, ويسهلها أشد تسهيل،
ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله.

وإذا
حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله, سهَّله تسهيلا آخر, إما بإسقاطه, أو
تخفيفه بأنواع التخفيفات.

وهذه جملة لا يمكن تفصيلها, لأن تفاصيلها,
جميع الشرعيات, ويدخل فيها جميع الرخص والتخفيفات.

{
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } وهذا - والله أعلم - لئلا يتوهم متوهم, أن
صيام رمضان, يحصل المقصود منه ببعضه, دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته،
ويشكر الله [تعالى] عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده,
وبالتكبير عند انقضائه, ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال إلى فراغ
خطبة العيد.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 8:02 pm

{ 186 } { وَإِذَا
سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ }

هذا جواب سؤال، سأل النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 بعض أصحابه فقالوا: يا رسول الله, أقريب
ربنا فنناجيه, أم بعيد فنناديه؟ فنزل: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ } لأنه تعالى, الرقيب الشهيد, المطلع على السر وأخفى,
يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, فهو قريب أيضا من داعيه, بالإجابة،
ولهذا قال: { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } والدعاء نوعان:
دعاء عبادة, ودعاء مسألة.

والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه, وقرب
من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق.

فمن دعا ربه بقلب
حاضر, ودعاء مشروع, ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء, كأكل الحرام ونحوه, فإن
الله قد وعده بالإجابة، وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء, وهي
الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية, والإيمان
به, الموجب للاستجابة، فلهذا قال: { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا
بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية
للإيمان والأعمال الصالحة, ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال
الصالحة. ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره, سبب لحصول العلم كما قال
تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ
لَكُمْ فُرْقَانًا

{ 187 } ثم قال تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ
الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ
لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ
أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

كان في أول فرض الصيام، يحرم على
المسلمين في الليل بعد النوم الأكل والشرب والجماع، فحصلت المشقة لبعضهم،
فخفف الله تعالى عنهم ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب
والجماع، سواء نام أو لم ينم، لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به.



{
فتاب } الله { عليكم } بأن وسع لكم أمرا كان - لولا توسعته - موجبا للإثم {
وعفا عنكم } ما سلف من التخون.

{ فالآن } بعد هذه الرخصة والسعة من
الله { باشروهن } وطأ وقبلة ولمسا وغير ذلك.

{ وابتغوا ما كتب الله
لكم } أي: انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى والمقصود
الأعظم من الوطء، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته، وحصول مقاصد
النكاح.

ومما كتب الله لكم ليلة القدر، الموافقة لليالي صيام رمضان،
فلا ينبغي لكم أن تشتغلوا بهذه اللذة عنها وتضيعوها، فاللذة مدركة، وليلة
القدر إذا فاتت لم تدرك.

{ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط
الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } هذا غاية للأكل والشرب والجماع، وفيه
أنه إذا أكل ونحوه شاكا في طلوع الفجر فلا بأس عليه.

وفيه: دليل على
استحباب السحور للأمر، وأنه يستحب تأخيره أخذا من معنى رخصة الله وتسهيله
على العباد.

وفيه أيضا دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من
الجماع قبل أن يغتسل، ويصح صيامه، لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر،
أن يدركه الفجر وهو جنب، ولازم الحق حق.

{ ثم } إذا طلع الفجر {
أتموا الصيام } أي: الإمساك عن المفطرات { إلى الليل } وهو غروب الشمس ولما
كان إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحته عامة لكل أحد، فإن المعتكف
لا يحل له ذلك، استثناه بقوله: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد }
أي: وأنتم متصفون بذلك، ودلت الآية على مشروعية الاعتكاف، وهو لزوم المسجد
لطاعة الله [تعالى]، وانقطاعا إليه، وأن الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد.

ويستفاد
من تعريف المساجد، أنها المساجد المعروفة عندهم، وهي التي تقام فيها
الصلوات الخمس.

وفيه أن الوطء من مفسدات الاعتكاف.

{ تلك }
المذكورات - وهو تحريم الأكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام،
وتحريم الفطر على غير المعذور، وتحريم الوطء على المعتكف، ونحو ذلك من
المحرمات { حدود الله } التي حدها لعباده، ونهاهم عنها، فقال: { فلا
تقربوها } أبلغ من قوله: " فلا تفعلوها " لأن القربان، يشمل النهي عن فعل
المحرم بنفسه، والنهي عن وسائله الموصلة إليه.

والعبد مأمور بترك
المحرمات، والبعد منها غاية ما يمكنه، وترك كل سبب يدعو إليها، وأما
الأوامر فيقول الله فيها: { تلك حدود الله فلا تعتدوها } فينهى عن
مجاوزتها.

{ كذلك } أي: بيَّن [الله] لعباده الأحكام السابقة أتم
تبيين، وأوضحها لهم أكمل إيضاح.

{ يبين الله آياته للناس لعلهم
يتقون } فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه، فإن
الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم، ولو علم تحريمه لم
يفعله، فإذا بين الله للناس آياته، لم يبق لهم عذر ولا حجة، فكان ذلك سببا
للتقوى.


{ 188 } { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا
مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

أي:
ولا تأخذوا أموالكم أي: أموال غيركم، أضافها إليهم, لأنه ينبغي للمسلم أن
يحب لأخيه ما يحب لنفسه, ويحترم ماله كما يحترم ماله؛ ولأن أكله لمال غيره
يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة.

ولما كان أكلها نوعين: نوعا
بحق, ونوعا بباطل, وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل, قيده تعالى بذلك،
ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية, أو
نحو ذلك، ويدخل فيه أيضا, أخذها على وجه المعاوضة, بمعاوضة محرمة, كعقود
الربا, والقمار كلها, فإنها من أكل المال بالباطل, لأنه ليس في مقابلة عوض
مباح، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة, ونحوها،
ويدخل في ذلك استعمال الأجراء وأكل أجرتهم، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم
يقوموا بواجبه، ويدخل في ذلك أخذ الأجرة على العبادات والقربات التي لا تصح
حتى يقصد بها وجه الله تعالى، ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات,
والأوقاف، والوصايا, لمن ليس له حق منها, أو فوق حقه.

فكل هذا
ونحوه, من أكل المال بالباطل, فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه، حتى ولو حصل فيه
النزاع وحصل الارتفاع إلى حاكم الشرع, وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة,
غلبت حجة المحق, وحكم له الحاكم بذلك، فإن حكم الحاكم, لا يبيح محرما, ولا
يحلل حراما, إنما يحكم على نحو مما يسمع, وإلا فحقائق الأمور باقية، فليس
في حكم الحاكم للمبطل راحة, ولا شبهة, ولا استراحة.

فمن أدلى إلى
الحاكم بحجة باطلة, وحكم له بذلك, فإنه لا يحل له, ويكون آكلا لمال غيره,
بالباطل والإثم, وهو عالم بذلك. فيكون أبلغ في عقوبته, وأشد في نكاله.

وعلى
هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه, لم يحل له أن يخاصم عن
الخائن كما قال تعالى: { وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا }


{
189 } { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

يقول تعالى: {
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ } جمع - هلال - ما فائدتها وحكمتها؟ أو عن
ذاتها، { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } أي: جعلها الله تعالى بلطفه
ورحمته على هذا التدبير يبدو الهلال ضعيفا في أول الشهر, ثم يتزايد إلى
نصفه, ثم يشرع في النقص إلى كماله, وهكذا, ليعرف الناس بذلك, مواقيت
عباداتهم من الصيام, وأوقات الزكاة, والكفارات, وأوقات الحج.

ولما
كان الحج يقع في أشهر معلومات, ويستغرق أوقاتا كثيرة قال: { وَالْحَجِّ }
وكذلك تعرف بذلك, أوقات الديون المؤجلات, ومدة الإجارات, ومدة العدد
والحمل, وغير ذلك مما هو من حاجات الخلق، فجعله تعالى, حسابا, يعرفه كل
أحد, من صغير, وكبير, وعالم, وجاهل، فلو كان الحساب بالسنة الشمسية, لم
يعرفه إلا النادر من الناس.

{ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا } وهذا كما كان الأنصار وغيرهم من العرب, إذا
أحرموا, لم يدخلوا البيوت من أبوابها, تعبدا بذلك, وظنا أنه بر. فأخبر الله
أنه ليس ببر لأن الله تعالى, لم يشرعه لهم، وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها
الله ولا رسوله, فهو متعبد ببدعة، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها لما
فيه من السهولة عليهم, التي هي قاعدة من قواعد الشرع.

ويستفاد من
إشارة الآية أنه ينبغي في كل أمر من الأمور, أن يأتيه الإنسان من الطريق
السهل القريب, الذي قد جعل له موصلا، فالآمر بالمعروف, والناهي عن المنكر,
ينبغي أن ينظر في حالة المأمور, ويستعمل معه الرفق والسياسة, التي بها يحصل
المقصود أو بعضه، والمتعلم والمعلم, ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله, يحصل
به مقصوده، وهكذا كل من حاول أمرا من الأمور وأتاه من أبوابه وثابر عليه,
فلا بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود.

{ وَاتَّقُوا
اللَّهَ } هذا هو البر الذي أمر الله به, وهو لزوم تقواه على الدوام,
بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, فإنه سبب للفلاح, الذي هو الفوز بالمطلوب,
والنجاة من المرهوب، فمن لم يتق الله تعالى, لم يكن له سبيل إلى الفلاح,
ومن اتقاه, فاز بالفلاح والنجاح.


{ 190 - 193 } { وَقَاتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ *


وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ
أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ
إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ }

هذه الآيات, تتضمن الأمر بالقتال في
سبيل الله, وهذا كان بعد الهجرة إلى المدينة, لما قوي المسلمون للقتال,
أمرهم الله به, بعد ما كانوا مأمورين بكف أيديهم، وفي تخصيص القتال { فِي
سَبِيلِ اللَّهِ } حث على الإخلاص, ونهي عن الاقتتال في الفتن بين
المسلمين.



{ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } أي: الذين هم
مستعدون لقتالكم, وهم المكلفون الرجال, غير الشيوخ الذين لا رأي لهم ولا
قتال.

والنهي عن الاعتداء, يشمل أنواع الاعتداء كلها, من قتل من لا
يقاتل, من النساء, والمجانين والأطفال, والرهبان ونحوهم والتمثيل بالقتلى,
وقتل الحيوانات, وقطع الأشجار [ونحوها], لغير مصلحة تعود للمسلمين.

ومن
الاعتداء, مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها, فإن ذلك لا يجوز.

{
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } هذا أمر بقتالهم, أينما وجدوا في
كل وقت, وفي كل زمان قتال مدافعة, وقتال مهاجمة ثم استثنى من هذا العموم
قتالهم { عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وأنه لا يجوز إلا أن يبدأوا
بالقتال, فإنهم يقاتلون جزاء لهم على اعتدائهم، وهذا مستمر في كل وقت, حتى
ينتهوا عن كفرهم فيسلموا, فإن الله يتوب عليهم, ولو حصل منهم ما حصل من
الكفر بالله, والشرك في المسجد الحرام, وصد الرسول والمؤمنين عنه وهذا من
رحمته وكرمه بعباده.

ولما كان القتال عند المسجد الحرام, يتوهم أنه
مفسدة في هذا البلد الحرام, أخبر تعالى أن المفسدة بالفتنة عنده بالشرك,
والصد عن دينه, أشد من مفسدة القتل, فليس عليكم - أيها المسلمون - حرج في
قتالهم.

ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة، وهي: أنه يرتكب
أخف المفسدتين, لدفع أعلاهما.

ثم ذكر تعالى المقصود من القتال في
سبيله, وأنه ليس المقصود به, سفك دماء الكفار, وأخذ أموالهم، ولكن المقصود
به أن { يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } تعالى, فيظهر دين الله [تعالى], على
سائر الأديان, ويدفع كل ما يعارضه, من الشرك وغيره, وهو المراد بالفتنة،
فإذا حصل هذا المقصود, فلا قتل ولا قتال، { فَإِنِ انْتَهَوْا } عن قتالكم
عند المسجد الحرام { فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } أي:
فليس عليهم منكم اعتداء, إلا من ظلم منهم, فإنه يستحق المعاقبة, بقدر ظلمه.


{
194 } { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ
قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ }

يقول تعالى: { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ
الْحَرَامِ } يحتمل أن يكون المراد به ما وقع من صد المشركين للنبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 وأصحابه عام الحديبية, عن الدخول لمكة,
وقاضوهم على دخولها من قابل, وكان الصد والقضاء في شهر حرام, وهو ذو
القعدة, فيكون هذا بهذا، فيكون فيه, تطييب لقلوب الصحابة, بتمام نسكهم,
وكماله.

ويحتمل أن يكون المعنى: إنكم إن قاتلتموهم في الشهر الحرام
فقد قاتلوكم فيه, وهم المعتدون, فليس عليكم في ذلك حرج، وعلى هذا فيكون
قوله: { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } من باب عطف العام على الخاص، أي: كل شيء
يحترم من شهر حرام, أو بلد حرام, أو إحرام, أو ما هو أعم من ذلك, جميع ما
أمر الشرع باحترامه, فمن تجرأ عليها فإنه يقتص منه، فمن قاتل في الشهر
الحرام, قوتل، ومن هتك البلد الحرام, أخذ منه الحد, ولم يكن له حرمة، ومن
قتل مكافئا له قتل به, ومن جرحه أو قطع عضوا, منه, اقتص منه، ومن أخذ مال
غيره المحترم, أخذ منه بدله، ولكن هل لصاحب الحق أن يأخذ من ماله بقدر حقه
أم لا؟ خلاف بين العلماء, الراجح من ذلك, أنه إن كان سبب الحق ظاهرا
كالضيف, إذا لم يقره غيره, والزوجة, والقريب إذا امتنع من تجب عليه النفقة
[من الإنفاق عليه] فإنه يجوز أخذه من ماله.

وإن كان السبب خفيا, كمن
جحد دين غيره, أو خانه في وديعة, أو سرق منه ونحو ذلك, فإنه لا يجوز له أن
يأخذ من ماله مقابلة له, جمعا بين الأدلة, ولهذا قال تعالى, تأكيدا وتقوية
لما تقدم: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ
مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } هذا تفسير لصفة المقاصة, وأنها هي المماثلة في
مقابلة المعتدي.

ولما كانت النفوس - في الغالب - لا تقف على حدها
إذا رخص لها في المعاقبة لطلبها التشفي, أمر تعالى بلزوم تقواه, التي هي
الوقوف عند حدوده, وعدم تجاوزها, وأخبر تعالى أنه { مَعَ الْمُتَّقِينَ }
أي: بالعون, والنصر, والتأييد, والتوفيق.

ومن كان الله معه, حصل له
السعادة الأبدية، ومن لم يلزم التقوى تخلى عنه وليه, وخذله, فوكله إلى نفسه
فصار هلاكه أقرب إليه من حبل الوريد.


{ 195 } { وَأَنْفِقُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }

يأمر تعالى
عباده بالنفقة في سبيله, وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله، وهي
كل طرق الخير, من صدقة على مسكين, أو قريب, أو إنفاق على من تجب مؤنته.

وأعظم
ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، فإن النفقة فيه
جهاد بالمال, وهو فرض كالجهاد بالبدن، وفيها من المصالح العظيمة, الإعانة
على تقوية المسلمين, وعلى توهية الشرك وأهله, وعلى إقامة دين الله وإعزازه،
فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة، فالنفقة له كالروح, لا
يمكن وجوده بدونها، وفي ترك الإنفاق في سبيل الله, إبطال للجهاد, وتسليط
للأعداء, وشدة تكالبهم، فيكون قوله تعالى: { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ
إِلَى التَّهْلُكَةِ } كالتعليل لذلك، والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى
أمرين: ترك ما أمر به العبد, إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو
الروح، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح, فيدخل تحت ذلك أمور
كثيرة، فمن ذلك, ترك الجهاد في سبيل الله, أو النفقة فيه, الموجب لتسلط
الأعداء، ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف, أو محل مسبعة
أو حيات, أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا, أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك،
فهذا ونحوه, ممن ألقى بيده إلى التهلكة.

ومن الإلقاء باليد إلى
التهلكة الإقامة على معاصي الله, واليأس من التوبة، ومنها ترك ما أمر الله
به من الفرائض, التي في تركها هلاك للروح والدين.

ولما كانت النفقة
في سبيل الله نوعا من أنواع الإحسان, أمر بالإحسان عموما فقال: {
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } وهذا يشمل جميع أنواع
الإحسان, لأنه لم يقيده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم.

ويدخل
فيه الإحسان بالجاه, بالشفاعات ونحو ذلك، ويدخل في ذلك, الإحسان بالأمر
بالمعروف, والنهي عن المنكر, وتعليم العلم النافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج
الناس, من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم, وعيادة مرضاهم, وتشييع جنائزهم,
وإرشاد ضالهم, وإعانة من يعمل عملا, والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك,
مما هو من الإحسان الذي أمر الله به، ويدخل في الإحسان أيضا, الإحسان في
عبادة الله تعالى, وهو كما ذكر النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999: " أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن
تراه, فإنه يراك "

فمن اتصف بهذه الصفات, كان من الذين قال الله
فيهم: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } وكان الله معه
يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره.


{ ولما فرغ تعالى من [ذكر]
أحكام الصيام فالجهاد, ذكر أحكام الحج فقال: 196 } { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ
فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ
وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

يستدل بقوله
[تعالى]: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ } على أمور:



أحدها:
وجوب الحج والعمرة, وفرضيتهما.

الثاني: وجوب إتمامهما بأركانهما,
وواجباتهما, التي قد دل عليها فعل النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 وقوله: " خذوا عني مناسككم "

الثالث:
أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة.

الرابع: أن الحج والعمرة يجب
إتمامهما بالشروع فيهما, ولو كانا نفلا.

الخامس: الأمر بإتقانهما
وإحسانهما, وهذا قدر زائد على فعل ما يلزم لهما.

السادس: وفيه الأمر
بإخلاصهما لله تعالى.

السابع: أنه لا يخرج المحرم بهما بشيء من
الأشياء حتى يكملهما, إلا بما استثناه الله, وهو الحصر, فلهذا قال: {
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } أي: منعتم من الوصول إلى البيت لتكميلهما, بمرض, أو
ضلالة, أو عدو, ونحو ذلك من أنواع الحصر, الذي هو المنع.

{ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي: فاذبحوا ما استيسر من الهدي, وهو سبع
بدنة, أو سبع بقرة, أو شاة يذبحها المحصر, ويحلق ويحل من إحرامه بسبب الحصر
كما فعل النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 وأصحابه, لما صدهم المشركون عام الحديبية،
فإن لم يجد الهدي, فليصم بدله عشرة أيام كما في المتمتع ثم يحل.

ثم
قال تعالى: { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ } وهذا من محظورات الإحرام, إزالة الشعر, بحلق أو غيره, لأن
المعنى واحد من الرأس, أو من البدن, لأن المقصود من ذلك, حصول الشعث والمنع
من الترفه بإزالته, وهو موجود في بقية الشعر.

وقاس كثير من العلماء
على إزالة الشعر, تقليم الأظفار بجامع الترفه، ويستمر المنع مما ذكر, حتى
يبلغ الهدي محله, وهو يوم النحر، والأفضل أن يكون الحلق بعد النحر, كما تدل
عليه الآية.

ويستدل بهذه الآية على أن المتمتع إذا ساق الهدي, لم
يتحلل من عمرته قبل يوم النحر، فإذا طاف وسعى للعمرة, أحرم بالحج, ولم يكن
له إحلال بسبب سوق الهدي، وإنما منع تبارك وتعالى من ذلك, لما فيه من الذل
والخضوع لله والانكسار له, والتواضع الذي هو عين مصلحة العبد, وليس عليه في
ذلك من ضرر، فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من مرض, ينتفع بحلق رأسه له,
أو قروح, أو قمل ونحو ذلك فإنه يحل له أن يحلق رأسه, ولكن يكون عليه فدية
من صيام ثلاثة أيام, أو صدقة على ستة مساكين أو نسك ما يجزئ في أضحية, فهو
مخير، والنسك أفضل, فالصدقة, فالصيام.

ومثل هذا, كل ما كان في معنى
ذلك, من تقليم الأظفار, أو تغطية الرأس, أو لبس المخيط, أو الطيب, فإنه
يجوز عند الضرورة, مع وجوب الفدية المذكورة لأن القصد من الجميع, إزالة ما
به يترفه.

ثم قال تعالى: { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } أي: بأن قدرتم على
البيت من غير مانع عدو وغيره، { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى
الْحَجِّ } بأن توصل بها إليه, وانتفع بتمتعه بعد الفراغ منها.

{
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي: فعليه ما تيسر من الهدي, وهو ما
يجزئ في أضحية، وهذا دم نسك, مقابلة لحصول النسكين له في سفرة واحدة,
ولإنعام الله عليه بحصول الانتفاع بالمتعة بعد فراغ العمرة, وقبل الشروع في
الحج، ومثلها القِران لحصول النسكين له.

ويدل مفهوم الآية, على أن
المفرد للحج, ليس عليه هدي، ودلت الآية, على جواز, بل فضيلة المتعة, وعلى
جواز فعلها في أشهر الحج.

{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } أي الهدي أو ثمنه {
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } أول جوازها من حين الإحرام
بالعمرة, وآخرها ثلاثة أيام بعد النحر, أيام رمي الجمار, والمبيت بـ "منى"
ولكن الأفضل منها, أن يصوم السابع, والثامن, والتاسع، { وَسَبْعَةٍ إِذَا
رَجَعْتُمْ } أي: فرغتم من أعمال الحج, فيجوز فعلها في مكة, وفي الطريق,
وعند وصوله إلى أهله.

{ ذَلِكَ } المذكور من وجوب الهدي على المتمتع
{ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } بأن كان
عند مسافة قصر فأكثر, أو بعيدا عنه عرفات, فهذا الذي يجب عليه الهدي,
لحصول النسكين له في سفر واحد، وأما من كان أهله من حاضري المسجد الحرام,
فليس عليه هدي لعدم الموجب لذلك.

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: في
جميع أموركم, بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه، ومن ذلك, امتثالكم, لهذه
المأمورات, واجتناب هذه المحظورات المذكورة في هذه الآية.

{
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي: لمن عصاه, وهذا هو
الموجب للتقوى, فإن من خاف عقاب الله, انكف عما يوجب العقاب، كما أن من رجا
ثواب الله عمل لما يوصله إلى الثواب، وأما من لم يخف العقاب, ولم يرج
الثواب, اقتحم المحارم, وتجرأ على ترك الواجبات.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 8:03 pm

{ 197 } { الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا
فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }

يخبر تعالى أن { الْحَجَّ }
واقع في { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } عند المخاطبين, مشهورات, بحيث لا تحتاج
إلى تخصيص، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره, وكما بين تعالى أوقات الصلوات
الخمس.

وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم, التي لم تزل مستمرة في
ذريته معروفة بينهم.

والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء:
شوال, وذو القعدة, وعشر من ذي الحجة, فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج
غالبا.

{ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي: أحرم به, لأن
الشروع فيه يصيره فرضا, ولو كان نفلا.

واستدل بهذه الآية الشافعي
ومن تابعه, على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، قلت لو قيل: إن فيها
دلالة لقول الجمهور, بصحة الإحرام [بالحج] قبل أشهره لكان قريبا، فإن قوله:
{ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر
المذكورة وقد لا يقع فيها, وإلا لم يقيده.

وقوله: { فَلَا رَفَثَ
وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } أي: يجب أن تعظموا الإحرام
بالحج, وخصوصا الواقع في أشهره, وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه, من الرفث
وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية, خصوصا عند النساء بحضرتهن.

والفسوق
وهو: جميع المعاصي, ومنها محظورات الإحرام.

والجدال وهو: المماراة
والمنازعة والمخاصمة, لكونها تثير الشر, وتوقع العداوة.

والمقصود من
الحج, الذل والانكسار لله, والتقرب إليه بما أمكن من القربات, والتنزه عن
مقارفة السيئات, فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور, ليس له جزاء إلا الجنة،
وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان, فإنها يتغلظ المنع عنها في
الحج.

واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل
الأوامر، ولهذا قال تعالى: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ
اللَّهُ } أتى بـ " من " لتنصيص على العموم، فكل خير وقربة وعبادة, داخل في
ذلك، أي: فإن الله به عليم, وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير, وخصوصا
في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة, فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه
فيها, من صلاة, وصيام, وصدقة, وطواف, وإحسان قولي وفعلي.

ثم أمر
تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك, فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين,
والكف عن أموالهم, سؤالا واستشرافا، وفي الإكثار منه نفع وإعانة
للمسافرين, وزيادة قربة لرب العالمين، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة
البنية بلغة ومتاع.

وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه, في
دنياه, وأخراه, فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار, وهو الموصل
لأكمل لذة, وأجل نعيم دائم أبدا، ومن ترك هذا الزاد, فهو المنقطع به الذي
هو عرضة لكل شر, وممنوع من الوصول إلى دار المتقين. فهذا مدح للتقوى.

ثم
أمر بها أولي الألباب فقال: { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } أي:
يا أهل العقول الرزينة, اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول,
وتركها دليل على الجهل, وفساد الرأي.

{ 198 - 202 } { لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ
لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا
قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ
أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا
كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }

لما أمر تعالى بالتقوى,
أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره, ليس فيه حرج
إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج, وكان الكسب حلالا منسوبا إلى
فضل الله, لا منسوبا إلى حذق العبد, والوقوف مع السبب, ونسيان المسبب, فإن
هذا هو الحرج بعينه.

وفي قوله: { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ
عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } دلالة على
أمور:

أحدها: الوقوف بعرفة, وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج،
فالإفاضة من عرفات, لا تكون إلا بعد الوقوف.

الثاني: الأمر بذكر
الله عند المشعر الحرام, وهو المزدلفة, وذلك أيضا معروف, يكون ليلة النحر
بائتا بها, وبعد صلاة الفجر, يقف في المزدلفة داعيا, حتى يسفر جدا, ويدخل
في ذكر الله عنده, إيقاع الفرائض والنوافل فيه.

الثالث: أن الوقوف
بمزدلفة, متأخر عن الوقوف بعرفة, كما تدل عليه الفاء والترتيب.

الرابع,
والخامس: أن عرفات ومزدلفة, كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها,
وإظهارها.

السادس: أن مزدلفة في الحرم, كما قيده بالحرام.

السابع:
أن عرفة في الحل, كما هو مفهوم التقييد بـ " مزدلفة "

{
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الضَّالِّينَ } أي: اذكروا الله تعالى كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال,
وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه من أكبر النعم, التي يجب شكرها
ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان.

{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أي: ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس, من
لدن إبراهيم عليه السلام إلى الآن، والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفا
عندهم, وهو رمي الجمار, وذبح الهدايا, والطواف, والسعي, والمبيت بـ " منى "
ليالي التشريق وتكميل باقي المناسك.

ولما كانت [هذه] الإفاضة, يقصد
بها ما ذكر, والمذكورات آخر المناسك, أمر تعالى عند الفراغ منها باستغفاره
والإكثار من ذكره، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد, في أداء عبادته
وتقصيره فيها، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة
العظيمة والمنة الجسيمة.

وهكذا ينبغي للعبد, كلما فرغ من عبادة, أن
يستغفر الله عن التقصير, ويشكره على التوفيق, لا كمن يرى أنه قد أكمل
العبادة, ومن بها على ربه, وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة, فهذا حقيق بالمقت,
ورد الفعل، كما أن الأول, حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر.

ثم
أخبر تعالى عن أحوال الخلق, وأن الجميع يسألونه مطالبهم, ويستدفعونه ما
يضرهم, ولكن مقاصدهم تختلف، فمنهم: { مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا } أي: يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته, وليس له في
الآخرة من نصيب, لرغبته عنها, وقصر همته على الدنيا، ومنهم من يدعو الله
لمصلحة الدارين, ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه، وكل من هؤلاء وهؤلاء,
لهم نصيب من كسبهم وعملهم, وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم, وهماتهم
ونياتهم, جزاء دائرا بين العدل والفضل, يحمد عليه أكمل حمد وأتمه، وفي هذه
الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع, مسلما أو كافرا, أو فاسقا، ولكن
ليست إجابته دعاء من دعاه, دليلا على محبته له وقربه منه, إلا في مطالب
الآخرة ومهمات الدين.

والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما
يحسن وقعه عند العبد, من رزق هنيء واسع حلال, وزوجة صالحة, وولد تقر به
العين, وراحة, وعلم نافع, وعمل صالح, ونحو ذلك, من المطالب المحبوبة
والمباحة.

وحسنة الآخرة, هي السلامة من العقوبات, في القبر,
والموقف, والنار, وحصول رضا الله, والفوز بالنعيم المقيم, والقرب من الرب
الرحيم، فصار هذا الدعاء, أجمع دعاء وأكمله, وأولاه بالإيثار, ولهذا كان
النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 يكثر من الدعاء به, والحث عليه.

{
203 } { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ
فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ
عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }

يأمر تعالى بذكره في الأيام المعدودات, وهي
أيام التشريق الثلاثة بعد العيد, لمزيتها وشرفها, وكون بقية أحكام المناسك
تفعل بها, ولكون الناس أضيافا لله فيها, ولهذا حرم صيامها، فللذكر فيها
مزية ليست لغيرها, ولهذا قال النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999: " أيام التشريق, أيام أكل وشرب, وذكر الله
"

ويدخل في ذكر الله فيها, ذكره عند رمي الجمار, وعند الذبح,
والذكر المقيد عقب الفرائض، بل قال بعض العلماء: إنه يستحب فيها التكبير
المطلق, كالعشر, وليس ببعيد.

{ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ }
أي: خرج من " منى " ونفر منها قبل غروب شمس اليوم الثاني { فَلَا إِثْمَ
عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ } بأن بات بها ليلة الثالث ورمى من الغد { فَلَا
إِثْمَ عَلَيْهِ } وهذا تخفيف من الله [تعالى] على عباده, في إباحة كلا
الأمرين، ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كلا الأمرين, فالمتأخر أفضل, لأنه
أكثر عبادة.

ولما كان نفي الحرج قد يفهم منه نفي الحرج في ذلك
المذكور وفي غيره, والحاصل أن الحرج منفي عن المتقدم، والمتأخر فقط قيده
بقوله: { لِمَنِ اتَّقَى } أي: اتقى الله في جميع أموره, وأحوال الحج، فمن
اتقى الله في كل شيء, حصل له نفي الحرج في كل شيء، ومن اتقاه في شيء دون
شيء, كان الجزاء من جنس العمل.

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } بامتثال
أوامره واجتناب معاصيه، { وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }
فمجازيكم بأعمالكم، فمن اتقاه, وجد جزاء التقوى عنده, ومن لم يتقه, عاقبه
أشد العقوبة، فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله, فلهذا حث تعالى
على العلم بذلك.

{ 204 - 206 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ
قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي
قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي
الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ
لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ
الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ }

لما
أمر تعالى بالإكثار من ذكره, وخصوصا في الأوقات الفاضلة الذي هو خير
ومصلحة وبر, أخبر تعالى بحال من يتكلم بلسانه ويخالف فعله قوله, فالكلام
إما أن يرفع الإنسان أو يخفضه فقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ
قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي: إذا تكلم راق كلامه للسامع، وإذا
نطق, ظننته يتكلم بكلام نافع, ويؤكد ما يقول بأنه { وَيُشْهِدُ اللَّهَ
عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } بأن يخبر أن الله يعلم, أن ما في قلبه موافق لما
نطق به, وهو كاذب في ذلك, لأنه يخالف قوله فعله.

فلو كان صادقا,
لتوافق القول والفعل, كحال المؤمن غير المنافق, فلهذا قال: { وَهُوَ
أَلَدُّ الْخِصَامِ } أي: إذا خاصمته, وجدت فيه من اللدد والصعوبة والتعصب,
وما يترتب على ذلك, ما هو من مقابح الصفات, ليس كأخلاق المؤمنين, الذين
جعلوا السهولة مركبهم, والانقياد للحق وظيفتهم, والسماحة سجيتهم.

{
وَإِذَا تَوَلَّى } هذا الذي يعجبك قوله إذا حضر عندك { سَعَى فِي
الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا } أي: يجتهد على أعمال المعاصي, التي هي إفساد
في الأرض { وَيُهْلِكَ } بسبب ذلك { الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } فالزروع
والثمار والمواشي, تتلف وتنقص, وتقل بركتها, بسبب العمل في المعاصي، {
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وإذا كان لا يحب الفساد, فهو يبغض
العبد المفسد في الأرض, غاية البغض, وإن قال بلسانه قولا حسنا.

ففي
هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص, ليست دليلا على صدق
ولا كذب, ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها, المزكي لها وأنه
ينبغي اختبار أحوال الشهود, والمحق والمبطل من الناس, بسبر أعمالهم, والنظر
لقرائن أحوالهم, وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم.

ثم ذكر أن
هذا المفسد في الأرض بمعاصي الله, إذا أمر بتقوى الله تكبر وأنف، و {
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } فيجمع بين العمل بالمعاصي والكبر على
الناصحين.

{ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } التي هي دار العاصين
والمتكبرين، { وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي: المستقر والمسكن, عذاب دائم,
وهم لا ينقطع, ويأس مستمر, لا يخفف عنهم العذاب, ولا يرجون الثواب, جزاء
لجناياتهم ومقابلة لأعمالهم، فعياذا بالله من أحوالهم.

{ 207 } {
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ
وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }

هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا
أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة الله ورجاء لثوابه، فهم بذلوا الثمن
للمليء الوفي الرءوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك، وقد وعد
الوفاء بذلك، فقال: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } إلى آخر الآية.
وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها، وأخبر برأفته الموجبة
لتحصيل ما طلبوا، وبذل ما به رغبوا، فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من
الكريم، وما ينالهم من الفوز والتكريم

{ 208 - 209 } { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ
زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن
يدخلوا { فِي السِّلْمِ كَافَّةً } أي: في جميع شرائع الدين, ولا يتركوا
منها شيئا, وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه, إن وافق الأمر المشروع هواه
فعله, وإن خالفه, تركه، بل الواجب أن يكون الهوى, تبعا للدين, وأن يفعل كل
ما يقدر عليه, من أفعال الخير, وما يعجز عنه, يلتزمه وينويه, فيدركه بنيته.

ولما
كان الدخول في السلم كافة, لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان
قال: { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي: في العمل بمعاصي
الله { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } والعدو المبين, لا يأمر إلا
بالسوء والفحشاء, وما به الضرر عليكم.

ولما كان العبد لا بد أن يقع
منه خلل وزلل, قال تعالى: { فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ
الْبَيِّنَاتُ } أي: على علم ويقين { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ }

وفيه من الوعيد الشديد, والتخويف, ما يوجب ترك الزلل, فإن
العزيز القاهر الحكيم, إذا عصاه العاصي, قهره بقوته, وعذبه بمقتضى حكمته
فإن من حكمته, تعذيب العصاة والجناة.

{ 210 } { هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ
وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }

وهذا
فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب، يقول تعالى: هل ينتظر
الساعون في الفساد في الأرض, المتبعون لخطوات الشيطان, النابذون لأمر الله
إلا يوم الجزاء بالأعمال, الذي قد حشي من الأهوال والشدائد والفظائع, ما
يقلقل قلوب الظالمين, ويحق به الجزاء السيئ على المفسدين.

وذلك أن
الله تعالى يطوي السماوات والأرض, وتنثر الكواكب, وتكور الشمس والقمر,
وتنزل الملائكة الكرام, فتحيط بالخلائق, وينزل الباري [تبارك] تعالى: { فِي
ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } ليفصل بين عباده بالقضاء العدل.

فتوضع
الموازين, وتنشر الدواوين, وتبيض وجوه أهل السعادة وتسود وجوه أهل الشقاوة,
ويتميز أهل الخير من أهل الشر، وكل يجازى بعمله، فهنالك يعض الظالم على
يديه إذا علم حقيقة ما هو عليه.

وهذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب
أهل السنة والجماعة, المثبتين للصفات الاختيارية, كالاستواء, والنزول,
والمجيء, ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى, عن نفسه, أو أخبر بها
عنه رسوله تفسير القران الكريم كاملا 0099999، فيثبتونها على وجه يليق بجلال الله
وعظمته, من غير تشبيه ولا تحريف، خلافا للمعطلة على اختلاف أنواعهم, من
الجهمية, والمعتزلة, والأشعرية ونحوهم, ممن ينفي هذه الصفات, ويتأول لأجلها
الآيات بتأويلات ما أنزل الله عليها من سلطان, بل حقيقتها القدح في بيان
الله وبيان رسوله, والزعم بأن كلامهم هو الذي تحصل به الهداية في هذا
الباب، فهؤلاء ليس معهم دليل نقلي, بل ولا دليل عقلي، أما النقلي فقد
اعترفوا أن النصوص الواردة في الكتاب والسنة, ظاهرها بل صريحها, دال على
مذهب أهل السنة والجماعة, وأنها تحتاج لدلالتها على مذهبهم الباطل, أن تخرج
عن ظاهرها ويزاد فيها وينقص، وهذا كما ترى لا يرتضيه من في قلبه مثقال ذرة
من إيمان.

وأما العقل فليس في العقل ما يدل على نفي هذه الصفات، بل
العقل دل على أن الفاعل أكمل من الذي لا يقدر على الفعل, وأن فعله تعالى
المتعلق بنفسه والمتعلق بخلقه هو كمال، فإن زعموا أن إثباتها يدل على
التشبيه بخلقه، قيل لهم: الكلام على الصفات, يتبع الكلام على الذات، فكما
أن لله ذاتا لا تشبهها الذوات, فلله صفات لا تشبهها الصفات، فصفاته تبع
لذاته, وصفات خلقه, تبع لذواتهم, فليس في إثباتها ما يقتضي التشبيه بوجه.

ويقال
أيضا, لمن أثبت بعض الصفات, ونفى بعضا, أو أثبت الأسماء دون الصفات: إما
أن تثبت الجميع كما أثبته الله لنفسه, وأثبته رسوله، وإما أن تنفي الجميع,
وتكون منكرا لرب العالمين، وأما إثباتك بعض ذلك, ونفيك لبعضه, فهذا تناقض،
ففرق بين ما أثبته, وما نفيته, ولن تجد إلى الفرق سبيلا، فإن قلت: ما أثبته
لا يقتضي تشبيها، قال لك أهل السنة: والإثبات لما نفيته لا يقتضي تشبيها،
فإن قلت: لا أعقل من الذي نفيته إلا التشبيه، قال لك النفاة: ونحن لا نعقل
من الذي أثبته إلا التشبيه، فما أجبت به النفاة, أجابك به أهل السنة, لما
نفيته.

والحاصل أن من نفى شيئا وأثبت شيئا مما دل الكتاب والسنة على
إثباته, فهو متناقض, لا يثبت له دليل شرعي ولا عقلي, بل قد خالف المعقول
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 8:05 pm

{216 }{ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ
لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }

هذه
الآية, فيها فرض القتال في سبيل الله, بعد ما كان المؤمنون مأمورين بتركه,
لضعفهم, وعدم احتمالهم لذلك، فلما هاجر النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 إلى المدينة, وكثر المسلمون, وقووا أمرهم
الله تعالى بالقتال، وأخبر أنه مكروه للنفوس, لما فيه من التعب والمشقة,
وحصول أنواع المخاوف والتعرض للمتالف، ومع هذا, فهو خير محض, لما فيه من
الثواب العظيم, والتحرز من العقاب الأليم, والنصر على الأعداء والظفر
بالغنائم, وغير ذلك, مما هو مرب, على ما فيه من الكراهة { وَعَسَى أَنْ
تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } وذلك مثل القعود عن الجهاد لطلب
الراحة, فإنه شر, لأنه يعقب الخذلان, وتسلط الأعداء على الإسلام وأهله,
وحصول الذل والهوان, وفوات الأجر العظيم وحصول العقاب.

وهذه الآيات
عامة مطردة, في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة أنها
خير بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة
واللذة فهي شر بلا شك.

وأما أحوال الدنيا, فليس الأمر مطردا, ولكن
الغالب على العبد المؤمن, أنه إذا أحب أمرا من الأمور, فقيض الله [له] من
الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له, فالأوفق له في ذلك, أن يشكر الله, ويجعل
الخير في الواقع, لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه, وأقدر على
مصلحة عبده منه, وأعلم بمصلحته منه كما قال [تعالى:] { وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره, سواء سرتكم
أو ساءتكم.




ولما كان الأمر بالقتال, لو لم يقيد, لشمل
الأشهر الحرم وغيرها, استثنى تعالى, القتال في الأشهر الحرم فقال: { 217 } {
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ
فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ
حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر
الحرم, منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا، وقال بعض المفسرين: إنه
لم ينسخ, لأن المطلق محمول على المقيد، وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر
بالقتال مطلقا؛ ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم، بل أكبر مزاياها, تحريم
القتال فيها, وهذا إنما هو في قتال الابتداء، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في
الأشهر الحرم, كما يجوز في البلد الحرام.

ولما كانت هذه الآية
نازلة بسبب ما حصل, لسرية عبد الله بن جحش, وقتلهم عمرو بن الحضرمي, وأخذهم
أموالهم, وكان ذلك - على ما قيل - في شهر رجب، عيرهم المشركون بالقتال
بالأشهر الحرم, وكانوا في تعييرهم ظالمين, إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم
مما عيروا به المسلمين, قال تعالى في بيان ما فيهم: { وَصَدٌّ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ } أي: صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله, وفتنتهم
من آمن به, وسعيهم في ردهم عن دينهم, وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام,
والبلد الحرام, الذي هو بمجرده, كاف في الشر، فكيف وقد كان في شهر حرام
وبلد حرام؟! { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي: أهل المسجد الحرام, وهم النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 وأصحابه, لأنهم أحق به من
المشركين, وهم عماره على الحقيقة, فأخرجوهم { مِنْهُ } ولم يمكنوهم من
الوصول إليه, مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد، فهذه الأمور كل واحد
منها { أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } في الشهر الحرام, فكيف وقد اجتمعت
فيهم؟! فعلم أنهم فسقة ظلمة, في تعييرهم المؤمنين.

ثم أخبر تعالى
أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم, وإنما
غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم, ويكونوا كفارا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب
السعير، فهم باذلون قدرتهم في ذلك, ساعون بما أمكنهم, { ويأبى الله إلا أن
يتم نوره ولو كره الكافرون }

وهذا الوصف عام لكل الكفار, لا يزالون
يقاتلون غيرهم, حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصا, أهل الكتاب, من اليهود
والنصارى, الذين بذلوا الجمعيات, ونشروا الدعاة, وبثوا الأطباء, وبنوا
المدارس, لجذب الأمم إلى دينهم, وتدخيلهم عليهم, كل ما يمكنهم من الشبه,
التي تشككهم في دينهم.

ولكن المرجو من الله تعالى, الذي مَنّ على
المؤمنين بالإسلام, واختار لهم دينه القيم, وأكمل لهم دينه، أن يتم عليهم
نعمته بالقيام به أتم القيام, وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره, ويجعل
كيدهم في نحورهم, وينصر دينه, ويعلي كلمته.

وتكون هذه الآية صادقة
على هؤلاء الموجودين من الكفار, كما صدقت على من قبلهم: { إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }

ثم أخبر تعالى
أن من ارتد عن الإسلام, بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات
كافرا، { فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ }
لعدم وجود شرطها وهو الإسلام، { وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ }

ودلت الآية بمفهومها, أن من ارتد ثم عاد إلى
الإسلام, أنه يرجع إليه عمله الذي قبل ردته، وكذلك من تاب من المعاصي,
فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة.

{ 218 } { إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ
يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

هذه
الأعمال الثلاثة, هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية, وبها يعرف ما مع
الإنسان, من الربح والخسران، فأما الإيمان, فلا تسأل عن فضيلته, وكيف تسأل
عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة, وأهل الجنة من أهل النار؟
وهو الذي إذا كان مع العبد, قبلت أعمال الخير منه, وإذا عدم منه لم يقبل له
صرف ولا عدل, ولا فرض, ولا نفل.

وأما الهجرة: فهي مفارقة المحبوب
المألوف, لرضا الله تعالى، فيترك المهاجر وطنه وأمواله, وأهله, وخلانه,
تقربا إلى الله ونصرة لدينه.

وأما الجهاد: فهو بذل الجهد في مقارعة
الأعداء, والسعي التام في نصرة دين الله, وقمع دين الشيطان، وهو ذروة
الأعمال الصالحة, وجزاؤه, أفضل الجزاء، وهو السبب الأكبر, لتوسيع دائرة
الإسلام وخذلان عباد الأصنام, وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم.

فمن
قام بهذه الأعمال الثلاثة على لأوائها ومشقتها كان لغيرها أشد قياما به
وتكميلا.

فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله, لأنهم أتوا
بالسبب الموجب للرحمة، وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام
بأسباب السعادة، وأما الرجاء المقارن للكسل, وعدم القيام بالأسباب, فهذا
عجز وتمن وغرور، وهو دال على ضعف همة صاحبه, ونقص عقله, بمنزلة من يرجو
وجود ولد بلا نكاح, ووجود الغلة بلا بذر, وسقي, ونحو ذلك.

وفي قوله:
{ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } إشارة إلى أن العبد ولو أتى من
الأعمال بما أتى به لا ينبغي له أن يعتمد عليها, ويعول عليها, بل يرجو رحمة
ربه, ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه, وستر عيوبه.

ولهذا قال: {
وَاللَّهُ غَفُورٌ } أي: لمن تاب توبة نصوحا { رَحِيمٌ } وسعت رحمته كل
شيء, وعم جوده وإحسانه كل حي.

وفي هذا دليل على أن من قام بهذه
الأعمال المذكورة, حصل له مغفرة الله, إذ الحسنات يذهبن السيئات وحصلت له
رحمة الله.

وإذا حصلت له المغفرة, اندفعت عنه عقوبات الدنيا
والآخرة، التي هي آثار الذنوب, التي قد غفرت واضمحلت آثارها، وإذا حصلت له
الرحمة, حصل على كل خير في الدنيا والآخرة؛ بل أعمالهم المذكورة من رحمة
الله بهم, فلولا توفيقه إياهم, لم يريدوها, ولولا إقدارهم عليها, لم يقدروا
عليها, ولولا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم، فله الفضل أولا وآخرا, وهو
الذي منّ بالسبب والمسبب.

{ 219 - 220 } ثم قال تعالى: {
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا
وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ *

فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ
لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

أي: يسألك - يا أيها الرسول - المؤمنون
عن أحكام الخمر والميسر, وقد كانا مستعملين في الجاهلية وأول الإسلام,
فكأنه وقع فيهما إشكال، فلهذا سألوا عن حكمهما، فأمر الله تعالى نبيه, أن
يبين لهم منافعهما ومضارهما, ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما, وتحتيم تركهما.

فأخبر
أن إثمهما ومضارهما, وما يصدر منهما من ذهاب العقل والمال, والصد عن ذكر
الله, وعن الصلاة, والعداوة, والبغضاء - أكبر مما يظنونه من نفعهما, من كسب
المال بالتجارة بالخمر, وتحصيله بالقمار والطرب للنفوس, عند تعاطيهما،
وكان هذا البيان زاجرا للنفوس عنهما, لأن العاقل يرجح ما ترجحت مصلحته,
ويجتنب ما ترجحت مضرته، ولكن لما كانوا قد ألفوهما, وصعب التحتيم بتركهما
أول وهلة, قدم هذه الآية, مقدمة للتحريم, الذي ذكره في قوله: { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } إلى
قوله: { مُنْتَهُونَ } وهذا من لطفه ورحمته وحكمته، ولهذا لما نزلت, قال
عمر رضي الله عنه: انتهينا انتهينا.

فأما الخمر: فهو كل مسكر خامر
العقل وغطاه, من أي نوع كان، وأما الميسر: فهو كل المغالبات التي يكون فيها
عوض من الطرفين, من النرد, والشطرنج, وكل مغالبة قولية أو فعلية, بعوض سوى
مسابقة الخيل, والإبل, والسهام, فإنها مباحة, لكونها معينة على الجهاد,
فلهذا رخص فيها الشارع.

{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ }

وهذا سؤال عن مقدار
ما ينفقونه من أموالهم، فيسر الله لهم الأمر, وأمرهم أن ينفقوا العفو, وهو
المتيسر من أموالهم, الذي لا تتعلق به حاجتهم وضرورتهم، وهذا يرجع إلى كل
أحد بحسبه, من غني وفقير ومتوسط, كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله, ولو
شق تمرة.

ولهذا أمر الله رسوله تفسير القران الكريم كاملا 0099999, أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وصدقاتهم,
ولا يكلفهم ما يشق عليهم. ذلك بأن الله تعالى لم يأمرنا بما أمرنا به حاجة
منه لنا, أو تكليفا لنا [بما يشق] بل أمرنا بما فيه سعادتنا, وما يسهل
علينا, وما به النفع لنا ولإخواننا فيستحق على ذلك أتم الحمد.

ولما
بيّن تعالى هذا البيان الشافي, وأطلع العباد على أسرار شرعه قال: {
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ } أي: الدالات على الحق,
المحصلات للعلم النافع والفرقان، { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } أي: لكي تستعملوا أفكاركم في أسرار شرعه,
وتعرفوا أن أوامره, فيها مصالح الدنيا والآخرة، وأيضا لكي تتفكروا في
الدنيا وسرعة انقضائها, فترفضوها وفي الآخرة وبقائها, وأنها دار الجزاء
فتعمروها.

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ
لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

لما نزل قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } شق ذلك على المسلمين, وعزلوا
طعامهم عن طعام اليتامى, خوفا على أنفسهم من تناولها, ولو في هذه الحالة
التي جرت العادة بالمشاركة فيها, وسألوا النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 عن ذلك، فأخبرهم تعالى أن المقصود, إصلاح
أموال اليتامى, بحفظها وصيانتها, والاتجار فيها وأن خلطتهم إياهم في طعام
أو غيره جائز على وجه لا يضر باليتامى, لأنهم إخوانكم, ومن شأن الأخ مخالطة
أخيه, والمرجع في ذلك إلى النية والعمل، فمن علم الله من نيته أنه مصلح
لليتيم, وليس له طمع في ماله, فلو دخل عليه شيء من غير قصد لم يكن عليه
بأس، ومن علم الله من نيته, أن قصده بالمخالطة, التوصل إلى أكلها وتناولها,
فذلك الذي حرج وأثم, و " الوسائل لها أحكام المقاصد "

وفي هذه
الآية, دليل على جواز أنواع المخالطات, في المآكل والمشارب, والعقود
وغيرها, وهذه الرخصة, لطف من الله [تعالى] وإحسان, وتوسعة على المؤمنين،
وإلا فـ { لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ } أي: شق عليكم بعدم الرخصة
بذلك, فحرجتم. وشق عليكم وأثمتم، { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } أي: له القوة
الكاملة, والقهر لكل شيء، ولكنه مع ذلك { حَكِيمٌ } لا يفعل إلا ما هو
مقتضى حكمته الكاملة وعنايته التامة, فعزته لا تنافي حكمته، فلا يقال: إنه
ما شاء فعل, وافق الحكمة أو خالفها، بل يقال: إن أفعاله وكذلك أحكامه,
تابعة لحكمته, فلا يخلق شيئا عبثا, بل لا بد له من حكمة, عرفناها, أم لم
نعرفها وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة، فلا يأمر إلا بما فيه
مصلحة خالصة, أو راجحة, ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة, لتمام
حكمته ورحمته.

{ 221 } { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى
يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ
أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ
يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ
وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ }

أي: { وَلَا تَنْكِحُوا } النساء { الْمُشْرِكَاتِ
} ما دمن على شركهن { حَتَّى يُؤْمِنَّ } لأن المؤمنة ولو بلغت من الدمامة
ما بلغت خير من المشركة, ولو بلغت من الحسن ما بلغت, وهذه عامة في جميع
النساء المشركات، وخصصتها آية المائدة, في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال
تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ }

{
وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } وهذا عام لا تخصيص
فيه.

ثم ذكر تعالى, الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة, لمن
خالفهما في الدين فقال: { أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } أي: في
أقوالهم أو أفعالهم وأحوالهم, فمخالطتهم على خطر منهم, والخطر ليس من
الأخطار الدنيوية, إنما هو الشقاء الأبدي.

ويستفاد من تعليل الآية,
النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع, لأنه إذا لم يجز التزوج مع أن فيه مصالح
كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى, وخصوصا, الخلطة التي فيها ارتفاع
المشرك ونحوه على المسلم, كالخدمة ونحوها.

وفي قوله: { وَلَا
تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ } دليل على اعتبار الولي [في النكاح].

{
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ } أي: يدعو عباده
لتحصيل الجنة والمغفرة, التي من آثارها, دفع العقوبات وذلك بالدعوة إلى
أسبابها من الأعمال الصالحة, والتوبة النصوح, والعلم النافع, والعمل
الصالح.

{ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ } أي: أحكامه وحكمها { لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فيوجب لهم ذلك التذكر لما نسوه, وعلم ما
جهلوه, والامتثال لما ضيعوه.
ثم قال تعالى: { 222 - 223 } {
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ
فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ }

يخبر تعالى عن سؤالهم عن المحيض, وهل تكون المرأة
بحالها بعد الحيض, كما كانت قبل ذلك, أم تجتنب مطلقا كما يفعله اليهود؟.

فأخبر
تعالى أن الحيض أذى, وإذا كان أذى, فمن الحكمة أن يمنع الله تعالى عباده
عن الأذى وحده, ولهذا قال: { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ }
أي: مكان الحيض, وهو الوطء في الفرج خاصة, فهذا هو المحرم إجماعا، وتخصيص
الاعتزال في المحيض, يدل على أن مباشرة الحائض وملامستها, في غير الوطء في
الفرج جائز.

لكن قوله: { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ }
يدل على أن المباشرة فيما قرب من الفرج, وذلك فيما بين السرة والركبة,
ينبغي تركه كما كان النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 إذا أراد أن يباشر امرأته وهي حائض, أمرها
أن تتزر, فيباشرها.

وحد هذا الاعتزال وعدم القربان للحُيَّض {
حَتَّى يَطْهُرْنَ } أي: ينقطع دمهن, فإذا انقطع الدم, زال المنع الموجود
وقت جريانه, الذي كان لحله شرطان, انقطاع الدم, والاغتسال منه.

فلما
انقطع الدم, زال الشرط الأول وبقي الثاني, فلهذا قال: { فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ } أي: اغتسلن { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ }
أي: في القبل لا في الدبر, لأنه محل الحرث.

وفيه دليل على وجوب
الاغتسال للحائض, وأن انقطاع الدم, شرط لصحته.

ولما كان هذا المنع
لطفا منه تعالى بعباده, وصيانة عن الأذى قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } أي: من ذنوبهم على الدوام { وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ } أي: المتنزهين عن الآثام وهذا يشمل التطهر الحسي من
الأنجاس والأحداث.

ففيه مشروعية الطهارة مطلقا, لأن الله يحب المتصف
بها, ولهذا كانت الطهارة مطلقا, شرطا لصحة الصلاة والطواف, وجواز مس
المصحف، ويشمل التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة, والصفات القبيحة,
والأفعال الخسيسة.

{ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ } مقبلة ومدبرة غير أنه لا يكون إلا في القبل, لكونه موضع
الحرث, وهو الموضع الذي يكون منه الولد.

وفيه دليل على تحريم الوطء
في الدبر, لأن الله لم يبح إتيان المرأة إلا في الموضع الذي منه الحرث،
وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 في تحريم ذلك, ولعن فاعله.

{
وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ } أي: من التقرب إلى الله بفعل الخيرات, ومن
ذلك أن يباشر الرجل امرأته, ويجامعها على وجه القربة والاحتساب, وعلى رجاء
تحصيل الذرية الذين ينفع الله بهم.

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: في
جميع أحوالكم, كونوا ملازمين لتقوى الله, مستعينين بذلك لعلمكم، {
أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ } ومجازيكم على أعمالكم الصالحة وغيرها.

ثم
قال: { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } لم يذكر المبشر به ليدل على العموم, وأن
لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وكل خير واندفاع كل ضير, رتب على
الإيمان فهو داخل في هذه البشارة.

وفيها محبة الله للمؤمنين, ومحبة
ما يسرهم, واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي
والأخروي.

{ 224 } { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً
لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

المقصود من اليمين، والقسم تعظيم
المقسم به, وتأكيد المقسم عليه، وكان الله تعالى قد أمر بحفظ الأيمان, وكان
مقتضى ذلك حفظها في كل شيء، ولكن الله تعالى استثنى من ذلك إذا كان البر
باليمين, يتضمن ترك ما هو أحب إليه، فنهى عباده أن يجعلوا أيمانهم عرضة,
أي: مانعة وحائلة عن أن يبروا: أن يفعلوا خيرا, أو يتقوا شرا, أو يصلحوا
بين الناس، فمن حلف على ترك واجب وجب حنثه, وحرم إقامته على يمينه، ومن حلف
على ترك مستحب, استحب له الحنث، ومن حلف على فعل محرم, وجب الحنث, أو على
فعل مكروه استحب الحنث، وأما المباح فينبغي فيه حفظ اليمين عن الحنث.

ويستدل
بهذه الآية على القاعدة المشهورة, أنه " إذا تزاحمت المصالح, قدم أهمها "
فهنا تتميم اليمين مصلحة, وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء, مصلحة أكبر
من ذلك, فقدمت لذلك.

ثم ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال: {
وَاللَّهُ سَمِيعٌ } أي: لجميع الأصوات { عَلِيمٌ } بالمقاصد والنيات, ومنه
سماعه لأقوال الحالفين, وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر، وفي ضمن ذلك
التحذير من مجازاته, وأن أعمالكم ونياتكم, قد استقر علمها عنده.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 8:06 pm

{ 225 } ثم قال
تعالى: { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
حَلِيمٌ }

أي: لا يؤاخذكم بما يجري على ألسنتكم من الأيمان اللاغية,
التي يتكلم بها العبد, من غير قصد منه ولا كسب قلب, ولكنها جرت على لسانه
كقول الرجل في عرض كلامه: " لا والله " و " بلى والله " وكحلفه على أمر
ماض, يظن صدق نفسه، وإنما المؤاخذة على ما قصده القلب.

وفي هذا دليل
على اعتبار المقاصد في الأقوال, كما هي معتبرة في الأفعال.

{ والله
غفور } لمن تاب إليه, { حليم } بمن عصاه, حيث لم يعاجله بالعقوبة, بل حلم
عنه وستر, وصفح مع قدرته عليه, وكونه بين يديه.

{ 226 - 227 } {
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

وهذا من الأيمان
الخاصة بالزوجة, في أمر خاص وهو حلف الزوج على ترك وطء زوجته مطلقا، أو
مقيدا، بأقل من أربعة أشهر أو أكثر.

فمن آلى من زوجته خاصة، فإن كان
لدون أربعة أشهر, فهذا مثل سائر الأيمان, إن حنث كفر, وإن أتم يمينه, فلا
شيء عليه, وليس لزوجته عليه سبيل, لأنه ملكه أربعة أشهر.

وإن كان
أبدا, أو مدة تزيد على أربعة أشهر, ضربت له مدة أربعة أشهر من يمينه, إذا
طلبت زوجته ذلك, لأنه حق لها، فإذا تمت أمر بالفيئة وهو الوطء، فإن وطئ,
فلا شيء عليه إلا كفارة اليمين، وإن امتنع, أجبر على الطلاق, فإن امتنع,
طلق عليه الحاكم.

ولكن الفيئة والرجوع إلى زوجته, أحب إلى الله
تعالى, ولهذا قال: { فَإِنْ فَاءُوا } أي: رجعوا إلى ما حلفوا على تركه,
وهو الوطء. { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } يغفر لهم ما حصل منهم من الحلف,
بسبب رجوعهم. { رَحِيمٌ } حيث جعل لأيمانهم كفارة وتحلة, ولم يجعلها لازمة
لهم غير قابلة للانفكاك, ورحيم بهم أيضا, حيث فاءوا إلى زوجاتهم, وحنوا
عليهن ورحموهن.

{ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ } أي: امتنعوا من
الفيئة, فكان ذلك دليلا على رغبتهم عنهن, وعدم إرادتهم لأزواجهم, وهذا لا
يكون إلا عزما على الطلاق، فإن حصل هذا الحق الواجب منه مباشرة, وإلا أجبره
الحاكم عليه أو قام به.

{ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فيه
وعيد وتهديد, لمن يحلف هذا الحلف, ويقصد بذلك المضارة والمشاقة.

ويستدل
بهذه الآية على أن الإيلاء, خاص بالزوجة, لقوله: { من نسائهم } وعلى وجوب
الوطء في كل أربعة أشهر مرة, لأنه بعد الأربعة, يجبر إما على الوطء, أو على
الطلاق, ولا يكون ذلك إلا لتركه واجبا.

{ 228 } {
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا
يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ
إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ
مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

أي: النساء اللاتي طلقهن
أزواجهن { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } أي: ينتظرن ويعتددن مدة {
ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } أي: حيض, أو أطهار على اختلاف العلماء في المراد بذلك,
مع أن الصحيح أن القرء, الحيض, ولهذه العدةِ عِدّةُ حِكَمٍ، منها: العلم
ببراءة الرحم, إذا تكررت عليها ثلاثة الأقراء, علم أنه ليس في رحمها حمل,
فلا يفضي إلى اختلاط الأنساب، ولهذا أوجب تعالى عليهن الإخبار عن { مَا
خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } وحرم عليهن, كتمان ذلك, من حمل أو
حيض, لأن كتمان ذلك, يفضي إلى مفاسد كثيرة، فكتمان الحمل, موجب أن تلحقه
بغير من هو له, رغبة فيه واستعجالا لانقضاء العدة، فإذا ألحقته بغير أبيه,
حصل من قطع الرحم والإرث, واحتجاب محارمه وأقاربه عنه, وربما تزوج ذوات
محارمه، وحصل في مقابلة ذلك, إلحاقه بغير أبيه, وثبوت توابع ذلك, من الإرث
منه وله, ومن جعل أقارب الملحق به, أقارب له، وفي ذلك من الشر والفساد, ما
لا يعلمه إلا رب العباد، ولو لم يكن في ذلك, إلا إقامتها مع من نكاحها باطل
في حقه, وفيه الإصرار على الكبيرة العظيمة, وهي الزنا لكفى بذلك شرا.

وأما
كتمان الحيض, بأن استعجلت وأخبرت به وهي كاذبة, ففيه من انقطاع حق الزوج
عنها, وإباحتها لغيره وما يتفرع عن ذلك من الشر, كما ذكرنا، وإن كذبت
وأخبرت بعدم وجود الحيض, لتطول العدة, فتأخذ منه نفقة غير واجبة عليه, بل
هي سحت عليها محرمة من جهتين:

من كونها لا تستحقه, ومن كونها نسبته
إلى حكم الشرع وهي كاذبة, وربما راجعها بعد انقضاء العدة, فيكون ذلك سفاحا,
لكونها أجنبية عنه, فلهذا قال تعالى: { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ
يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }

فصدور الكتمان منهن دليل على عدم
إيمانهن بالله واليوم الآخر, وإلا فلو آمن بالله واليوم الآخر, وعرفن أنهن
مجزيات عن أعمالهن, لم يصدر منهن شيء من ذلك.

وفي ذلك دليل على قبول
خبر المرأة, عما تخبر به عن نفسها, من الأمر الذي لا يطلع عليه غيرها,
كالحيض والحمل ونحوه

ثم قال تعالى: { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } أي: لأزواجهن ما دامت متربصة في تلك العدة, أن
يردوهن إلى نكاحهن { إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا } أي: رغبة وألفة ومودة.

ومفهوم
الآية أنهم إن لم يريدوا الإصلاح, فليسوا بأحق بردهن, فلا يحل لهم أن
يراجعوهن, لقصد المضارة لها, وتطويل العدة عليها، وهل يملك ذلك, مع هذا
القصد؟ فيه قولان.

الجمهور على أنه يملك ذلك, مع التحريم, والصحيح
أنه إذا لم يرد الإصلاح, لا يملك ذلك, كما هو ظاهر الآية الكريمة, وهذه
حكمة أخرى في هذا التربص، وهي: أنه ربما أن زوجها ندم على فراقه لها, فجعلت
له هذه المدة, ليتروى بها ويقطع نظره.

وهذا يدل على محبته تعالى,
للألفة بين الزوجين, وكراهته للفراق, كما قال النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999: " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " وهذا خاص
في الطلاق الرجعي، وأما الطلاق البائن, فليس البعل بأحق برجعتها، بل إن
تراضيا على التراجع, فلا بد من عقد جديد مجتمع الشروط.

ثم قال
تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي:
وللنساء على بعولتهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق
اللازمة والمستحبة.

ومرجع الحقوق بين الزوجين يرجع إلى المعروف,
وهو: العادة الجارية في ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله، ويختلف ذلك
باختلاف الأزمنة والأمكنة, والأحوال, والأشخاص والعوائد.

وفي هذا
دليل على أن النفقة والكسوة, والمعاشرة, والمسكن, وكذلك الوطء - الكل يرجع
إلى المعروف، فهذا موجب العقد المطلق.

وأما مع الشرط, فعلى شرطهما,
إلا شرطا أحل حراما, أو حرم حلالا.

{ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ } أي: رفعة ورياسة, وزيادة حق عليها, كما قال تعالى: { الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى
بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ }

ومنصب النبوة
والقضاء, والإمامة الصغرى والكبرى, وسائر الولايات مختص بالرجال، وله ضعفا
ما لها في كثير من الأمور, كالميراث ونحوه.

{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ } أي: له العزة القاهرة والسلطان العظيم, الذي دانت له جميع
الأشياء, ولكنه مع عزته حكيم في تصرفه.

ويخرج من عموم هذه الآية,
الحوامل, فعدتهن وضع الحمل، واللاتي لم يدخل بهن, فليس لهن عدة، والإماء,
فعدتهن حيضتان, كما هو قول الصحابة رضي الله عنهم، وسياق الآيات يدل على أن
المراد بها الحرة.

{ 229 } { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا
يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ }

كان الطلاق في الجاهلية, واستمر أول الإسلام, يطلق
الرجل زوجته بلا نهاية، فكان إذا أراد مضارتها, طلقها, فإذا شارفت انقضاء
عدتها, راجعها, ثم طلقها وصنع بها مثل ذلك أبدا, فيحصل عليها من الضرر ما
الله به عليم، فأخبر تعالى أن { الطَّلَاقَ } أي: الذي تحصل به الرجعة {
مَرَّتَانِ } ليتمكن الزوج إن لم يرد المضارة من ارتجاعها, ويراجع رأيه في
هذه المدة، وأما ما فوقها, فليس محلا لذلك, لأن من زاد على الثنتين, فإما
متجرئ على المحرم, أو ليس له رغبة في إمساكها, بل قصده المضارة، فلهذا أمر
تعالى الزوج, أن يمسك زوجته { بِمَعْرُوفٍ } أي: عشرة حسنة, ويجري مجرى
أمثاله مع زوجاتهم, وهذا هو الأرجح, وإلا يسرحها ويفارقها { بِإِحْسَانٍ }
ومن الإحسان, أن لا يأخذ على فراقه لها شيئا من مالها, لأنه ظلم, وأخذ
للمال في غير مقابلة بشيء, فلهذا قال: { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا
يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } وهي المخالعة بالمعروف, بأن كرهت الزوجة زوجها,
لخلقه أو خلقه أو نقص دينه, وخافت أن لا تطيع الله فيه، { فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ } لأنه عوض لتحصيل مقصودها من الفرقة، وفي هذا مشروعية
الخلع, إذا وجدت هذه الحكمة.

{ تِلْكَ } أي ما تقدم من الأحكام
الشرعية { حُدُودُ اللَّهِ } أي: أحكامه التي شرعها لكم, وأمر بالوقوف
معها، { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
وأي ظلم أعظم ممن اقتحم الحلال, وتعدى منه إلى الحرام, فلم يسعه ما أحل
الله؟

والظلم ثلاثة أقسام:

ظلم العبد فيما بينه وبين الله,
وظلم العبد الأكبر الذي هو الشرك, وظلم العبد فيما بينه وبين الخلق، فالشرك
لا يغفره الله إلا بالتوبة, وحقوق العباد, لا يترك الله منها شيئا، والظلم
الذي بين العبد وربه فيما دون الشرك, تحت المشيئة والحكمة.

{ 230 -
231 } { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ
اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

يقول
تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } أي: الطلقة الثالثة { فَلَا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } أي: نكاحا صحيحا ويطؤها,
لأن النكاح الشرعي لا يكون إلا صحيحا, ويدخل فيه العقد والوطء, وهذا
بالاتفاق.

ويشترط أن يكون نكاح الثاني, نكاح رغبة، فإن قصد به
تحليلها للأول, فليس بنكاح, ولا يفيد التحليل، ولا يفيد وطء السيد, لأنه
ليس بزوج، فإذا تزوجها الثاني راغبا ووطئها, ثم فارقها وانقضت عدتها {
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي: على الزوج الأول والزوجة { أَنْ
يَتَرَاجَعَا } أي: يجددا عقدا جديدا بينهما, لإضافته التراجع إليهما, فدل
على اعتبار التراضي.

ولكن يشترط في التراجع أن يظنا { أَنْ يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ } بأن يقوم كل منهما, بحق صاحبه، وذلك إذا ندما على
عشرتهما السابقة الموجبة للفراق, وعزما أن يبدلاها بعشرة حسنة, فهنا لا
جناح عليهما في التراجع.

ومفهوم الآية الكريمة, أنهما إن لم يظنا أن
يقيما حدود الله, بأن غلب على ظنهما أن الحال السابقة باقية, والعشرة
السيئة غير زائلة أن عليهما في ذلك جناحا, لأن جميع الأمور, إن لم يقم فيها
أمر الله, ويسلك بها طاعته, لم يحل الإقدام عليها.

وفي هذا دلالة
على أنه ينبغي للإنسان, إذا أراد أن يدخل في أمر من الأمور, خصوصا
الولايات, الصغار, والكبار, نظر في نفسه ، فإن رأى من نفسه قوة على ذلك,
ووثق بها, أقدم, وإلا أحجم.

ولما بين تعالى هذه الأحكام العظيمة
قال: { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي: شرائعه التي حددها وبينها ووضحها.

{
يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } لأنهم هم المنتفعون بها, النافعون
لغيرهم.

وفي هذا من فضيلة أهل العلم, ما لا يخفى, لأن الله تعالى
جعل تبيينه لحدوده, خاصا بهم, وأنهم المقصودون بذلك، وفيه أن الله تعالى
يحب من عباده, معرفة حدود ما أنزل على رسوله والتفقه بها.

ثم قال
تعالى: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } أي: طلاقا رجعيا بواحدة أو
ثنتين.

{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي: قاربن انقضاء عدتهن.

{
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي: إما
أن تراجعوهن, ونيتكم القيام بحقوقهن, أو تتركوهن بلا رجعة ولا إضرار, ولهذا
قال: { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } أي: مضارة بهن { لِتَعْتَدُوا }
في فعلكم هذا الحلال, إلى الحرام، فالحلال: الإمساك بمعروف والحرام:
المضارة، { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } ولو كان الحق
يعود للمخلوق فالضرر عائد إلى من أراد الضرار.

{ وَلَا تَتَّخِذُوا
آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } لما بين تعالى حدوده غاية التبيين, وكان المقصود,
العلم بها والعمل, والوقوف معها, وعدم مجاوزتها, لأنه تعالى لم ينزلها
عبثا, بل أنزلها بالحق والصدق والجد, نهى عن اتخاذها هزوا, أي: لعبا بها,
وهو التجرؤ عليها, وعدم الامتثال لواجبها، مثل استعمال المضارة في الإمساك,
أو الفراق, أو كثرة الطلاق, أو جمع الثلات، والله من رحمته جعل له واحدة
بعد واحدة, رفقا به وسعيا في مصلحته.

{ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ } عموما باللسان ثناء وحمدا، وبالقلب اعترافا وإقرارا,
وبالأركان بصرفها في طاعة الله، { وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ
الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } أي: السنة اللذين بيّن لكم بهما طرق الخير
ورغبكم فيها, وطرق الشر وحذركم إياها, وعرفكم نفسه ووقائعه في أوليائه
وأعدائه, وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.

وقيل: المراد بالحكمة أسرار
الشريعة, فالكتاب فيه, الحكم، والحكمة فيها, بيان حكمة الله في أوامره
ونواهيه، وكلا المعنيين صحيح، ولهذا قال { يَعِظُكُمْ بِهِ } أي: بما أنزل
عليكم, وهذا مما يقوي أن المراد بالحكمة, أسرار الشريعة, لأن الموعظة ببيان
الحكم والحكمة, والترغيب, أو الترهيب, فالحكم به, يزول الجهل، والحكمة مع
الترغيب, يوجب الرغبة، والحكمة مع الترهيب يوجب الرهبة.

{
وَاتَّقُوا اللَّهَ } في جميع أموركم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ } فلهذا بيّن لكم هذه الأحكام بغاية الإحكام والإتقان التي
هي جارية مع المصالح في كل زمان ومكان, [فله الحمد والمنة].

{ 232 }
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا
تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا
بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ
وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }

هذا
خطاب لأولياء المرأة المطلقة دون الثلاث إذا خرجت من العدة, وأراد زوجها أن
ينكحها, ورضيت بذلك, فلا يجوز لوليها, من أب وغيره; أن يعضلها; أي: يمنعها
من التزوج به حنقا عليه; وغضبا; واشمئزازا لما فعل من الطلاق الأول.

وذكر
أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإيمانه يمنعه من العضل، فإن ذلك أزكى
لكم وأطهر وأطيب مما يظن الولي أن عدم تزويجه هو الرأي: واللائق وأنه يقابل
بطلاقه الأول بعدم التزويج له كما هو عادة المترفعين المتكبرين.

فإن
كان يظن أن المصلحة في عدم تزويجه, فالله { يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ } فامتثلوا أمر من هو عالم بمصالحكم, مريد لها, قادر عليها,
ميسر لها من الوجه الذي تعرفون وغيره.

وفي هذه الآية, دليل على أنه
لا بد من الولي في النكاح, لأنه نهى الأولياء عن العضل, ولا ينهاهم إلا عن
أمر, هو تحت تدبيرهم ولهم فيه حق.

ثم قال تعالى:

{ 233 } {
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ
أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا
تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى
الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ
تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ
مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

هذا خبر بمعنى الأمر, تنزيلا
له منزلة المتقرر, الذي لا يحتاج إلى أمر بأن { يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ }



ولما كان الحول, يطلق على الكامل, وعلى معظم
الحول قال: { كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } فإذا
تم للرضيع حولان, فقد تم رضاعه وصار اللبن بعد ذلك, بمنزلة سائر الأغذية,
فلهذا كان الرضاع بعد الحولين, غير معتبر, لا يحرم.

ويؤخذ من هذا
النص, ومن قوله تعالى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } أن
أقل مدة الحمل ستة أشهر, وأنه يمكن وجود الولد بها.

{ وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ } أي: الأب { رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ } وهذا شامل لما إذا كانت في حباله أو مطلقة, فإن على الأب
رزقها, أي: نفقتها وكسوتها, وهي الأجرة للرضاع.

ودل هذا, على أنها
إذا كانت في حباله, لا يجب لها أجرة, غير النفقة والكسوة, وكل بحسب حاله,
فلهذا قال: { لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا } فلا يكلف الفقير أن
ينفق نفقة الغني, ولا من لم يجد شيئا بالنفقة حتى يجد، { لَا تُضَارَّ
وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } أي: لا يحل أن
تضار الوالدة بسبب ولدها, إما أن تمنع من إرضاعه, أو لا تعطى ما يجب لها من
النفقة, والكسوة أو الأجرة، { وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } بأن
تمتنع من إرضاعه على وجه المضارة له, أو تطلب زيادة عن الواجب, ونحو ذلك من
أنواع الضرر.

ودل قوله: { مَوْلُودٌ لَهُ } أن الولد لأبيه, لأنه
موهوب له, ولأنه من كسبه، فلذلك جاز له الأخذ من ماله, رضي أو لم يرض,
بخلاف الأم.

وقوله: { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } أي: على
وارث الطفل إذا عدم الأب, وكان الطفل ليس له مال, مثل ما على الأب من
النفقة للمرضع والكسوة، فدل على وجوب نفقة الأقارب المعسرين, على القريب
الوارث الموسر، { فَإِنْ أَرَادَا } أي: الأبوان { فِصَالًا } أي: فطام
الصبي قبل الحولين، { عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا } بأن يكونا راضيين {
وَتَشَاوُرٍ } فيما بينهما, هل هو مصلحة للصبي أم لا؟ فإن كان مصلحة ورضيا {
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } في فطامه قبل الحولين، فدلت الآية بمفهومها,
على أنه إن رضي أحدهما دون الآخر, أو لم يكن مصلحة للطفل, أنه لا يجوز
فطامه.

وقوله: { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا
أَوْلَادَكُمْ } أي: تطلبوا لهم المراضع غير أمهاتهم على غير وجه المضارة {
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ
} أي: للمرضعات, { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فمجازيكم على
ذلك بالخير والشر.




{ 234 } { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

أي: إذا توفي الزوج, مكثت زوجته,
متربصة أربعة أشهر وعشرة أيام وجوبا، والحكمة في ذلك, ليتبين الحمل في مدة
الأربعة, ويتحرك في ابتدائه في الشهر الخامس، وهذا العام مخصوص بالحوامل,
فإن عدتهن بوضع الحمل، وكذلك الأمة, عدتها على النصف من عدة الحرة, شهران
وخمسة أيام.

وقوله: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي: انقضت
عدتهن { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ } أي:
من مراجعتها للزينة والطيب، { بِالْمَعْرُوفِ } أي: على وجه غير محرم ولا
مكروه.

وفي هذا وجوب الإحداد مدة العدة, على المتوفى عنها زوجها,
دون غيرها من المطلقات والمفارقات, وهو مجمع عليه بين العلماء.

{
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي: عالم بأعمالكم, ظاهرها وباطنها,
جليلها وخفيها, فمجازيكم عليها.

وفي خطابه للأولياء بقوله: { فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ } دليل على أن
الولي ينظر على المرأة, ويمنعها مما لا يجوز فعله ويجبرها على ما يجب, وأنه
مخاطب بذلك, واجب عليه.

{ 235 } { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي
أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا
تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

هذا حكم المعتدة من
وفاة, أو المبانة في الحياة، فيحرم على غير مبينها أن يصرح لها في الخطبة,
وهو المراد بقوله: { وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } وأما التعريض,
فقد أسقط تعالى فيه الجناح.

والفرق بينهما: أن التصريح, لا يحتمل
غير النكاح, فلهذا حرم, خوفا من استعجالها, وكذبها في انقضاء عدتها, رغبة
في النكاح، ففيه دلالة على منع وسائل المحرم, وقضاء لحق زوجها الأول, بعدم
مواعدتها لغيره مدة عدتها.

وأما التعريض, وهو الذي يحتمل النكاح
وغيره, فهو جائز للبائن كأن يقول لها: إني أريد التزوج, وإني أحب أن
تشاوريني عند انقضاء عدتك, ونحو ذلك, فهذا جائز لأنه ليس بمنزلة الصريح,
وفي النفوس داع قوي إليه.

وكذلك إضمار الإنسان في نفسه أن يتزوج من
هي في عدتها, إذا انقضت، ولهذا قال: { أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } هذا التفصيل كله في مقدمات
العقد.

وأما عقد النكاح فلا يحل { حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ
أَجَلَهُ } أي: تنقضي العدة.

{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
مَا فِي أَنْفُسِكُمْ } أي: فانووا الخير, ولا تنووا الشر, خوفا من عقابه
ورجاء لثوابه.

{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } لمن صدرت منه
الذنوب, فتاب منها, ورجع إلى ربه { حَلِيمٌ } حيث لم يعاجل العاصين على
معاصيهم, مع قدرته عليهم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 8:08 pm

{ 253 } { تِلْكَ
الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ
اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ
كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ
مَا يُرِيدُ }

يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من
بين سائر الناس بإيحائه وإرسالهم إلى الناس، ودعائهم الخلق إلى الله، ثم
فضل بعضهم على بعض بما أودع فيهم من الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة
والنفع العام، فمنهم من كلمه الله كموسى بن عمران خصه بالكلام، ومنهم من
رفعه على سائرهم درجات كنبينا تفسير القران الكريم كاملا 0099999 الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في
غيره، وجمع الله له من المناقب ما فاق به الأولين والآخرين { وآتينا عيسى
ابن مريم البينات } الدالات على نبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها
إلى مريم وروح منه { وأيدناه بروح القدس } أي: بالإيمان واليقين الذي أيده
به الله وقواه على ما أمر به، وقيل أيده بجبريل عليه السلام يلازمه في
أحواله { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات }
الموجبة للاجتماع على الإيمان { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر }
فكان موجب هذا الاختلاف التفرق والمعاداة والمقاتلة، ومع هذا فلو شاء الله
بعد هذا الاختلاف ما اقتتلوا، فدل ذلك على أن مشيئة الله نافذة غالبة
للأسباب، وإنما تنفع الأسباب مع عدم معارضة المشيئة، فإذا وجدت اضمحل كل
سبب، وزال كل موجب، فلهذا قال { ولكن الله يفعل ما يريد } فإرادته غالبة
ومشيئته نافذة، وفي هذا ونحوه دلالة على أن الله تعالى لم يزل يفعل ما
اقتضته مشيئته وحكمته، ومن جملة ما يفعله ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه
رسوله تفسير القران الكريم كاملا 0099999 من الاستواء والنزول والأقوال، والأفعال
التي يعبرون عنها بالأفعال الاختيارية.

فائدة: كما يجب على المكلف
معرفته بربه، فيجب عليه معرفته برسله، ما يجب لهم ويمتنع عليهم ويجوز في
حقهم، ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم الله به في آيات متعددة، منها: أنهم رجال
لا نساء، من أهل القرى لا من أهل البوادي، وأنهم مصطفون مختارون، جمع الله
لهم من الصفات الحميدة ما به الاصطفاء والاختيار، وأنهم سالمون من كل ما
يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وكتمان وعيوب مزرية، وأنهم لا يقرون على خطأ
فيما يتعلق بالرسالة والتكليف، وأن الله تعالى خصهم بوحيه، فلهذا وجب
الإيمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر، ومن قدح في واحد منهم أو
سبه فهو كافر يتحتم قتله، ودلائل هذه الجمل كثيرة، من تدبر القرآن تبين له
الحق، ثم قال تعالى:

{ 254 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا
بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ }

وهذا من لطف الله بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما
رزقهم الله، من صدقة واجبة ومستحبة، ليكون لهم ذخرا وأجرا موفرا في يوم
يحتاج فيه العاملون إلى مثقال ذرة من الخير، فلا بيع فيه ولو افتدى الإنسان
نفسه بملء الأرض ذهبا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه، ولم
ينفعه خليل ولا صديق لا بوجاهة ولا بشفاعة، وهو اليوم الذي فيه يخسر
المبطلون ويحصل الخزي على الظالمين، وهم الذين وضعوا الشيء في غير موضعه،
فتركوا الواجب من حق الله وحق عباده وتعدوا الحلال إلى الحرام، وأعظم أنواع
الظلم الكفر بالله الذي هو وضع العبادة التي يتعين أن تكون لله فيصرفها
الكافر إلى مخلوق مثله، فلهذا قال تعالى: { والكافرون هم الظالمون } وهذا
من باب الحصر، أي: الذين ثبت لهم الظلم التام، كما قال تعالى: { إن الشرك
لظلم عظيم } ثم قال تعالى:

{ 255 } { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ
إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }

هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن
وأفضلها وأجلها، وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة،
فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للإنسان في أوقاته
صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات، فأخبر تعالى عن نفسه
الكريمة بأن { لا إله إلا هو } أي: لا معبود بحق سواه، فهو الإله الحق الذي
تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى، لكماله وكمال
صفاته وعظيم نعمه، ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه، ممتثلا أوامره
مجتنبا نواهيه، وكل ما سوى الله تعالى باطل، فعبادة ما سواه باطلة، لكون ما
سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه، فلم يستحق شيئا من
أنواع العبادة، وقوله: { الحي القيوم } هذان الاسمان الكريمان يدلان على
سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما، فالحي من له الحياة
الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات، كالسمع والبصر والعلم والقدرة، ونحو
ذلك، والقيوم: هو الذي قام بنفسه وقام بغيره، وذلك مستلزم لجميع الأفعال
التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام
والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء، وسائر أنواع التدبير، كل ذلك داخل
في قيومية الباري، ولهذا قال بعض المحققين: إنهما الاسم الأعظم الذي إذا
دعي الله به أجاب، وإذا سئل به أعطى، ومن تمام حياته وقيوميته أن { لا
تأخذه سنة ولا نوم } والسنة النعاس { له ما في السماوات وما في الأرض } أي:
هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق
مدبر لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فلهذا
قال: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } أي: لا أحد يشفع عنده بدون إذنه،
فالشفاعة كلها لله تعالى، ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده
أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه، لا يبتدئ الشافع قبل الإذن،
ثم قال { يعلم ما بين أيديهم } أي: ما مضى من جميع الأمور { وما خلفهم }
أي: ما يستقبل منها، فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور، متقدمها ومتأخرها،
بالظواهر والبواطن، بالغيب والشهادة، والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من
العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى، ولهذا قال: { ولا يحيطون بشيء من علمه
إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض } وهذا يدل على كمال عظمته وسعة
سلطانه، إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتهما
وعظمة من فيهما، والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى، بل هنا ما هو أعظم
منه وهو العرش، وما لا يعلمه إلا هو، وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار
وتكل الأبصار، وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال، فكيف بعظمة خالقها
ومبدعها، والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع، والذي قد أمسك
السماوات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب، فلهذا قال: { ولا يؤوده }
أي: يثقله { حفظهما وهو العلي } بذاته فوق عرشه، العلي بقهره لجميع
المخلوقات، العلي بقدره لكمال صفاته { العظيم } الذي تتضائل عند عظمته
جبروت الجبابرة، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة، فسبحان من له
العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء، فقد اشتملت هذه
الآية على توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وعلى
إحاطة ملكه وإحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده، وعظمته وكبريائه وعلوه
على جميع مخلوقاته، فهذه الآية بمفردها عقيدة في أسماء الله وصفاته، متضمنة
لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلا، ثم قال تعالى:

{ 256 - 257 } {
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *

اللَّهُ
وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ
النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ }

يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى
الإكراه عليه، لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه، غامضة أثاره،
أو أمر في غاية الكراهة للنفوس، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم
فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي،
فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره، وأما من كان سيئ القصد فاسد
الإرادة، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل، ويبصر الحسن فيميل إلى
القبيح، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين، لعدم النتيجة والفائدة
فيه، والمكره ليس إيمانه صحيحا، ولا تدل الآية الكريمة على ترك قتال الكفار
المحاربين، وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله لكل منصف
قصده اتباع الحق، وأما القتال وعدمه فلم تتعرض له، وإنما يؤخذ فرض القتال
من نصوص أخر، ولكن يستدل في الآية الكريمة على قبول الجزية من غير أهل
الكتاب، كما هو قول كثير من العلماء، فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى
الله وطاعة الشيطان، ويؤمن بالله إيمانا تاما أوجب له عبادة ربه وطاعته {
فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي: بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت
أركانه، وكان المتمسك به على ثقة من أمره، لكونه استمسك بالعروة الوثقى
التي { لا انفصام لها } وأما من عكس القضية فكفر بالله وآمن بالطاغوت، فقد
أطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة، واستمسك بكل باطل مآله
إلى الجحيم { والله سميع عليم } فيجازي كلا منهما بحسب ما علمه منهم من
الخير والشر، وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك
بها.

ثم ذكر السبب الذي أوصلهم إلى ذلك فقال: { الله ولي الذين
آمنوا } وهذا يشمل ولايتهم لربهم، بأن تولوه فلا يبغون عنه بدلا ولا يشركون
به أحدا، قد اتخذوه حبيبا ووليا، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه، فتولاهم
بلطفه ومنَّ عليهم بإحسانه، فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى
نور الإيمان والطاعة والعلم، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر
والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور { والذين كفروا
أولياؤهم الطاغوت } فتولوا الشيطان وحزبه، واتخذوه من دون الله وليا
ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم، فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم
إلى المعاصي أزا، ويزعجونهم إلى الشر إزعاجا، فيخرجونهم من نور الإيمان
والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي، فكان جزاؤهم على ذلك أن
حرموا الخيرات، وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات، وكانوا من حزب الشيطان
وأولياءه في دار الحسرة، فلهذا قال تعالى: { أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون }

{ 258 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ
فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ
بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }

يقول تعالى: { ألم تر إلى الذي حاج
إبراهيم في ربه } أي: إلى جرائته وتجاهله وعناده ومحاجته فيما لا يقبل
التشكيك، وما حمله على ذلك إلا { أن آتاه الله الملك } فطغى وبغى ورأى نفسه
مترئسا على رعيته، فحمله ذلك على أن حاج إبراهيم في ربوبية الله فزعم أنه
يفعل كما يفعل الله، فقال إبراهيم { ربي الذي يحيي ويميت } أي: هو المنفرد
بأنواع التصرف، وخص منه الإحياء والإماتة لكونهما أعظم أنواع التدابير،
ولأن الإحياء مبدأ الحياة الدنيا والإماتة مبدأ ما يكون في الآخرة، فقال
ذلك المحاج: { أنا أحيي وأميت } ولم يقل أنا الذي أحيي وأميت، لأنه لم يدع
الاستقلال بالتصرف، وإنما زعم أنه يفعل كفعل الله ويصنع صنعه، فزعم أنه
يقتل شخصا فيكون قد أماته، ويستبقي شخصا فيكون قد أحياه، فلما رآه إبراهيم
يغالط في مجادلته ويتكلم بشيء لا يصلح أن يكون شبهة فضلا عن كونه حجة، اطرد
معه في الدليل فقال إبراهيم: { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق } أي:
عيانا يقر به كل أحد حتى ذلك الكافر { فأت بها من المغرب } وهذا إلزام له
بطرد دليله إن كان صادقا في دعواه، فلما قال له أمرا لا قوة له في شبهة
تشوش دليله، ولا قادحا يقدح في سبيله { بهت الذي كفر } أي: تحير فلم يرجع
إليه جوابا وانقطعت حجته وسقطت شبهته، وهذه حالة المبطل المعاند الذي يريد
أن يقاوم الحق ويغالبه، فإنه مغلوب مقهور، فلذلك قال تعالى: { والله لا
يهدي القوم الظالمين } بل يبقيهم على كفرهم وضلالهم، وهم الذين اختاروا
لأنفسهم ذلك، وإلا فلو كان قصدهم الحق والهداية لهداهم إليه ويسر لهم أسباب
الوصول إليه، ففي هذه الآية برهان قاطع على تفرد الرب بالخلق والتدبير،
ويلزم من ذلك أن يفرد بالعبادة والإنابة والتوكل عليه في جميع الأحوال، قال
ابن القيم رحمه الله: وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدا، وهي أن شرك العالم
إنما هو مستند إلى عبادة الكواكب والقبور، ثم صورت الأصنام على صورها،
فتضمن الدليلان اللذان استدل بهما إبراهيم إبطال إلهية تلك جملة بأن الله
وحده هو الذي يحيي ويميت، ولا يصلح الحي الذي يموت للإلهية لا في حال حياته
ولا بعد موته، فإن له ربا قادرا قاهرا متصرفا فيه إحياء وإماتة، ومن كان
كذلك فكيف يكون إلها حتى يتخذ الصنم على صورته، ويعبد من دونه، وكذلك
الكواكب أظهرها وأكبرها للحس هذه الشمس وهي مربوبة مدبرة مسخرة، لا تصرف
لها بنفسها بوجه ما، بل ربها وخالقها سبحانه يأتي بها من مشرقها فتنقاد
لأمره ومشيئته، فهي مربوبة مسخرة مدبرة، لا إله يعبد من دون الله. " من
مفتاح دار السعادة " ثم قال تعالى:

{ 259 } { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي
هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ
بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ
لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً
لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا
لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وهذا أيضا دليل آخر على توحد الله بالخلق
والتدبير والإماتة والإحياء، فقال: { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على
عروشها } أي: قد باد أهلها وفني سكانها وسقطت حيطانها على عروشها، فلم يبق
بها أنيس بل بقيت موحشة من أهلها مقفرة، فوقف عليها ذلك الرجل متعجبا و {
قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها } استبعادا لذلك وجهلا بقدرة الله تعالى،
فلما أراد الله به خيرا أراه آية في نفسه وفي حماره، وكان معه طعام وشراب، {
فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم }
استقصارا لتلك المدة التي مات فيها لكونه قد زالت معرفته وحواسه وكان عهد
حاله قبل موته، فقيل له { بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم
يتسنه } أي: لم يتغير بل بقي على حاله على تطاول السنين واختلاف الأوقات
عليه، ففيه أكبر دليل على قدرته حيث أبقاه وحفظه عن التغير والفساد، مع أن
الطعام والشراب من أسرع الأشياء فسادا { وانظر إلى حمارك } وكان قد مات
وتمزق لحمه وجلده وانتثرت عظامه، وتفرقت أوصاله { ولنجعلك آية للناس } على
قدرة الله وبعثه الأموات من قبورهم، لتكون أنموذجا محسوسا مشاهدا بالأبصار،
فيعلموا بذلك صحة ما أخبرت به الرسل { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } أي:
ندخل بعضها في بعض، ونركب بعضها ببعض { ثم نكسوها لحما } فنظر إليها عيانا
كما وصفها الله تعالى، { فلما تبين له } ذلك وعلم قدرة الله تعالى { قال
أعلم أن الله على كل شيء قدير } والظاهر من سياق الآية أن هذا رجل منكر
للبعث أراد الله به خيرا، وأن يجعله آية ودليلا للناس لثلاثة أوجه أحدها
قوله { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } ولو كان نبيا أو عبدا صالحا لم يقل
ذلك، والثاني: أن الله أراه آية في طعامه وشرابه وحماره ونفسه ليراه بعينه
فيقر بما أنكره، ولم يذكر في الآية أن القرية المذكورة عمرت وعادت إلى
حالتها، ولا في السياق ما يدل على ذلك، ولا في ذلك كثير فائدة، ما الفائدة
الدالة على إحياء الله للموتى في قرية خربت ثم رجع إليها أهلها أو غيرهم
فعمروها؟! وإنما الدليل الحقيقي في إحيائه وإحياء حماره وإبقاء طعامه
وشرابه بحاله، والثالث في قوله: { فلما تبين له } أي: تبين له أمر كان
يجهله ويخفى عليه، فعلم بذلك صحة ما ذكرناه، والله أعلم. ثم قال تعالى:

{260
} { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى
قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ
فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ
عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ
سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

وهذا فيه أيضا
أعظم دلالة حسية على قدرة الله وإحيائه الموتى للبعث والجزاء، فأخبر تعالى
عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى، لأنه قد تيقن
ذلك بخبر الله تعالى، ولكنه أحب أن يشاهده عيانا ليحصل له مرتبة عين
اليقين، فلهذا قال الله له: { أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } وذلك
أنه بتوارد الأدلة اليقينية مما يزداد به الإيمان ويكمل به الإيقان ويسعى
في نيله أولو العرفان، فقال له ربه { فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك } أي:
ضمهن ليكون ذلك بمرأى منك ومشاهدة وعلى يديك. { ثم اجعل على كل جبل منهن
جزءا } أي: مزقهن، اخلط أجزاءهن بعضها ببعض، واجعل على كل جبل، أي: من
الجبال التي في القرب منه، جزء من تلك الأجزاء { ثم ادعهن يأتينك سعيا }
أي: تحصل لهن حياة كاملة، ويأتينك في هذه القوة وسرعة الطيران، ففعل
إبراهيم عليه السلام ذلك وحصل له ما أراد وهذا من ملكوت السماوات والأرض
الذي أراه الله إياه في قوله { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض
وليكون من الموقنين } ثم قال: { واعلم أن الله عزيز حكيم } أي: ذو قوة
عظيمة سخر بها المخلوقات، فلم يستعص عليه شيء منها، بل هي منقادة لعزته
خاضعة لجلاله، ومع ذلك فأفعاله تعالى تابعة لحكمته، لا يفعل شيئا عبثا، ثم
قال تعالى:

{ 261 } { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي
كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

هذا بيان للمضاعفة التي ذكرها الله في
قوله { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } وهنا
قال: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } أي: في طاعته ومرضاته،
وأولاها إنفاقها في الجهاد في سبيله { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل
سنبلة مائة حبة } وهذا إحضار لصورة المضاعفة بهذا المثل، الذي كان العبد
يشاهده ببصره فيشاهد هذه المضاعفة ببصيرته، فيقوى شاهد الإيمان مع شاهد
العيان، فتنقاد النفس مذعنة للإنفاق سامحة بها مؤملة لهذه المضاعفة الجزيلة
والمنة الجليلة، { والله يضاعف } هذه المضاعفة { لمن يشاء } أي: بحسب حال
المنفق وإخلاصه وصدقه وبحسب حال النفقة وحلها ونفعها ووقوعها موقعها،
ويحتمل أن يكون { والله يضاعف } أكثر من هذه المضاعفة { لمن يشاء } فيعطيهم
أجرهم بغير حساب { والله واسع } الفضل، واسع العطاء، لا ينقصه نائل ولا
يحفيه سائل، فلا يتوهم المنفق أن تلك المضاعفة فيها نوع مبالغة، لأن الله
تعالى لا يتعاظمه شيء ولا ينقصه العطاء على كثرته، ومع هذا فهو { عليم }
بمن يستحق هذه المضاعفة ومن لا يستحقها، فيضع المضاعفة في موضعها لكمال
علمه وحكمته.

{ 262 } { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى
لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ
يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ }

أي: الذين ينفقون
أموالهم في طاعة الله وسبيله، ولا يتبعونها بما ينقصها ويفسدها من المن بها
على المنفق عليه بالقلب أو باللسان، بأن يعدد عليه إحسانه ويطلب منه
مقابلته، ولا أذية له قولية أو فعلية، فهؤلاء لهم أجرهم اللائق بهم ولا خوف
عليهم ولا هم يحزنون، فحصل لهم الخير واندفع عنهم الشر لأنهم عملوا عملا
خالصا لله سالما من المفسدات.

{ قول معروف } أي: تعرفه القلوب ولا
تنكره، ويدخل في ذلك كل قول كريم فيه إدخال السرور على قلب المسلم، ويدخل
فيه رد السائل بالقول الجميل والدعاء له { ومغفرة } لمن أساء إليك بترك
مؤاخذته والعفو عنه، ويدخل فيه العفو عما يصدر من السائل مما لا ينبغي،
فالقول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذى، لأن القول المعروف
إحسان قولي، والمغفرة إحسان أيضا بترك المؤاخذة، وكلاهما إحسان ما فيه
مفسد، فهما أفضل من الإحسان بالصدقة التي يتبعها أذى بمنّ أو غيره، ومفهوم
الآية أن الصدقة التي لا يتبعها أذى أفضل من القول المعروف والمغفرة، وإنما
كان المنّ بالصدقة مفسدا لها محرما، لأن المنّة لله تعالى وحده، والإحسان
كله لله، فالعبد لا يمنّ بنعمة الله وإحسانه وفضله وهو ليس منه، وأيضا فإن
المانّ مستعبِدٌ لمن يمنّ عليه، والذل والاستعباد لا ينبغي إلا لله، والله
غني بذاته عن جميع مخلوقاته، وكلها مفتقرة إليه بالذات في جميع الحالات
والأوقات، فصدقتكم وإنفاقكم وطاعاتكم يعود مصلحتها إليكم ونفعها إليكم، {
والله غني } عنها، ومع هذا فهو { حليم } على من عصاه لا يعاجله بعقوبة مع
قدرته عليه، ولكن رحمته وإحسانه وحلمه يمنعه من معاجلته للعاصين، بل يمهلهم
ويصرّف لهم الآيات لعلهم يرجعون إليه وينيبون إليه، فإذا علم تعالى أنه لا
خير فيهم ولا تغني عنهم الآيات ولا تفيد بهم المثلات أنزل بهم عقابه
وحرمهم جزيل ثوابه.

{ 264 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ
مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ
فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }

ينهى عباده تعالى
لطفا بهم ورحمة عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى ففيه أن المن والأذى يبطل
الصدقة، ويستدل بهذا على أن الأعمال السيئة تبطل الأعمال الحسنة، كما قال
تعالى: { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا
تشعرون } فكما أن الحسنات يذهبن السيئات فالسيئات تبطل ما قابلها من
الحسنات، وفي هذه الآية مع قوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } حث على تكميل
الأعمال وحفظها من كل ما يفسدها لئلا يضيع العمل سدى، وقوله: { كالذي ينفق
ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } أي: أنتم وإن قصدتم بذلك
وجه الله في ابتداء الأمر، فإن المنة والأذى مبطلان لأعمالكم، فتصير
أعمالكم بمنزلة الذي يعمل لمراءاة الناس ولا يريد به الله والدار الآخرة،
فهذا لا شك أن عمله من أصله مردود، لأن شرط العمل أن يكون لله وحده وهذا في
الحقيقة عمل للناس لا لله، فأعماله باطلة وسعيه غير مشكور، فمثله المطابق
لحاله { كمثل صفوان } وهو الحجر الأملس الشديد { عليه تراب فأصابه وابل }
أي: مطر غزير { فتركه صلدا } أي: ليس عليه شيء من التراب، فكذلك حال هذا
المرائي، قلبه غليظ قاس بمنزلة الصفوان، وصدقته ونحوها من أعماله بمنزلة
التراب الذي على الصفوان، إذا رآه الجاهل بحاله ظن أنه أرض زكية قابلة
للنبات، فإذا انكشفت حقيقة حاله زال ذلك التراب وتبين أن عمله بمنزلة
السراب، وأن قلبه غير صالح لنبات الزرع وزكائه عليه، بل الرياء الذي فيه
والإرادات الخبيثة تمنع من انتفاعه بشيء من عمله، فلهذا { لا يقدرون على
شيء } من أعمالهم التي اكتسبوها، لأنهم وضعوها في غير موضعها وجعلوها
لمخلوق مثلهم، لا يملك لهم ضررا ولا نفعا وانصرفوا عن عبادة من تنفعهم
عبادته، فصرف الله قلوبهم عن الهداية، فلهذا قال: { والله لا يهدي القوم
الكافرين }
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 8:11 pm

{265 } { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ
أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

هذا مثل المنفقين أموالهم على وجه تزكو
عليه نفقاتهم وتقبل به صدقاتهم فقال تعالى: { ومثل الذين ينفقون أموالهم
ابتغاء مرضاة الله } أي: قصدهم بذلك رضى ربهم والفوز بقربه { وتثبيتا من
أنفسهم } أي: صدر الإنفاق على وجه منشرحة له النفس سخية به، لا على وجه
التردد وضعف النفس في إخراجها وذلك أن النفقة يعرض لها آفتان إما أن يقصد
الإنسان بها محمدة الناس ومدحهم وهو الرياء، أو يخرجها على خور وضعف عزيمة
وتردد، فهؤلاء سلموا من هاتين الآفتين فأنفقوا ابتغاء مرضات الله لا لغير
ذلك من المقاصد، وتثبيتا من أنفسهم، فمثل نفقة هؤلاء { كمثل جنة } أي:
كثيرة الأشجار غزيرة الظلال، من الاجتنان وهو الستر، لستر أشجارها ما فيها،
وهذه الجنة { بربوة } أي: محل مرتفع ضاح للشمس في أول النهار ووسطه وآخره،
فثماره أكثر الثمار وأحسنها، ليست بمحل نازل عن الرياح والشمس، فـ {
أصابها } أي: تلك الجنة التي بربوة { وابل } وهو المطر الغزير { فآتت أكلها
ضعفين } أي: تضاعفت ثمراتها لطيب أرضها ووجود الأسباب الموجبة لذلك، وحصول
الماء الكثير الذي ينميها ويكملها { فإن لم يصبها وابل فطل } أي: مطر قليل
يكفيها لطيب منبتها، فهذه حالة المنفقين أهل النفقات الكثيرة والقليلة كل
على حسب حاله، وكل ينمى له ما أنفق أتم تنمية وأكملها والمنمي لها هو الذي
أرحم بك من نفسك، الذي يريد مصلحتك حيث لا تريدها، فيالله لو قدر وجود
بستان في هذه الدار بهذه الصفة لأسرعت إليه الهمم وتزاحم عليه كل أحد،
ولحصل الاقتتال عنده، مع انقضاء هذه الدار وفنائها وكثرة آفاتها وشدة نصبها
وعنائها، وهذا الثواب الذي ذكره الله كأن المؤمن ينظر إليه بعين بصيرة
الإيمان، دائم مستمر فيه أنواع المسرات والفرحات، ومع هذا تجد النفوس عنه
راقدة، والعزائم عن طلبه خامدة، أترى ذلك زهدا في الآخرة ونعيمها، أم ضعف
إيمان بوعد الله ورجاء ثوابه؟! وإلا فلو تيقن العبد ذلك حق اليقين وباشر
الإيمان به بشاشة قلبه لانبعثت من قلبه مزعجات الشوق إليه، وتوجهت همم
عزائمه إليه، وطوعت نفسه له بكثرة النفقات رجاء المثوبات، ولهذا قال تعالى:
{ والله بما تعملون بصير } فيعلم عمل كل عامل ومصدر ذلك العمل، فيجازيه
عليه أتم الجزاء ثم قال تعالى:

{ 266 } { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ
تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ
وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ
فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ }

وهذا المثل مضروب لمن عمل عملا لوجه الله تعالى من
صدقة أو غيرها ثم عمل أعمالا تفسده، فمثله كمثل صاحب هذا البستان الذي فيه
من كل الثمرات، وخص منها النخل والعنب لفضلهما وكثرة منافعهما، لكونهما
غذاء وقوتا وفاكهة وحلوى، وتلك الجنة فيها الأنهار الجارية التي تسقيها من
غير مؤنة، وكان صاحبها قد اغتبط بها وسرته، ثم إنه أصابه الكبر فضعف عن
العمل وزاد حرصه، وكان له ذرية ضعفاء ما فيهم معاونة له، بل هم كل عليه،
ونفقته ونفقتهم من تلك الجنة، فبينما هو كذلك إذ أصاب تلك الجنة إعصار وهو
الريح القوية التي تستدير ثم ترتفع في الجو، وفي ذلك الإعصار نار فاحترقت
تلك الجنة، فلا تسأل عما لقي ذلك الذي أصابه الكبر من الهم والغم والحزن،
فلو قدر أن الحزن يقتل صاحبه لقتله الحزن، كذلك من عمل عملا لوجه الله فإن
أعماله بمنزلة البذر للزروع والثمار، ولا يزال كذلك حتى يحصل له من عمله
جنة موصوفة بغاية الحسن والبهاء، وتلك المفسدات التي تفسد الأعمال بمنزلة
الإعصار الذي فيه نار، والعبد أحوج ما يكون لعمله إذا مات وكان بحالة لا
يقدر معها على العمل، فيجد عمله الذي يؤمل نفعه هباء منثورا، ووجد الله
عنده فوفاه حسابه.

والله سريع الحساب فلو علم الإنسان وتصور هذه
الحال وكان له أدنى مسكة من عقل لم يقدم على ما فيه مضرته ونهاية حسرته
ولكن ضعف الإيمان والعقل وقلة البصيرة يصير صاحبه إلى هذه الحالة التي لو
صدرت من مجنون لا يعقل لكان ذلك عظيما وخطره جسيما، فلهذا أمر تعالى
بالتفكر وحثَّ عليه، فقال: { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون }

{
267 - 268 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ
مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا
أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ *
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ
وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ }

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالنفقة من طيبات ما يسر لهم
من المكاسب، ومما أخرج لهم من الأرض فكما منَّ عليكم بتسهيل تحصيله فأنفقوا
منه شكرا لله وأداء لبعض حقوق إخوانكم عليكم، وتطهيرا لأموالكم، واقصدوا
في تلك النفقة الطيب الذي تحبونه لأنفسكم، ولا تيمموا الرديء الذي لا
ترغبونه ولا تأخذونه إلا على وجه الإغماض والمسامحة { واعلموا أن الله غني
حميد } فهو غني عنكم ونفع صدقاتكم وأعمالكم عائد إليكم، ومع هذا فهو حميد
على ما يأمركم به من الأوامر الحميدة والخصال السديدة، فعليكم أن تمتثلوا
أوامره لأنها قوت القلوب وحياة النفوس ونعيم الأرواح، وإياكم أن تتبعوا
عدوكم الشيطان الذي يأمركم بالإمساك، ويخوفكم بالفقر والحاجة إذا أنفقتم،
وليس هذا نصحا لكم، بل هذا غاية الغش { إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب
السعير } بل أطيعوا ربكم الذي يأمركم بالنفقة على وجه يسهل عليكم ولا
يضركم، ومع هذا فهو { يعدكم مغفرة } لذنوبكم وتطهيرا لعيوبكم { وفضلا }
وإحسانا إليكم في الدنيا والآخرة، من الخلف العاجل، وانشراح الصدر ونعيم
القلب والروح والقبر، وحصول ثوابها وتوفيتها يوم القيامة، وليس هذا عظيما
عليه لأنه { واسع } الفضل عظيم الإحسان { عليم } بما يصدر منكم من النفقات
قليلها وكثيرها، سرها وعلنها، فيجازيكم عليها من سعته وفضله وإحسانه،
فلينظر العبد نفسه إلى أي الداعيين يميل، فقد تضمنت هاتان الآيتان أمورا
عظيمة منها: الحث على الإنفاق، ومنها: بيان الأسباب الموجبة لذلك، ومنها:
وجوب الزكاة من النقدين وعروض التجارة كلها، لأنها داخلة في قوله: { من
طيبات ما كسبتم } ومنها: وجوب الزكاة في الخارج من الأرض من الحبوب والثمار
والمعادن، ومنها: أن الزكاة على من له الزرع والثمر لا على صاحب الأرض،
لقوله { أخرجنا لكم } فمن أخرجت له وجبت عليه ومنها: أن الأموال المعدة
للاقتناء من العقارات والأواني ونحوها ليس فيها زكاة، وكذلك الديون والغصوب
ونحوهما إذا كانت مجهولة، أو عند من لا يقدر ربها على استخراجها منه، ليس
فيها زكاة، لأن الله أوجب النفقة من الأموال التي يحصل فيها النماء الخارج
من الأرض، وأموال التجارة مواساة من نمائها، وأما الأموال التي غير معدة
لذلك ولا مقدورا عليها فليس فيها هذا المعنى، ومنها: أن الرديء ينهى عن
إخراجه ولا يجزئ في الزكاة ثم قال تعالى:

{ 269 } { يُؤْتِي
الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ }

لما
أمر تعالى بهذه الأوامر العظيمة المشتملة على الأسرار والحكم وكان ذلك لا
يحصل لكل أحد، بل لمن منَّ عليه وآتاه الله الحكمة، وهي العلم النافع
والعمل الصالح ومعرفة أسرار الشرائع وحكمها، وإن من آتاه الله الحكمة فقد
آتاه خيرا كثيرا وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدارين والنجاة من
شقاوتهما! وفيه التخصيص بهذا الفضل وكونه من ورثة الأنبياء، فكمال العبد
متوقف على الحكمة، إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية فتكميل قوته
العلمية بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به، وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير
وترك الشر، وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل وتنزيل الأمور منازلها
في نفسه وفي غيره، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك، ولما كان الله تعالى قد فطر
عباده على عبادته ومحبة الخير والقصد للحق، فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما
ركز في فطرهم وعقولهم، ومفصلين لهم ما لم يعرفوه، انقسم الناس قسمين قسم
أجابوا دعوتهم فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه، وما يضرهم فتركوه، وهؤلاء هم أولو
الألباب الكاملة، والعقول التامة، وقسم لم يستجيبوا لدعوتهم، بل أجابوا ما
عرض لفطرهم من الفساد، وتركوا طاعة رب العباد، فهؤلاء ليسوا من أولي
الألباب، فلهذا قال تعالى: { وما يذكر إلا أولو الألباب }

{ 270 } {
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }

وهذا فيه
المجازاة على النفقات، واجبها ومستحبها، قليلها وكثيرها، التي أمر الله
بها، والنذور التي ألزمها المكلف نفسه، وإن الله تعالى يعلمها فلا يخفى
عليه منها شيء، ويعلم ما صدرت عنه، هل هو الإخلاص أو غيره، فإن صدرت عن
إخلاص وطلب لمرضاة الله جازى عليها بالفضل العظيم والثواب الجسيم، وإن لم
ينفق العبد ما وجب عليه من النفقات ولم يوف ما أوجبه على نفسه من
المنذورات، أو قصد بذلك رضى المخلوقات، فإنه ظالم قد وضع الشيء في غير
موضعه، واستحق العقوبة البليغة، ولم ينفعه أحد من الخلق ولم ينصره، فلهذا
قال: { وما للظالمين من أنصار }

{ 271 } { إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

أي: { إن تبدوا الصدقات } فتظهروها
وتكون علانية حيث كان القصد بها وجه الله { فنعما هي } أي: فنعم الشيء { هي
} لحصول المقصود بها { وإن تخفوها } أي: تسروها { وتؤتوها الفقراء فهو خير
لكم } ففي هذا أن صدقة السر على الفقير أفضل من صدقة العلانية، وأما إذا
لم تؤت الصدقات الفقراء فمفهوم الآية أن السر ليس خيرا من العلانية، فيرجع
في ذلك إلى المصلحة، فإن كان في إظهارها إظهار شعائر الدين وحصول الاقتداء
ونحوه، فهو أفضل من الإسرار، ودل قوله: { وتؤتوها الفقراء } على أنه ينبغي
للمتصدق أن يتحرى بصدقته المحتاجين، ولا يعطي محتاجا وغيره أحوج منه، ولما
ذكر تعالى أن الصدقة خير للمتصدق ويتضمن ذلك حصول الثواب قال: { ويكفر عنكم
من سيئاتكم } ففيه دفع العقاب { والله بما تعملون خبير } من خير وشر، قليل
وكثير والمقصود من ذلك المجازاة.

{ 272 - 274 } { لَيْسَ عَلَيْكَ
هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ
اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا
تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا
يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ
أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ
النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ
عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }

يقول تعالى لنبيه تفسير القران الكريم كاملا 0099999 ليس عليك هدي الخلق، وإنما عليك البلاغ
المبين، والهداية بيد الله تعالى، ففيها دلالة على أن النفقة كما تكون على
المسلم تكون على الكافر ولو لم يهتد، فلهذا قال: { وما تنفقوا من خير } أي:
قليل أو كثير على أي شخص كان من مسلم وكافر { فلأنفسكم } أي: نفعه راجع
إليكم { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } هذا إخبار عن نفقات المؤمنين
الصادرة عن إيمانهم أنها لا تكون إلا لوجه الله تعالى، لأن إيمانهم يمنعهم
عن المقاصد الردية ويوجب لهم الإخلاص { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } يوم
القيامة تستوفون أجوركم { وأنتم لا تظلمون } أي: تنقصون من أعمالكم شيئا
ولا مثقال ذرة، كما لا يزاد في سيئاتكم.

ثم ذكر مصرف النفقات الذين
هم أولى الناس بها فوصفهم بست صفات أحدها الفقر، والثاني قوله: { أحصروا في
سبيل الله } أي: قصروها على طاعة الله من جهاد وغيره، فهم مستعدون لذلك
محبوسون له، الثالث عجزهم عن الأسفار لطلب الرزق فقال: { لا يستطيعون ضربا
في الأرض } أي: سفرا للتكسب، الرابع قوله: { يحسبهم الجاهل أغنياء من
التعفف } وهذا بيان لصدق صبرهم وحسن تعففهم. الخامس: أنه قال: { تعرفهم
بسيماهم } أي: بالعلامة التي ذكرها الله في وصفهم، وهذا لا ينافي قوله: {
يحسبهم الجاهل أغنياء } فإن الجاهل بحالهم ليس له فطنة يتفرس بها ما هم
عليه، وأما الفطن المتفرس فمجرد ما يراهم يعرفهم بعلامتهم، السادس قوله: {
لا يسألون الناس إلحافا } أي: لا يسألونهم سؤال إلحاف، أي: إلحاح، بل إن
صدر منهم سؤال إذا احتاجوا لذلك لم يلحوا على من سألوا، فهؤلاء أولى الناس
وأحقهم بالصدقات لما وصفهم به من جميل الصفات، وأما النفقة من حيث هي على
أي شخص كان، فهي خير وإحسان وبر يثاب عليها صاحبها ويؤجر، فلهذا قال: { وما
تنفقوا من خير فإن الله به عليم }

ثم ذكر حالة المتصدقين في جميع
الأوقات على جميع الأحوال فقال: { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } أي:
طاعته وطريق مرضاته، لا في المحرمات والمكروهات وشهوات أنفسهم { بالليل
والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم } أي: أجر عظيم من خير عند الرب
الرحيم { ولا خوف عليهم } إذا خاف المقصرون { ولا هم يحزنون } إذا حزن
المفرطون، ففازوا بحصول المقصود المطلوب، ونجوا من الشرور والمرهوب، ولما
كمل تعالى حالة المحسنين إلى عباده بأنواع النفقات ذكر حالة الظالمين
المسيئين إليهم غاية الإساءة فقال:

{ 275 - 281 } { الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي
يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا
سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي
الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا
تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ
إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }

يخبر
تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم، أنهم لا يقومون من قبورهم
ليوم نشورهم { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أي: يصرعه
الشيطان بالجنون، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين، متوقعين لعظيم
النكال وعسر الوبال، فكما تقلبت عقولهم و { قالوا إنما البيع مثل الربا }
وهذا لا يكون إلا من جاهل عظيم جهله، أو متجاهل عظيم عناده، جازاهم الله من
جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين، ويحتمل أن يكون قوله: { لا
يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أنه لما انسلبت عقولهم
في طلب المكاسب الربوية خفت أحلامهم وضعفت آراؤهم، وصاروا في هيئتهم
وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلاخ العقل الأدبي عنهم، قال
الله تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة { وأحل الله البيع } أي: لما
فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه، وهذا أصل في حل جميع
أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع { وحرم الربا } لما فيه
من الظلم وسوء العاقبة، والربا نوعان: ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في
العلة نسيئة، ومنه جعل ما في الذمة رأس مال، سلم، وربا فضل، وهو بيع ما
يجري فيه الربا بجنسه متفاضلا، وكلاهما محرم بالكتاب والسنة، والإجماع على
ربا النسيئة، وشذ من أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة، بل الربا من
كبائر الذنوب وموبقاتها { فمن جاءه موعظة من ربه } أي: وعظ وتذكير وترهيب
عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله بالموعوظ، وإقامة
للحجة عليه { فانتهى } عن فعله وانزجر عن تعاطيه { فله ما سلف } أي: ما
تقدم من المعاملات التي فعلها قبل أن تبلغه الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة،
دل مفهوم الآية أن من لم ينته جوزي بالأول والآخر { وأمره إلى الله } في
مجازاته وفيما يستقبل من أموره { ومن عاد } إلى تعاطي الربا ولم تنفعه
الموعظة، بل أصر على ذلك { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } اختلف
العلماء رحمهم الله في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من
الذنوب التي دون الشرك بالله، والأحسن فيها أن يقال هذه الأمور التي رتب
الله عليها الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك، ولكن الموجب إن لم يوجد
ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه، وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن
التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار، فلولا ما مع الإنسان من التوحيد
لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره.

ثم قال تعالى: {
يمحق الله الربا } أي: يذهبه ويذهب بركته ذاتا ووصفا، فيكون سببا لوقوع
الآفات فيه ونزع البركة عنه، وإن أنفق منه لم يؤجر عليه بل يكون زادا له
إلى النار { ويربي الصدقات } أي: ينميها وينزل البركة في المال الذي أخرجت
منه وينمي أجر صاحبها وهذا لأن الجزاء من جنس العمل، فإن المرابي قد ظلم
الناس وأخذ أموالهم على وجه غير شرعي، فجوزي بذهاب ماله، والمحسن إليهم
بأنواع الإحسان ربه أكرم منه، فيحسن عليه كما أحسن على عباده { والله لا
يحب كل كفار } لنعم الله، لا يؤدي ما أوجب عليه من الصدقات، ولا يسلم منه
ومن شره عباد الله { أثيم } أي: قد فعل ما هو سبب لإثمه وعقوبته.

لما
ذكر أكلة الربا وكان من المعلوم أنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا ينفعهم لم
يصدر منهم ما صدر ذكر حالة المؤمنين وأجرهم، وخاطبهم بالإيمان، ونهاهم عن
أكل الربا إن كانوا مؤمنين، وهؤلاء هم الذين يقبلون موعظة ربهم وينقادون
لأمره، وأمرهم أن يتقوه، ومن جملة تقواه أن يذروا ما بقي من الربا أي:
المعاملات الحاضرة الموجودة، وأما ما سلف، فمن اتعظ عفا الله عنه ما سلف،
وأما من لم ينزجر بموعظة الله ولم يقبل نصيحته فإنه مشاق لربه محارب له،
وهو عاجز ضعيف ليس له يدان في محاربة العزيز الحكيم الذي يمهل للظالم ولا
يهمله حتى إذا أخذه، أخذه أخذ عزيز مقتدر { وإن تبتم } عن الربا { فلكم
رءوس أموالكم } أي: أنزلوا عليها { لا تظلمون } من عاملتموه بأخذ الزيادة
التي هي الربا { ولا تظلمون } بنقص رءوس أموالكم.

{ وإن كان }
المدين { ذو عسرة } لا يجد وفاء { فنظرة إلى ميسرة } وهذا واجب عليه أن
ينظره حتى يجد ما يوفي به { وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } إما
بإسقاطها أو بعضها.

{ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل
نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } وهذه الآية من آخر ما نزل من القرآن، وجعلت
خاتمة لهذه الأحكام والأوامر والنواهي، لأن فيها الوعد على الخير، والوعيد
على فعل الشر، وأن من علم أنه راجع إلى الله فمجازيه على الصغير والكبير
والجلي والخفي، وأن الله لا يظلمه مثقال ذرة، أوجب له الرغبة والرهبة،
وبدون حلول العلم في ذلك في القلب لا سبيل إلى ذلك.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 8:13 pm

{ 282 } { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا
يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ
وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا
يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا
أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ
فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ
إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا
تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ
ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى
أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا
بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا
إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ
تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ
اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

هذه آية الدين، وهي
أطول آيات القرآن، وقد اشتملت على أحكام عظيمة جليلة المنفعة والمقدار،
أحدها: أنه تجوز جميع أنواع المداينات من سلم وغيره، لأن الله أخبر عن
المداينة التي عليها المؤمنون إخبار مقرر لها ذاكرا أحكامها، وذلك يدل على
الجواز، الثاني والثالث أنه لا بد للسلم من أجل وأنه لا بد أن يكون معينا
معلوما فلا يصح حالا ولا إلى أجل مجهول، الرابع: الأمر بكتابة جميع عقود
المداينات إما وجوبا وإما استحبابا لشدة الحاجة إلى كتابتها، لأنها بدون
الكتابة يدخلها من الغلط والنسيان والمنازعة والمشاجرة شر عظيم، الخامس:
أمر الكاتب أن يكتب، السادس: أن يكون عدلا في نفسه لأجل اعتبار كتابته، لأن
الفاسق لا يعتبر قوله ولا كتابته، السابع أنه يجب عليه العدل بينهما، فلا
يميل لأحدهما لقرابة أو صداقة أو غير ذلك، الثامن: أن يكون الكاتب عارفا
بكتابة الوثائق وما يلزم فيها كل واحد منهما، وما يحصل به التوثق، لأنه لا
سبيل إلى العدل إلا بذلك، وهذا مأخوذ من قوله: { وليكتب بينكم كاتب بالعدل }
التاسع: أنه إذا وجدت وثيقة بخط المعروف بالعدالة المذكورة يعمل بها، ولو
كان هو والشهود قد ماتوا، العاشر: قوله: { ولا يأب كاتب أن يكتب } أي: لا
يمتنع من منَّ الله عليه بتعليمه الكتابة أن يكتب بين المتداينين، فكما
أحسن الله إليه بتعليمه، فليحسن إلى عباد الله المحتاجين إلى كتابته، ولا
يمتنع من الكتابة لهم، الحادي عشر: أمر الكاتب أن لا يكتب إلا ما أملاه من
عليه الحق، الثاني عشر: أن الذي يملي من المتعاقدين من عليه الدين، الثالث
عشر: أمره أن يبين جميع الحق الذي عليه ولا يبخس منه شيئا، الرابع عشر: أن
إقرار الإنسان على نفسه مقبول، لأن الله أمر من عليه الحق أن يمل على
الكاتب، فإذا كتب إقراره بذلك ثبت موجبه ومضمونه، وهو ما أقر به على نفسه،
ولو ادعى بعد ذلك غلطا أو سهوا، الخامس عشر: أن من عليه حقا من الحقوق التي
البينة على مقدارها وصفتها من كثرة وقلة وتعجيل وتأجيل، أن قوله هو
المقبول دون قول من له الحق، لأنه تعالى لم ينهه عن بخس الحق الذي عليه،
إلا أن قوله مقبول على ما يقوله من مقدار الحق وصفته، السادس عشر: أنه يحرم
على من عليه حق من الحقوق أن يبخس وينقص شيئا من مقداره، أو طيبه وحسنه،
أو أجله أو غير ذلك من توابعه ولواحقه، السابع عشر: أن من لا يقدر على
إملاء الحق لصغره أو سفهه أو خرسه، أو نحو ذلك، فإنه ينوب وليه منابه في
الإملاء والإقرار، الثامن عشر: أنه يلزم الولي من العدل ما يلزم من عليه
الحق من العدل، وعدم البخس لقوله { بالعدل } التاسع عشر: أنه يشترط عدالة
الولي، لأن الإملاء بالعدل المذكور لا يكون من فاسق، العشرون: ثبوت الولاية
في الأموال، الحادي والعشرون: أن الحق يكون على الصغير والسفيه والمجنون
والضعيف، لا على وليهم، الثاني والعشرون: أن إقرار الصغير والسفيه والمجنون
والمعتوه ونحوهم وتصرفهم غير صحيح، لأن الله جعل الإملاء لوليهم، ولم يجعل
لهم منه شيئا لطفا بهم ورحمة، خوفا من تلاف أموالهم، الثالث والعشرون: صحة
تصرف الولي في مال من ذكر، الرابع والعشرون: فيه مشروعية كون الإنسان
يتعلم الأمور التي يتوثق بها المتداينون كل واحد من صاحبه، لأن المقصود من
ذلك التوثق والعدل، وما لا يتم المشروع إلا به فهو مشروع، الخامس والعشرون:
أن تعلم الكتابة مشروع، بل هو فرض كفاية، لأن الله أمر بكتابة الديون
وغيرها، ولا يحصل ذلك إلا بالتعلم، السادس والعشرون: أنه مأمور بالإشهاد
على العقود، وذلك على وجه الندب، لأن المقصود من ذلك الإرشاد إلى ما يحفظ
الحقوق، فهو عائد لمصلحة المكلفين، نعم إن كان المتصرف ولي يتيم أو وقف
ونحو ذلك مما يجب حفظه تعين أن يكون الإشهاد الذي به يحفظ الحق واجبا،
السابع والعشرون: أن نصاب الشهادة في الأموال ونحوها رجلان أو رجل
وامرأتان، ودلت السنة أيضا أنه يقبل الشاهد مع يمين المدعي، الثامن
والعشرون: أن شهادة الصبيان غير مقبولة لمفهوم لفظ الرجل، التاسع والعشرون:
أن شهادة النساء منفردات في الأموال ونحوها لا تقبل، لأن الله لم يقبلهن
إلا مع الرجل، وقد يقال إن الله أقام المرأتين مقام رجل للحكمة التي ذكرها
وهي موجودة سواء كن مع رجل أو منفردات والله أعلم. الثلاثون: أن شهادة
العبد البالغ مقبولة كشهادة الحر لعموم قوله: { فاستشهدوا شهيدين من رجالكم
} والعبد البالغ من رجالنا، الحادي والثلاثون: أن شهادة الكفار ذكورا
كانوا أو نساء غير مقبولة، لأنهم ليسوا منا، ولأن مبنى الشهادة على العدالة
وهو غير عدل، الثاني والثلاثون: فيه فضيلة الرجل على المرأة، وأن الواحد
في مقابلة المرأتين لقوة حفظه ونقص حفظها، الثالث والثلاثون: أن من نسي
شهادته ثم ذكرها فذكر فشهادته مقبولة لقوله: { فتذكر إحداهما الأخرى }
الرابع والثلاثون: يؤخذ من المعنى أن الشاهد إذا خاف نسيان شهادته في
الحقوق الواجبة وجب عليه كتابتها، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب،
والخامس والثلاثون: أنه يجب على الشاهد إذا دعي للشهادة وهو غير معذور، لا
يجوز له أن يأبى لقوله: { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } السادس والثلاثون:
أن من لم يتصف بصفة الشهداء المقبولة شهادتهم، لم يجب عليه الإجابة لعدم
الفائدة بها ولأنه ليس من الشهداء، السابع والثلاثون: النهي عن السآمة
والضجر من كتابة الديون كلها من صغير وكبير وصفة الأجل وجميع ما احتوى عليه
العقد من الشروط والقيود، الثامن والثلاثون: بيان الحكمة في مشروعية
الكتابة والإشهاد في العقود، وأنه { أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا
ترتابوا } فإنها متضمنة للعدل الذي به قوام العباد والبلاد، والشهادة
المقترنة بالكتابة تكون أقوم وأكمل وأبعد من الشك والريب والتنازع
والتشاجر، التاسع والثلاثون: يؤخذ من ذلك أن من اشتبه وشك في شهادته لم يجز
له الإقدام عليها بل لا بد من اليقين، الأربعون: قوله: { إلا أن تكون
تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } فيه الرخصة في
ترك الكتابة إذا كانت التجارة حاضرا بحاضر، لعدم شدة الحاجة إلى الكتابة،
الحادي والأربعون: أنه وإن رخص في ترك الكتابة في التجارة الحاضرة، فإنه
يشرع الإشهاد لقوله: { وأشهدوا إذا تبايعتم } الثاني والأربعون: النهي عن
مضارة الكاتب بأن يدعى وقت اشتغال وحصول مشقة عليه، الثالث والأربعون:
النهي عن مضارة الشهيد أيضا بأن يدعى إلى تحمل الشهادة أو أدائها في مرض أو
شغل يشق عليه، أو غير ذلك هذا على جعل قوله: { ولا يضار كاتب ولا شهيد }
مبنيا للمجهول، وأما على جعلها مبنيا للفاعل ففيه نهي الشاهد والكاتب أن
يضارا صاحب الحق بالامتناع أو طلب أجرة شاقة ونحو ذلك، وهذان هما الرابع
والأربعون والخامس والأربعون والسادس والأربعون أن ارتكاب هذه المحرمات من
خصال الفسق لقوله: { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } السابع والأربعون أن
الأوصاف كالفسق والإيمان والنفاق والعداوة والولاية ونحو ذلك تتجزأ في
الإنسان، فتكون فيه مادة فسق وغيرها، وكذلك مادة إيمان وكفر لقوله: { فإنه
فسوق بكم } ولم يقل فأنتم فاسقون أو فُسّاق. الثامن والأربعون: - وحقه أن
يتقدم على ما هنا لتقدم موضعه- اشتراط العدالة في الشاهد لقوله: { ممن
ترضون من الشهداء } التاسع والأربعون: أن العدالة يشترط فيها العرف في كل
مكان وزمان، فكل من كان مرضيا معتبرا عند الناس قبلت شهادته، الخمسون: يؤخذ
منها عدم قبول شهادة المجهول حتى يزكى، فهذه الأحكام مما يستنبط من هذه
الآية الكريمة على حسب الحال الحاضرة والفهم القاصر، ولله في كلامه حكم
وأسرار يخص بها من يشاء من عباده.

وقوله تعالى:

{ 283 } {
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ
مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي
اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا
الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }

أي: إن كنتم مسافرين { ولم تجدوا كاتبا }
يكتب بينكم ويحصل به التوثق { فرهان مقبوضة } أي: يقبضها صاحب الحق وتكون
وثيقة عنده حتى يأتيه حقه، ودل هذا على أن الرهن غير المقبوضة لا يحصل منها
التوثق، ودل أيضا على أن الراهن والمرتهن لو اختلفا في قدر ما رهنت به،
كان القول قول المرتهن، ووجه ذلك أن الله جعل الرهن عوضا عن الكتابة في
توثق صاحب الحق، فلولا أن قول المرتهن مقبول في قدر الذي رهنت به لم يحصل
المعنى المقصود، ولما كان المقصود بالرهن التوثق جاز حضرا وسفرا، وإنما نص
الله على السفر، لأنه في مظنة الحاجة إليه لعدم الكاتب فيه، هذا كله إذا
كان صاحب الحق يحب أن يتوثق لحقه، فما كان صاحب الحق آمنا من غريمه وأحب أن
يعامله من دون رهن فعلى من عليه الحق أن يؤدي إليه كاملا غير ظالم له ولا
باخس حقه { وليتق الله ربه } في أداء الحق ويجازي من أحسن به الظن بالإحسان
{ ولا تكتموا الشهادة } لأن الحق مبني عليها لا يثبت بدونها، فكتمها من
أعظم الذنوب، لأنه يترك ما وجب عليه من الخبر الصدق ويخبر بضده وهو الكذب،
ويترتب على ذلك فوات حق من له الحق، ولهذا قال تعالى: { ومن يكتمها فإنه
آثم قلبه والله بما تعملون عليم } وقد اشتملت هذه الأحكام الحسنة التي أرشد
الله عباده إليها على حكم عظيمة ومصالح عميمة دلت على أن الخلق لو اهتدوا
بإرشاد الله لصلحت دنياهم مع صلاح دينهم، لاشتمالها على العدل والمصلحة،
وحفظ الحقوق وقطع المشاجرات والمنازعات، وانتظام أمر المعاش، فلله الحمد
كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه لا نحصي ثناء عليه.

{ 284 } {
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا
فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ
لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ }

هذا إخبار من الله أنه له ما في السماوات وما في الأرض،
الجميع خلقهم ورزقهم ودبرهم لمصالحهم الدينية والدنيوية، فكانوا ملكا له
وعبيدا، لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وهو
ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه، وقد أمرهم ونهاهم
وسيحاسبهم على ما أسروه وأعلنوه، { فيغفر لمن يشاء } وهو لمن أتى بأسباب
المغفرة، ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره { والله على كل شيء
قدير } لا يعجزه شيء، بل كل الخلق طوع قهره ومشيئته وتقديره وجزائه.

{
285 } { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }

يخبر
تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه، وانقيادهم وطاعتهم وسؤالهم مع ذلك
المغفرة، فأخبر أنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهذا يتضمن الإيمان
بجميع ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله من صفات كماله ونعوت
جلاله على وجه الإجمال والتفصيل، وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع
صفات النقص، ويتضمن الإيمان بالملائكة الذين نصت عليهم الشرائع جملة
وتفصيلا، وعلى الإيمان بجميع الرسل والكتب، أي: بكل ما أخبرت به الرسل
وتضمنته الكتب من الأخبار والأوامر والنواهي، وأنهم لا يفرقون بين أحد من
رسله، بل يؤمنون بجميعهم، لأنهم وسائط بين الله وبين عباده، فالكفر ببعضهم
كفر بجميعهم بل كفر بالله { وقالوا سمعنا } ما أمرتنا به ونهيتنا { وأطعنا }
لك في ذلك، ولم يكونوا ممن قالوا سمعنا وعصينا، ولما كان العبد لا بد أن
يحصل منه تقصير في حقوق الله تعالى وهو محتاج إلى مغفرته على الدوام، قالوا
{ غفرانك } أي: نسألك مغفرة لما صدر منا من التقصير والذنوب، ومحو ما
اتصفنا به من العيوب { وإليك المصير } أي: المرجع لجميع الخلائق فتجزيهم
بما عملوا من خير وشر.

{ 286 } { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا
لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ
عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا
رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا
وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }

لما نزل قوله تعالى { وإن تبدوا ما في
أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما
يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به،
فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها أي: أمرا تسعه طاقتها، ولا
يكلفها ويشق عليها، كما قال تعالى { ما جعل عليكم في الدين من حرج } فأصل
الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح
ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة
وإحسانا، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف
والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض
والمسافر وغيرهم، ثم أخبر تعالى أن لكل نفس ما كسبت من الخير، وعليها ما
اكتسبت من الشر، فلا تزر وازرة وزر أخرى ولا تذهب حسنات العبد لغيره، وفي
الإتيان بـ " كسب " في الخير الدال على أن عمل الخير يحصل للإنسان بأدنى
سعي منه بل بمجرد نية القلب وأتى بـ " اكتسب " في عمل الشر للدلالة على أن
عمل الشر لا يكتب على الإنسان حتى يعمله ويحصل سعيه، ولما أخبر تعالى عن
إيمان الرسول والمؤمنين معه وأن كل عامل سيجازى بعمله، وكان الإنسان عرضة
للتقصير والخطأ والنسيان، وأخبر أنه لا يكلفنا إلا ما نطيق وتسعه قوتنا،
أخبر عن دعاء المؤمنين بذلك، وقد أخبر النبي تفسير القران الكريم كاملا 0099999 أن الله قال: قد فعلت. إجابة لهذا الدعاء،
فقال { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } والفرق بينهما: أن النسيان:
ذهول القلب عن ما أمر به فيتركه نسيانا، والخطأ: أن يقصد شيئا يجوز له قصده
ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله: فهذان قد عفا الله عن هذه الأمة ما
يقع بهما رحمة بهم وإحسانا، فعلى هذا من صلى في ثوب مغصوب، أو نجس، أو قد
نسي نجاسة على بدنه، أو تكلم في الصلاة ناسيا، أو فعل مفطرا ناسيا، أو فعل
محظورا من محظورات الإحرام التي ليس فيها إتلاف ناسيا، فإنه معفو عنه،
وكذلك لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا، وكذلك لو أخطأ فأتلف نفسا أو
مالا فليس عليه إثم، وإنما الضمان مرتب على مجرد الإتلاف، وكذلك المواضع
التي تجب فيها التسمية إذا تركها الإنسان ناسيا لم يضر. { ربنا ولا تحمل
علينا إصرا } أي: تكاليف مشقة { كما حملته على الذين من قبلنا } وقد فعل
تعالى فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات
ما لم يخففه على غيرها { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } وقد فعل وله
الحمد { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا } فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع
المكاره والشرور، والرحمة يحصل بها صلاح الأمور { أنت مولانا } أي: ربنا
ومليكنا وإلهنا الذي لم تزل ولايتك إيانا منذ أوجدتنا وأنشأتنا فنعمك دارة
علينا متصلة عدد الأوقات، ثم أنعمت علينا بالنعمة العظيمة والمنحة الجسيمة،
وهي نعمة الإسلام التي جميع النعم تبع لها، فنسألك يا ربنا ومولانا تمام
نعمتك بأن تنصرنا على القوم الكافرين، الذين كفروا بك وبرسلك، وقاوموا أهل
دينك ونبذوا أمرك، فانصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان، بأن تمكن
لنا في الأرض وتخذلهم وترزقنا الإيمان والأعمال التي يحصل بها النصر،
والحمد لله رب العالمين. تم تفسير سورة البقرة بعون الله وتوفيقه وصلى الله
على محمد وسلم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 8:17 pm

تفسير سورة آل عمران

وهي
مدنية

نزل صدرها إلى بضع وثمانين آية في مخاصمة النصارى وإبطال
مذهبهم ودعوتهم إلى الدخول في الدين الحق دين الإسلام كما نزل صدر البقرة
في محاجة اليهود كما تقدم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{
1 - 6 } { الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ *
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لَا
يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ
الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

افتتحها تبارك وتعالى بالإخبار
بألوهيته، وأنه الإله الذي لا إله إلا هو الذي لا ينبغي التأله والتعبد إلا
لوجهه، فكل معبود سواه فهو باطل، والله هو الإله الحق المتصف بصفات
الألوهية التي مرجعها إلى الحياة والقيومية، فالحي من له الحياة العظيمة
الكاملة المستلزمة لجميع الصفات التي لا تتم ولا تكمل الحياة إلا بها
كالسمع والبصر والقدرة والقوة والعظمة والبقاء والدوام والعز الذي لا يرام {
القيوم } الذي قام بنفسه فاستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام بغيره فافتقرت
إليه جميع مخلوقاته في الإيجاد والإعداد والإمداد، فهو الذي قام بتدبير
الخلائق وتصريفهم، تدبير للأجسام وللقلوب والأرواح.

ومن قيامه تعالى
بعباده ورحمته بهم أن نزل على رسوله محمد تفسير القران الكريم كاملا 0099999 الكتاب، الذي هو أجل الكتب وأعظمها المشتمل
على الحق في إخباره وأوامره ونواهيه، فما أخبر به صدق، وما حكم به فهو
العدل، وأنزله بالحق ليقوم الخلق بعبادة ربهم ويتعلموا كتابه { مصدقا لما
بين يديه } من الكتب السابقة، فهو المزكي لها، فما شهد له فهو المقبول، وما
رده فهو المردود، وهو المطابق لها في جميع المطالب التي اتفق عليها
المرسلون، وهي شاهدة له بالصدق، فأهل الكتاب لا يمكنهم التصديق بكتبهم إن
لم يؤمنوا به، فإن كفرهم به ينقض إيمانهم بكتبهم، ثم قال تعالى { وأنزل
التوراة } أي: على موسى { والإنجيل } على عيسى.

{ من قبل } إنزال
القرآن { هدى للناس } الظاهر أن هذا راجع لكل ما تقدم، أي: أنزل الله
القرآن والتوراة والإنجيل هدى للناس من الضلال، فمن قبل هدى الله فهو
المهتدي، ومن لم يقبل ذلك بقي على ضلاله { وأنزل الفرقان } أي: الحجج
والبينات والبراهين القاطعات الدالة على جميع المقاصد والمطالب، وكذلك فصل
وفسر ما يحتاج إليه الخلق حتى بقيت الأحكام جلية ظاهرة، فلم يبق لأحد عذر
ولا حجة لمن لم يؤمن به وبآياته، فلهذا قال { إن الذين كفروا بآيات الله }
أي: بعد ما بينها ووضحها وأزاح العلل { لهم عذاب شديد } لا يقدر قدره ولا
يدرك وصفه { والله عزيز } أي: قوي لا يعجزه شيء { ذو انتقام } ممن عصاه.

{
إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } وهذا فيه تقرير إحاطة
علمه بالمعلومات كلها، جليها وخفيها، ظاهرها وباطنها، ومن جملة ذلك الأجنة
في البطون التي لا يدركها بصر المخلوقين، ولا ينالها علمهم، وهو تعالى
يدبرها بألطف تدبير، ويقدرها بكل تقدير، فلهذا قال { هو الذي يصوركم في
الأرحام كيف يشاء }

{ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } من كامل
الخلق وناقصه، وحسن وقبيح، وذكر وأنثى { لا إله إلا هو العزيز الحكيم }
تضمنت هذه الآيات تقرير إلهية الله وتعينها، وإبطال إلهية ما سواه، وفي ضمن
ذلك رد على النصارى الذين يزعمون إلهية عيسى ابن مريم عليه السلام، وتضمنت
إثبات حياته الكاملة وقيوميته التامة، المتضمنتين جميع الصفات المقدسة كما
تقدم، وإثبات الشرائع الكبار، وأنها رحمة وهداية للناس، وتقسيم الناس إلى
مهتد وغيره، وعقوبة من لم يهتد بها، وتقرير سعة علم الباري ونفوذ مشيئته
وحكمته.

{ 7 - 9 } { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ
مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو
الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ *
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }

القرآن العظيم كله محكم كما قال
تعالى { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } فهو مشتمل على غاية
الإتقان والإحكام والعدل والإحسان { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون }
وكله متشابه في الحسن والبلاغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى،
وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله {
منه آيات محكمات } أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال { هن أم
الكتاب } أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، { و } منه
آيات { أخر متشابهات } أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها
مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات
بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض
الناس، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه
الطريق يصدق بعضه بعضا ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة، ولكن الناس
انقسموا إلى فرقتين { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي: ميل عن الاستقامة بأن
فسدت مقاصدهم، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى
والرشاد { فيتبعون ما تشابه منه } أي: يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى
المتشابه، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على المتشابه { ابتغاء الفتنة }
لمن يدعونهم لقولهم، فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع
فيه، وإلا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة، لوضوح الحق فيه لمن قصده
اتباعه، وقوله { وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله } للمفسرين في
الوقوف على { الله } من قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } قولان، جمهورهم
يقفون عندها، وبعضهم يعطف عليها { والراسخون في العلم } وذلك كله محتمل،
فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه كان الصواب الوقوف على { إلا
الله } لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته، نحو حقائق صفات
الله وكيفيتها، وحقائق أوصاف ما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك، فهذه لا
يعلمها إلا الله، ولا يجوز التعرض للوقوف عليها، لأنه تعرض لما لا يمكن
معرفته، كما سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله { الرحمن على العرش [استوى ]
} فقال السائل: كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول،
والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن
كيفيتها أن يقال كما قال الإمام مالك، تلك الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة،
والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، وقد أخبرنا الله بها ولم يخبرنا
بكيفيتها، فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور
المشتبهات تعرضا لما لا يعني، وتكلفا لما لا سبيل لهم إلى علمه، لأنه لا
يعلمها إلا الله، وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى
الله فيسلمون ويسلمون، وإن أريد بالتأويل التفسير والكشف والإيضاح، كان
الصواب عطف { الراسخون } على { الله } فيكون الله قد أخبر أن تفسير
المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها إلا هو تعالى
والراسخون في العلم يعلمون أيضا، فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون { كل
} من المحكم والمتشابه { من عند ربنا } وما كان من عنده فليس فيه تعارض
ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض وفيه تنبيه على الأصل
الكبير، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله، وأشكل عليهم مجمل
المتشابه، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم، وإن لم يفهموا وجه ذلك. ولما
رغب تعالى في التسليم والإيمان بأحكامه وزجر عن اتباع المتشابه قال { وما
يذكر } أي: يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا { أولوا الألباب } أي:
أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم،
فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه، وأما من عداهم فهم
القشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم
من العقول النافعة.

ثم أخبر تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يدعون
ويقولون { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } أي: لا تملها عن الحق جهلا
وعنادا منا، بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين، فثبتنا على هدايتك وعافنا
مما ابتليت به الزائغين { وهب لنا من لدنك رحمة } أي: عظيمة توفقنا بها
للخيرات وتعصمنا بها من المنكرات { إنك أنت الوهاب } أي: واسع العطايا
والهبات، كثير الإحسان الذي عم جودك جميع البريات.

{ ربنا إنك جامع
الناس ليوم لا ريب فيه إنك لا تخلف الميعاد } فمجازيهم بأعمالهم حسنها
وسيئها، وقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بسبع صفات هي عنوان
سعادة العبد: إحداها: العلم الذي هو الطريق الموصل إلى الله، المبين
لأحكامه وشرائعه، الثانية: الرسوخ في العلم وهذا قدر زائد على مجرد العلم،
فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالما محققا، وعارفا مدققا، قد علمه
الله ظاهر العلم وباطنه، فرسخ قدمه في أسرار الشريعة علما وحالا وعملا،
الثالثة: أنه وصفهم بالإيمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه، بقوله {
يقولون آمنا به كل من عند ربنا } الرابعة: أنهم سألوا الله العفو والعافية
مما ابتلي به الزائغون المنحرفون، الخامسة: اعترافهم بمنة الله عليهم
بالهداية وذلك قوله { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } السادسة: أنهم مع
هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر، وتوسلوا إليه باسمه
الوهاب، السابعة: أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه،
وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل، ثم قال تعالى:

{ 10 - 13 } {
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا
أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ *
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ
الْعِقَابِ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى
جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ
الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ
بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي
الْأَبْصَارِ }

يخبر تعالى أن الكفار به وبرسله، الجاحدين بدينه
وكتابه، قد استحقوا العقاب وشدة العذاب بكفرهم وذنوبهم وأنه لا يغني عنهم
مالهم ولا أولادهم شيئا، وإن كانوا في الدنيا يستدفعون بذلك النكبات التي
ترد عليهم، ويقولون { نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين } فيوم
القيامة يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون { وبدا لهم سيئات ما كسبوا
وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن } وليس للأولاد والأموال قدر عند الله، إنما
ينفع العبد إيمانه بالله وأعماله الصالحة، كما قال تعالى { وما أموالكم ولا
أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء
الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون } وأخبر هنا أن الكفار هم وقود
النار، أي: حطبها، الملازمون لها دائما أبدا، وهذه الحال التي ذكر الله
تعالى أنها لا تغني الأموال والأولاد عن الكفار شيئا، سنته الجارية في
الأمم السابقة.‏

كما جرى لفرعون ومن قبله ومن بعدهم من الفراعنة
العتاة الطغاة أرباب الأموال والجنود لما كذبوا بآيات الله وجحدوا ما جاءت
به الرسل وعاندوا، أخذهم الله بذنوبهم عدلا منه لا ظلما والله شديد العقاب
على من أتى بأسباب العقاب وهو الكفر والذنوب على اختلاف أنواعها وتعدد
مراتبها

ثم قال تعالى { قل } يا محمد { للذين كفروا ستغلبون وتحشرون
إلى جهنم وبئس المهاد } وفي هذا إشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة وتحذير
للكفار، وقد وقع كما أخبر تعالى، فنصر الله المؤمنين على أعدائهم من كفار
المشركين واليهود والنصارى، وسيفعل هذا تعالى بعباده وجنده المؤمنين إلى
يوم القيامة، ففي هذا عبرة وآية من آيات القرآن المشاهدة بالحس والعيان،
وأخبر تعالى أن الكفار مع أنهم مغلوبون في الدار أنهم محشورون ومجموعون يوم
القيامة لدار البوار، وهذا هو الذي مهدوه لأنفسهم فبئس المهاد مهادهم،
وبئس الجزاء جزاؤهم.

{ قد كان لكم آية } أي: عبرة عظيمة { في فئتين
التقتا } وهذا يوم بدر { فئة تقاتل في سبيل الله } وهم الرسول تفسير القران الكريم كاملا 0099999 وأصحابه { وأخرى كافرة } أي: كفار قريش
الذين خرجوا من ديارهم بطرا وفخرا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، فجمع
الله بين الطائفتين في بدر، وكان المشركون أضعاف المؤمنين، فلهذا قال {
يرونهم مثليهم رأي العين } أي: يرى المؤمنون الكافرين يزيدون عليها زيادة
كثيرة، تبلغ المضاعفة وتزيد عليها، وأكد هذا بقوله { رأي العين } فنصر الله
المؤمنين وأيدهم بنصره فهزموهم، وقتلوا صناديدهم، وأسروا كثيرا منهم، وما
ذاك إلا لأن الله ناصر من نصره، وخاذل من كفر به، ففي هذا عبرة لأولي
الأبصار، أي: أصحاب البصائر النافذة والعقول الكاملة، على أن الطائفة
المنصورة معها الحق، والأخرى مبطلة، وإلا فلو نظر الناظر إلى مجرد الأسباب
الظاهرة والعدد والعدد لجزم بأن غلبة هذه الفئة القليلة لتلك الفئة الكثيرة
من أنواع المحالات، ولكن وراء هذا السبب المشاهد بالأبصار سبب أعظم منه لا
يدركه إلا أهل البصائر والإيمان بالله والتوكل على الله والثقة بكفايته،
وهو نصره وإعزازه لعباده المؤمنين على أعدائه الكافرين.

{ 14 - 17 }
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ
بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ
مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ
وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ }

يخبر
تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية، وخص هذه الأمور المذكورة لأنها
أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها، قال تعالى { إنا جعلنا ما على الأرض
زينة لها } فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات،
تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين:
قسم: جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة
لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون
بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي: وجه حصلوها، ولا فيما
أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زادا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب،
والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده،
ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم وطريقا
يتزودن منها لآخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على
مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال الله
فيها { ذلك متاع الحياة الدنيا } فجعلوها معبرا إلى الدار الآخرة ومتجرا
يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زادا إلى ربهم. وفي هذه الآية
تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها
الأغنياء، وتحذير للمغترين بها وتزهيد لأهل العقول النيرة بها، وتمام ذلك
أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين الأبرار، وأخبر أنها
خير من ذلكم المذكور، ألا وهي الجنات العاليات ذات المنازل الأنيقة والغرف
العالية، والأشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار، والأنهار الجارية على
حسب مرادهم والأزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر وباطن، مع الخلود
الدائم الذي به تمام النعيم، مع الرضوان من الله الذي هو أكبر نعيم، فقس
هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة، ثم اختر لنفسك أحسنهما واعرض على
قلبك المفاضلة بينهما { والله بصير بالعباد } أي: عالم بما فيهم من الأوصاف
الحسنة والأوصاف القبيحة، وما هو اللائق بأحوالهم، يوفق من شاء منهم ويخذل
من شاء. فالجنة التي ذكر الله وصفها ونعتها بأكمل نعت وصف أيضا المستحقين
لها وهم الذين اتقوه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وكان من دعائهم أن
قالوا:

(16 - 17) { ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب
النار } توسلوا بمنة الله عليهم بتوفيقهم للإيمان أن يغفر لهم ذنوبهم
ويقيهم شر آثارها وهو عذاب النار، ثم فصل أوصاف التقوى.

فقال {
الصابرين } أنفسهم على ما يحبه الله من طاعته، وعن معصيته، وعلى أقداره
المؤلمة، { والصادقين } في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم { والمنفقين } مما
رزقهم الله بأنواع النفقات على المحاويج من الأقارب وغيرهم { والمستغفرين
بالأسحار } لما بين صفاتهم الحميدة ذكر احتقارهم لأنفسهم وأنهم لا يرون
لأنفسهم، حالا ولا مقاما، بل يرون أنفسهم مذنبين مقصرين فيستغفرون ربهم،
ويتوقعون أوقات الإجابة وهي السحر، قال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر، ثم
جلسوا يستغفرون ربهم. فتضمنت هذه الآيات حالة الناس في الدنيا وأنها متاع
ينقضي، ثم وصف الجنة وما فيها من النعيم وفاضل بينهما، وفضل الآخرة على
الدنيا تنبيها على أنه يجب إيثارها والعمل لها، ووصف أهل الجنة وهم
المتقون، ثم فصل خصال التقوى، فبهذه الخصال يزن العبد نفسه، هل هو من أهل
الجنة أم لا؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 8:19 pm

{ 18 - 20 } {
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو
الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ
بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ
سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ
وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ
أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }

هذا
تقرير من الله تعالى للتوحيد بأعظم الطرق الموجبة له، وهي شهادته تعالى
وشهادة خواص الخلق وهم الملائكة وأهل العلم، أما شهادته تعالى فيما أقامه
من الحجج والبراهين القاطعة على توحيده، وأنه لا إله إلا هو، فنوع الأدلة
في الآفاق والأنفس على هذا الأصل العظيم، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه ما قام
أحد بتوحيده إلا ونصره على المشرك الجاحد المنكر للتوحيد، وكذلك إنعامه
العظيم الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، والخلق
كلهم عاجزون عن المنافع والمضار لأنفسهم ولغيرهم، ففي هذا برهان قاطع على
وجوب التوحيد وبطلان الشرك، وأما شهادة الملائكة بذلك فنستفيدها بإخبار
الله لنا بذلك وإخبار رسله، وأما شهادة أهل العلم فلأنهم هم المرجع في جميع
الأمور الدينية خصوصا في أعظم الأمور وأجلها وأشرفها وهو التوحيد، فكلهم
من أولهم إلى آخرهم قد اتفقوا على ذلك ودعوا إليه وبينوا للناس الطرق
الموصلة إليه، فوجب على الخلق التزام هذا الأمر المشهود عليه والعمل به،
وفي هذا دليل على أن أشرف الأمور علم التوحيد لأن الله شهد به بنفسه وأشهد
عليه خواص خلقه، والشهادة لا تكون إلا عن علم ويقين، بمنزلة المشاهدة
للبصر، ففيه دليل على أن من لم يصل في علم التوحيد إلى هذه الحالة فليس من
أولي العلم. وفي هذه الآية دليل على شرف العلم من وجوه كثيرة، منها: أن
الله خصهم بالشهادة على أعظم مشهود عليه دون الناس، ومنها: أن الله قرن
شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وكفى بذلك فضلا، ومنها: أنه جعلهم أولي
العلم، فأضافهم إلى العلم، إذ هم القائمون به المتصفون بصفته، ومنها: أنه
تعالى جعلهم شهداء وحجة على الناس، وألزم الناس العمل بالأمر المشهود به،
فيكونون هم السبب في ذلك، فيكون كل من عمل بذلك نالهم من أجره، وذلك فضل
الله يؤتيه من يشاء، ومنها: أن إشهاده تعالى أهل العلم يتضمن ذلك تزكيتهم
وتعديلهم وأنهم أمناء على ما استرعاهم عليه، ولما قرر توحيده قرر عدله،
فقال: { قائمًا بالقسط } أي: لم يزل متصفا بالقسط في أفعاله وتدبيره بين
عباده، فهو على صراط مستقيم في ما أمر به ونهى عنه، وفيما خلقه وقدره، ثم
أعاد تقرير توحيده فقال { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } واعلم أن هذا
الأصل الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبودية قد دلت عليه الأدلة النقلية
والأدلة العقلية، حتى صار لذوي البصائر أجلى من الشمس، فأما الأدلة النقلية
فكل ما في كتاب الله وسنة رسوله، من الأمر به وتقريره، ومحبة أهله وبغض من
لم يقم به وعقوباتهم، وذم الشرك وأهله، فهو من الأدلة النقلية على ذلك،
حتى كاد القرآن أن يكون كله أدلة عليه، وأما الأدلة العقلية التي تدرك
بمجرد فكر العقل وتصوره للأمور فقد أرشد القرآن إليها ونبه على كثير منها،
فمن أعظمها: الاعتراف بربوبية الله، فإن من عرف أنه هو الخالق الرازق
المدبر لجميع الأمور أنتج له ذلك أنه هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا
له، ولما كان هذا من أوضح الأشياء وأعظمها أكثر الله تعالى من الاستدلال
به في كتابه. ومن الأدلة العقلية على أن الله هو الذي يؤله دون غيره
انفراده بالنعم ودفع النقم، فإن من عرف أن النعم الظاهرة والباطنة القليلة
والكثيرة كلها من الله، وأنه ما من نقمة ولا شدة ولا كربة إلا وهو الذي
ينفرد بدفعها وإن أحدا من الخلق لا يملك لنفسه - فضلا عن غيره- جلب نعمة
ولا دفع نقمة، تيقن أن عبودية ما سوى الله من أبطل الباطل وأن العبودية لا
تنبغي إلا لمن انفرد بجلب المصالح ودفع المضار، فلهذا أكثر الله في كتابه
من التنبيه على هذا الدليل جدا، ومن الأدلة العقلية أيضا على ذلك: ما أخبر
به تعالى عن المعبودات التي عبدت من دونه، بأنها لا تملك نفعا ولا ضرا، ولا
تنصر غيرها ولا تنصر نفسها، وسلبها الأسماع والأبصار، وأنها على فرض
سماعها لا تغني شيئا، وغير ذلك من الصفات الدالة على نقصها غاية النقص، وما
أخبر به عن نفسه العظيمة من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة، والقدرة
والقهر، وغير ذلك من الصفات التي تعرف بالأدلة السمعية والعقلية، فمن عرف
ذلك حق المعرفة عرف أن العبادة لا تليق ولا تحسن إلا بالرب العظيم الذي له
الكمال كله، والمجد كله، والحمد كله، والقدرة كلها، والكبرياء كلها، لا
بالمخلوقات المدبرات الناقصات الصم البكم الذين لا يعقلون، ومن الأدلة
العقلية على ذلك ما شاهده العباد بأبصارهم من قديم الزمان وحديثه، من
الإكرام لأهل التوحيد، والإهانة والعقوبة لأهل الشرك، وما ذاك إلا لأن
التوحيد جعله الله موصلا إلى كل خير دافعا لكل شر ديني ودنيوي، وجعل الشرك
به والكفر سببا للعقوبات الدينية والدنيوية، ولهذا إذا ذكر تعالى قصص الرسل
مع أمم المطيعين والعاصين، وأخبر عن عقوبات العاصين ونجاة الرسل ومن
تبعهم، قال عقب كل قصة: { إن في ذلك لآية } أي: لعبرة يعتبر بها المعتبرون
فيعلمون أن توحيده هو الموجب للنجاة، وتركه هو الموجب للهلاك، فهذه من
الأدلة الكبار العقلية النقلية الدالة على هذا الأصل العظيم، وقد أكثر الله
منها في كتابه وصرفها ونوعها ليحيى من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة
فله الحمد والشكر والثناء.

ولما قرر أنه الإله الحق المعبود، بين
العبادة والدين الذي يتعين أن يعبد به ويدان له، وهو الإسلام الذي هو
الاستسلام لله بتوحيده وطاعته التي دعت إليها رسله، وحثت عليها كتبه، وهو
الذي لا يقبل من أحد دين سواه، وهو متضمن للإخلاص له في الحب والخوف
والرجاء والإنابة والدعاء ومتابعة رسوله في ذلك، وهذا هو دين الرسل كلهم،
وكل من تابعهم فهو على طريقهم، وإنما اختلف أهل الكتاب بعد ما جاءتهم كتبهم
تحثهم على الاجتماع على دين الله، بغيا بينهم، وظلما وعدوانا من أنفسهم،
وإلا فقد جاءهم السبب الأكبر الموجب أن يتبعوا الحق ويتركوا الاختلاف، وهذا
من كفرهم، فلهذا قال تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما
جاءهم العلم بغيًا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب }
فيجازي كل عامل بعمله، وخصوصا من ترك الحق بعد معرفته، فهذا مستحق للوعيد
الشديد والعقاب الأليم، ثم أمر تعالى رسوله تفسير القران الكريم كاملا 0099999 عند محاجة النصارى وغيرهم ممن يفضل غير دين
الإسلام

عليه أن يقول لهم: قد { أسلمت وجهي لله ومن اتبعن } أي:
أنا ومن اتبعني قد أقررنا وشهدنا وأسلمنا وجوهنا لربنا، وتركنا ما سوى دين
الإسلام، وجزمنا ببطلانه، ففي هذا تأييس لمن طمع فيكم، وتجديد لدينكم عند
ورود الشبهات، وحجة على من اشتبه عليه الأمر، لأنه قد تقدم أن الله استشهد
على توحيده بأهل العلم من عباده ليكونوا حجة على غيرهم، وسيد أهل العلم
وأفضلهم وأعلمهم هو نبينا محمد تفسير القران الكريم كاملا 0099999، ثم من بعده أتباعه على اختلاف مراتبهم
وتفاوت درجاتهم، فلهم من العلم الصحيح والعقل الرجيح ما ليس لأحد من الخلق
ما يساويهم أو يقاربهم، فإذا ثبت وتقرر توحيد الله ودينه بأدلته الظاهرة،
وقام به أكمل الخلق وأعلمهم، حصل بذلك اليقين وانتفى كل شك وريب وقادح،
وعرف أن ما سواه من الأديان باطلة، فلهذا قال { وقل للذين أوتوا الكتاب }
من النصارى واليهود { والأميين } مشركي العرب وغيرهم { أأسلمتم فإن أسلموا }
أي: بمثل ما أمنتم به { فقد اهتدوا } كما اهتديتم وصاروا إخوانكم، لهم ما
لكم، وعليهم ما عليكم { وإن تولوا } عن الإسلام ورضوا بالأديان التي تخالفه
{ فإنما عليك البلاغ } فقد وجب أجرك على ربك، وقامت عليهم الحجة، ولم يبق
بعد هذا إلا مجازاتهم بالعقاب على جرمهم، فلهذا قال { والله بصير بالعباد }


{
21 - 22 } { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ
بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ
الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا
لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }

هؤلاء الذين أخبر الله عنهم في هذه الآية،
أشد الناس جرما وأي: جرم أعظم من الكفر بآيات الله التي تدل دلالة قاطعة
على الحق الذي من كفر بها فهو في غاية الكفر والعناد ويقتلون أنبياء الله
الذين حقهم أوجب الحقوق على العباد بعد حق الله، الذين أوجب الله طاعتهم
والإيمان بهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، ونصرهم وهؤلاء قابلوهم بضد ذلك، ويقتلون
أيضا الذين يأمرون الناس بالقسط الذي هو العدل، وهو الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر الذي حقيقته إحسان إلى المأمور ونصح له، فقابلوهم شر مقابلة،
فاستحقوا بهذه الجنايات المنكرات أشد العقوبات، وهو العذاب المؤلم البالغ
في الشدة إلى غاية لا يمكن وصفها، ولا يقدر قدرها المؤلم للأبدان والقلوب
والأرواح.

وبطلت أعمالهم بما كسبت أيديهم، وما لهم أحد ينصرهم من
عذاب الله ولا يدفع عنهم من نقمته مثقال ذرة، بل قد أيسوا من كل خير، وحصل
لهم كل شر وضير، وهذه الحالة صفة اليهود ونحوهم، قبحهم الله ما أجرأهم على
الله وعلى أنبيائه وعباده الصالحين.

{ 23 - 25 } { أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى
كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ
وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ
إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }

يخبر
تعالى عن حال أهل الكتاب الذين أنعم الله عليهم بكتابه، فكان يجب أن
يكونوا أقوم الناس به وأسرعهم انقيادا لأحكامه، فأخبر الله عنهم أنهم إذا
دعوا إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم وهم يعرضون، تولوا بأبدانهم، وأعرضوا
بقلوبهم، وهذا غاية الذم، وفي ضمنها التحذير لنا أن نفعل كفعلهم، فيصيبنا
من الذم والعقاب ما أصابهم، بل الواجب على كل أحد إذا دعي إلى كتاب الله أن
يسمع ويطيع وينقاد، كما قال تعالى { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى
الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } والسبب الذي غر أهل
الكتاب بتجرئهم على معاصي الله هو قولهم { لن تمسنا النار إلا أياما
معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون }

افتروا هذا القول فظنوه
حقيقة فعملوا على ذلك ولم ينزجروا عن المحارم، لأن أنفسهم منتهم وغرتهم أن
مآلهم إلى الجنة، وكذبوا في ذلك، فإن هذا مجرد كذب وافتراء، وإنما مآلهم شر
مآل، وعاقبتهم عاقبة وخيمة، فلهذا قال تعالى { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا
ريب فيه }

أي: كيف يكون حالهم ووخيم ما يقدمون عليه، حالة لا يمكن
وصفها ولا يتصور قبحها لأن ذلك اليوم يوم توفية النفوس ما كسبت ومجازاتها
بالعدل لا بالظلم، وقد علم أن ذلك على قدر الأعمال، وقد تقدم من أعمالهم ما
يبين أنهم من أشد الناس عذابا.

{ 26 - 27 } { قُلِ اللَّهُمَّ
مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ
مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ
الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ
بِغَيْرِ حِسَابٍ }

يقول الله لنبيه تفسير القران الكريم كاملا 0099999 { قل اللهم مالك الملك } أي: أنت الملك
المالك لجميع الممالك، فصفة الملك المطلق لك، والمملكة كلها علويها وسفليها
لك والتصريف والتدبير كله لك، ثم فصل بعض التصاريف التي انفرد الباري
تعالى بها، فقال: { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } وفيه
الإشارة إلى أن الله تعالى سينزع الملك من الأكاسرة والقياصرة ومن تبعهم
ويؤتيه أمة محمد، وقد فعل ولله الحمد، فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله
تعالى، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية
التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد
سبب يستقل بشيء، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر، ومن الأسباب التي
جعلها الله سببا لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح، التي منها اجتماع
المسلمين واتفاقهم، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم
التنازع، قال الله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات
ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } الآية فأخبر أن الإيمان
والعمل الصالح سبب للاستخلاف المذكور، وقال تعالى: { هو الذي أيدك بنصره
وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم } الآية وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا
لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } فأخبر أن
ائتلاف قلوب المؤمنين وثباتهم وعدم تنازعهم سبب للنصر على الأعداء، وأنت
إذا استقرأت الدول الإسلامية وجدت السبب الأعظم في زوال ملكها ترك الدين
والتفرق الذي أطمع فيهم الأعداء وجعل بأسهم بينهم، ثم قال تعالى: { وتعز من
تشاء } بطاعتك { وتذل من تشاء } بمعصيتك { إنك على كل شيء قدير } لا يمتنع
عليك أمر من الأمور بل الأشياء كلها طوع مشيئتك وقدرتك

{ تولج
الليل في النهار وتولج النهار في الليل } أي: تدخل هذا على هذا، وهذا على
هذا، فينشأ عن ذلك من الفصول والضياء والنور والشمس والظل والسكون
والانتشار، ما هو من أكبر الأدلة على قدرة الله وعظمته وحكمته ورحمته {
وتخرج الحي من الميت } كالفرخ من البيضة، وكالشجر من النوى، وكالزرع من
بذره، وكالمؤمن من الكافر { وتخرج الميت من الحي } كالبيضة من الطائر
وكالنوى من الشجر، وكالحب من الزرع، وكالكافر من المؤمن، وهذا أعظم دليل
على قدرة الله، وأن جميع الأشياء مسخرة مدبرة لا تملك من التدبير شيئا،
فخلقه تعالى الأضداد، والضد من ضده بيان أنها مقهورة { وترزق من تشاء بغير
حساب } أي: ترزق من تشاء رزقا واسعا من حيث لا يحتسب ولا يكتسب، ثم قال
تعالى:

{ 28 - 30 } { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ
مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ
تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ
خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا
وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ
رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }

وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالاة
الكافرين بالمحبة والنصرة والاستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين، وتوعد
على ذلك فقال: { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } أي: فقد انقطع عن
الله، وليس له في دين الله نصيب، لأن موالاة الكافرين لا تجتمع مع الإيمان،
لأن الإيمان يأمر بموالاة الله وموالاة أوليائه المؤمنين المتعاونين على
إقامة دين الله وجهاد أعدائه، قال تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم
أولياء بعض } فمن والى - الكافرين من دون المؤمنين الذين يريدون أن يطفؤا
نور الله ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين، وصار من حزب الكافرين، قال
تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وفي هذه الآية دليل على الابتعاد عن
الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم، والميل إليهم والركون إليهم، وأنه لا يجوز
أن يولى كافر ولاية من ولايات المسلمين، ولا يستعان به على الأمور التي هي
مصالح لعموم المسلمين. قال الله تعالى: { إلا أن تتقوا منهم تقاة }

أي:
تخافوهم على أنفسكم فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية
باللسان وإظهار ما به تحصل التقية. ثم قال تعالى: { ويحذركم الله نفسه }
أي: فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك { وإلى الله المصير
} أي: مرجع العباد ليوم التناد، فيحصي أعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم،
فإياكم أن تفعلوا من الأعمال القباح ما تستحقون به العقوبة، واعملوا ما به
يحصل الأجر والمثوبة، ثم أخبر عن سعة علمه لما في النفوس خصوصا، ولما في
السماء والأرض عموما، وعن كمال قدرته، ففيه إرشاد إلى تطهير القلوب
واستحضار علم الله كل وقت فيستحي العبد من ربه أن يرى قلبه محلا لكل فكر
رديء، بل يشغل أفكاره فيما يقرب إلى الله من تدبر آية من كتاب، أو سنة من
أحاديث رسول الله، أو تصور وبحث في علم ينفعه، أو تفكر في مخلوقات الله
ونعمه، أو نصح لعباد الله، وفي ضمن أخبار الله عن علمه وقدرته الإخبار بما
هو لازم ذلك من المجازاة على الأعمال، ومحل ذلك يوم القيامة، فهو الذي توفى
به النفوس بأعمالها فلهذا قال { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا }

أي:
كاملا موفرا لم ينقص مثقال ذرة، كما قال تعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة
خيرًا يره } والخير: اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة
صغيرها وكبيرها، كما أن السوء اسم جامع لكل ما يسخط الله من الأعمال السيئة
صغيرها وكبيرها { وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا }
أي: مسافة بعيدة، لعظم أسفها وشدة حزنها، فليحذر العبد من أعمال السوء التي
لا بد أن يحزن عليها أشد الحزن، وليتركها وقت الإمكان قبل أن يقول { يا
حسرتا على ما فرطت في جنب الله } { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو
تسوى بهم الأرض } { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع
الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانًا خليلا } { حتى إذا جاءنا قال
يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } فوالله لترك كل شهوة ولذة
وان عسر تركها على النفس في هذه الدار أيسر من معاناة تلك الشدائد واحتمال
تلك الفضائح، ولكن العبد من ظلمه وجهله لا ينظر إلا الأمر الحاضر، فليس له
عقل كامل يلحظ به عواقب الأمور فيقدم على ما ينفعه عاجلا وآجلا، ويحجم عن
ما يضره عاجلا وآجلا، ثم أعاد تعالى تحذيرنا نفسه رأفة بنا ورحمة لئلا يطول
علينا الأمد فتقسو قلوبنا، وليجمع لنا بين الترغيب الموجب للرجاء والعمل
الصالح، والترهيب الموجب للخوف وترك الذنوب، فقال { ويحذركم الله نفسه
والله رءوفٌ بالعباد } فنسأله أن يمن علينا بالحذر منه على الدوام، حتى لا
نفعل ما يسخطه ويغضبه.

{ 31 } { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

وهذه الآية فيها وجوب محبة
الله، وعلاماتها، ونتيجتها، وثمراتها، فقال { قل إن كنتم تحبون الله } أي:
ادعيتم هذه المرتبة العالية، والرتبة التي ليس فوقها رتبة فلا يكفي فيها
مجرد الدعوى، بل لابد من الصدق فيها، وعلامة الصدق اتباع رسوله تفسير القران الكريم كاملا 0099999 في جميع أحواله، في أقواله وأفعاله، في
أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن، فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه
محبة الله تعالى، وأحبه الله وغفر له ذنبه، ورحمه وسدده في جميع حركاته
وسكناته، ومن لم يتبع الرسول فليس محبا لله تعالى، لأن محبته لله توجب له
اتباع رسوله، فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها، مع أنها
على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها، وبهذه الآية يوزن جميع الخلق، فعلى
حسب حظهم من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله، وما نقص من ذلك نقص.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا 1269

تفسير القران الكريم كاملا Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا Icon_minitime1/1/2011, 8:20 pm

{ 32 } { قُلْ
أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }

وهذا أمر من الله تعالى لعباده بأعم
الأوامر، وهو طاعته وطاعة رسوله التي يدخل بها الإيمان والتوحيد، وما هو من
فروع ذلك من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، بل يدخل في طاعته وطاعة
رسوله اجتناب ما نهى عنه، لأن اجتنابه امتثالا لأمر الله هو من طاعته، فمن
أطاع الله ورسوله، فأولئك هم المفلحون { فإن تولوا } أي: أعرضوا عن طاعة
الله ورسوله فليس ثم أمر يرجعون إليه إلا الكفر وطاعة كل شيطان مريد { كتب
عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } فلهذا قال: { فإن
تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم أشد العقوبة،
وكأن في هذه الآية الكريمة بيانا وتفسيرا لاتباع رسوله، وأن ذلك بطاعة
الله وطاعة رسوله، هذا هو الاتباع الحقيقي، ثم قال تعالى:

{ 33 - 37
} { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ
عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ
إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ
رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي
أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا
الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ
هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ
يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

يخبر تعالى باختيار من اختاره من
أوليائه وأصفيائه وأحبابه، فأخبر أنه اصطفى آدم، أي: اختاره على سائر
المخلوقات، فخلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له، وأسكنه
جنته، وأعطاه من العلم والحلم والفضل ما فاق به سائر المخلوقات، ولهذا فضل
بنيه، فقال تعالى: { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم
من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا }

واصطفى نوحا
فجعله أول رسول إلى أهل الأرض حين عبدت الأوثان، ووفقه من الصبر والاحتمال
والشكر والدعوة إلى الله في جميع الأوقات ما أوجب اصطفاءه واجتباءه، وأغرق
الله أهل الأرض بدعوته، ونجاه ومن معه في الفلك المشحون، وجعل ذريته هم
الباقين، وترك عليه ثناء يذكر في جميع الأحيان والأزمان.

واصطفى آل
إبراهيم وهو إبراهيم خليل الرحمن الذي اختصه الله بخلته، وبذل نفسه للنيران
وولده للقربان وماله للضيفان، ودعا إلى ربه ليلا ونهارا وسرا وجهارا،
وجعله الله أسوة يقتدي به من بعده، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، ويدخل في
آل إبراهيم جميع الأنبياء الذين بعثوا من بعده لأنهم من ذريته، وقد خصهم
بأنواع الفضائل ما كانوا به صفوة على العالمين، ومنهم سيد ولد آدم نبينا
محمد تفسير القران الكريم كاملا 0099999 فإن الله تعالى جمع فيه من الكمال ما تفرق
في غيره، وفاق تفسير القران الكريم كاملا 0099999 الأولين والآخرين، فكان سيد المرسلين
المصطفى من ولد إبراهيم.

واصطفى الله آل عمران وهو والد مريم بنت
عمران، أو والد موسى بن عمران عليه السلام، فهذه البيوت التي ذكرها الله هي
صفوته من العالمين، وتسلسل الصلاح والتوفيق بذرياتهم، فلهذا قال تعالى {
ذرية بعضها من بعض }

أي: حصل التناسب والتشابه بينهم في الخلق
والأخلاق الجميلة، كما قال تعالى لما ذكر جملة من الأنبياء الداخلين في ضمن
هذه البيوت الكبار { ومن آبائهم وإخوانهم وذرياتهم واجتبيناهم وهديناهم
إلى صراط مستقيم } { والله سميع عليم } يعلم من يستحق الاصطفاء فيصطفيه ومن
لا يستحق ذلك فيخذله ويرديه، ودل هذا على أن هؤلاء اختارهم لما علم من
أحوالهم الموجبة لذلك فضلا منه وكرما، ومن الفائدة والحكمة في قصه علينا
أخبار هؤلاء الأصفياء أن نحبهم ونقتدي بهم، ونسأل الله أن يوفقنا لما
وفقهم، وأن لا نزال نزري أنفسنا بتأخرنا عنهم وعدم اتصافنا بأوصافهم
ومزاياهم الجميلة، وهذا أيضا من لطفه بهم، وإظهاره الثناء عليهم في الأولين
والآخرين، والتنويه بشرفهم، فلله ما أعظم جوده وكرمه وأكثر فوائد معاملته،
لو لم يكن لهم من الشرف إلا أن أذكارهم مخلدة ومناقبهم مؤبدة لكفى بذلك
فضلا

ولما ذكر فضائل هذه البيوت الكريمة ذكر ما جرى لمريم والدة
عيسى وكيف لطف الله بها في تربيتها ونشأتها، فقال: { إذ قالت امرأة عمران }
أي: والدة مريم لما حملت { رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا } أي: جعلت
ما في بطني خالصا لوجهك، محررا لخدمتك وخدمة بيتك { فتقبل مني } هذا العمل
المبارك { إنك أنت السميع العليم } تسمع دعائي وتعلم نيتي وقصدي، هذا وهي
في البطن قبل وضعها

{ فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى } كأنها
تشوفت أن يكون ذكرا ليكون أقدر على الخدمة وأعظم موقعا، ففي كلامها [نوع]
عذر من ربها، فقال الله: { والله أعلم بما وضعت } أي: لا يحتاج إلى
إعلامها، بل علمه متعلق بها قبل أن تعلم أمها ما هي { وليس الذكر كالأنثى
وإني سميتها مريم } فيه دلالة على تفضيل الذكر على الأنثى، وعلى التسمية
وقت الولادة، وعلى أن للأم تسمية الولد إذا لم يكره الأب { وإني أعيذها بك
وذريتها من الشيطان الرجيم } دعت لها ولذريتها أن يعيذهم الله من الشيطان
الرجيم.

{ فتقبلها ربها بقبول حسن } أي: جعلها نذيرة مقبولة،
وأجارها وذريتها من الشيطان { وأنبتها نباتًا حسنًا } أي: نبتت نباتا حسنا
في بدنها وخلقها وأخلاقها، لأن الله تعالى قيض لها زكريا عليه السلام {
وكفلها } إياه، وهذا من رفقه بها ليربيها على أكمل الأحوال، فنشأت في عبادة
ربها وفاقت النساء، وانقطعت لعبادة ربها، ولزمت محرابها أي: مصلاها فكان {
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا } أي: من غير كسب ولا تعب،
بل رزق ساقه الله إليها، وكرامة أكرمها الله بها، فيقول لها زكريا { أنى لك
هذا قالت هو من عند الله } فضلا وإحسانا { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب
} أي: من غير حسبان من العبد ولا كسب، قال تعالى: { ومن يتق الله يجعل له
مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب } وفي هذه الآية دليل على إثبات كرامات
الأولياء الخارقة للعادة كما قد تواترت الأخبار بذلك، خلافا لمن نفى ذلك،
فلما رأى زكريا عليه السلام ما من الله به على مريم، وما أكرمها به من رزقه
الهنيء الذي أتاها بغير سعي منها ولا كسب، طمعت نفسه بالولد، فلهذا قال
تعالى:

{ 38 - 41 } { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ
رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ
الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي
الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ
مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ
رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ
وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ
رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ }

أي: دعا زكريا عليه السلام ربه أن
يرزقه ذرية طيبة، أي: طاهرة الأخلاق، طيبة الآداب، لتكمل النعمة الدينية
والدنيوية بهم. فاستجاب له دعاءه.

وبينما هو قائم في محرابه يتعبد
لربه ويتضرع نادته الملائكة { أن الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله }
أي: بعيسى عليه السلام، لأنه كان بكلمة الله { وسيدًا } أي: يحصل له من
الصفات الجميلة ما يكون به سيدا يرجع إليه في الأمور { وحصورًا } أي:
ممنوعا من إتيان النساء، فليس في قلبه لهن شهوة، اشتغالا بخدمة ربه وطاعته {
ونبيًا من الصالحين } فأي: بشارة أعظم من هذا الولد الذي حصلت البشارة
بوجوده، وبكمال صفاته، وبكونه نبيا من الصالحين، فقال زكريا من شدة فرحه {
رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر } وكل واحد من الأمرين
مانع من وجود الولد، فكيف وقد اجتمعا، فأخبره الله تعالى أن هذا خارق
للعادة، فقال: { كذلك الله يفعل ما يشاء } فكما أنه تعالى قدر وجود الأولاد
بالأسباب التي منها التناسل، فإذا أراد أن يوجدهم من غير ما سبب فعل، لأنه
لا يستعصي عليه شيء، فقال زكريا عليه السلام استعجالا لهذا الأمر، وليحصل
له كمال الطمأنينة.

{ رب اجعل لي آية } أي: علامة على وجود الولد
قال { آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا } أي: ينحبس لسانك عن
كلامهم من غير آفة ولا سوء، فلا تقدر إلا على الإشارة والرمز، وهذا آية
عظيمة أن لا تقدر على الكلام، وفيه مناسبة عجيبة، وهي أنه كما يمنع نفوذ
الأسباب مع وجودها، فإنه يوجدها بدون أسبابها ليدل ذلك أن الأسباب كلها
مندرجة في قضائه وقدره، فامتنع من الكلام ثلاثة أيام، وأمره الله أن يشكره
ويكثر من ذكره بالعشي والإبكار، حتى إذا خرج على قومه من المحراب { فأوحى
إليهم أن سبحوا بكرة وعشيًّا } أي: أول النهار وآخره.


{ 42 - 44
} { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ
وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ
اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }

ينوه تعالى بفضيلة مريم وعلو
قدرها، وأن الملائكة خاطبتها بذلك فقالت { يا مريم إن الله اصطفاك } أي:
اختارك { وطهّرك } من الآفات المنقصة { واصطفاك على نساء العالمين }
الاصطفاء الأول يرجع إلى الصفات الحميدة والأفعال السديدة، والاصطفاء
الثاني يرجع إلى تفضيلها على سائر نساء العالمين، إما على عالمي زمانها، أو
مطلقا، وإن شاركها أفراد من النساء في ذلك كخديجة وعائشة وفاطمة، لم يناف
الاصطفاء المذكور، فلما أخبرتها الملائكة باصطفاء الله إياها وتطهيرها، كان
في هذا من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها القيام بشكرها،
فلهذا قالت لها الملائكة: { يا مريم اقنتي لربك }

{ اقنتي لربك }
القنوت دوام الطاعة في خضوع وخشوع، { واسجدي واركعي مع الراكعين } خص
السجود والركوع لفضلهما ودلالتهما على غاية الخضوع لله، ففعلت مريم، ما
أمرت به شكرا لله تعالى وطاعة، ولما أخبر الله نبيه بما أخبر به عن مريم،
وكيف تنقلت بها الأحوال التي قيضها الله لها، وكان هذا من الأمور الغيبية
التي لا تعلم إلا بالوحي.

قال { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما
كنت لديهم } أي: عندهم { إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } لما ذهبت بها
أمها إلى من لهم الأمر على بيت المقدس، فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل مريم،
واقترعوا عليها بأن ألقوا أقلامهم في النهر، فأيهم لم يجر قلمه مع الماء
فله كفالتها، فوقع ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم، فلما أَخْبَرتَهُم يا محمد
بهذه الأخبار التي لا علم لك ولا لقومك بها دل على أنك صادق وأنك رسول الله
حقا، فوجب عليهم الانقياد لك وامتثال أوامرك، كما قال تعالى: { وما كنت
بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } الآيات.

{ 45 - 58 } { إِذْ
قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ
فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ
جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ
اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي
بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ
بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى
مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا
الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ
وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا
لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ
الْحَكِيمِ }

يخبر تعالى أن الملائكة بشرت مريم عليها السلام بأعظم
بشارة، وهو كلمة الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم، سمي كلمة الله لأنه كان
بالكلمة من الله، لأن حالته خارجة عن الأسباب، وجعله الله من آياته وعجائب
مخلوقاته، فأرسل الله جبريل عليه السلام إلى مريم، فنفخ في جيب درعها فولجت
فيها تلك النفخة الذكية من ذلك الملك الزكي، فأنشأ الله منها تلك الروح
الزكية، فكان روحانيا نشأ من مادة روحانية، فلهذا سمى روح الله { وجيها في
الدنيا والآخرة } أي: له الوجاهة العظيمة في الدنيا، جعله الله أحد أولي
العزم من المرسلين أصحاب الشرائع الكبار والأتباع، ونشر الله له من الذكر
ما ملأ ما بين المشرق والمغرب، وفي الآخرة وجيها عند الله يشفع أسوة إخوانه
من النبيين والمرسلين، ويظهر فضله على أكثر العالمين، فلهذا كان من
المقربين إلى الله، أقرب الخلق إلى ربهم، بل هو عليه السلام من سادات
المقربين.

{ ويكلم الناس فى المهد وكهلا } وهذا غير التكليم
المعتاد، بل المراد يكلم الناس بما فيه صلاحهم وفلاحهم، وهو تكليم
المرسلين، ففي هذا إرساله ودعوته الخلق إلى ربهم، وفي تكليمهم في المهد آية
عظيمة من آيات الله ينتفع بها المؤمنون، وتكون حجة على المعاندين، أنه
رسول رب العالمين، وأنه عبد الله، وليكون نعمة وبراءة لوالدته مما رميت به {
ومن الصالحين } أي: يمن عليه بالصلاح، من من عليهم، ويدخله في جملتهم، وفي
هذا عدة بشارات لمريم مع ما تضمن من التنويه بذكر المسيح عليه السلام.

{
قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } والولد في العادة لا يكون إلا
من مس البشر، وهذا استغراب منها، لا شك في قدرة الله تعالى: { قال كذلك
الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } فأخبرها أن هذا
أمر خارق للعادة، خلقه من يقول لكل أمر أراده: كن فيكون، فمن تيقن ذلك زال
عنه الاستغراب والتعجب، ومن حكمة الباري تعالى أن تدرج بأخبار العباد من
الغريب إلى ما هو أغرب منه، فذكر وجود يحيى بن زكريا بين أبوين أحدهما كبير
والآخر عاقر، ثم ذكر أغرب من ذلك وأعجب، وهو وجود عيسى عليه السلام من أم
بلا أب ليدل عباده أنه الفعال لما يريد وأنه ما شاء كان وما لم يشاء لم
يكن.

ثم أخبر تعالى عن منته العظيمة على عبده ورسوله عيسى عليه
السلام، فقال { ويعلمه الكتاب } يحتمل أن يكون المراد جنس الكتاب، فيكون
ذكر التوراة والإنجيل تخصيصا لهما، لشرفهما وفضلهما واحتوائهما على الأحكام
والشرائع التي يحكم بها أنبياء بني إسرائيل والتعليم، لذلك يدخل فيه تعليم
ألفاظه ومعانيه، ويحتمل أن يكون المراد بقوله { ويعلمه الكتاب } أي:
الكتابة، لأن الكتابة من أعظم نعم الله على عباده ولهذا امتن تعالى على
عباده بتعليمهم بالقلم في أول سورة أنزلها فقال { اقرأ باسم ربك الذي خلق
خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم }

والمراد
بالحكمة معرفة أسرار الشرع، ووضع الأشياء مواضعها، فيكون ذلك امتنانا على
عيسى عليه السلام بتعليمه الكتابة والعلم والحكمة، وهذا هو الكمال للإنسان
في نفسه.

ثم ذكر له كمالا آخر وفضلا زائدا على ما أعطاه الله من
الفضائل، فقال { ورسولا إلى بني إسرائيل } فأرسله الله إلى هذا الشعب
الفاضل الذين هم أفضل العالمين في زمانهم يدعوهم إلى الله، وأقام له من
الآيات ما دلهم أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا ولهذا قال { أني قد جئتكم
بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين } طيرا، أي: أصوره على شكل الطير {
فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله } أي: طيرا له روح تطير بإذن الله { وأبرى
الأكمه } وهو الذي يولد أعمى { والأبرص } بإذن الله { وأحيي الموتى بإذن
الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم
مؤمنين } وأي: آية أعظم من جعل الجماد حيوانا، وإبراء ذوي العاهات التي لا
قدرة للأطباء في معالجتها، وإحياء الموتى، والإخبار بالأمور الغيبية، فكل
واحدة من هذه الأمور آية عظيمة بمفردها، فكيف بها إذا اجتمعت وصدق بعضها
بعضها؟ فإنها موجبة للإيقان وداعية للإيمان.

{ ومصدقا لما بين يدي
من التوراة } أي: أتيت بجنس ما جاءت به التوراة وما جاء به موسى عليه
السلام، وعلامة الصادق أن يكون خبره من جنس خبر الصادقين، يخبر بالصدق،
ويأمر بالعدل من غير تخالف ولا تناقض، بخلاف من ادعى دعوى كاذبة، خصوصا
أعظم الدعاوى وهي دعوى النبوة، فالكاذب فيها لابد أن يظهر لكل أحد كذب
صاحبها وتناقضه ومخالفته لأخبار الصادقين وموافقته لأخبار الكاذبين، هذا
موجب السنن الماضية والحكمة الإلهية والرحمة الربانية بعباده، إذ لا يشتبه
الصادق بالكاذب في دعوى النبوة أبدا، بخلاف بعض الأمور الجزئية، فإنه قد
يشتبه فيها الصادق بالكاذب، وأما النبوة فإنه يترتب عليها هداية الخلق أو
ضلالهم وسعادتهم وشقاؤهم، ومعلوم أن الصادق فيها من أكمل الخلق، والكاذب
فيها من أخس الخلق وأكذبهم وأظلمهم، فحكمة الله ورحمته بعباده أن يكون
بينهما من الفروق ما يتبين لكل من له عقل، ثم أخبر عيسى عليه السلام أن
شريعة الإنجيل شريعة فيها سهولة ويسرة فقال { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم
} فدل ذلك على أن أكثر أحكام التوراة لم ينسخها الإنجيل بل كان متمما لها
ومقررا { وجئتكم بآية من ربكم } تدل على صدقي ووجوب اتباعي، وهي ما تقدم من
الآيات، والمقصود من ذلك كله قوله { فاتقوا الله } بفعل ما أمر به وترك ما
نهى عنه وأطيعوني فإن طاعة الرسول طاعة لله.

{ إن الله ربي وربكم
فاعبدوه } استدل بتوحيد الربوبية الذي يقر به كل أحد على توحيد الإلهية
الذي ينكره المشركون، فكما أن الله هو الذي خلقنا ورزقنا وأنعم علينا نعما
ظاهرة وباطنة، فليكن هو معبودنا الذي نألهه بالحب والخوف والرجاء والدعاء
والاستعانة وجميع أنواع العبادة، وفي هذا رد على النصارى القائلين بأن عيسى
إله أو ابن الله، وهذا إقراره عليه السلام بأنه عبد مدبر مخلوق، كما قال {
إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا } وقال تعالى: { وإذ قال الله يا
عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك
ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته } إلى قوله { ما
قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } وقوله { هذا } أي:
عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله { صراط مستقيم } موصل إلى الله وإلى جنته،
وما عدا ذلك فهي طرق موصلة إلى الجحيم.

{ فلما أحس عيسى منهم الكفر }
أي: رأى منهم عدم الانقياد له، وقالوا هذا سحر مبين، وهموا بقتله وسعوا في
ذلك { قال من أنصاري إلى الله } من يعاونني ويقوم معي بنصرة دين الله {
قال الحواريون } وهم الأنصار { نحن أنصار الله } أي: انتدبوا معه وقاموا
بذلك.

وقالوا: { آمنا بالله } { فاكتبنا مع الشاهدين } أي: الشهادة
النافعة، وهي الشهادة بتوحيد الله وتصديق رسوله مع القيام بذلك، فلما قاموا
مع عيسى بنصر دين الله وإقامة شرعه آمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت
طائفة، فاقتتلت الطائفتان فأيد الله الذين آمنوا بنصره على عدوهم فأصبحوا
ظاهرين، فلهذا قال تعالى هنا { ومكروا } أي: الكفار بإرادة قتل نبي الله
وإطفاء نوره { ومكر الله } بهم جزاء لهم على مكرهم { والله خير الماكرين }
رد الله كيدهم في نحورهم، فانقلبوا خاسرين.

{ إذ قال الله يا عيسى
إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا } فرفع الله عبده ورسوله عيسى
إليه، وألقي شبهه على غيره، فأخذوا من ألقي شبهه عليه فقتلوه وصلبوه،
وباءوا بالإثم العظيم بنيتهم أنه رسول الله، قال الله { وما قتلوه وما
صلبوه ولكن شبه لهم } وفي هذه الآية دليل على علو الله تعالى واستوائه على
عرشه حقيقة، كما دلت على ذلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي
تلقاها أهل السنة بالقبول والإيمان والتسليم، وكان الله عزيزا قويا قاهرا،
ومن عزته أن كف بني إسرائيل بعد عزمهم الجازم وعدم المانع لهم عن قتل عيسى
عليه السلام، كما قال تعالى { وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات
فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } حكيم يضع الأشياء مواضعها،
وله أعظم حكمة في إلقاء الشبه على بني إسرائيل، فوقعوا في الشبه كما قال
تعالى { وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن
وما قتلوه يقينا } ثم قال تعالى: { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا
إلى يوم القيامة } وتقدم أن الله أيد المؤمنين منهم على الكافرين، ثم إن
النصارى المنتسبين لعيسى عليه السلام لم يزالوا قاهرين لليهود لكون النصارى
أقرب إلى اتباع عيسى من اليهود، حتى بعث الله نبينا محمدا تفسير القران الكريم كاملا 0099999 فكان المسلمون هم المتبعين لعيسى حقيقة،
فأيدهم الله ونصرهم على اليهود والنصارى وسائر الكفار، وإنما يحصل في بعض
الأزمان إدالة الكفار من النصارى وغيرهم على المسلمين، حكمة من الله وعقوبة
على تركهم لاتباع الرسول تفسير القران الكريم كاملا 0099999 { ثم إلي مرجعكم } أي: مصير الخلائق كلها {
فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } كل يدعي أن الحق معه وأنه المصيب
وغيره مخطئ، وهذا مجرد دعاوى تحتاج إلى برهان.

ثم أخبر عن حكمه
بينهم بالقسط والعدل، فقال { فأما الذين كفروا } أي: بالله وآياته ورسله {
فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة } أما عذاب الدنيا، فهو ما أصابهم
الله به من القوارع والعقوبات المشاهدة والقتل والذل، وغير ذلك مما هو
نموذج من عذاب الآخرة، وأما عذاب الآخرة فهو الطامة الكبرى والمصيبة
العظمى، ألا وهو عذاب النار وغضب الجبار وحرمانهم ثواب الأبرار { وما لهم
من ناصرين } ينصرونهم من عذاب الله، لا من زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله،
ولا ما اتخذوهم أولياء من دونه، ولا أصدقائهم وأقربائهم، ولا أنفسهم
ينصرون.

{ وأما الذين آمنوا } بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث
بعد الموت وغير ذلك مما أمر الله بالإيمان به { وعملوا الصالحات } القلبية
والقولية والبدنية التي جاءت بشرعها المرسلون، وقصدوا بها رضا رب العالمين {
فيوفيهم أجورهم } دل ذلك على أنه يحصل لهم في الدنيا ثواب لأعمالهم من
الإكرام والإعزاز والنصر والحياة الطيبة، وإنما توفية الأجور يوم القيامة،
يجدون ما قدموه من الخيرات محضرا موفرا، فيعطي منهم كل عامل أجر عمله
ويزيدهم من فضله وكرمه { والله لا يحب الظالمين } بل يبغضهم ويحل عليهم
سخطه وعذابه.

{ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } وهذا منة
عظيمة على رسوله محمد تفسير القران الكريم كاملا 0099999 وعلى أمته، حيث أنزل عليهم هذا الذكر
الحكيم، المحكم المتقن، المفصل للأحكام والحلال والحرام وإخبار الأنبياء
الأقدمين، وما أجرى الله على أيديهم من الآيات البينات والمعجزات الباهرات،
فهذا القرآن يقص علينا كل ما ينفعنا من الأخبار والأحكام، فيحصل فيها
العلم والعبرة وتثبيت الفؤاد ما هو من أعظم رحمة رب العباد، ثم قال تعالى:


{
59 - 60 } { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ
مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }

يخبر تعالى محتجا على النصارى
الزاعمين بعيسى عليه السلام ما ليس له بحق، بغير برهان ولا شبهة، بل بزعمهم
أنه ليس له والد استحق بذلك أن يكون ابن الله أو شريكا لله في الربوبية،
وهذا ليس بشبهة فضلا أن يكون حجة، لأن خلقه كذلك من آيات الله الدالة على
تفرد الله بالخلق والتدبير وأن جميع الأسباب طوع مشيئته وتبع لإرادته، فهو
على نقيض قولهم أدل، وعلى أن أحدا لا يستحق المشاركة لله بوجه من الوجوه
أولى، ومع هذا فآدم عليه السلام خلقه الله من تراب لا من أب ولا أم، فإذا
كان ذلك لا يوجب لآدم ما زعمه النصارى في المسيح، فالمسيح المخلوق من أم
بلا أب من باب أولى وأحرى، فإن صح إدعاء البنوة والإلهية في المسيح،
فادعاؤها في آدم من باب أولى وأحرى، فلهذا قال تعالى { إن مثل عيسى عند
الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك } أي: هذا الذي
أخبرناك به من شأن المسيح عليه السلام هو الحق الذي في أعلى رتب الصدق،
لكونه من ربك الذي من جملة تربيته الخاصة لك ولأمتك أن قص عليكم ما قص من
أخبار الأنبياء عليهم السلام. { فلا تكن من الممترين } أي: الشاكين في شيء
مما أخبرك به ربك، وفي هذه الآية وما بعدها دليل على قاعدة شريفة وهو أن ما
قامت الأدلة على أنه حق وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها، فإنه يجب
أن يجزم بأن كل ما عارضه فهو باطل، وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة، سواء قدر
العبد على حلها أم لا، فلا يوجب له عجزه عن حلها القدح فيما علمه، لأن ما
خالف الحق فهو باطل، قال تعالى { فماذا بعد الحق إلا الضلال } وبهذه
القاعدة الشرعية تنحل عن الإنسان إشكالات كثيرة يوردها المتكلمون ويرتبها
المنطقيون، إن حلها الإنسان فهو تبرع منه، وإلا فوظيفته أن يبين الحق
بأدلته ويدعو إليه.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تفسير القران الكريم كاملا
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 4انتقل الى الصفحة : 1, 2, 3, 4  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
»  القران الكريم كاملا بصيغه Mp3
» تفسير القرأن للشيخ الشعراوي كاملا صوت وصورة
»  برنامج لتحميل القرآن الكريم كاملا في 5 ثواني بصوت 28 قارئ ؟؟
»  تعريف القران الكريم
»  علوم القران الكريم

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ :: `·.¸¸.·´´¯`··._.· ( واحة الايمان ) `·.¸¸.·´´¯`··._.·` :: :: المنتـ ـ ـ ـ ــدى الاســ ـ ـ ــلامـ ـ ــى العــ ـ ـ ـــام ::-
انتقل الى:  
.: اتصل بنا :.
لو فى اى مشكلة فى المنتدى