ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ
تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Ouooou10
ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ
تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Ouooou10
ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ

اهلا,.بك،.,فى.،ملتقى.شلة:شباب.فى،ـبنات,,معانا:هتستمتع.,بالوقت،افتح,.قلبك,ـواتكلم’.معانا.هتسمع،،أحـلى.,اغانى,,واحلى:،كلام.,فى,:الحب،دا،إحنا.شباب،.علي:.كيفك
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول


 

 تفسير القران الكريم كاملا

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4
كاتب الموضوعرسالة
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:16 pm

تفسير
سورة الأنفال

وهي مدنية

1 - 4 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ
دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ .

الأنفال
هي الغنائم التي ينفلها اللّه لهذه الأمة من أموال الكفار، وكانت هذه
الآيات في هذه السورة قد نـزلت في قصة بدر أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون
من المشركين، .فحصل بين بعض المسلمين فيها نـزاع، فسألوا رسول اللّه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 عنها، فأنـزل اللّه يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الأنْفَال كيف تقسم وعلى من تقسم؟

قُلْ لهم: الأنفال لله ورسوله
يضعانها حيث شاءا، فلا اعتراض لكم على حكم اللّه ورسوله،. بل عليكم إذا حكم
اللّه ورسوله أن ترضوا بحكمهما، وتسلموا الأمر لهما،. وذلك داخل في قوله
فَاتَّقُوا اللَّهَ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه..

وَأَصْلِحُوا
ذَاتَ بَيْنِكُمْ أي: أصلحوا ما بينكم من التشاحن والتقاطع والتدابر،
بالتوادد والتحاب والتواصل..فبذلك تجتمع كلمتكم، ويزول ما يحصل - بسبب
التقاطع -من التخاصم، والتشاجر والتنازع.

ويدخل في إصلاح ذات البين
تحسين الخلق لهم، والعفو عن المسيئين منهم فإنه بذلك يزول كثير مما يكون في
القلوب من البغضاء والتدابر،.والأمر الجامع لذلك كله قوله: وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يدعو إلى طاعة
اللّه ورسوله،.كما أن من لم يطع اللّه ورسوله فليس بمؤمن.

ومن نقصت
طاعته للّه ورسوله، فذلك لنقص إيمانه،ولما كان الإيمان قسمين: إيمانا كاملا
يترتب عليه المدح والثناء، والفوز التام، وإيمانا دون ذلك ذكر الإيمان
الكامل فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الألف واللام للاستغراق لشرائع
الإيمان.

الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي:
خافت ورهبت، فأوجبت لهم خشية اللّه تعالى الانكفاف عن المحارم، فإن خوف
اللّه تعالى أكبر علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب.

وَإِذَا
تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ووجه ذلك أنهم يلقون
له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم،.لأن التدبر من
أعمال القلوب، ولأنه لا بد أن يبين لهم معنى كانوا يجهلونه، أو يتذكرون ما
كانوا نسوه،أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير، واشتياقا إلى كرامة ربهم،أو
وجلا من العقوبات، وازدجارا عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان.

وَعَلَى
رَبِّهِمْ وحده لا شريك له يَتَوَكَّلُونَ أي: يعتمدون في قلوبهم على ربهم
في جلب مصالحهم ودفع مضارهم الدينية والدنيوية، ويثقون بأن اللّه تعالى
سيفعل ذلك.

والتوكل هو الحامل للأعمال كلها، فلا توجد ولا تكمل إلا
به.

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ من فرائض ونوافل، بأعمالها
الظاهرة والباطنة، كحضور القلب فيها، الذي هو روح الصلاة ولبها،. وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ النفقات الواجبة، كالزكوات، والكفارات، والنفقة
على الزوجات والأقارب، وما ملكت أيمانهم،.والمستحبة كالصدقة في جميع طرق
الخير.

أُولَئِكَ الذين اتصفوا بتلك الصفات هُمُ الْمُؤْمِنُونَ
حَقًّا لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان، بين الأعمال الباطنة والأعمال
الظاهرة، بين العلم والعمل، بين أداء حقوق اللّه وحقوق عباده. وقدم تعالى
أعمال القلوب، لأنها أصل لأعمال الجوارح وأفضل منها،.وفيها دليل على أن
الإيمان، يزيد وينقص، فيزيد بفعل الطاعة وينقص بضدها.

وأنه ينبغي
للعبد أن يتعاهد إيمانه وينميه،.وأن أولى ما يحصل به ذلك تدبر كتاب اللّه
تعالى والتأمل لمعانيه.ثم ذكر ثواب المؤمنين حقا فقال: لَهُمْ دَرَجَاتٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: عالية بحسب علو أعمالهم. وَمَغْفِرَةٌ لذنوبهم
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو ما أعد اللّه لهم في دار كرامته، مما لا عين رأت، ولا
أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ودل هذا على أن من يصل إلى درجتهم
في الإيمان - وإن دخل الجنة - فلن ينال ما نالوا من كرامة اللّه التامة.

5
- 8 كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا
تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ *
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ
وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ
الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُجْرِمُونَ .

قدم تعالى - أمام هذه الغزوة الكبرى المباركة -
الصفات التي على المؤمنين أن يقوموا بها، لأن من قام بها استقامت أحواله
وصلحت أعماله، التي من أكبرها الجهاد في سبيله. فكما أن إيمانهم هو الإيمان
الحقيقي، وجزاءهم هو الحق الذي وعدهم اللّه به،.كذلك أخرج اللّه رسوله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 من بيته إلى لقاء المشركين في بدر
بالحق الذي يحبه اللّه تعالى، وقد قدره وقضاه.

وإن كان المؤمنون لم
يخطر ببالهم في ذلك الخروج أنه يكون بينهم وبين عدوهم قتال.

فحين
تبين لهم أن ذلك واقع، جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 في ذلك، ويكرهون لقاء عدوهم، كأنما يساقون
إلى الموت وهم ينظرون.

والحال أن هذا لا ينبغي منهم، خصوصا بعد ما
تبين لهم أن خروجهم بالحق، ومما أمر اللّه به ورضيه،. فبهذه الحال ليس
للجدال محل [فيها] لأن الجدال محله وفائدته عند اشتباه الحق والتباس
الأمر،. فأما إذا وضح وبان، فليس إلا الانقياد والإذعان.

هذا وكثير
من المؤمنين لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء، ولا كرهوا لقاء عدوهم،.وكذلك
الذين عاتبهم اللّه، انقادوا للجهاد أشد الانقياد، وثبتهم اللّه، وقيض لهم
من الأسباب ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها.

وكان أصل
خروجهم يتعرضون لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام، قافلة
كبيرة،.فلما سمعوا برجوعها من الشام، ندب النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 الناس،.فخرج معه ثلاثمائة، وبضعة عشر رجلا
معهم سبعون بعيرا، يعتقبون عليها، ويحملون عليها متاعهم،.فسمعت بخبرهم
قريش، فخرجوا لمنع عيرهم، في عَدَدٍ كثير وعُدَّةٍ وافرة من السلاح والخيل
والرجال، يبلغ عددهم قريبا من الألف.

فوعد اللّه المؤمنين إحدى
الطائفتين، إما أن يظفروا بالعير، أو بالنفير،.فأحبوا العير لقلة ذات يد
المسلمين، ولأنها غير ذات شوكة،.ولكن اللّه تعالى أحب لهم وأراد أمرا أعلى
مما أحبوا.

أراد أن يظفروا بالنفير الذي خرج فيه كبراء المشركين
وصناديدهم،. وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ فينصر
أهله وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ أي: يستأصل أهل الباطل، ويُرِيَ
عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم.

لِيُحِقَّ الْحَقَّ
بما يظهر من الشواهد والبراهين على صحته وصدقه،. وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ بما
يقيم من الأدلة والشواهد على بطلانه وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ فلا
يبالي اللّه بهم.

9 - 14 إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ
فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ
مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ
قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنـزلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ

عَنْكُمْ
رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ
الأقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ
فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ
بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ
يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ .

أي:
اذكروا نعمة اللّه عليكم، لما قارب التقاؤكم بعدوكم، استغثتم بربكم،
وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم فَاسْتَجَابَ لَكُمْ وأغاثكم بعدة أمور:.

منها:
أن اللّه أمدكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أي: يردف بعضهم
بعضا.

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ أي: إنـزال الملائكة إِلا بُشْرَى أي:
لتستبشر بذلك نفوسكم، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وإلا فالنصر بيد
اللّه، ليس بكثرة عَدَدٍ ولا عُدَدٍ.. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يغالبه
مغالب، بل هو القهار، الذي يخذل من بلغوا من الكثرة وقوة العدد والآلات ما
بلغوا. حَكِيمٌ حيث قدر الأمور بأسبابها، ووضع الأشياء مواضعها.

ومن
نصره واستجابته لدعائكم أن أنـزل عليكم نعاسا يُغَشِّيكُمُ [أي] فيذهب ما
في قلوبكم من الخوف والوجل، ويكون أَمَنَةً لكم وعلامة على النصر
والطمأنينة.

ومن ذلك: أنه أنـزل عليكم من السماء مطرا ليطهركم به من
الحدث والخبث، وليطهركم به من وساوس الشيطان ورجزه.

وَلِيَرْبِطَ
عَلَى قُلُوبِكُمْ أي: يثبتها فإن ثبات القلب، أصل ثبات البدن، وَيُثَبِّتَ
بِهِ الأقْدَامَ فإن الأرض كانت سهلة دهسة فلما نـزل عليها المطر تلبدت،
وثبتت به الأقدام.

ومن ذلك أن اللّه أوحى إلى الملائكة أَنِّي
مَعَكُمْ بالعون والنصر والتأييد، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي: ألقوا
في قلوبهم، وألهموهم الجراءة على عدوهم، ورغبوهم في الجهاد وفضله.

سَأُلْقِي
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الذي هو أعظم جند لكم عليهم،فإن
اللّه إذا ثبت المؤمنين وألقى الرعب في قلوب الكافرين، لم يقدر الكافرون
على الثبات لهم ومنحهم اللّه أكتافهم.

فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الأعْنَاقِ أي: على الرقاب وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ أي: مفصل.

وهذا
خطاب، إما للملائكة الذين أوحى الله إليهم أن يثبتوا الذين آمنوا فيكون في
ذلك دليل أنهم باشروا القتال يوم بدر،أو للمؤمنين يشجعهم اللّه، ويعلمهم
كيف يقتلون المشركين، وأنهم لا يرحمونهم،وذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله أي:
حاربوهما وبارزوهما بالعداوة.

وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ومن عقابه تسليط أوليائه على أعدائه
وتقتيلهم.

ذَلِكُمْ العذاب المذكور فَذُوقُوهُ أيها المشاققون للّه
ورسوله عذابا معجلا. وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ .

وفي
هذه القصة من آيات اللّه العظيمة ما يدل على أن ما جاء به محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 رسول اللّه حقا.

منها: أن اللّه
وعدهم وعدا، فأنجزهموه.

ومنها: ما قال اللّه تعالى: قَدْ كَانَ
لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ
الآية.

ومنها: إجابة دعوة اللّه للمؤمنين لما استغاثوه بما ذكره من
الأسباب،وفيها الاعتناء العظيم بحال عباده المؤمنين، وتقييض الأسباب التي
بها ثبت إيمانهم، وثبتت أقدامهم، وزال عنهم المكروه والوساوس الشيطانية.

ومنها:
أن من لطف اللّه بعبده أن يسهل عليه طاعته، وييسرها بأسباب داخلية
وخارجية.

15 - 16 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ * وَمَنْ
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ
مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ .

يأمر اللّه تعالى عباده المؤمنين
بالشجاعة الإيمانية، والقوة في أمره، والسعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب
والأبدان،ونهاهم عن الفرار إذا التقى الزحفان، فقال: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا أي: في صف
القتال، وتزاحف الرجال، واقتراب بعضهم من بعض، فَلا تُوَلُّوهُمُ
الأدْبَارَ بل اثبتوا لقتالهم، واصبروا على جلادهم، فإن في ذلك نصرة لدين
اللّه، وقوة لقلوب المؤمنين، وإرهابا للكافرين.

وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى
فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ أي: رجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ أي: مقره
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ .

وهذا يدل على أن الفرار من الزحف
من غير عذر من أكبر الكبائر، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة وكما نص هنا
على وعيده بهذا الوعيد الشديد.

ومفهوم الآية: أن المتحرف للقتال،
وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى، ليكون أمكن له في القتال، وأنكى لعدوه،
فإنه لا بأس بذلك، لأنه لم يول دبره فارا، وإنما ولى دبره ليستعلي على
عدوه، أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته، أو ليخدعه بذلك، أو غير ذلك من مقاصد
المحاربين، وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار، فإن ذلك
جائز،فإن كانت الفئة في العسكر، فالأمر في هذا واضح،وإن كانت الفئة في غير
محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين والتجائهم إلى بلد من بلدان
المسلمين أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين، فقد ورد من آثار الصحابة ما
يدل على أن هذا جائز،ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون أن الانهزام أحمد
عاقبة، وأبقى عليهم.

أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم،
فيبعد - في هذه الحال -أن تكون من الأحوال المرخص فيها، لأنه - على هذا -
لا يتصور الفرار المنهي عنه،وهذه الآية مطلقة، وسيأتي في آخر السورة
تقييدها بالعدد.

17 - 19 فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ
قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى
وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ * إِنْ
تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ
فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ .

يقول
تعالى - لما انهزم المشركون يوم بدر، وقتلهم المسلمون - فَلَمْ
تَقْتُلُوهُمْ بحولكم وقوتكم وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ حيث أعانكم على
ذلك بما تقدم ذكره.

وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
رَمَى وذلك أن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 وقت القتال دخل العريش وجعل يدعو اللّه،
ويناشده في نصرته،ثم خرج منه، فأخذ حفنة من تراب، فرماها في وجوه المشركين،
فأوصلها اللّه إلى وجوههم،فما بقي منهم واحد إلا وقد أصاب وجهه وفمه
وعينيه منها،فحينئذ انكسر حدهم، وفتر زندهم، وبان فيهم الفشل والضعف،
فانهزموا.

يقول تعالى لنبيه: لست بقوتك - حين رميت التراب - أوصلته
إلى أعينهم، وإنما أوصلناه إليهم بقوتنا واقتدارنا. وَلِيُبْلِيَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا أي: إن اللّه تعالى قادر على انتصار
المؤمنين من الكافرين، من دون مباشرة قتال،ولكن اللّه أراد أن يمتحن
المؤمنين، ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات، وأرفع المقامات، ويعطيهم أجرا
حسنا وثوابا جزيلا.

إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع تعالى ما
أسر به العبد وما أعلن، ويعلم ما في قلبه من النيات الصالحة وضدها،فيقدر
على العباد أقدارا موافقة لعلمه وحكمته ومصلحة عباده، ويجزي كلا بحسب نيته
وعمله.

(18) ذَلِكُمْ النصر من اللّه لكم وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ
كَيْدِ الْكَافِرِينَ أي: مضعف كل مكر وكيد يكيدون به الإسلام وأهله، وجاعل
مكرهم محيقا بهم.

(19) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا أيها المشركون، أي:
تطلبوا من اللّه أن يوقع بأسه وعذابه على المعتدين الظالمين.

فَقَدْ
جَاءَكُمُ الْفَتْحُ حين أوقع اللّه بكم من عقابه، ما كان نكالا لكم وعبرة
للمتقين وَإِنْ تَنْتَهُوا عن الاستفتاح فَهُوَ خَيْرٌ لأنه ربما أمهلتم،
ولم يعجل لكم النقمة. وإن تعودوا إلى الاستفتاح وقتال حزب الله المؤمنين
نَعُدْ في نصرهم عليكم.

وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ أي:
أعوانكم وأنصاركم، الذين تحاربون وتقاتلون، معتمدين عليهم، شَيئا وأن الله
مع الْمؤمنين.

ومن كان اللّه معه فهو المنصور وإن كان ضعيفا قليلا
عدده، وهذه المعية التي أخبر اللّه أنه يؤيد بها المؤمنين، تكون بحسب ما
قاموا به من أعمال الإيمان.

فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض
الأوقات، فليس ذلك إلا تفريطا من المؤمنين وعدم قيام بواجب الإيمان
ومقتضاه، وإلا فلو قاموا بما أمر اللّه به من كل وجه، لما انهزم لهم راية
[انهزاما مستقرا] ولا أديل عليهم عدوهم أبدا.

20 - 21 يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ
وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا
وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ .

لما أخبر تعالى أنه مع المؤمنين، أمرهم أن
يقوموا بمقتضى الإيمان الذي يدركون به معيته، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بامتثال أمرهما واجتناب نهيهما.

وَلا
تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: عن هذا الأمر الذي هو طاعة اللّه، وطاعة رسوله.
وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ما يتلى عليكم من كتاب اللّه، وأوامره، ووصاياه،
ونصائحه،فتوليكم في هذه الحال من أقبح الأحوال.

وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي: لا تكتفوا بمجرد
الدعوى الخالية التي لا حقيقة لها، فإنها حالة لا يرضاها اللّه ولا
رسوله،فليس الإيمان بالتمني والتحلي، ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته
الأعمال.

22 - 23 إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ
الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ
خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ
.

يقول تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ من لم تفد
فيهم الآيات والنذر،وهم الصُّمُّ عن استماع الحق الْبُكْمُ عن النطق به.
الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ما ينفعهم، ويؤثرونه على ما يضرهم،فهؤلاء شر عند
اللّه من جميع الدواب، لأن اللّه أعطاهم أسماعا وأبصارا وأفئدة، ليستعملوها
في طاعة اللّه، فاستعملوها في معاصيه وعدموا - بذلك - الخير الكثير،فإنهم
كانوا بصدد أن يكونوا من خيار البرية.

فأبوا هذا الطريق، واختاروا
لأنفسهم أن يكونوا من شر البرية،والسمع الذي نفاه اللّه عنهم، سمع المعنى
المؤثر في القلب،وأما سمع الحجة، فقد قامت حجة اللّه تعالى عليهم بما سمعوه
من آياته،وإنما لم يسمعهم السماع النافع، لأنه لم يعلم فيهم خيرا يصلحون
به لسماع آياته.

وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا
لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ على الفرض والتقدير لَتَوَلَّوْا عن
الطاعة وَهُمْ مُعْرِضُونَ لا التفات لهم إلى الحق بوجه من الوجوه،وهذا
دليل على أن اللّه تعالى لا يمنع الإيمان والخير، إلا لمن لا خير فيه، الذي
لا يزكو لديه ولا يثمر عنده. .وله الحمد تعالى والحكمة في هذا.

24 -
25 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا
فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ .

يأمر تعالى عباده المؤمنين بما
يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة للّه وللرسول، أي: الانقياد لما أمرا به
والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه
والنهي عنه.

وقوله: إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وصف ملازم
لكل ما دعا اللّه ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلب
والروح بعبودية اللّه تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام.

ثم
حذر عن عدم الاستجابة للّه وللرسول فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فإياكم أن تردوا أمر اللّه أول ما
يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن اللّه
يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء.

فليكثر
العبد من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، اصرف
قلبي إلى طاعتك.

وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي: تجمعون ليوم لا
ريب فيه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بعصيانه.

وَاتَّقُوا
فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً بل تصيب فاعل
الظلم وغيره،وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته تعم الفاعل
وغيره،وتقوى هذه الفتنة بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا
يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن.

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ لمن تعرض لمساخطه، وجانب رضاه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:17 pm

وَاذْكُرُوا
إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ
يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .

يقول
تعالى ممتنا على عباده في نصرهم بعد الذلة، وتكثيرهم بعد القلة، وإغنائهم
بعد العيلة.

وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي
الأرْضِ أي: مقهورون تحت حكم غيركم تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ
النَّاسُ أي: يأخذونكم.

فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فجعل لكم بلدا تأوون إليه، وانتصر من
أعدائكم على أيديكم، وغنمتم من أموالهم ما كنتم به أغنياء.

لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ اللّه على منته العظيمة وإحسانه التام، بأن تعبدوه ولا تشركوا
به شيئا.

27 - 28 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا
اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ
اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ .

يأمر تعالى عباده المؤمنين أن
يؤدوا ما ائتمنهم اللّه عليه من أوامره ونواهيه، فإن الأمانة قد عرضها
اللّه على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها
الإنسان إنه كان ظلوما جهولافمن أدى الأمانة استحق من اللّه الثواب الجزيل،
ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل، وصار خائنا للّه وللرسول
ولأمانته، منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات، وأقبح الشيات، وهي
الخيانة مفوتا لها أكمل الصفات وأتمها، وهي الأمانة.

ولما كان العبد
ممتحنا بأمواله وأولاده، فربما حمله محبة ذلك على تقديم هوى نفسه على أداء
أمانته، أخبر اللّه تعالى أن الأموال والأولاد فتنة يبتلي اللّه بهما
عباده، وأنها عارية ستؤدى لمن أعطاها، وترد لمن استودعها وَأَنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
فإن كان لكم عقل ورَأْيٌ، فآثروا فضله العظيم
على لذة صغيرة فانية مضمحلة، فالعاقل يوازن بين الأشياء، ويؤثر أولاها
بالإيثار، وأحقها بالتقديم.

29 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .

امتثال
العبد لتقوى ربه عنوان السعادة، وعلامة الفلاح، وقد رتب اللّه على التقوى
من خير الدنيا والآخرة شيئا كثيرا،فذكر هنا أن من اتقى اللّه حصل له أربعة
أشياء، كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها:

الأول: الفرقان: وهو
العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال، والحق والباطل،
والحلال والحرام، وأهل السعادة من أهل الشقاوة.

الثاني والثالث:
تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب،وكل واحد منهما داخل في الآخر عند الإطلاق
وعند الاجتماع يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر، ومغفرة الذنوب بتكفير
الكبائر.

الرابع: الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن اتقاه وآثر رضاه
على هوى نفسه. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
30 وَإِذْ يَمْكُرُ
بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ .

أي:
و أذكر أيها الرسول، ما منَّ اللّه به عليك. إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا حين تشاور المشركون في دار الندوة فيما يصنعون بالنبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، إما أن يثبتوه عندهم بالحبس ويوثقوه.

وإما
أن يقتلوه فيستريحوا - بزعمهم - من شره.

وإما أن يخرجوه ويجلوه من
ديارهم.

فكلُّ أبدى من هذه الآراء رأيا رآه،فاتفق رأيهم على رأي:
رآه شريرهم أبو جهل لعنه اللّه،وهو أن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش
فتى ويعطوه سيفا صارما، ويقتله الجميع قتلة رجل واحد، ليتفرق دمه في
القبائل.فيرضى بنو هاشم [ثَمَّ] بديته، فلا يقدرون على مقاومة سائر قريش،
فترصدوا للنبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 في الليل ليوقعوا به إذا قام من فراشه.

فجاءه
الوحي من السماء، وخرج عليهم، فذرَّ على رءوسهم التراب وخرج، وأعمى اللّه
أبصارهم عنه، حتى إذا استبطؤوه جاءهم آت وقال: خيبكم اللّه، قد خرج محمد
وذَرَّ على رءوسكم التراب.

فنفض كل منهم التراب عن رأسه، ومنع اللّه
رسوله منهم، وأذن له في الهجرة إلى المدينة،فهاجر إليها، وأيده اللّه
بأصحابه المهاجرين والأنصار،ولم يزل أمره يعلو حتى دخل مكة عنوة، وقهر
أهلها،فأذعنوا له وصاروا تحت حكمه، بعد أن خرج مستخفيا منهم، خائفا على
نفسه.

فسبحان اللطيف بعبده الذي لا يغالبه مغالب.

31 - 34
وقوله: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ
نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ *
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا
كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ *
وَمَا لَهُمْ
أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ .

يقول تعالى في بيان عناد
المكذبين للرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا
الدالة على صدق ما جاء به الرسول.

قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ
نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ
وهذا من عنادهم وظلمهم،وإلا فقد تحداهم اللّه أن يأتوا بسورة من مثله،
ويدعوا من استطاعوا من دون اللّه، فلم يقدروا على ذلك، وتبين عجزهم.

فهذا
القول الصادر من هذا القائل مجرد دعوى، كذبه الواقع،وقد علم أنه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا رحل ليدرس
من أخبار الأولين، فأتى بهذا الكتاب الجليل الذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه، تنـزيل من حكيم حميد.

وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ
إِنْ كَانَ هَذَا الذي يدعو إليه محمد هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ قالوه على وجه الجزم منهم بباطلهم، والجهل بما ينبغي من الخطاب.

فلو
أنهم إذ أقاموا على باطلهم من الشبه والتمويهات ما أوجب لهم أن يكونوا على
بصيرة ويقين منه، قالوا لمن ناظرهم وادعى أن الحق معه: إن كان هذا هو الحق
من عندك فاهدنا له، لكان أولى لهم وأستر لظلمهم.

فمنذ قالوا:
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية، علم بمجرد
قولهم أنهم السفهاء الأغبياء، الجهلة الظالمون،فلو عاجلهم اللّه بالعقاب
لما أبقى منهم باقية، ولكنه تعالى دفع عنهم العذاب بسبب وجود الرسول بين
أظهرهم، فقال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
فوجوده تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 بين أظهرهم أمنة لهم من العذاب.

وكانوا
مع قولهم هذه المقالة التي يظهرونها على رءوس الأشهاد، يدرون بقبحها،
فكانوا يخافون من وقوعها فيهم، فيستغفرون اللّه [تعالى فلهذا] قال تعالى:
وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
فهذا مانع
يمنع من وقوع العذاب بهم، بعد ما انعقدت أسبابه ثم قال: وَمَا لَهُمْ أَلا
يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي: أي شيء يمنعهم من عذاب اللّه، وقد فعلوا ما يوجب
ذلك، وهو صد الناس عن المسجد الحرام، خصوصا صدهم النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 وأصحابه، الذين هم أولى به منهم، ولهذا
قال: وَمَا كَانُوا أي: المشركون أَوْلِيَاءَهُ يحتمل أن الضمير يعود إلى
اللّه، أي: أولياء اللّه.ويحتمل أن يعود إلى المسجد الحرام، أي: وما كانوا
أولى به من غيرهم. إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وهم الذين آمنوا
باللّه ورسوله، وأفردوا اللّه بالتوحيد والعبادة، وأخلصوا له الدين.
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ فلذلك ادَّعَوْا لأنفسهم أمرا غيرهم
أولى به.

35 وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ .

يعني
أن اللّه تعالى إنما جعل بيته الحرام ليقام فيه دينه، وتخلص له فيه
العبادة،فالمؤمنون هم الذين قاموا بهذا الأمر،وأما هؤلاء المشركون الذين
يصدون عنه، فما كان صلاتهم فيه التي هي أكبر أنواع العبادات إِلا مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً أي: صفيرا وتصفيقا، فعل الجهلة الأغبياء، الذين ليس في قلوبهم
تعظيم لربهم، ولا معرفة بحقوقه، ولا احترام لأفضل البقاع وأشرفها،فإذا
كانت هذه صلاتهم فيه، فكيف ببقية العبادات؟".

فبأي: شيء كانوا أولى
بهذا البيت من المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو
معرضون، إلى آخر ما وصفهم اللّه به من الصفات الحميدة، والأفعال السديدة.

لا
جرم أورثهم اللّه بيته الحرام، ومكنهم منه،وقال لهم بعد ما مكن لهم فيه
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وقال هنا
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
36 - 37 إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ
يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ
اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى
بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ .

يقول تعالى مبينا لعداوة المشركين وكيدهم ومكرهم،
ومبارزتهم للّه ولرسوله، وسعيهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته، وأن وبال
مكرهم سيعود عليهم، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فقال: إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي:
ليبطلوا الحق وينصروا الباطل، ويبطل توحيد الرحمن، ويقوم دين عبادة
الأوثان.

فَسَيُنْفِقُونَهَا أي: فسيصدرون هذه النفقة، وتخف عليهم
لتمسكهم بالباطل، وشدة بغضهم للحق، ولكنها ستكون عليهم حسرة، أي: ندامة
وخزيا وذلا ويغلبون فتذهب أموالهم وما أملوا، ويعذبون في الآخرة أشد
العذاب. ولهذا قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ أي:
يجمعون إليها، ليذوقوا عذابها، وذلك لأنها دار الخبث والخبثاء، واللّه
تعالى يريد أن يميز الخبيث من الطيب، ويجعل كل واحدة على حدة، وفي دار
تخصه،فيجعل الخبيث بعضه على بعض، من الأعمال والأموال والأشخاص.
فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران
المبين.

38 - 40 قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا
يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ
الأوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ .

هذا من لطفه
تعالى بعباده لا يمنعه كفر العباد ولا استمرارهم في العناد، من أن يدعوهم
إلى طريق الرشاد والهدى، وينهاهم عما يهلكهم من أسباب الغي والردى، فقال:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا عن كفرهم وذلك بالإسلام للّه
وحده لا شريك له.

يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ منهم من الجرائم
وَإِنْ يَعُودُوا إلى كفرهم وعنادهم فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ
بإهلاك الأمم المكذبة، فلينتظروا ما حل بالمعاندين، فسوف يأتيهم أنباء ما
كانوا به يستهزئون،فهذا خطابه للمكذبين ، وأما خطابه للمؤمنين عندما أمرهم
بمعاملة الكافرين، فقال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي:
شرك وصد عن سبيل اللّه، ويذعنوا لأحكام الإسلام، وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ فهذا المقصود من القتال والجهاد لأعداء الدين، أن يدفع
شرهم عن الدين، وأن يذب عن دين اللّه الذي خلق الخلق له، حتى يكون هو
العالي على سائر الأديان.

فَإِنِ انْتَهَوْا عن ما هم عليه من الظلم
فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا تخفى عليه منهم خافية.

وَإِنْ
تَوَلَّوْا عن الطاعة وأوضعوا في الإضاعة فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى الذي يتولى عباده المؤمنين، ويوصل إليهم
مصالحهم، وييسر لهم منافعهم الدينية والدنيوية. وَنِعْمَ النَّصِيرُ الذي
ينصرهم، فيدفع عنهم كيد الفجار، وتكالب الأشرار.

ومن كان اللّه
مولاه وناصره فلا خوف عليه، ومن كان اللّه عليه فلا عِزَّ له ولا قائمة له.

{
41 - 42 ْ} { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنْتُمْ
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ
أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ
وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ
اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ْ}

يقول تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ْ} أي: أخذتم من مال الكفار قهرا بحق، قليلا كان أو
كثيرا. { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ْ} أي: وباقيه لكم أيها الغانمون، لأنه
أضاف الغنيمة إليهم، وأخرج منها خمسها.فدل على أن الباقي لهم، يقسم على ما
قسمه رسول اللّه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999: للراجل سهم، وللفارس سهمان لفرسه، وسهم
له.

وأما هذا الخمس، فيقسم خمسة أسهم، سهم للّه ولرسوله، يصرف في
مصالح المسلمين العامة، من غير تعيين لمصلحة، لأن اللّه جعله له ولرسوله،
واللّه ورسوله غنيان عنه، فعلم أنه لعباد اللّه.فإذا لم يعين اللّه له
مصرفا، دل على أن مصرفه للمصالح العامة.

والخمس الثاني: لذي القربى،
وهم قرابة النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 من بني هاشم وبني المطلب.وأضافه اللّه إلى
القرابة دليلا على أن العلة فيه مجرد القرابة، فيستوي فيه غنيهم وفقيرهم،
ذكرهم وأنثاهم.

والخمس الثالث لليتامى، وهم الذين فقدت آباؤهم وهم
صغار، جعل اللّه لهم خمس الخمس رحمة بهم، حيث كانوا عاجزين عن القيام
بمصالحهم، وقد فقد من يقوم بمصالحهم.

والخمس الرابع للمساكين، أي:
المحتاجين الفقراء من صغار وكبار، ذكور وإناث.

والخمس الخامس لابن
السبيل، وهو الغريب المنقطع به في غير بلده، [وبعض المفسرين يقول إن خمس
الغنيمة لا يخرج عن هذه الأصناف ولا يلزم أن يكونوا فيه على السواء بل ذلك
تبع للمصلحة وهذا هو الأولى] وجعل اللّه أداء الخمس على وجهه شرطا للإيمان
فقال: { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى
عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ ْ} وهو يوم { بدر ْ} الذي فرق اللّه به بين
الحق والباطل. وأظهر الحق وأبطل الباطل.

{ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ ْ} جمع المسلمين، وجمع الكافرين،أي: إن كان إيمانكم باللّه،
وبالحق الذي أنزله اللّه على رسوله يوم الفرقان، الذي حصل فيه من الآيات
والبراهين، ما دل على أن ما جاء به هو الحق. { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ ْ} لا يغالبه أحد إلا غلبه.

{ إِذْ أَنْتُمْ
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا ْ} أي: بعدوة الوادي القريبة من المدينة، وهم
بعدوته أي: جانبه البعيدة من المدينة، فقد جمعكم واد واحد.

{
وَالرَّكْبُ ْ} الذي خرجتم لطلبه، وأراد اللّه غيره { أَسْفَلَ مِنْكُمْ ْ}
مما يلي ساحل البحر.

{ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ ْ} أنتم وإياهم على
هذا الوصف وبهذه الحال { لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ْ} أي: لا بد من
تقدم أو تأخر أو اختيار منزل، أو غير ذلك، مما يعرض لكم أو لهم، يصدفكم عن
ميعادكم

{ وَلَكِنْ ْ} اللّه جمعكم على هذه الحال { لِيَقْضِيَ
اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ْ} أي: مقدرا في الأزل، لا بد من وقوعه.

{
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ْ} أي: ليكون حجة وبينة للمعاند،
فيختار الكفر على بصيرة وجزم ببطلانه، فلا يبقى له عذر عند اللّه.

{
وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ْ} أي: يزداد المؤمن بصيرة ويقينا،
بما أرى اللّه الطائفتين من أدلة الحق وبراهينه، ما هو تذكرة لأولي
الألباب.

{ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ْ} سميع لجميع
الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، عليم بالظواهر والضمائر
والسرائر، والغيب والشهادة.


{ 43 - 44 ْ} { إِذْ يُرِيكَهُمُ
اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ
وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ
فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ
اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ْ}

وكان
اللّه قد أرى رسوله المشركين في الرؤيا عددا قليلا، فبشر بذلك أصحابه،
فاطمأنت قلوبهم وتثبتت أفئدتهم.

ولو أراكهم الله إياهم كَثِيرًا
فأخبرت بذلك أصحابك { لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ْ}
فمنكم من يرى الإقدام على قتالهم، ومنكم من لا يرى ذلك فوقع من الاختلاف
والتنازع ما يوجب الفشل.

{ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ْ} فلطف بكم {
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ْ} أي: بما فيها من ثبات وجزع، وصدق
وكذب،فعلم اللّه من قلوبكم ما صار سببا للطفه وإحسانه بكم وصدق رؤيا رسوله ،
فأرى اللّه المؤمنين عدوهم قليلا في أعينهم، ويقللكم - يا معشر المؤمنين -
في أعينهم،فكل من الطائفتين ترى الأخرى قليلة، لتقدم كل منهما على الأخرى.

{
لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ْ} من نصر المؤمنين وخذلان
الكافرين وقتل قادتهم ورؤساء الضلال منهم، ولم يبق منهم أحد له اسم يذكر،
فيتيسر بعد ذلك انقيادهم إذا دعوا إلى الإسلام، فصار أيضا لطفا بالباقين،
الذين مَنَّ اللّه عليهم بالإسلام.

{ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ ْ} أي: جميع أمور الخلائق ترجع إلى اللّه، فيميز الخبيث من
الطيب، ويحكم في الخلائق بحكمه العادل، الذي لا جور فيه ولا ظلم.


{
45 - 49 ْ} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً
فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ *
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ
النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ
مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا
غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا
تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ
مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ
شَدِيدُ الْعِقَابِ * إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ْ}

يقول تعالى: { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً ْ} أي: طائفة من الكفار
تقاتلكم.

{ فَاثْبُتُوا ْ} لقتالها، واستعملوا الصبر وحبس النفس
على هذه الطاعة الكبيرة، التي عاقبتها العز والنصر.

واستعينوا على
ذلك بالإكثار من ذكر اللّه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ْ} أي: تدركون ما
تطلبون من الانتصار على أعدائكم،فالصبر والثبات والإكثار من ذكر اللّه من
أكبر الأسباب للنصر.

{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ْ} في
استعمال ما أمرا به، والمشي خلف ذلك في جميع الأحوال.

{ وَلَا
تَنَازَعُوا ْ} تنازعا يوجب تشتت القلوب وتفرقها، { فَتَفْشَلُوا ْ} أي:
تجبنوا { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ْ} أي: تنحل عزائمكم، وتفرق قوتكم، ويرفع ما
وعدتم به من النصر على طاعة اللّه ورسوله.

{ وَاصْبِرُوا ْ} نفوسكم
على طاعة اللّه { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ْ} بالعون والنصر
والتأييد، واخشعوا لربكم واخضعوا له.

{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ ْ} أي: هذا مقصدهم الذي خرجوا إليه، وهذا الذي أبرزهم من
ديارهم لقصد الأشر والبطر في الأرض، وليراهم الناس ويفخروا لديهم.

والمقصود
الأعظم أنهم خرجوا ليصدوا عن سبيل اللّه من أراد سلوكه، { وَاللَّهُ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ْ} فلذلك أخبركم بمقاصدهم، وحذركم أن تشبهوا بهم،
فإنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة.

فليكن قصدكم في خروجكم وجه
اللّه تعالى وإعلاء دين اللّه، والصد عن الطرق الموصلة إلى سخط اللّه
وعقابه، وجذب الناس إلى سبيل اللّه القويم الموصل لجنات النعيم.

{
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ْ} حسَّنها في قلوبهم
وخدعهم. { وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ْ} فإنكم في
عَدَدٍ وعُدَدٍ وهيئة لا يقاومكم فيها محمد ومن معه.

{ وَإِنِّي
جَارٌ لَكُمْ ْ} من أن يأتيكم أحد ممن تخشون غائلته، لأن إبليس قد تبدَّى
لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكانوا يخافون من بني مدلج
لعداوة كانت بينهم.

فقال لهم الشيطان: أنا جار لكم، فاطمأنت نفوسهم
وأتوا على حرد قادرين.

{ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ ْ}
المسلمون والكافرون، فرأى الشيطان جبريل عليه السلام يزع الملائكة خاف خوفا
شديدا و { نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ ْ} أي: ولى مدبرا. { وَقَالَ ْ} لمن
خدعهم وغرهم: { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ ْ}
أي: أرى الملائكة الذين لا يدان لأحد بقتالهم.

{ إِنِّي أَخَافُ
اللَّهَ ْ} أي: أخاف أن يعاجلني بالعقوبة في الدنيا { وَاللَّهُ شَدِيدُ
الْعِقَابِ ْ}

ومن المحتمل أن يكون الشيطان، قد سول لهم، ووسوس في
صدورهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس، وأنه جار لهم،فلما أوردهم مواردهم،
نكص عنهم، وتبرأ منهم، كما قال تعالى: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ
لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ
إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا
أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِينَ ْ}

{ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ْ} أي: شك وشبهة، من ضعفاء الإيمان، للمؤمنين حين
أقدموا - مع قِلَّتهم - على قتال المشركين مع كثرتهم.

{ غَرَّ
هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ْ} أي: أوردهم الدين الذي هم عليه هذه الموارد التي لا
يدان لهم بها، ولا استطاعة لهم بها،يقولونه احتقارا لهم واستخفافا
لعقولهم، وهم - واللّه - الأخِفَّاءُ عقولا، الضعفاء أحلاما.

فإن
الإيمان يوجب لصاحبه الإقدام على الأمور الهائلة التي لا يقدم عليها الجيوش
العظام،فإن المؤمن المتوكل على اللّه، الذي يعلم أنه ما من حول ولا قوة
ولا استطاعة لأحد إلا باللّه تعالى،وأن الخلق لو اجتمعوا كلهم على نفع شخص
بمثقال ذرة لم ينفعوه،ولو اجتمعوا على أن يضروه لم يضروه إلا بشيء قد كتبه
اللّه عليه، وعلم أنه على الحق، وأن اللّه تعالى حكيم رحيم في كل ما قدره
وقضاه، فإنه لا يبالي بما أقدم عليه من قوة وكثرة، وكان واثقا بربه، مطمئن
القلب لا فزعا ولا جبانا، .ولهذا قال { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ْ} لا يغالب قوته قوة. { حَكِيمٌ ْ} فيما قضاه
وأجراه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:22 pm


50 - 52 ْ} { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ
الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ}

يقول تعالى: ولو ترى
الذين كفروا بآيات اللّه حين توفاهم الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم وقد
اشتد بهم القلق وعظم كربهم، و { الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبَارَهُمْ ْ} يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم، ونفوسهم متمنعة مستعصية على
الخروج، لعلمها ما أمامها من العذاب الأليم.

ولهذا قال: {
وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق أي: العذاب الشديد المحرق، ذلك العذاب حصل
لكم، غير ظلم ولا جور من ربكم، وإنما هو بما قدمت أيديكم من المعاصي التي
أثرت لكم ما أثرت، وهذه سنة اللّه في الأولين والآخرين، فإن دأب هؤلاء
المكذبين أي: سنتهم وما أجرى اللّه عليهم من الهلاك بذنوبهم.

ْ}
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ { من الأمم المكذبة.
ْ} كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ { بالعقاب ْ}
بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ { لا يعجزه أحد
يريد أخذه ْ} مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا

{
53 - 54 ْ} { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً
أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ
وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ْ}

{
ذَلِكَ ْ} العذاب الذي أوقعه اللّه بالأمم المكذبين وأزال عنهم ما هم فيه
من النعم والنعيم، بسبب ذنوبهم وتغييرهم ما بأنفسهم،فإن الله لم يك مغيرا
نعمة أنعمها على قوم من نعم الدين والدنيا، بل يبقيها ويزيدهم منها، إن
ازدادوا له شكرا. { حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ْ} من الطاعة
إلى المعصية فيكفروا نعمة اللّه ويبدلوها كفرا، فيسلبهم إياها ويغيرها
عليهم كما غيروا ما بأنفسهم.

وللّه الحكمة في ذلك والعدل والإحسان
إلى عباده، حيث لم يعاقبهم إلا بظلمهم، وحيث جذب قلوب أوليائه إليه، بما
يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره.

{ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ ْ} يسمع جميع ما نطق به الناطقون، سواء من أسر القول ومن جهر
به،ويعلم ما تنطوي عليه الضمائر، وتخفيه السرائر، فيجري على عباده من
الأقدار ما اقتضاه علمه وجرت به مشيئته.

{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ
ْ} أي: فرعون وقومه { وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ ْ} حين جاءتهم { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ْ} كل بحسب
جرمه.

{ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ ْ} من المهلكين
المعذبين { كَانُوا ظَالِمِينَ ْ} لأنفسهم، ساعين في هلاكها، لم يظلمهم
اللّه، ولا أخذهم بغير جرم اقترفوه،فليحذر المخاطبون أن يشابهوهم في الظلم،
فيحل اللّه بهم من عقابه ما أحل بأولئك الفاسقين.

{ 55 - 57 ْ} {
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ
فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي
الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ْ}

هؤلاء
الذين جمعوا هذه الخصال الثلاث: الكفر، وعدم الإيمان، والخيانة، بحيث لا
يثبتون على عهد عاهدوه ولا قول قالوه، هم شر الدواب عند الله فهم شر من
الحمير والكلاب وغيرها، لأن الخير معدوم منهم، والشر متوقع فيهم ، فإذهاب
هؤلاء ومحقهم هو المتعين، لئلا يسري داؤهم لغيرهم، ولهذا قال: { فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ ْ} أي: تجدنهم في حال المحاربة، بحيث لا
يكون لهم عهد وميثاق.

{ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ْ} أي:
نكل بهم غيرهم، وأوقع بهم من العقوبة ما يصيرون [به] عبرة لمن بعدهم {
لَعَلَّهُمْ ْ} أي من خلفهم { يَذْكُرُونَ ْ} صنيعهم، لئلا يصيبهم ما
أصابهم،وهذه من فوائد العقوبات والحدود المرتبة على المعاصي، أنها سبب
لازدجار من لم يعمل المعاصي، بل وزجرا لمن عملها أن لا يعاودها.

ودل
تقييد هذه العقوبة في الحرب أن الكافر - ولو كان كثير الخيانة سريع الغدر -
أنه إذا أُعْطِيَ عهدا لا يجوز خيانته وعقوبته.


{ 58 ْ} {
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى
سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ْ}

أي: وإذا كان
بينك وبين قوم عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة،بأن ظهر من قرائن
أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة.

{
فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ ْ} عهدهم، أي: ارمه عليهم، وأخبرهم أنه لا عهد بينك
وبينهم. { عَلَى سَوَاءٍ ْ} أي: حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك، ولا يحل لك أن
تغدرهم، أو تسعى في شيء مما منعه موجب العهد، حتى تخبرهم بذلك.

{
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ْ} بل يبغضهم أشد البغض،فلا بد من
أمر بيِّنٍ يبرئكم من الخيانة.

ودلت الآية على أنه إذا وجدت
الخيانة المحققة منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم، لأنه لم يخف منهم، بل
علم ذلك، ولعدم الفائدة ولقوله: { عَلَى سَوَاءٍ ْ} وهنا قد كان معلوما عند
الجميع غدرهم.

ودل مفهومها أيضا أنه إذا لم يُخَفْ منهم خيانة، بأن
لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء
إلى أن تتم مدته.

{ 59 ْ} { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ْ}

أي: لا يحسب الكافرون بربهم
المكذبون بآياته، أنهم سبقوا اللّه وفاتوه، فإنهم لا يعجزونه، واللّه لهم
بالمرصاد.

وله تعالى الحكمة البالغة في إمهالهم وعدم معاجلتهم
بالعقوبة، التي من جملتها ابتلاء عباده المؤمنين وامتحانهم، وتزودهم من
طاعته ومراضيه، ما يصلون به المنازل العالية، واتصافهم بأخلاق وصفات لم
يكونوا بغيره بالغيها، فلهذا قال لعباده المؤمنين:


{ 60 ْ} {
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ
دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا
مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا
تُظْلَمُونَ ْ}

أي { وَأَعِدُّوا ْ} لأعدائكم الكفار الساعين في
هلاككم وإبطال دينكم. { مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ْ} أي: كل ما
تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين
على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة
والآلات من المدافع والرشاشات، والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب
البرية والبحرية، والحصون والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأْي:
والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتَعَلُّم
الرَّمْيِ، والشجاعة والتدبير.

ولهذا قال النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999: { ألا إن القوة الرَّمْيُ ْ} ومن ذلك:
الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال،ولهذا قال تعالى: { وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ْ} وهذه
العلة موجودة فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحكم يدور مع
علته.

فإذا كان شيء موجود أكثر إرهابا منها، كالسيارات البرية
والهوائية، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد، كانت مأمورا
بالاستعداد بها، والسعي لتحصيلها،حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلُّم
الصناعة، وجب ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب

وقوله: {
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْْ} ممن تعلمون أنهم
أعداؤكم. ْ{ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ} ممن
سيقاتلونكم بعد هذا الوقت الذي يخاطبهم الله به ْ{ اللَّهُ يَعْلَمُهُم}ْ
فلذلك أمرهم بالاستعداد لهم،ومن أعظم ما يعين على قتالهم بذلك النفقات
المالية في جهاد الكفار.

ولهذا قال تعالى مرغبا في ذلك: {وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّه}ِ قليلا كان أو كثيرا ْ
{يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أجره يوم القيامة مضاعفا أضعافا كثيرة، حتى إن النفقة
في سبيل اللّه، تضاعف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.{ْ وَأَنْتُمْ لَا
تُظْلَمُونَ} أي: لا تنقصون من أجرها وثوابها شيئا.


{ 61 - 64
ْ} { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ
يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ
وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا
فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ
اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ْ}

يقول
تعالى: { وَإِنْ جَنَحُوا ْ} أي: الكفار المحاربون، أي: مالوا {
لِلسَّلْمِ ْ} أي: الصلح وترك القتال.

{ فَاجْنَحْ لَهَا
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ْ} أي: أجبهم إلى ما طلبوا متوكلا على ربك، فإن
في ذلك فوائد كثيرة.

منها: أن طلب العافية مطلوب كل وقت، فإذا كانوا
هم المبتدئين في ذلك، كان أولى لإجابتهم.

ومنها: أن في ذلك إجماما
لقواكم، واستعدادا منكم لقتالهم في وقت آخر، إن احتيج لذلك.

ومنها:
أنكم إذا أصلحتم وأمن بعضكم بعضا، وتمكن كل من معرفة ما عليه الآخر، فإن
الإسلام يعلو ولا يعلى عليه،.فكل من له عقل وبصيرة إذا كان معه إنصاف فلا
بد أن يؤثره على غيره من الأديان، لحسنه في أوامره ونواهيه، وحسنه في
معاملته للخلق والعدل فيهم، وأنه لا جور فيه ولا ظلم بوجه، فحينئذ يكثر
الراغبون فيه والمتبعون له،.فصار هذا السلم عونا للمسلمين على
الكافرين،.ولا يخاف من السلم إلا خصلة واحدة، وهي أن يكون الكفار قصدهم
بذلك خدع المسلمين، وانتهاز الفرصة فيهم،.فأخبرهم اللّه أنه حسبهم وكافيهم
خداعهم، وأن ذلك يعود عليهم ضرره، فقال: { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ
يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ْ} أي: كافيك ما يؤذيك، وهو القائم
بمصالحك ومهماتك، فقد سبق [لك] من كفايته لك ونصره ما يطمئن به قلبك.

فلـ
{ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ْ} أي: أعانك
بمعونة سماوية، وهو النصر منه الذي لا يقاومه شيء، ومعونة بالمؤمنين بأن
قيضهم لنصرك.

{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ْ} فاجتمعوا وائتلفوا،
وازدادت قوتهم بسبب اجتماعهم، ولم يكن هذا بسعي أحد، ولا بقوة غير قوة
اللّه،فلو أنفقت ما في الأرض جميعا من ذهب وفضة وغيرهما لتأليفهم بعد تلك
النفرة والفرقة الشديدة { مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ْ} لأنه لا
يقدر على تقليب القلوب إلا اللّه تعالى.

{ وَلَكِنَّ اللَّهَ
أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ْ} ومن عزته أن ألف بين
قلوبهم، وجمعها بعد الفرقة كما قال تعالى: { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ
مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ْ}

ثم قال تعالى: { يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ْ} أي: كافيك { وَمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ْ} أي: وكافي أتباعك من المؤمنين،.وهذا وعد من اللّه
لعباده المؤمنين المتبعين لرسوله، بالكفاية والنصرة على الأعداء.

فإذا
أتوا بالسبب الذي هو الإيمان والاتباع، فلابد أن يكفيهم ما أهمهم من أمور
الدين والدنيا، وإنما تتخلف الكفاية بتخلف شرطها.


{ 65 - 66 ْ} {
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ
وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا
أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ْ}

يقول
تعالى لنبيه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ْ} أي: حثهم وأنهضهم إليه بكل ما يقوي
عزائمهم وينشط هممهم، من الترغيب في الجهاد ومقارعة الأعداء، والترهيب من
ضد ذلك، وذكر فضائل الشجاعة والصبر، وما يترتب على ذلك من خير في الدنيا
والآخرة، وذكر مضار الجبن، وأنه من الأخلاق الرذيلة المنقصة للدين
والمروءة، وأن الشجاعة بالمؤمنين أولى من غيرهم { إِنْ تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ
اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ْ}

{ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ْ} أيها
المؤمنون { عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ْ} يكون
الواحد بنسبة عشرة من الكفار،.وذلك بأن الكفار { قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ْ}
أي: لا علم عندهم بما أعد اللّه للمجاهدين في سبيله، فهم يقاتلون لأجل
العلو في الأرض والفساد فيها،.وأنتم تفقهون المقصود من القتال، أنه لإعلاء
كلمة اللّه وإظهار دينه، والذب عن كتاب اللّه، وحصول الفوز الأكبر عند
اللّه،.وهذه كلها دواع للشجاعة والصبر والإقدام على القتال.

ثم إن
هذا الحكم خففه اللّه على العباد فقال: { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ
وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ْ} فلذلك اقتضت رحمته وحكمته التخفيف،. {
فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ
مَعَ الصَّابِرِينَ ْ} بعونه وتأييده.

وهذه الآيات صورتها صورة
الإخبار عن المؤمنين، بأنهم إذا بلغوا هذا المقدار المعين يغلبون ذلك
المقدار المعين في مقابلته من الكفار، وأن اللّه يمتن عليهم بما جعل فيهم
من الشجاعة الإيمانية.

ولكن معناها وحقيقتها الأمر وأن اللّه أمر
المؤمنين - في أول الأمر - أن الواحد لا يجوز له أن يفر من العشرة، والعشرة
من المائة، والمائة من الألف.

ثم إن اللّه خفف ذلك، فصار لا يجوز
فرار المسلمين من مثليهم من الكفار، فإن زادوا على مثليهم جاز لهم الفرار،
ولكن يرد على هذا أمران:.

أحدهما: أنها بصورة الخبر، والأصل في
الخبر أن يكون على بابه، وأن المقصود بذلك الامتنان والإخبار بالواقع..

والثاني:
تقييد ذلك العدد أن يكونوا صابرين بأن يكونوا متدربين على الصبر.

ومفهوم
هذا أنهم إذا لم يكونوا صابرين، فإنه يجوز لهم الفرار، ولو أقل من مثليهم
[إذا غلب على ظنهم الضرر] كما تقتضيه الحكمة الإلهية.

ويجاب عن
الأول بأن قوله: { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ْ} إلى آخرها، دليل على
أن هذا أمر لازم وأمر محتم، ثم إن اللّه خففه إلى ذلك العدد،. فهذا ظاهر
في أنه أمر، وإن كان في صيغة الخبر..

وقد يقال: إن في إتيانه بلفظ
الخبر، نكتة بديعة لا توجد فيه إذا كان بلفظ الأمر،.وهي تقوية قلوب
المؤمنين، والبشارة بأنهم سيغلبون الكافرين..

ويجاب عن الثاني: أن
المقصود بتقييد ذلك بالصابرين، أنه حث على الصبر، وأنه ينبغي منكم أن
تفعلوا الأسباب الموجبة لذلك[فإذا فعلوها صارت الأسباب الإيمانية والأسباب
المادية مبشرة بحصول ما أخبر اللّه به من النصر لهذا العدد القليل]


{
67 -69 ْ} { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى
يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ
سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ ْ}

هذه معاتبة من اللّه لرسوله وللمؤمنين يوم { بدر ْ} إذ
أسروا المشركين وأبقوهم لأجل الفداء،. وكان رأي: أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب في هذه الحال، قتلهم واستئصالهم.

فقال تعالى: { مَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىَ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ْ}
أي: ما ينبغي ولا يليق به إذا قاتل الكفار الذين يريدون أن يطفئوا نور
اللّه ويسعوا لإخماد دينه، وأن لا يبقى على وجه الأرض من يعبد اللّه، أن
يتسرع إلى أسرهم وإبقائهم لأجل الفداء الذي يحصل منهم، وهو عرض قليل
بالنسبة إلى المصلحة المقتضية لإبادتهم وإبطال شرهم،.فما دام لهم شر وصولة،
فالأوفق أن لا يؤسروا..

فإذا أثخنوا، وبطل شرهم، واضمحل أمرهم،
فحينئذ لا بأس بأخذ الأسرى منهم وإبقائهم.

يقول تعالى: { تُرِيدُونَ
ْ} بأخذكم الفداء وإبقائهم { عَرَضَ الدُّنْيَا ْ} أي: لا لمصلحة تعود إلى
دينكم.

{ وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ْ} بإعزاز دينه، ونصر
أوليائه، وجعل كلمتهم عالية فوق غيرهم، فيأمركم بما يوصل إلى ذلك.

{
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ْ} أي: كامل العزة، ولو شاء أن ينتصر من الكفار
من دون قتال لفعل، لكنه حكيم، يبتلي بعضكم ببعض.

{ لَوْلَا كِتَابٌ
مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ْ} به القضاء والقدر، أنه قد أحل لكم الغنائم، وأن
اللّه رفع عنكم - أيها الأمة - العذاب { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ ْ} وفي الحديث: { لو نزل عذاب يوم بدر، ما نجا منه إلا عمر
ْ}

{ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ْ} وهذا من
لطفه تعالى بهذه الأمة، أن أحل لها الغنائم ولم يحلها لأمة قبلها.

{
وَاتَّقُوا اللَّهَ ْ} في جميع أموركم ولازموها، شكرا لنعم اللّه عليكم،. {
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ْ} يغفر لمن تاب إليه جميع الذنوب،.ويغفر لمن لم
يشرك به شيئا جميع المعاصي.

{ رَحِيمٌ ْ} بكم، حيث أباح لكم الغنائم
وجعلها حلالا طيبا.

{ 70 - 71 ْ} { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ
لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي
قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ
خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ ْ}

وهذه نزلت في أسارى يوم بدر، وكان في جملتهم العباس عم
رسول اللّه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999،فلما طلب منه الفداء، ادَّعى أنه مسلم قبل
ذلك، فلم يسقطوا عنه الفداء،فأنزل اللّه تعالى جبرا لخاطره ومن كان على مثل
حاله.

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ
الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ
خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ْ} أي: من المال، بأن ييسر لكم من فضله،
خيرا وأكثر مما أخذ منكم.

{ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ْ} ذنوبكم، ويدخلكم
الجنة وقد أنجز اللّه وعده للعباس وغيره، فحصل له - بعد ذلك - من المال شيء
كثير،حتى إنه مرة لما قدم على النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 مال كثير، أتاه العباس فأمره أن يأخذ منه
بثوبه ما يطيق حمله، فأخذ منه ما كاد أن يعجز عن حمله.

{ وَإِنْ
يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ ْ} في السعي لحربك ومنابذتك، { فَقَدْ خَانُوا
اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ْ} فليحذروا خيانتك، فإنه تعالى
قادر عليهم وهم تحت قبضته، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ} أي: عليم بكل
شيء، حكيم يضع الأشياء مواضعها، ومن علمه وحكمته أن شرع لكم هذه الأحكام
الجليلة الجميلة، وأن تكفل بكفايتكم شأن الأسرى وشرهم إن أرادوا خيانة.


{
72 ْ} { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا
أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا
وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا
عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ْ}

هذا عقد موالاة ومحبة، عقدها اللّه بين
المهاجرين الذين آمنوا وهاجروا في سبيل اللّه، وتركوا أوطانهم للّه لأجل
الجهاد في سبيل اللّه،وبين الأنصار الذين آووا رسول اللّه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 وأصحابه وأعانوهم في ديارهم وأموالهم
وأنفسهم،فهؤلاء بعضهم أولياء بعض، لكمال إيمانهم وتمام اتصال بعضهم ببعض.

{
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ْ} فإنهم قطعوا ولايتكم بانفصالهم عنكم في
وقت شدة الحاجة إلى الرجال،فلما لم يهاجروا لم يكن لهم من ولاية المؤمنين
شيء.لكنهم { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ ْ} أي: لأجل قتال من
قاتلهم لأجل دينهم { فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ْ} والقتال معهم،وأما من
قاتلوهم لغير ذلك من المقاصد فليس عليكم نصرهم.

وقوله تعالى: {
إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ْ} أي: عهد بترك
القتال، فإنهم إذا أراد المؤمنون المتميزون الذين لم يهاجروا قتالهم، فلا
تعينوهم عليهم، لأجل ما بينكم وبينهم من الميثاق.

{ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ْ} يعلم ما أنتم عليه من الأحوال، فيشرع لكم من
الأحكام ما يليق بكم.


{ 73 ْ} { وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي
الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ْ}

لما عقد الولاية بين المؤمنين، أخبر
أن الكفار حيث جمعهم الكفر فبعضهم أولياء لبعض فلا يواليهم إلا كافر
مثلهم.

وقوله: { إِلَّا تَفْعَلُوهُ ْ} أي: موالاة المؤمنين ومعاداة
الكافرين، بأن واليتموهم كلهم أو عاديتموهم كلهم، أو واليتم الكافرين
وعاديتم المؤمنين.

{ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ
كَبِيرٌ ْ} فإنه يحصل بذلك من الشر ما لا ينحصر من اختلاط الحق بالباطل،
والمؤمن بالكافر، وعدم كثير من العبادات الكبار، كالجهاد والهجرة، وغير ذلك
من مقاصد الشرع والدين التي تفوت إذا لم يتخذ المؤمنون وحدهم أولياء بعضهم
لبعض.


{ 74 - 75 ْ} { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ *
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ
فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ْ}

الآيات
السابقات في ذكر عقد الموالاة بين المؤمنين من المهاجرين والأنصار.

وهذه
الآيات في بيان مدحهم وثوابهم، فقال: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ
ْ} أي: المؤمنون من المهاجرين والأنصار { هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ْ}
لأنهم صدقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة والنصرة والموالاة بعضهم لبعض،
وجهادهم لأعدائهم من الكفار والمنافقين.

{ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ْ} من
اللّه تمحى بها سيئاتهم، وتضمحل بها زلاتهم، { و ْ} لهم { رِزْقٌ كَرِيمٌ
ْ} أي: خير كثير من الرب الكريم في جنات النعيم.

وربما حصل لهم من
الثواب المعجل ما تقر به أعينهم، وتطمئن به قلوبهم ، وكذلك من جاء بعد
هؤلاء المهاجرين والأنصار، ممن اتبعهم بإحسان فآمن وهاجر وجاهد في سبيل
اللّه. { فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ْ} لهم ما لكم وعليهم ما عليكم

فهذه
الموالاة الإيمانية - وقد كانت في أول الإسلام - لها وقع كبير وشأن عظيم،
حتى إن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 آخى بين المهاجرين والأنصارأخوة خاصة، غير
الأخوة الإيمانية العامة، وحتى كانوا يتوارثون بها، فأنزل اللّه { وَأُولُو
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ْ} فلا
يرثه إلا أقاربه من العصبات وأصحاب الفروض،فإن لم يكونوا، فأقرب قراباته من
ذوي الأرحام، كما دل عليه عموم هذه الآية الكريمة،وقوله: { فِي كِتَابِ
اللَّهِ ْ} أي: في حكمه وشرعه.

{ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ ْ} ومنه ما يعلمه من أحوالكم التي يجري من شرائعه الدينية عليكم ما
يناسبها.

تم تفسير سورة الأنفال وللّه الحمد.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:29 pm


- 78 } { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ *
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا
أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ
اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ }

أي: ومن هؤلاء المنافقين من أعطى
اللّه عهده وميثاقه { لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ } من الدنيا فبسطها لنا
ووسعها { لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } فنصل
الرحم، ونقري الضيف، ونعين على نوائب الحق، ونفعل الأفعال الحسنة الصالحة.

{
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } لم يفوا بما قالوا، بل { بَخِلُوا بِهِ
وَتَوَلَّوْا } عن الطاعة والانقياد { وَهُمْ مُعْرِضُونَ } أي: غير
ملتفتين إلى الخير.

فلما لم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه، عاقبهم {
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ } مستمرا { إِلَى يَوْمِ
يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا
يَكْذِبُونَ }

فليحذر المؤمن من هذا الوصف الشنيع، أن يعاهد ربه، إن
حصل مقصوده الفلاني ليفعلن كذا وكذا، ثم لا يفي بذلك، فإنه ربما عاقبه
اللّه بالنفاق كما عاقب هؤلاء.

وقد قال النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 في الحديث الثابت في الصحيحين: { آية
المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف }

فهذا
المنافق الذي وعد اللّه وعاهده، لئن أعطاه اللّه من فضله، ليصدقن وليكونن
من الصالحين، حدث فكذب، وعاهد فغدر، ووعد فأخلف.

ولهذا توعد من صدر
منهم هذا الصنيع، بقوله: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } وسيجازيهم
على ما عملوا من الأعمال التي يعلمها اللّه تعالى، وهذه الآيات نزلت في رجل
من المنافقين يقال له { ثعلبة } جاء إلى النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، وسأله أن يدعو اللّه له، أن يعطيه الله من
فضله، وأنه إن أعطاه، ليتصدقن، ويصل الرحم، ويعين على النوائب، فدعا له
النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، فكان له غنم، فلم تزل تتنامى، حتى خرج بها
عن المدينة، فكان لا يحضر إلا بعض الصلوات الخمس، ثم أبعد، فكان لا يحضر
إلا صلاة الجمعة، ثم كثرت فأبعد بها، فكان لا يحضر جمعة ولا جماعة.

ففقده
النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، فأخبر بحاله، فبعث من يأخذ الصدقات من
أهلها، فمروا على ثعلبة، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية،
فلما لم يعطهم جاءوا فأخبروا بذلك النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 فقال: { يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة }
ثلاثا.

فلما نزلت هذه الآية فيه، وفي أمثاله، ذهب بها بعض أهله
فبلغه إياها، فجاء بزكاته، فلم يقبلها النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، ثم جاء بها لأبي بكر بعد وفاة النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 فلم يقبلها، ثم جاء بها بعد أبي بكر لعمر
فلم يقبلها، فيقال: إنه هلك في زمن عثمان

{ 79 - 80 } { الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ
وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ
سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً
فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }

وهذا
أيضا من مخازي المنافقين، فكانوا -قبحهم اللّه- لا يدعون شيئا من أمور
الإسلام والمسلمين يرون لهم مقالا، إلا قالوا وطعنوا بغيا وعدوانا، فلما
حثَّ اللّه ورسوله على الصدقة، بادر المسلمون إلى ذلك، وبذلوا من أموالهم
كل على حسب حاله، منهم المكثر، ومنهم المقل، فيلمزون المكثر منهم، بأن قصده
بنفقته الرياء والسمعة، وقالوا للمقل الفقير: إن اللّه غني عن صدقة هذا،
فأنزل اللّه تعالى: { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ } أي: يعيبون ويطعنون {
الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } فيقولون: مراءون،
قصدهم الفخر والرياء.

{ و } يلمزون { الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ
إِلَّا جُهْدَهُمْ } فيخرجون ما استطاعوا ويقولون: اللّه غني عن صدقاتهم {
فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ }

. فقابلهم الله على صنيعهم بأن { سَخِرَ
اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فإنهم جمعوا في كلامهم هذا
بين عدة محاذير.

منها: تتبعهم لأحوال المؤمنين، وحرصهم على أن يجدوا
مقالا يقولونه فيهم، واللّه يقول: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ
تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

ومنها:
طعنهم بالمؤمنين لأجل إيمانهم، كفر باللّه تعالى وبغض للدين.

ومنها:
أن اللمز محرم، بل هو من كبائر الذنوب في أمور الدنيا، وأما اللمز في أمر
الطاعة، فأقبح وأقبح.

ومنها: أن من أطاع اللّه وتطوع بخصلة من خصال
الخير، فإن الذي ينبغي[هو] إعانته، وتنشيطه على عمله، وهؤلاء قصدوا تثبيطهم
بما قالوا فيهم، وعابوهم عليه.

ومنها: أن حكمهم على من أنفق مالا
كثيرا بأنه مراء، غلط فاحش، وحكم على الغيب، ورجم بالظن، وأي شر أكبر من
هذا؟!!

ومنها: أن قولهم لصاحب الصدقة القليلة: "اللّه غني عن صدقة
هذا" كلام مقصوده باطل، فإن اللّه غني عن صدقة المتصدق بالقليل والكثير، بل
وغني عن أهل السماوات والأرض، ولكنه تعالى أمر العباد بما هم مفتقرون
إليه، فاللّه -وإن كان غنيا عنهم- فهم فقراء إليه { فمن يعمل مثقال ذرة
خيرا يره } وفي هذا القول من التثبيط عن الخير ما هو ظاهر بين، ولهذا كان
جزاؤهم أن سخر اللّه منهم، ولهم عذاب أليم.

{80} { اسْتَغْفِرْ
لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ
مَرَّةً } على وجه المبالغة، وإلا، فلا مفهوم لها.

{ فَلَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } كما قال في الآية الأخرى { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ } ثم ذكر السبب المانع لمغفرة اللّه لهم فقال: { ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } والكافر لا ينفعه الاستغفار
ولا العمل ما دام كافرا.

{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ } أي: الذين صار الفسق لهم وصفا، بحيث لا يختارون عليه سواه
ولا يبغون به بدلا، يأتيهم الحق الواضح فيردونه، فيعاقبهم اللّه تعالى بأن
لا يوفقهم له بعد ذلك.

{ 81 - 83 } { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ
بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا
تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا
يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ
مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ
أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ
بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ }

يقول
تعالى مبينا تبجح المنافقين بتخلفهم وعدم مبالاتهم بذلك، الدال على عدم
الإيمان، واختيار الكفر على الإيمان.

{ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ
بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ } وهذا قدر زائد على مجرد التخلف،
فإن هذا تخلف محرم، وزيادة رضا بفعل المعصية، وتبجح به.

{
وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ } وهذا بخلاف المؤمنين الذين إذا تخلفوا -ولو لعذر- حزنوا على
تخلفهم وتأسفوا غاية الأسف، ويحبون أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل
اللّه، لما في قلوبهم من الإيمان، ولما يرجون من فضل اللّه وإحسانه وبره
وامتنانه.

{ وَقَالُوا } أي: المنافقون { لَا تَنْفِرُوا فِي
الْحَرِّ } أي: قالوا إن النفير مشقة علينا بسبب الحر، فقدموا راحة قصيرة
منقضية على الراحة الأبدية التامة.

وحذروا من الحر الذي يقي منه
الظلال، ويذهبه البكر والآصال، على الحر الشديد الذي لا يقادر قدره، وهو
النار الحامية.

ولهذا قال: { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا
لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } لما آثروا ما يفنى على ما يبقى، ولما فروا من
المشقة الخفيفة المنقضية، إلى المشقة الشديدة الدائمة.

قال الله
تعالى: { فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا } أي: فليتمتعوا
في هذه الدار المنقضية، ويفرحوا بلذاتها، ويلهوا بلعبها، فسيبكون كثيرا في
عذاب أليم { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } من الكفر والنفاق، وعدم
الانقياد لأوامر ربهم.

{ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ
مِنْهُمْ } وهم الذين تخلفوا من غير عذر، ولم يحزنوا على تخلفهم {
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } لغير هذه الغزوة، إذا رأوا السهولة. {
فَقُلْ } لهم عقوبة { لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا
مَعِيَ عَدُوًّا } فسيغني اللّه عنكم.

{ إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ
بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } وهذا كما
قال تعالى { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } فإن
المتثاقل المتخلف عن المأمور به عند انتهاز الفرصة، لا يوفق له بعد ذلك،
ويحال بينه وبينه.

وفيه أيضا تعزير لهم، فإنه إذا تقرر عند المسلمين
أن هؤلاء من الممنوعين من الخروج إلى الجهاد لمعصيتهم، كان ذلك توبيخا
لهم، وعارا عليهم ونكالا أن يفعل أحد كفعلهم.

{ 84 } { وَلَا
تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ
إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ }

يقول
تعالى: { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبدا } من المنافقين {
وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } بعد الدفن لتدعو له، فإن صلاته ووقوفه على
قبورهم شفاعة منه لهم، وهم لا تنفع فيهم الشفاعة.

{ إِنَّهُمْ
كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } ومن كان
كافرا ومات على ذلك، فما تنفعه شفاعة الشافعين، وفي ذلك عبرة لغيرهم، وزجر
ونكال لهم، وهكذا كل من علم منه الكفر والنفاق، فإنه لا يصلى عليه.

وفي
هذه الآية دليل على مشروعية الصلاة على المؤمنين، والوقوف عند قبورهم
للدعاء لهم، كما كان النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، يفعل ذلك في المؤمنين، فإن تقييد النهي
بالمنافقين يدل على أنه قد كان متقررا في المؤمنين.

{ 85 } { وَلَا
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ
يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ
كَافِرُونَ }

أي: لا تغتر بما أعطاهم اللّه في الدنيا من الأموال
والأولاد، فليس ذلك لكرامتهم عليه، وإنما ذلك إهانة منه لهم. { إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا } فيتعبون في
تحصيلها، ويخافون من زوالها، ولا يتهنئون بها.

بل لا يزالون يعانون
الشدائد والمشاق فيها، وتلهيهم عن اللّه والدار الآخرة، حتى ينتقلوا من
الدنيا { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } قد سلبهم حبها عن كل
شيء، فماتوا وقلوبهم بها متعلقة، وأفئدتهم عليها متحرقة.

{ 86 - 87
} { وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ
رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا
نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ
وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ْ}

يقول تعالى
في بيان استمرار المنافقين على التثاقل عن الطاعات، وأنها لا تؤثر فيهم
السور والآيات: { وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ْ} يؤمرون فيها بالإيمان
باللّه والجهاد في سبيل اللّه.

{ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ
مِنْهُمْ ْ} يعني: أولي الغنى والأموال، الذين لا عذر لهم، وقد أمدهم اللّه
بأموال وبنين، أفلا يشكرون اللّه ويحمدونه، ويقومون بما أوجبه عليهم، وسهل
عليهم أمره، ولكن أبوا إلا التكاسل والاستئذان في القعود { وَقَالُوا
ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ْ}

{87} قال تعالى { رَضُوا
بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ْ} أي: كيف رضوا لأنفسهم أن يكونوا مع
النساء المتخلفات عن الجهاد، هل معهم فقه أو عقل دلهم على ذلك؟ أم طبع الله
على قلوبهم فلا تعي الخير، ولا يكون فيها إرادة لفعل ما فيه الخير
والفلاح؟ فهم لا يفقهون مصالحهم، فلو فقهوا حقيقة الفقه، لم يرضوا لأنفسهم
بهذه الحال التي تحطهم عن منازل الرجال.

{ 88 - 89 ْ} { لَكِنِ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ}

يقول
تعالى: إذا تخلف هؤلاء المنافقون عن الجهاد، فاللّه سيغني عنهم، وللّه
عباد وخواص من خلقه اختصهم بفضله يقومون بهذا الأمر، وهم { الرَّسُولُ ْ}
محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، { وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ْ} غير متثاقلين ولا كسلين، بل هم فرحون
مستبشرون، { وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ْ} الكثيرة في الدنيا
والآخرة، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ْ} الذين ظفروا بأعلى المطالب
وأكمل الرغائب.

{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ}
فتبا لمن لم يرغب بما رغبوا فيه، وخسر دينه ودنياه وأخراه، وهذا نظير قوله
تعالى { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ
لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ْ} وقوله: { فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ
فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ْ}

{
90 - 93 ْ} { وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ
وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا
عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ
حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ
سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا
أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ
تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا
مَا يُنْفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ
وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ
اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ْ}

يقول تعالى: {
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ْ} أي: جاء
الذين تهاونوا، وقصروا منهم في الخروج لأجل أن يؤذن لهم في ترك الجهاد، غير
مبالين في الاعتذار لجفائهم وعدم حيائهم، وإتيانهم بسبب ما معهم من
الإيمان الضعيف.

وأما الذين كذبوا اللّه ورسوله منهم، فقعدوا وتركوا
الاعتذار بالكلية، ويحتمل أن معنى قوله: { الْمُعَذِّرُونَ ْ} أي: الذين
لهم عذر، أتوا إلى رسول الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 ليعذرهم، ومن عادته أن يعذر من له عذر.

{
وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ْ} في دعواهم الإيمان،
المقتضي للخروج، وعدم عملهم بذلك، ثم توعدهم بقوله: { سَيُصِيبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ْ} في الدنيا والآخرة.

لما ذكر
المعتذرين، وكانوا على قسمين، قسم معذور في الشرع، وقسم غير معذور، ذكر ذلك
بقوله:

{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ ْ} في أبدانهم وأبصارهم، الذين
لا قوة لهم على الخروج والقتال. { وَلَا عَلَى الْمَرْضَى ْ}

وهذا
شامل لجميع أنواع المرض الذي لا يقدر صاحبه معه على الخروج والجهاد، من
عرج، وعمى، وحمى، وذات الجنب، والفالج، وغير ذلك.

{ وَلَا عَلَى
الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ ْ} أي: لا يجدون زادا، ولا راحلة
يتبلغون بها في سفرهم، فهؤلاء ليس عليهم حرج، بشرط أن ينصحوا للّه ورسوله،
بأن يكونوا صادقي الإيمان، وأن يكون من نيتهم وعزمهم أنهم لو قدروا
لجاهدوا، وأن يفعلوا ما يقدرون عليه من الحث والترغيب والتشجيع على الجهاد.

{
مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ْ} أي: من سبيل يكون عليهم فيه
تبعة، فإنهم -بإحسانهم فيما عليهم من حقوق اللّه وحقوق العباد- أسقطوا توجه
اللوم عليهم، وإذا أحسن العبد فيما يقدر عليه، سقط عنه ما لا يقدر عليه.

ويستدل
بهذه الآية على قاعدة وهي: أن من أحسن على غيره، في [نفسه] أو في ماله،
ونحو ذلك، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، أنه غير ضامن لأنه محسن، ولا
سبيل على المحسنين، كما أنه يدل على أن غير المحسن -وهو المسيء- كالمفرط،
أن عليه الضمان.

{ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ} ومن مغفرته ورحمته،
عفا عن العاجزين، وأثابهم بنيتهم الجازمة ثواب القادرين الفاعلين.

{
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ْ} فلم يصادفوا
عندك شيئا { قُلْتَ ْ} لهم معتذرا: { لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ
تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا
يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ْ} فإنهم عاجزون باذلون لأنفسهم، وقد صدر منهم من
الحزن والمشقة ما ذكره اللّه عنهم.

فهؤلاء لا حرج عليهم، وإذا سقط
الحرج عنهم، عاد الأمر إلى أصله، وهو أن من نوى الخير، واقترن بنيته
الجازمة سَعْيٌ فيما يقدر عليه، ثم لم يقدر، فإنه ينزل منزلة الفاعل التام.

{
إِنَّمَا السَّبِيلُ ْ} يتوجه واللوم يتناول الذين يستأذنوك وهم أغنياء
قادرون على الخروج لا عذر لهم، فهؤلاء { رَضُوا ْ} لأنفسهم ومن دينهم {
بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ْ} كالنساء والأطفال ونحوهم.

{ و
ْ} إنما رضوا بهذه الحال لأن اللّه طبع على قلوبهم أي: ختم عليها، فلا
يدخلها خير، ولا يحسون بمصالحهم الدينية والدنيوية، { فَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ ْ} عقوبة لهم، على ما اقترفوا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:31 pm

{
94 - 96 ْ} { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ
لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ
أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ
إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ
إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ
لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ
لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ْ} لما ذكر تخلف المنافقين
الأغنياء، وأنهم لا عذر لهم، أخبر أنهم سـ { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ
إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ْ} من غزاتكم. { قُلْ ْ} لهم { لَا
تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ْ} أي: لن نصدقكم في اعتذاركم الكاذب. {
قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ْ} وهو الصادق في قيله، فلم
يبق للاعتذار فائدة، لأنهم يعتذرون بخلاف ما أخبر اللّه عنهم، ومحال أن
يكونوا صادقين فيما يخالف خبر اللّه الذي هو أعلى مراتب الصدق. { وَسَيَرَى
اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ْ} في الدنيا، لأن العمل هو ميزان الصدق
من الكذب، وأما مجرد الأقوال، فلا دلالة فيها على شيء من ذلك. { ثُمَّ
تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ْ} الذي لا تخفى عليه
خافية، { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ} من خير وشر،
ويجازيكم بعدله أو بفضله، من غير أن يظلمكم مثقال ذرة. وأعلم أن المسيء
المذنب له ثلاث حالات: إما [أن] يقبل قوله وعذره، ظاهرا وباطنا، ويعفى عنه
بحيث يبقى كأنه لم يذنب. فهذه الحالة هي المذكورة هنا في حق المنافقين، أن
عذرهم غير مقبول، وأنه قد تقررت أحوالهم الخبيثة وأعمالهم السيئة، وإما أن
يعاقبوا بالعقوبة والتعزير الفعلي على ذنبهم، وإما أن يعرض عنهم، ولا
يقابلوا بما فعلوا بالعقوبة الفعلية، وهذه الحال الثالثة هي التي أمر اللّه
بها في حق المنافقين، ولهذا قال: { سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا
انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ْ}
أي: لا توبخوهم، ولا تجلدوهم أو تقتلوهم. { إِنَّهُمْ رِجْسٌ ْ} أي: إنهم
قذر خبثاء، ليسوا بأهل لأن يبالى بهم، وليس التوبيخ والعقوبة مفيدا فيهم، {
و ْ} تكفيهم عقوبة جهنم جزاء بما كانوا يكسبون. وقوله: { يَحْلِفُونَ
لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ْ} أي: ولهم أيضا هذا المقصد الآخر منكم، غير
مجرد الإعراض، بل يحبون أن ترضوا عنهم، كأنهم ما فعلوا شيئا. { فَإِنْ
تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ ْ} أي: فلا ينبغي لكم -أيها المؤمنون- أن ترضوا عن من لم يرض
اللّه عنه، بل عليكم أن توافقوا ربكم في رضاه وغضبه. وتأمل كيف قال: {
فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ْ} ولم يقل:
"فإن اللّه لا يرضى عنهم" ليدل ذلك على أن باب التوبة مفتوح، وأنهم مهما
تابوا هم أو غيرهم، فإن اللّه يتوب عليهم، ويرضى عنهم. وأما ما داموا
فاسقين، فإن اللّه لا يرضى عليهم، لوجود المانع من رضاه، وهو خروجهم عن ما
رضيه اللّه لهم من الإيمان والطاعة، إلى ما يغضبه من الشرك، والنفاق،
والمعاصي. وحاصل ما ذكره اللّه أن المنافقين المتخلفين عن الجهاد من غير
عذر، إذا اعتذروا للمؤمنين، وزعموا أن لهم أعذارا في تخلفهم، فإن المنافقين
يريدون بذلك أن تعرضوا عنهم، وترضوا وتقبلوا عذرهم، فأما قبول العذر منهم
والرضا عنهم، فلا حبا ولا كرامة لهم. وأما الإعراض عنهم، فيعرض المؤمنون
عنهم، إعراضهم عن الأمور الردية والرجس، وفي هذه الآيات، إثبات الكلام للّه
تعالى في قوله: { قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } وإثبات
الأفعال الاختيارية للّه، الواقعة بمشيئته [تعالى] وقدرته في هذا، وفي
قوله: { وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } أخبر أنه سيراه بعد
وقوعه، وفيها إثبات الرضا للّه عن المحسنين، والغضب والسخط على الفاسقين. {
97 - 99 ْ} { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا
يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ
مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ
اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ
سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ}
يقول تعالى: { الْأَعْرَابِ ْ} وهم سكان البادية والبراري { أَشَدُّ
كُفْرًا وَنِفَاقًا ْ} من الحاضرة الذين فيهم كفر ونفاق، وذلك لأسباب
كثيرة: منها: أنهم بعيدون عن معرفة الشرائع الدينية والأعمال والأحكام، فهم
أحرى { وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ } من أصول الإيمان وأحكام الأوامر والنواهي، بخلاف الحاضرة،
فإنهم أقرب لأن يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله، فيحدث لهم -بسبب هذا
العلم- تصورات حسنة، وإرادات للخير، الذي يعلمون، ما لا يكون في البادية.
وفيهم من لطافة الطبع والانقياد للداعي ما ليس في البادية، ويجالسون أهل
الإيمان، ويخالطونهم أكثر من أهل البادية، فلذلك كانوا أحرى للخير من أهل
البادية، وإن كان في البادية والحاضرة، كفار ومنافقون، ففي البادية أشد
وأغلظ مما في الحاضرة. ومن ذلك أن الأعراب أحرص على الأموال، وأشح فيها. {
98 ْ} فمنهم { مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ ْ} من الزكاة والنفقة في سبيل
اللّه وغير ذلك، { مَغْرَمًا ْ} أي: يراها خسارة ونقصا، لا يحتسب فيها، ولا
يريد بها وجه اللّه، ولا يكاد يؤديها إلا كرها. {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ
الدَّوَائِرَ } أي: من عداوتهم للمؤمنين وبغضهم لهم، أنهم يودون وينتظرون
فيهم دوائر الدهر، وفجائع الزمان، وهذا سينعكس عليهم فعليهم دائرة السوء.
وأما المؤمنون فلهم الدائرة الحسنة على أعدائهم، ولهم العقبى الحسنة، {
وَاللَّهُ سميع عليم ْ} يعلم نيات العباد، وما صدرت عنه الأعمال، من إخلاص
وغيره. وليس الأعراب كلهم مذمومين، بل منهم { مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فيسلم بذلك من الكفر والنفاق ويعمل بمقتضى الإيمان.
{ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ } أي: يحتسب نفقته،
ويقصد بها وجه اللّه تعالى والقرب منه و يجعلها وسيلة لـ { صَلَوَاتِ
الرَّسُولِ ْ} أي: دعائه لهم، وتبريكه عليهم، قال تعالى مبينا لنفع صلوات
الرسول: { أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ } تقربهم إلى اللّه، وتنمي
أموالهم وتحل فيها البركة. { سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } في
جملة عباده الصالحين إنه غفور رحيم، فيغفر السيئات العظيمة لمن تاب إليه،
ويعم عباده برحمته، التي وسعت كل شيء، ويخص عباده المؤمنين برحمة يوفقهم
فيها إلى الخيرات، ويحميهم فيها من المخالفات، ويجزل لهم فيها أنواع
المثوبات. وفي هذه الآية دليل على أن الأعراب كأهل الحاضرة، منهم الممدوح
ومنهم المذموم، فلم يذمهم اللّه على مجرد تعربهم وباديتهم، إنما ذمهم على
ترك أوامر اللّه، وأنهم في مظنة ذلك. ومنها: أن الكفر والنفاق يزيد وينقص
ويغلظ ويخف بحسب الأحوال. ومنها: فضيلة العلم، وأن فاقده أقرب إلى الشر ممن
يعرفه، لأن اللّه ذم الأعراب، وأخبر أنهم أشد كفرا ونفاقا، وذكر السبب
الموجب لذلك، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله.
ومنها: أن العلم النافع الذي هو أنفع العلوم، معرفة حدود ما أنزل اللّه على
رسوله، من أصول الدين وفروعه، كمعرفة حدود الإيمان، والإسلام، والإحسان،
والتقوى، والفلاح، والطاعة، والبر، والصلة، والإحسان، والكفر، والنفاق،
والفسوق، والعصيان، والزنا، والخمر، والربا، ونحو ذلك. فإن في معرفتها
يتمكن من فعلها -إن كانت مأمور بها، أو تركها إن كانت محظورة- ومن الأمر
بها أو النهي عنها. ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يؤدي ما عليه من الحقوق،
منشرح الصدر، مطمئن النفس، ويحرص أن تكون مغنما، ولا تكون مغرما. { 100 ْ} {
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ} السابقون هم
الذين سبقوا هذة الأمة وبدروها إلى الإيمان والهجرة، والجهاد، وإقامة دين
اللّه. { مِنَ الْمُهَاجِرِينَ } { الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون
فضلا من اللّه ورضوانا، وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون } و من {
الْأَنْصَارِ } ( الذين تبوأوا الدار والإيمان، [من قبلهم] يحبون من هاجر
إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان
بهم خصاصة ) { وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } بالاعتقادات
والأقوال والأعمال، فهؤلاء، هم الذين سلموا من الذم، وحصل لهم نهاية المدح،
وأفضل الكرامات من اللّه. { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } ورضاه تعالى أكبر
من نعيم الجنة، { وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ } الجارية التي تساق إلى سَقْيِ الجنان، والحدائق
الزاهية الزاهرة، والرياض الناضرة. { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } لا يبغون
عنها حولا، ولا يطلبون منها بدلا، لأنهم مهما تمنوه، أدركوه، ومهما
أرادوه، وجدوه. { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } الذي حصل لهم فيه، كل
محبوب للنفوس، ولذة للأرواح، ونعيم للقلوب، وشهوة للأبدان، واندفع عنهم كل
محذور. { 101 ْ} { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ
وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ
نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى
عَذَابٍ عَظِيمٍ ْ} يقول تعالى: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ
مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ } أيضا منافقون { مَرَدُوا عَلَى
النِّفَاقِ } أي: تمرنوا عليه، واستمروا وازدادوا فيه طغيانا. { لَا
تَعْلَمُهُمْ } بأعيانهم فتعاقبهم، أو تعاملهم بمقتضى نفاقهم، لما للّه في
ذلك من الحكمة الباهرة. { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ
} يحتمل أن التثنية على بابها، وأن عذابهم عذاب في الدنيا، وعذاب في
الآخرة. ففي الدنيا ما ينالهم من الهم والحزن ، والكراهة لما يصيب المؤمنين
من الفتح والنصر، وفي الآخرة عذاب النار وبئس القرار. ويحتمل أن المراد
سنغلظ عليهم العذاب، ونضاعفه عليهم ونكرره. { 102 - 103 ْ} { وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ ْ} يقول تعالى: { وَآخَرُونَ } ممن بالمدينة ومن حولها، بل ومن
سائر البلاد الإسلامية، { اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } أي: أقروا بها،
وندموا عليها، وسعوا في التوبة منها، والتطهر من أدرانها. { خَلَطُوا
عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا } ولا يكون العمل صالحا إلا إذا كان مع
العبد أصل التوحيد والإيمان، المخرج عن الكفر والشرك، الذي هو شرط لكل عمل
صالح، فهؤلاء خلطوا الأعمال الصالحة، بالأعمال السيئة، من التجرؤ على بعض
المحرمات، والتقصير في بعض الواجبات، مع الاعتراف بذلك والرجاء، بأن يغفر
اللّه لهم، فهؤلاء { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } وتوبته على
عبده نوعان: الأول: التوفيق للتوبة. والثاني: قبولها بعد وقوعها منهم. {
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: وصفه المغفرة والرحمة اللتان لا يخلو
مخلوق منهما، بل لا بقاء للعالم العلوي والسفلي إلا بهما، فلو يؤاخذ اللّه
الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة. { إن اللّه يمسك السماوات والأرض
أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا } .
ومن مغفرته أن المسرفين على أنفسهم الذين قطعوا أعمارهم بالأعمال السيئة،
إذا تابوا إليه وأنابوا ولو قبيل موتهم بأقل القليل، فإنه يعفو عنهم،
ويتجاوز عن سيئاتهم، فهذه الآية، دلت على أن المخلط المعترف النادم، الذي
لم يتب توبة نصوحا، أنه تحت الخوف والرجاء، وهو إلى السلامة أقرب. وأما
المخلط الذي لم يعترف ويندم على ما مضى منه، بل لا يزال مصرا على الذنوب،
فإنه يخاف عليه أشد الخوف. قال تعالى لرسوله ومن قام مقامه، آمرا له بما
يطهر المؤمنين، ويتمم إيمانهم: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وهي
الزكاة المفروضة، { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } أي: تطهرهم من
الذنوب والأخلاق الرذيلة. { وَتُزَكِّيهِمْ } أي: تنميهم، وتزيد في أخلاقهم
الحسنة، وأعمالهم الصالحة، وتزيد في ثوابهم الدنيوي والأخروي، وتنمي
أموالهم. { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } أي: ادع لهم، أي: للمؤمنين عموما وخصوصا
عندما يدفعون إليك زكاة أموالهم. { إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } أي:
طمأنينة لقلوبهم، واستبشار لهم، { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } لدعائك، سمع إجابة
وقبول. { عَلِيمٌ } بأحوال العباد ونياتهم، فيجازي كل عامل بعمله، وعلى قدر
نيته، فكان النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 يمتثل لأمر اللّه، ويأمرهم بالصدقة، ويبعث
عماله لجبايتها، فإذا أتاه أحد بصدقته دعا له وبرَّك. ففي هذه الآية، دلالة
على وجوب الزكاة، في جميع الأموال، وهذا إذا كانت للتجارة ظاهرة، فإنها
أموال تنمى ويكتسب بها، فمن العدل أن يواسى منها الفقراء، بأداء ما أوجب
اللّه فيها من الزكاة. وما عدا أموال التجارة، فإن كان المال ينمى،
كالحبوب، والثمار، والماشية المتخذة للنماء والدر والنسل، فإنها تجب فيها
الزكاة، وإلا لم تجب فيها، لأنها إذا كانت للقنية، لم تكن بمنزلة الأموال
التي يتخذها الإنسان في العادة، مالا يتمول، ويطلب منه المقاصد المالية،
وإنما صرف عن المالية بالقنية ونحوها. وفيها: أن العبد لا يمكنه أن يتطهر
ويتزكى حتى يخرج زكاة ماله، وأنه لا يكفرها شيء سوى أدائها، لأن الزكاة
والتطهير متوقف على إخراجها. وفيها: استحباب الدعاء من الإمام أو نائبه لمن
أدى زكاته بالبركة، وأن ذلك ينبغي، أن يكون جهرا، بحيث يسمعه المتصدق
فيسكن إليه. ويؤخذ من المعنى، أنه ينبغي إدخال السرور على المؤمن بالكلام
اللين، والدعاء له، ونحو ذلك مما يكون فيه طمأنينة، وسكون لقلبه. وأنه
ينبغي تنشيط من أنفق نفقة وعمل عملا صالحا بالدعاء له والثناء، ونحو ذلك. {
104 ْ} { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ ْ} أي: أما علموا سعة رحمة اللّه وعموم كرمه وأنه { يَقْبَلُ
التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } التائبين من أي ذنب كان، بل يفرح تعالى بتوبة
عبده، إذا تاب أعظم فرح يقدر. { وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } منهم أي:
يقبلها، ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدهم كما يربي الرجل فلوه، حتى تكون
التمرة الواحدة كالجبل العظيم، فكيف بما هو أكبر وأكثر من ذلك. { وَأَنَّ
اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ } أي: كثير التوبة على التائبين، فمن تاب إليه
تاب عليه، ولو تكررت منه [المعصية ] مرارا. ولا يمل اللّه من التوبة على
عباده، حتى يملوا هم، ويأبوا إلا النفار والشرود عن بابه، وموالاتهم عدوهم.
{ الرَّحِيمِ } الذي وسعت رحمته كل شيء، وكتبها للذين يتقون، ويؤتون
الزكاة، ويؤمنون بآياته، ويتبعون رسوله. { 105 ْ} { وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ
إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ ْ} يقول تعالى: { وَقُلْ } لهؤلاء المنافقين: { اعْمَلُوا } ما
ترون من الأعمال، واستمروا على باطلكم، فلا تحسبوا أن ذلك، سيخفى. {
فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } أي: لا بد أن
يتبين عملكم ويتضح، { وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من خير وشر،
ففي هذا التهديد والوعيد الشديد على من استمر على باطله وطغيانه وغيه
وعصيانه. ويحتمل أن المعنى: أنكم مهما عملتم من خير أوشر، فإن اللّه مطلع
عليكم، وسيطلع رسوله وعباده المؤمنين على أعمالكم ولو كانت باطنة. { 106 ْ}
{ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا
يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ} أي: { وَآخَرُونَ } من
المخلفين مؤخرون { لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ
عَلَيْهِمْ } ففي هذا التخويف الشديد للمتخلفين، والحث لهم على التوبة
والندم. { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } بأحوال العباد ونياتهم { حَكِيمٌ } يضع
الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها، فإن اقتضت حكمته أن يغفر لهم ويتوب
عليهم غفر لهم وتاب عليهم، وإن اقتضت حكمته أن يخذلهم ولا يوفقهم للتوبة،
فعل ذلك. { 107 - 110 } { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا
وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا
الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ
أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ
أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى
مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى
شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي
بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

كان أناس من المنافقين من أهل قباء
اتخذوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء، يريدون به المضارة والمشاقة بين المؤمنين،
ويعدونه لمن يرجونه من المحاربين للّه ورسوله، يكون لهم حصنا عند الاحتياج
إليه، فبين تعالى خزيهم، وأظهر سرهم فقال: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا
مَسْجِدًا ضِرَارًا ْ} أي: مضارة للمؤمنين ولمسجدهم الذي يجتمعون فيه {
وَكُفْرًا ْ} أي: قصدهم فيه الكفر، إذا قصد غيرهم الإيمان.

{
وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ْ} أي: ليتشعبوا ويتفرقوا ويختلفوا، {
وَإِرْصَادًا ْ} أي: إعدادا { لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ
قَبْلُ ْ} أي: إعانة للمحاربين للّه ورسوله، الذين تقدم حرابهم واشتدت
عداوتهم، وذلك كأبي عامر الراهب، الذي كان من أهل المدينة، فلما قدم النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 وهاجر إلى المدينة، كفر به، وكان
متعبدا في الجاهلية، فذهب إلى المشركين يستعين بهم على حرب رسول اللّه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999.

فلما لم يدرك مطلوبه عندهم
ذهب إلى قيصر بزعمه أنه ينصره، فهلك اللعين في الطريق، وكان على وعد
وممالأة، هو والمنافقون. فكان مما أعدوا له مسجد الضرار، فنزل الوحي بذلك،
فبعث إليه النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 من يهدمه ويحرقه، فهدم وحرق، وصار بعد ذلك
مزبلة.

قال تعالى بعدما بين من مقاصدهم الفاسدة في ذلك المسجد {
وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا ْ} في بنائنا إياه { إِلَّا الْحُسْنَى ْ}
أي: الإحسان إلى الضعيف، والعاجز والضرير.

{ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ْ} فشهادة اللّه عليهم أصدق من حلفهم.

{ لَا
تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ْ} أي: لا تصل في ذلك المسجد الذي بني ضرارا أبدا.
فاللّه يغنيك عنه، ولست بمضطر إليه.

{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ْ} ظهر فيه الإسلام في "قباء" وهو مسجد
"قباء" أسس على إخلاص الدين للّه، وإقامة ذكره وشعائر دينه، وكان قديما في
هذا عريقا فيه، فهذا المسجد الفاضل { أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ْ}
وتتعبد، وتذكر اللّه تعالى فهو فاضل، وأهله فضلاء، ولهذا مدحهم اللّه
بقوله: { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ْ} من الذنوب،
ويتطهروا من الأوساخ، والنجاسات والأحداث.

ومن المعلوم أن من أحب
شيئا لا بد أن يسعى له ويجتهد فيما يحب، فلا بد أنهم كانوا حريصين على
التطهر من الذنوب والأوساخ والأحداث، ولهذا كانوا ممن سبق إسلامه، وكانوا
مقيمين للصلاة، محافظين على الجهاد، مع رسول اللّه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، وإقامة شرائع الدين، وممن كانوا يتحرزون
من مخالفة اللّه ورسوله.

وسألهم النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 بعد ما نزلت هذه الآية في مدحهم عن
طهارتهم، فأخبروه أنهم يتبعون الحجارة الماء، فحمدهم على صنيعهم.

{
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ْ} الطهارة المعنوية، كالتنزه من الشرك
والأخلاق الرذيلة، والطهارة الحسية كإزالة الأنجاس ورفع الأحداث.

ثم
فاضل بين المساجد بحسب مقاصد أهلها وموافقتها لرضاه فقال: { أَفَمَنْ
أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ ْ} أي: على نية صالحة
وإخلاص { وَرِضْوَانٌ ْ} بأن كان موافقا لأمره، فجمع في عمله بين الإخلاص
والمتابعة، { خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا ْ} أي: على
طرف { جُرُفٍ هَارٍ ْ} أي: بال، قد تداعى للانهدام، { فَانْهَارَ بِهِ فِي
نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ْ} لما
فيه مصالح دينهم ودنياهم.

{ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي
بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ْ} أي: شكا، وريبا ماكثا في قلوبهم، {
إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ْ} بأن يندموا غاية الندم ويتوبوا إلى
ربهم، ويخافوه غاية الخوف، فبذلك يعفو اللّه عنهم، وإلا فبنيانهم لا يزيدهم
إلا ريبا إلى ريبهم، ونفاقا إلى نفاقهم.

{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ْ}
بجميع الأشياء، ظاهرها، وباطنها، خفيها وجليها، وبما أسره العباد، وأعلنوه.

{
حَكِيمٌ ْ} لا يفعل ولا يخلق ولا يأمر ولا ينهى إلا ما اقتضته الحكمة وأمر
به فللّه الحمد .

وفي هذه الآيات فوائد عدة:

منها: أن اتخاذ
المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه، أنه محرم، وأنه يجب هدم مسجد
الضرار، الذي اطلع على مقصود أصحابه.

ومنها: أن العمل وإن كان
فاضلا تغيره النية، فينقلب منهيا عنه، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار
عملهم إلى ما ترى.
ومنها: أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين،
فإنها من المعاصي التي يتعين تركها وإزالتها.

كما أن كل حالة يحصل
بها جمع المؤمنين وائتلافهم، يتعين اتباعها والأمر بها والحث عليها، لأن
اللّه علل اتخاذهم لمسجد الضرار بهذا المقصد الموجب للنهي عنه، كما يوجب
ذلك الكفر والمحاربة للّه ورسوله.

ومنها: النهي عن الصلاة في أماكن
المعصية، والبعد عنها، وعن قربها.

ومنها: أن المعصية تؤثر في
البقاع، كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار، ونهي عن القيام فيه،
وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد " قباء" حتى قال اللّه فيه:

{
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ
تَقُومَ فِيهِ ْ} .

ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره،
حتى كان تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 يزور قباء كل سبت يصلي فيه، وحث على الصلاة
فيه.

ومنها: أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية، أربع
قواعد مهمة، وهي:

كل عمل فيه مضارة لمسلم، أو فيه معصية للّه، فإن
المعاصي من فروع الكفر، أو فيه تفريق بين المؤمنين، أو فيه معاونة لمن عادى
اللّه ورسوله، فإنه محرم ممنوع منه، وعكسه بعكسه.

ومنها: أن
الأعمال الحسية الناشئة عن معصية الله لا تزال مبعدة لفاعلها عن الله
بمنزلة الإصرار على المعصية حتى يزيلها ويتوب منها توبة تامة بحيث يتقطع
قلبه من الندم والحسرات.

ومنها: أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس
على التقوى، فمسجد النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 الذي أسسه بيده المباركة وعمل فيه واختاره
اللّه له من باب أولى وأحرى.

ومنها: أن العمل المبني على الإخلاص
والمتابعة، هو العمل المؤسس على التقوى، الموصل لعامله إلى جنات النعيم.

والعمل
المبني على سوء القصد وعلى البدع والضلال، هو العمل المؤسس على شفا جرف
هار، فانهار به في نار جهنم، واللّه لا يهدي القوم الظالمين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:33 pm

{
111 } { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي
التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ
اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

يخبر تعالى خبرا صدقا، ويعد وعدا حقا
بمبايعة عظيمة، ومعاوضة جسيمة، وهو أنه { اشْتَرَى ْ} بنفسه الكريمة { مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ْ} فهي المثمن والسلعة
المبيعة.

{ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ْ} التي فيها ما تشتهيه
الأنفس، وتلذ الأعين من أنواع اللذات والأفراح، والمسرات، والحور الحسان،
والمنازل الأنيقات.

وصفة العقد والمبايعة، بأن يبذلوا للّه نفوسهم
وأموالهم في جهاد أعدائه، لإعلاء كلمته وإظهار دينه فـ { يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ْ} فهذا العقد والمبايعة، قد
صدرت من اللّه مؤكدة بأنواع التأكيدات.

{ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا
فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ْ} التي هي أشرف الكتب التي
طرقت العالم، وأعلاها، وأكملها، وجاء بها أكمل الرسل أولو العزم، وكلها
اتفقت على هذا الوعد الصادق.

{ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ
اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا ْ} أيها المؤمنون القائمون بما وعدكم اللّه، {
بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ْ} أي: لتفرحوا بذلك، وليبشر بعضكم
بعضا، ويحث بعضكم بعضا.

{ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ}
الذي لا فوز أكبر منه، ولا أجل، لأنه يتضمن السعادة الأبدية، والنعيم
المقيم، والرضا من اللّه الذي هو أكبر من نعيم الجنات، وإذا أردت أن تعرف
مقدار الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو اللّه جل جلاله، وإلى العوض،
وهو أكبر الأعواض وأجلها، جنات النعيم، وإلى الثمن المبذول فيها، وهو
النفس، والمال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان.

وإلى من جرى على يديه
عقد هذا التبايع، وهو أشرف الرسل، وبأي كتاب رقم، وهي كتب اللّه الكبار
المنزلة على أفضل الخلق.

{ 112 } { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ
الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ
اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }

كأنه قيل: من هم المؤمنون الذين
لهم البشارة من اللّه بدخول الجنات ونيل الكرامات؟ فقال: هم {
التَّائِبُونَ ْ} أي: الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات.

{
الْعَابِدُونَ ْ} أي: المتصفون بالعبودية للّه، والاستمرار على طاعته من
أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت، فبذلك يكون العبد من العابدين.

{
الْحَامِدُونَ ْ} للّه في السراء والضراء، واليسر والعسر، المعترفون بما
للّه عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، المثنون على اللّه بذكرها وبذكره في
آناء الليل وآناء النهار.

{ السَّائِحُونَ ْ} فسرت السياحة
بالصيام، أو السياحة في طلب العلم، وفسرت بسياحة القلب في معرفة اللّه
ومحبته، والإنابة إليه على الدوام، والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في
القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك.

{
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ ْ} أي: المكثرون من الصلاة، المشتملة على
الركوع والسجود.

{ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ْ} ويدخل فيه جميع
الواجبات والمستحبات.

{ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ ْ} وهي جميع
ما نهى اللّه ورسوله عنه.

{ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ْ}
بتعلمهم حدود ما أنزل اللّه على رسوله، وما يدخل في الأوامر والنواهي
والأحكام، وما لا يدخل، الملازمون لها فعلا وتركا.

{ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ ْ} لم يذكر ما يبشرهم به، ليعم جميع ما رتب على الإيمان من
ثواب الدنيا والدين والآخرة، فالبشارة متناولة لكل مؤمن.

وأما
مقدارها وصفتها فإنها بحسب حال المؤمنين، وإيمانهم، قوة، وضعفا، وعملا
بمقتضاه.


{ 113 - 114 } { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي
قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ
وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ
تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ }

يعني: ما
يليق ولا يحسن للنبي وللمؤمنين به { أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
ْ} أي: لمن كفر به، وعبد معه غيره { وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ْ} فإن
الاستغفار لهم في هذه الحال غلط غير مفيد، فلا يليق بالنبي والمؤمنين،
لأنهم إذا ماتوا على الشرك، أو علم أنهم يموتون عليه، فقد حقت عليهم كلمة
العذاب، ووجب عليهم الخلود في النار، ولم تنفع فيهم شفاعة الشافعين، ولا
استغفار المستغفرين.

وأيضا فإن النبي والذين آمنوا معه، عليهم أن
يوافقوا ربهم في رضاه وغضبه، ويوالوا من والاه اللّه، ويعادوا من عاداه
اللّه، والاستغفار منهم لمن تبين أنه من أصحاب النار مناف لذلك، مناقض له،
ولئن وجد الاستغفار من خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لأبيه فإنه { عَنْ
مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ْ} في قوله { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي
إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ْ} وذلك قبل أن يعلم عاقبة أبيه.

فلما
تبين لإبراهيم أن أباه عدو للّه، سيموت على الكفر، ولم ينفع فيه الوعظ
والتذكير { تَبَرَّأَ مِنْهُ ْ} موافقة لربه وتأدبا معه.

{ إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ ْ} أي: رجَّاع إلى اللّه في جميع الأمور، كثير
الذكر والدعاء، والاستغفار والإنابة إلى ربه.

{ حَلِيمٌ ْ} أي: ذو
رحمة بالخلق، وصفح عما يصدر منهم إليه، من الزلات، لا يستفزه جهل الجاهلين،
ولا يقابل الجاني عليه بجرمه، فأبوه قال له: { لَأَرْجُمَنَّكَ ْ} وهو
يقول له: { سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ْ}

فعليكم
أن تقتدوا به، وتتبعوا ملة إبراهيم في كل شيء { إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ
لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ْ} كما نبهكم اللّه عليها وعلى غيرها،
ولهذا قال:

{ 115 - 116 } { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا
بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }

يعني أن اللّه تعالى إذا منَّ على قوم
بالهداية، وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم، فإنه تعالى يتمم عليهم إحسانه،
ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه، وتدعو إليه ضرورتهم، فلا يتركهم ضالين،
جاهلين بأمور دينهم، ففي هذا دليل على كمال رحمته، وأن شريعته وافية بجميع
ما يحتاجه العباد، في أصول الدين وفروعه.

ويحتمل أن المراد بذلك {
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى
يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ْ} فإذا بين لهم ما يتقون فلم ينقادوا له،
عاقبهم بالإضلال جزاء لهم على ردهم الحق المبين، والأول أولى.

{
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ْ} فلكمال علمه وعمومه علمكم ما لم
تكونوا تعلمون، وبين لكم ما به تنتفعون.

{ إِنَّ اللَّهَ لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ ْ} أي: هو المالك
لذلك، المدبر لعباده بالإحياء والإماتة وأنواع التدابير الإلهية، فإذا كان
لا يخل بتدبيره القدري فكيف يخل بتدبيره الديني المتعلق بإلهيته، ويترك
عباده سدى مهملين، أو يدعهم ضالين جاهلين، وهو أعظم توليه لعباده؟".

فلهذا
قال: { وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ْ}
أي: ولي يتولاكم بجلب المنافع لكم، أو { نَصِيرٍ ْ} يدفع عنكم المضار.


{
117 - 118 } { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ
مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ
خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ
وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ
اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }

يخبر تعالى أنه من لطفه وإحسانه
تَابَ عَلَى النَّبِيِّ تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 { وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } فغفر
لهم الزلات، ووفر لهم الحسنات، ورقاهم إلى أعلى الدرجات، وذلك بسبب قيامهم
بالأعمال الصعبة الشاقات، ولهذا قال: { الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ
الْعُسْرَةِ } أي: خرجوا معه لقتال الأعداء في وقعة "تبوك" وكانت في حر
شديد، وضيق من الزاد والركوب، وكثرة عدو، مما يدعو إلى التخلف.

فاستعانوا
اللّه تعالى، وقاموا بذلك { مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ
فَرِيقٍ مِنْهُمْ } أي: تنقلب قلوبهم، ويميلوا إلى الدعة والسكون، ولكن
اللّه ثبتهم وأيدهم وقواهم. وزَيْغُ القلب هو انحرافه عن الصراط المستقيم،
فإن كان الانحراف في أصل الدين، كان كفرا، وإن كان في شرائعه، كان بحسب تلك
الشريعة، التي زاغ عنها، إما قصر عن فعلها، أو فعلها على غير الوجه
الشرعي.

وقوله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } أي: قبل توبتهم { إِنَّهُ
بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } ومن رأفته ورحمته أن مَنَّ عليهم بالتوبة،
وقبلها منهم وثبتهم عليها.

{ و } كذلك لقد تاب الله { عَلَى
الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } عن الخروج مع المسلمين، في تلك الغزوة،
وهم: "كعب بن مالك" وصاحباه، وقصتهم مشهورة معروفة، في الصحاح والسنن.

{
حَتَّى إِذَا } حزنوا حزنا عظيما، و { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا
رَحُبَتْ } أي: على سعتها ورحبها { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ }
التي هي أحب إليهم من كل شيء، فضاق عليهم الفضاء الواسع، والمحبوب الذي لم
تجر العادة بالضيق منه، وذلك لا يكون إلا من أمر مزعج، بلغ من الشدة
والمشقة ما لا يمكن التعبير عنه، وذلك لأنهم قدموا رضا اللّه ورضا رسوله
على كل شيء.

{ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا
إِلَيْهِ } أي: تيقنوا وعرفوا بحالهم، أنه لا ينجي من الشدائد، ويلجأ إليه،
إلا اللّه وحده لا شريك له، فانقطع تعلقهم بالمخلوقين، وتعلقوا باللّه
ربهم، وفروا منه إليه، فمكثوا بهذه الشدة نحو خمسين ليلة.

{ ثُمَّ
تَابَ عَلَيْهِمْ } أي: أذن في توبتهم ووفقهم لها { لِيَتُوبُوا } أي: لتقع
منهم، فيتوب اللّه عليهم، { إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ } أي: كثير
التوبة والعفو، والغفران عن الزلات والعصيان، { الرَّحِيمِ } وصفه الرحمة
العظيمة التي لا تزال تنزل على العباد في كل وقت وحين، في جميع اللحظات، ما
تقوم به أمورهم الدينية والدنيوية.

وفي هذه الآيات دليل على أن
توبة اللّه على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن اللّه جعلها نهاية
خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها.

ومنها:
لطف الله بهم وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.

ومنها:
أن العبادة الشاقة على النفس، لها فضل ومزية ليست لغيرها، وكلما عظمت
المشقة عظم الأجر.

ومنها: أن توبة اللّه على عبده بحسب ندمه وأسفه
الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن
زعم أنها مقبولة.

ومنها: أن علامة الخير وزوال الشدة، إذا تعلق
القلب بالله تعالى تعلقا تاما، وانقطع عن المخلوقين.

ومنها: أن من
لطف اللّه بالثلاثة، أن وسمهم بوسم، ليس بعار عليهم فقال: { خُلِّفُوا }
إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم، [أو خلفوا عن من بُتّ في قبول عذرهم، أو في
رده] وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير، ولهذا لم يقل: "تخلفوا".

ومنها:
أن اللّه تعالى من عليهم بالصدق، ولهذا أمر بالاقتداء بهم فقال:


{
119 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ }

أي: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } باللّه،
وبما أمر اللّه بالإيمان به، قوموا بما يقتضيه الإيمان، وهو القيام بتقوى
اللّه تعالى، باجتناب ما نهى اللّه عنه والبعد عنه.

{ وَكُونُوا
مَعَ الصَّادِقِينَ } في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، الذين أقوالهم صدق،
وأعمالهم، وأحوالهم لا تكون إلا صدقا خلية من الكسل والفتور، سالمة من
المقاصد السيئة، مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة، فإن الصدق يهدي إلى
البر، وإن البر يهدي إلى الجنة.

قال الله تعالى: { هَذَا يَوْمُ
يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } الآية.

{ 120 - 121 } { مَا
كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ
يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ
نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا
مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ
الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ
بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ *
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ
وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ }

يقول تعالى -حاثا لأهل المدينة المنورة من
المهاجرين، والأنصار، ومن حولهم من الأعراب، الذين أسلموا فحسن إسلامهم-: {
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ
أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ } أي: ما ينبغي لهم ذلك، ولا يليق
بأحوالهم.

{ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ } في بقائها وراحتها،
وسكونه { عَنْ نَفْسِهِ } الكريمة الزكية، بل النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فعلى كل مسلم أن
يفدي النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، بنفسه ويقدمه عليها، فعلامة تعظيم الرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 ومحبته والإيمان التام به، أن لا
يتخلفوا عنه، ثم ذكر الثواب الحامل على الخروج فقال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ }
أي: المجاهدين في سبيل اللّه { لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ } أي:
تعب ومشقة { وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي: مجاعة.

{
وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّار } من الخوض لديارهم،
والاستيلاء على أوطانهم، { وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا } كالظفر
بجيش أو سرية أو الغنيمة لمال { إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ
} لأن هذه آثار ناشئة عن أعمالهم.

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } الذين أحسنوا في مبادرتهم إلى أمر الله، وقيامهم
بما عليهم من حقه وحق خلقه، فهذه الأعمال آثار من آثار عملهم.

ثم
قال: { وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا
يَقْطَعُونَ وَادِيًا } في ذهابهم إلى عدوهم { إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

ومن ذلك
هذه الأعمال، إذا أخلصوا فيها للّه، ونصحوا فيها، ففي هذه الآيات أشد
ترغيب وتشويق للنفوس إلى الخروج إلى الجهاد في سبيل اللّه، والاحتساب لما
يصيبهم فيه من المشقات، وأن ذلك لهم رفعة درجات، وأن الآثار المترتبة على
عمل العبد له فيها أجر كبير.


{ 122 } { وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }

يقول
تعالى: -منبها لعباده المؤمنين على ما ينبغي لهم- { وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } أي: جميعا لقتال عدوهم، فإنه يحصل
عليهم المشقة بذلك، وتفوت به كثير من المصالح الأخرى، { فَلَوْلَا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ } أي: من البلدان، والقبائل، والأفخاذ {
طَائِفَةٌ } تحصل بها الكفاية والمقصود لكان أولى.

ثم نبه على أن في
إقامة المقيمين منهم وعدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتتهم، فقال: {
لِيَتَفَقَّهُوا } أي: القاعدون { فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ
إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ } أي. ليتعلموا العلم الشرعي، ويعلموا معانيه،
ويفقهوا أسراره، وليعلموا غيرهم، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.

ففي
هذا فضيلة العلم، وخصوصا الفقه في الدين، وأنه أهم الأمور، وأن من تعلم
علما، فعليه نشره وبثه في العباد، ونصيحتهم فيه فإن انتشار العلم عن
العالم، من بركته وأجره، الذي ينمى له.

وأما اقتصار العالم على
نفسه، وعدم دعوته إلى سبيل اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة، وترك تعليم
الجهال ما لا يعلمون، فأي منفعة حصلت للمسلمين منه؟ وأي نتيجة نتجت من
علمه؟ وغايته أن يموت، فيموت علمه وثمرته، وهذا غاية الحرمان، لمن آتاه
اللّه علما ومنحه فهما.

وفي هذه الآية أيضا دليل وإرشاد وتنبيه
لطيف، لفائدة مهمة، وهي: أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من
مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى
غيرها، لتقوم مصالحهم، وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم، ونهاية ما
يقصدون قصدا واحدا، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت
المشارب، فالأعمال متباينة، والقصد واحد، وهذه من الحكمة العامة النافعة في
جميع الأمور.

{ 123 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا
الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }

وهذا أيضا إرشاد
آخر، بعدما أرشدهم إلى التدبير فيمن يباشر القتال، أرشدهم إلى أنهم يبدأون
بالأقرب فالأقرب من الكفار، والغلظة عليهم، والشدة في القتال، والشجاعة
والثبات.

{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي:
وليكن لديكم علم أن المعونة من اللّه تنزل بحسب التقوى، فلازموا على تقوى
اللّه، يعنكم وينصركم على عدوكم.

وهذا العموم في قوله: { قَاتِلُوا
الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ } مخصوص بما إذا كانت المصلحة في
قتال غير الذين يلوننا، وأنواع المصالح كثيرة جدا.


{ 124 - 126 }
{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ
زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ
إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ
كَافِرُونَ * أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ
مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ }

يقول
تعالى: مبينا حال المنافقين، وحال المؤمنين عند نزول القرآن، وتفاوت ما
بين الفريقين، فقال: { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ } فيها الأمر،
والنهي، والخبر عن نفسه الكريمة، وعن الأمور الغائبة، والحث على الجهاد.

{
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا } أي: حصل
الاستفهام، لمن حصل له الإيمان بها من الطائفتين.

قال تعالى -مبينا
الحال الواقعة-: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا }
بالعلم بها، وفهمها، واعتقادها، والعمل بها، والرغبة في فعل الخير،
والانكفاف عن فعل الشر.

{ وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي: يبشر بعضهم
بعضا بما من اللّه عليهم من آياته، والتوفيق لفهمها والعمل بها. وهذا دال
على انشراح صدورهم لآيات اللّه، وطمأنينة قلوبهم، وسرعة انقيادهم لما تحثهم
عليه.

{ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي: شك ونفاق
{ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } أي: مرضا إلى مرضهم، وشكا إلى
شكهم، من حيث إنهم كفروا بها، وعاندوها وأعرضوا عنها، فازداد لذلك مرضهم،
وترامى بهم إلى الهلاك { و } الطبع على قلوبهم، حتى { مَاتُوا وَهُمْ
كَافِرُونَ }

وهذا عقوبة لهم، لأنهم كفروا بآيات اللّه وعصوا رسوله،
فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه.

قال تعالى -موبخا لهم على
إقامتهم على ما هم عليه من الكفر والنفاق-: { أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ
يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } بما يصيبهم من
البلايا والأمراض، وبما يبتلون من الأوامر الإلهية التي يراد بها اختبارهم.

{
ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ } عما هم عليه من الشر { وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ }
ما ينفعهم، فيفعلونه، وما يضرهم، فيتركونه.

فالله تعالى يبتليهم
-كما هي سنته في سائر الأمم- بالسراء والضراء وبالأوامر والنواهي ليرجعوا
إليه، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.

وفي هذه الآيات دليل على أن
الإيمان يزيد وينقص، وأنه ينبغي للمؤمن، أن يتفقد إيمانه ويتعاهده، فيجدده
وينميه، ليكون دائما في صعود.


{ 127 } وقوله : { وَإِذَا مَا
أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ
أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لَا يَفْقَهُونَ }



يعني: أن المنافقين الذين يحذرون أن تنزل
عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، إذا نزلت سورة ليؤمنوا بها، ويعملوا
بمضمونها { نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } جازمين على ترك العمل بها،
ينتظرون الفرصة في الاختفاء عن أعين المؤمنين، ويقولون: { هَلْ يَرَاكُمْ
مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا } متسللين، وانقلبوا معرضين، فجازاهم اللّه
بعقوبة من جنس عملهم، فكما انصرفوا عن العمل { صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ }
أي: صدها عن الحق وخذلها.

{ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ }
فقها ينفعهم، فإنهم لو فقهوا، لكانوا إذا نزلت سورة آمنوا بها، وانقادوا
لأمرها.

والمقصود من هذا بيان شدة نفورهم عن الجهاد وغيره، من شرائع
الإيمان، كما قال تعالى عنهم: { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ
وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ }


{
128 - 129 } { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }

يمتن
[تعالى] على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم،
يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه، ولا يأنفون عن الانقياد له، وهو تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 في غاية النصح لهم، والسعي في مصالحهم.

{
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي: يشق عليه الأمر الذي يشق عليكم
ويعنتكم.

{ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } فيحب لكم الخير، ويسعى جهده في
إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشر، ويسعى جهده
في تنفيركم عنه. { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي: شديد الرأفة
والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم.

ولهذا كان حقه مقدما على سائر
حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به، وتعظيمه، وتعزيره، وتوقيره {
فَإِنْ } آمنوا، فذلك حظهم وتوفيقهم، وإن { تَوَلَّوا } عن الإيمان والعمل،
فامض على سبيلك، ولا تزل في دعوتك، وقل { حَسْبِيَ اللَّهُ } أي: الله
كافيَّ في جميع ما أهمني، { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي: لا معبود بحق
سواه.

{ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي: اعتمدت ووثقت به، في جلب ما
ينفع، ودفع ما يضر، { وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } الذي هو أعظم
المخلوقات. وإذا كان رب العرش العظيم، الذي وسع المخلوقات، كان ربا لما
دونه من باب أولى وأحرى.

تم تفسير سورة التوبة بعون اللّه ومنه فلله
الحمد أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:37 pm

تفسير
سورة يونس

مكية

{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ
عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ
قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ }

يقول تعالى: {
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } وهو هذا القرآن، المشتمل على
الحكمة والأحكام، الدالة آياته على الحقائق الإيمانية والأوامر والنواهي
الشرعية، الذي على جميع الأمة تلقيه بالرضا والقبول والانقياد.

ومع
هذا فأعرض أكثرهم، فهم لا يعلمون، فتعجبوا { أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ
مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ } عذاب الله، وخوفهم نقم الله، وذكرهم
بآيات الله.

{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا } إيمانا صادقا { أَنَّ
لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي: لهم جزاء موفور وثواب مذخور
عند ربهم بما قدموه وأسلفوه من الأعمال الصالحة الصادقة.

فتعجب
الكافرون من هذا الرجل العظيم تعجبا حملهم على الكفر به، فـ { قَالَ
الْكَافِرُونَ } عنه: { إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } أي: بين السحر، لا
يخفى بزعمهم على أحد، وهذا من سفههم وعنادهم، فإنهم تعجبوا من أمر ليس مما
يتعجب منه ويستغرب، وإنما يتعجب من جهالتهم وعدم معرفتهم بمصالحهم.

كيف
لم يؤمنوا بهذا الرسول الكريم، الذي بعثه الله من أنفسهم، يعرفونه حق
المعرفة، فردوا دعوته، وحرصوا على إبطال دينه، والله متم نوره ولو كره
الكافرون.


{ 3 - 4 } { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى
الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ
إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ *
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ
حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }



يقول
تعالى مبينا لربوبيته وإلهيته وعظمته: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } مع أنه قادر على
خلقها في لحظة واحدة، ولكن لما له في ذلك من الحكمة الإلهية، ولأنه رفيق في
أفعاله.

ومن جملة حكمته فيها، أنه خلقها بالحق وللحق، ليعرف
بأسمائه وصفاته ويفرد بالعبادة.

{ ثُمَّ } بعد خلق السماوات والأرض {
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } استواء يليق بعظمته.

{ يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ } في العالم العلوي والسفلي من الإماتة والإحياء، وإنزال
الأرزاق، ومداولة الأيام بين الناس، وكشف الضر عن المضرورين، وإجابة سؤال
السائلين.

فأنواع التدابير نازلة منه وصاعدة إليه، وجميع الخلق
مذعنون لعزه خاضعون لعظمته وسلطانه.

{ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ
بَعْدِ إِذْنِهِ } فلا يقدم أحد منهم على الشفاعة، ولو كان أفضل الخلق،
حتى يأذن الله ولا يأذن، إلا لمن ارتضى، ولا يرتضي إلا أهل الإخلاص
والتوحيد له.

{ ذَلِكُمْ } الذي هذا شأنه { اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي:
هو الله الذي له وصف الإلهية الجامعة لصفات الكمال، ووصف الربوبية الجامع
لصفات الأفعال.

{ فَاعْبُدُوهُ } أي: أفردوه بجميع ما تقدرون عليه
من أنواع العبودية، { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } الأدلة الدالة على أنه وحده
المعبود المحمود، ذو الجلال والإكرام.

فلما ذكر حكمه القدري وهو
التدبير العام، وحكمه الديني وهو شرعه، الذي مضمونه ومقصوده عبادته وحده لا
شريك له، ذكر الحكم الجزائي، وهو مجازاته على الأعمال بعد الموت، فقال: {
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } أي: سيجمعكم بعد موتكم، لميقات يوم
معلوم.

{ إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } فالقادر على ابتداء الخلق قادر
على إعادته، والذي يرى ابتداءه بالخلق، ثم ينكر إعادته للخلق، فهو فاقد
العقل منكر لأحد المثلين مع إثبات ما هو أولى منه، فهذا دليل عقلي واضح على
المعاد. وقد ذكر الدليل النقلي فقال: { وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } أي: وعده
صادق لا بد من إتمامه { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم بما أمرهم
الله بالإيمان به.

{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بجوارحهم، من
واجبات، ومستحبات، { بِالْقِسْطِ } أي: بإيمانهم وأعمالهم، جزاء قد بينه
لعباده، وأخبر أنه لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين { وَالَّذِينَ
كَفَرُوا } بآيات الله وكذبوا رسل الله.

{ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ
حَمِيمٍ } أي: ماء حار، يشوي الوجوه، ويقطع الأمعاء. { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ }
من سائر أصناف العذاب { بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } أي: بسبب كفرهم
وظلمهم، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.


{ 5 - 6 } { هُوَ
الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ
مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ
ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ }

لما قرر
ربوبيته وإلهيته، ذكر الأدلة العقلية الأفقية الدالة على ذلك وعلى كماله،
في أسمائه وصفاته، من الشمس والقمر، والسماوات والأرض وجميع ما خلق فيهما
من سائر أصناف المخلوقات، وأخبر أنها آيات { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } و {
لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ }

فإن العلم يهدي إلى معرفة الدلالة فيها،
وكيفية استنباط الدليل على أقرب وجه، والتقوى تحدث في القلب الرغبة في
الخير، والرهبة من الشر، الناشئين عن الأدلة والبراهين، وعن العلم واليقين.

وحاصل
ذلك أن مجرد خلق هذه المخلوقات بهذه الصفة، دال على كمال قدرة الله تعالى،
وعلمه، وحياته، وقيوميته، وما فيها من الأحكام والإتقان والإبداع والحسن،
دال على كمال حكمة الله، وحسن خلقه وسعة علمه. وما فيها من أنواع المنافع
والمصالح -كجعل الشمس ضياء، والقمر نورا، يحصل بهما من النفع الضروري وغيره
ما يحصل- يدل ذلك على رحمة الله تعالى واعتنائه بعباده وسعة بره وإحسانه،
وما فيها من التخصيصات دال على مشيئة الله وإرادته النافذة.

وذلك
دال على أنه وحده المعبود والمحبوب المحمود، ذو الجلال والإكرام والأوصاف
العظام، الذي لا تنبغي الرغبة والرهبة إلا إليه، ولا يصرف خالص الدعاء إلا
له، لا لغيره من المخلوقات المربوبات، المفتقرات إلى الله في جميع شئونها.

وفي
هذه الآيات الحث والترغيب على التفكر في مخلوقات الله، والنظر فيها بعين
الاعتبار، فإن بذلك تنفتح البصيرة، ويزداد الإيمان والعقل، وتقوى القريحة،
وفي إهمال ذلك، تهاون بما أمر الله به، وإغلاق لزيادة الإيمان، وجمود للذهن
والقريحة.

{ 7 - 8 } { إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا
وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ
عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ }

يقول تعالى { إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ
لِقَاءَنَا } أي: لا يطمعون بلقاء الله، الذي هو أكبر ما طمع فيه الطامعون،
وأعلى ما أمله المؤملون، بل أعرضوا عن ذلك، وربما كذبوا به { وَرَضُوا
بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا } بدلا عن الآخرة.

{ وَاطْمَأَنُّوا بِهَا }
أي: ركنوا إليها، وجعلوها غاية مرامهم ونهاية قصدهم، فسعوا لها وأكبوا على
لذاتها وشهواتها، بأي طريق حصلت حصلوها، ومن أي وجه لاحت ابتدروها، قد
صرفوا إرادتهم ونياتهم وأفكارهم وأعمالهم إليها.

فكأنهم خلقوا
للبقاء فيها، وكأنها ليست دار ممر، يتزود منها المسافرون إلى الدار الباقية
التي إليها يرحل الأولون والآخرون، وإلى نعيمها ولذاتها شمر الموفقون.

{
وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ } فلا ينتفعون بالآيات
القرآنية، ولا بالآيات الأفقية والنفسية، والإعراض عن الدليل مستلزم
للإعراض والغفلة، عن المدلول المقصود.

{ أُولَئِكَ } الذين هذا
وصفهم { مَأْوَاهُمُ النَّارُ } أي: مقرهم ومسكنهم التي لا يرحلون عنها.

{
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } من الكفر والشرك وأنواع المعاصي، فلما ذكر
عقابهم ذكر ثواب المطيعين فقال:


{ 9 - 10 } { إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ *
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ
وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }

يقول
تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي: جمعوا
بين الإيمان، والقيام بموجبه ومقتضاه من الأعمال الصالحة، المشتملة على
أعمال القلوب وأعمال الجوارح، على وجه الإخلاص والمتابعة.

{
يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } أي: بسبب ما معهم من الإيمان،
يثيبهم الله أعظم الثواب، وهو الهداية، فيعلمهم ما ينفعهم، ويمن عليهم
بالأعمال الناشئة عن الهداية، ويهديهم للنظر في آياته، ويهديهم في هذه
الدار إلى الصراط المستقيم وفي الصراط المستقيم، وفي دار الجزاء إلى الصراط
الموصل إلى جنات النعيم،. ولهذا قال: { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ
الْأَنْهَارُ } الجارية على الدوام { فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } أضافها
الله إلى النعيم، لاشتمالها على النعيم التام، نعيم القلب بالفرح والسرور،
والبهجة والحبور، ورؤية الرحمن وسماع كلامه، والاغتباط برضاه وقربه، ولقاء
الأحبة والإخوان، والتمتع بالاجتماع بهم، وسماع الأصوات المطربات، والنغمات
المشجيات، والمناظر المفرحات. ونعيم البدن بأنواع المآكل والمشارب،
والمناكح ونحو ذلك، مما لا تعلمه النفوس، ولا خطر ببال أحد، أو قدر أن يصفه
الواصفون.

{ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } أي
عبادتهم فيها لله، أولها تسبيح لله وتنزيه له عن النقائض، وآخرها تحميد
لله، فالتكاليف سقطت عنهم في دار الجزاء، وإنما بقي لهم أكمل اللذات، الذي
هو ألذ عليهم من المآكل اللذيذة، ألا وهو ذكر الله الذي تطمئن به القلوب،
وتفرح به الأرواح، وهو لهم بمنزلة النَّفَس، من دون كلفة ومشقة.

{ و
} أما { تَحِيَّتُهُمْ } فيما بينهم عند التلاقي والتزاور، فهو السلام،
أي: كلام سالم من اللغو والإثم، موصوف بأنه { سَلَامٌ } وقد قيل في تفسير
قوله { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ } إلى آخر الآية، أن أهل الجنة -إذا
احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما- قالوا سبحانك اللهم، فأحضر لهم في
الحال.

فإذا فرغوا قالوا: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }


{
11 } { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ
بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا
يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

وهذا من لطفه
وإحسانه بعباده، أنه لو عجل لهم الشر إذا أتوا بأسبابه، وبادرهم بالعقوبة
على ذلك، كما يعجل لهم الخير إذا أتوا بأسبابه { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ
أَجَلُهُمْ } أي: لمحقتهم العقوبة، ولكنه تعالى يمهلهم ولا يهملهم، ويعفو
عن كثير من حقوقه، فلو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة.

ويدخل
في هذا، أن العبد إذا غضب على أولاده أو أهله أو ماله، ربما دعا عليهم
دعوة لو قبلت منه لهلكوا، ولأضره ذلك غاية الضرر، ولكنه تعالى حليم حكيم.

وقوله:
{ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } أي: لا يؤمنون بالآخرة،
فلذلك لا يستعدون لها، ولا يعلمون ما ينجيهم من عذاب الله، { فِي
طُغْيَانِهِمْ } أي: باطلهم، الذي جاوزوا به الحق والحد.

{
يَعْمَهُونَ } يترددون حائرين، لا يهتدون السبيل، ولا يوفقون لأقوم دليل،
وذلك عقوبة لهم على ظلمهم، وكفرهم بآيات الله.


{ 12 } { وَإِذَا
مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ
قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا
إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ }

وهذا إخبار عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه إذا مسه
ضر، من مرض أو مصيبة اجتهد في الدعاء، وسأل الله في جميع أحواله، قائما
وقاعدا ومضطجعا، وألح في الدعاء ليكشف الله عنه ضره.

{ فَلَمَّا
كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ
} أي: استمر في غفلته معرضا عن ربه، كأنه ما جاءه ضره، فكشفه الله عنه،
فأي ظلم أعظم من هذا الظلم؟" يطلب من الله قضاء غرضه، فإذا أناله إياه لم
ينظر إلى حق ربه، وكأنه ليس عليه لله حق. وهذا تزيين من الشيطان، زين له ما
كان مستهجنا مستقبحا في العقول والفطر.

{ كَذَلِكَ زُيِّنَ
لِلْمُسْرِفِينَ } أي: المتجاوزين للحد { مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }


{
13 - 14 } { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا
ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا
لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ
جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ }

يخبر تعالى أنه أهلك الأمم الماضية بظلمهم وكفرهم،
بعد ما جاءتهم البينات على أيدي الرسل وتبين الحق فلم ينقادوا لها ولم
يؤمنوا. فأحل بهم عقابه الذي لا يرد عن كل مجرم متجرئ على محارم الله، وهذه
سنته في جميع الأمم.

{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ } أيها المخاطبون {
خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ }
فإن أنتم اعتبرتم واتعظتم بمن قبلكم واتبعتم آيات الله وصدقتم رسله، نجوتم
في الدنيا والآخرة.

وإن فعلتم كفعل الظالمين قبلكم، أحل بكم ما أحل
بهم، ومن أنذر فقد أعذر.

{ 15 - 17 ْ} { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ
آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ
بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ
أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى
إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ
فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ *
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ
بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ْ}

يذكر تعالى تعنت
المكذبين لرسوله محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، وأنهم إذا تتلى عليهم آيات الله القرآنية
المبينة للحق، أعرضوا عنها، وطلبوا وجوه التعنت فقالوا، جراءة منهم وظلما: {
ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ْ} فقبحهم الله، ما أجرأهم
على الله، وأشدهم ظلما وردا لآياته.

فإذا كان الرسول العظيم يأمره
الله، أن يقول لهم: { قُلْ مَا يَكُونُ لِي ْ} أي: ما ينبغي ولا يليق {
أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ْ} فإني رسول محض، ليس لي من
الأمر شيء، { إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ْ} أي: ليس لي غير
ذلك، فإني عبد مأمور، { إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ ْ} فهذا قول خير الخلق وأدبه مع أوامر ربه ووحيه، فكيف
بهؤلاء السفهاء الضالين، الذين جمعوا بين الجهل والضلال، والظلم والعناد،
والتعنت والتعجيز لرب العالمين، أفلا يخافون عذاب يوم عظيم؟".

فإن
زعموا أن قصدهم أن يتبين لهم الحق بالآيات التي طلبوا فهم كذبة في ذلك، فإن
الله قد بين من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، وهو الذي يصرفها كيف يشاء،
تابعا لحكمته الربانية، ورحمته بعباده.

{ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ
مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ
عُمُرًا ْ} طويلا { مِنْ قَبْلِهِ ْ} أي: قبل تلاوته، وقبل درايتكم به،
وأنا ما خطر على بالي، ولا وقع في ظني.

{ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ْ}
أني حيث لم أتقوله في مدة عمري، ولا صدر مني ما يدل على ذلك، فكيف أتقوله
بعد ذلك، وقد لبثت فيكم عمرا طويلا تعرفون حقيقة حالي، بأني أمي لا أقرأ
ولا أكتب، ولا أدرس ولا أتعلم من أحد؟"

فأتيتكم بكتاب عظيم أعجز
الفصحاء، وأعيا العلماء، فهل يمكن -مع هذا- أن يكون من تلقاء نفسي، أم هذا
دليل قاطع أنه تنزيل من حكيم حميد؟

فلو أعملتم أفكاركم وعقولكم،
وتدبرتم حالي وحال هذا الكتاب، لجزمتم جزما لا يقبل الريب بصدقه، وأنه الحق
الذي ليس بعده إلا الضلال، ولكن إذ أبيتم إلا التكذيب والعناد، فأنتم لا
شك أنكم ظالمون.

{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ْ} ؟!!

فلو كنت متقولا لكنت أظلم
الناس، وفاتني الفلاح، ولم تخف عليكم حالي، ولكني جئتكم بآيات الله، فكذبتم
بها، فتعين فيكم الظلم، ولا بد أن أمركم سيضمحل، ولن تنالوا الفلاح، ما
دمتم كذلك.

ودل قوله: { قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا
ْ} الآية، أن الذي حملهم على هذا التعنت الذي صدر منهم هو عدم إيمانهم
بلقاء الله وعدم رجائه، وأن من آمن بلقاء الله فلا بد أن ينقاد لهذا الكتاب
ويؤمن به، لأنه حسن القصد.


{ 18 ْ} { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا
يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يُشْرِكُونَ ْ}



يقول تعالى: { وَيَعْبُدُونَ ْ} أي:
المشركون المكذبون لرسول الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999.

{ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا
يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ْ} أي: لا تملك لهم مثقال ذرة من النفع ولا
تدفع عنهم شيئا.

{ وَيَقُولُونَ ْ} قولا خاليا من البرهان: {
هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ْ} أي: يعبدونهم ليقربوهم إلى الله،
ويشفعوا لهم عنده، وهذا قول من تلقاء أنفسهم، وكلام ابتكروه هم، ولهذا قال
تعالى -مبطلا لهذا القول-: { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا
يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ْ} أي: الله تعالى هو
العالم، الذي أحاط علما بجميع ما في السماوات والأرض، وقد أخبركم بأنه ليس
له شريك ولا إله معه، أفأنتم-يا معشر المشركين- تزعمون أنه يوجد له فيها
شركاء؟ أفتخبرونه بأمر خفي عليه، وعلمتوه؟ أأنتم أعلم أم الله؟ فهل يوجد
قول أبطل من هذا القول، المتضمن أن هؤلاء الضلال الجهال السفهاء أعلم من رب
العالمين؟ فليكتف العاقل بمجرد تصور هذا القول، فإنه يجزم بفساده وبطلانه:
{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ْ} أي: تقدس وتنزه أن يكون
له شريك أو نظير، بل هو الله الأحد الفرد الصمد الذي لا إله في السماوات
والأرض إلا هو، وكل معبود في العالم العلوي والسفلي سواه، فإنه باطل عقلا
وشرعا وفطرة.

{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ ْ}


{ 19 - 20 ْ} { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا
أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَيَقُولُونَ لَوْلَا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ْ}

أي: {
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً ْ} متفقين على الدين
الصحيح، ولكنهم اختلفوا، فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم
الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.

{ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ْ} بإمهال العاصين وعدم معاجلتهم بذنوبهم، {
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ْ} بأن ننجي المؤمنين، ونهلك الكافرين المكذبين، وصار
هذا فارقا بينهم { فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ْ} ولكنه أراد امتحانهم
وابتلاء بعضهم ببعض، ليتبين الصادق من الكاذب.

{ وَيَقُولُونَ ْ}
أي: المكذبون المتعنتون، { لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ
ْ} يعنون: آيات الاقتراح التي يعينونها كقولهم: { لَوْلَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ْ} الآيات.

وكقولهم: {
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ
يَنْبُوعًا ْ} الآيات.

{ فَقُلْ ْ} لهم إذا طلبوا منك آية {
إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ْ} أي: هو المحيط علما بأحوال العباد، فيدبرهم
بما يقتضيه علمه فيهم وحكمته البديعة، وليس لأحد تدبير في حكم ولا دليل،
ولا غاية ولا تعليل.

{ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ
الْمُنْتَظِرِينَ ْ} أي: كل ينتظر بصاحبه ما هو أهل له، فانظروا لمن تكون
العاقبة.

{ 21 ْ} { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ
بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ
اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ْ}

يقول
تعالى: { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ
مَسَّتْهُمْ ْ} كالصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر، والأمن بعد الخوف،
نسوا ما أصابهم من الضراء، ولم يشكروا الله على الرخاء والرحمة، بل استمروا
في طغيانهم ومكرهم.

ولهذا قال: { إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي
آيَاتِنَا ْ} أي يسعون بالباطل، ليبطلوا به الحق.

{ قُلِ اللَّهُ
أَسْرَعُ مَكْرًا ْ} فإن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، فمقصودهم منعكس
عليهم، ولم يسلموا من التبعة، بل تكتب الملائكة عليهم ما يعملون، ويحصيه
الله عليهم، ثم يجازيهم [الله] عليه أوفر الجزاء.


{ 22 - 23 ْ} {
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا
كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا
بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ
فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ}

لما ذكر تعالى
القاعدة العامة في أحوال الناس عند إصابة الرحمة لهم بعد الضراء، واليسر
بعد العسر، ذكر حالة، تؤيد ذلك، وهي حالهم في البحر عند اشتداده، والخوف من
عواقبه، فقال: { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ْ}
بما يسر لكم من الأسباب المسيرة لكم فيها، وهداكم إليها.

{ حَتَّى
إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ْ} أي: السفن البحرية { وَجَرَيْنَ بِهِمْ
بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ْ} موافقة لما يهوونه، من غير انزعاج ولا مشقة.

{
وَفَرِحُوا بِهَا ْ} واطمأنوا إليها، فبينما هم كذلك، إذ { جَاءَتْهَا
رِيحٌ عَاصِفٌ ْ} شديدة الهبوب { وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ْ} أي: عرفوا أنه الهلاك، فانقطع
حينئذ تعلقهم بالمخلوقين، وعرفوا أنه لا ينجيهم من هذه الشدة إلا الله
وحده، فدَعَوُه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ووعدوا من أنفسهم على وجه
الإلزام، فقالوا: { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ ْ} { فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ْ} أي: نسوا تلك الشدة وذلك الدعاء، وما
ألزموه أنفسهم، فأشركوا بالله، من اعترفوا بأنه لا ينجيهم من الشدائد، ولا
يدفع عنهم المضايق، فهلا أخلصوا لله العبادة في الرخاء، كما أخلصوها في
الشدة؟!!

ولكن هذا البغي يعود وباله عليهم، ولهذا قال: { يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ْ} أي: غاية ما تؤملون ببغيكم، وشرودكم عن الإخلاص
لله، أن تنالوا شيئًا من حطام الدنيا وجاهها النزر اليسير الذي سينقضي
سريعًا، ويمضي جميعًا، ثم تنتقلون عنه بالرغم.

{ ثُمَّ إِلَيْنَا
مَرْجِعُكُمْ ْ} في يوم القيامة { فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ ْ} وفي هذا غاية التحذير لهم عن الاستمرار على عملهم.


{
24 ْ} { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ
مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ
النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا
وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا
أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ
تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
ْ}

وهذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابق لحالة الدنيا، فإن لذاتها
وشهواتها وجاهها ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتًا قصيرًا، فإذا استكمل
وتم اضمحل، وزال عن صاحبه، أو زال صاحبه عنه، فأصبح صفر اليدين منها، ممتلئ
القلب من همها وحزنها وحسرتها.

فذلك { كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ
السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ْ} أي: نبت فيها من كل صنف،
وزوج بهيج { مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ ْ} كالحبوب والثمار { و ْ} مما تأكل
{ الْأَنْعَامِ ْ} كأنواع العشب، والكلأ المختلف الأصناف.

{ حَتَّى
إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ْ} أي: تزخرفت في
منظرها، واكتست في زينتها، فصارت بهجة للناظرين، ونزهة للمتفرجين، وآية
للمتبصرين، فصرت ترى لها منظرًا عجيبًا ما بين أخضر، وأصفر، وأبيض وغيره.

{
وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ْ} أي: حصل معهم طمع،
بأن ذلك سيستمر ويدوم، لوقوف إرادتهم عنده، وانتهاء مطالبهم فيه.

فبينما
هم في تلك الحالة { أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا
فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ْ} أي: كأنها ما
كانت فهذه حالة الدنيا، سواء بسواء.

{ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ
ْ} أي: نبينها ونوضحها، بتقريب المعاني إلى الأذهان، وضرب الأمثال {
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ْ} أي: يعملون أفكارهم فيما ينفعهم.

وأما
الغافل المعرض، فهذا لا تنفعه الآيات، ولا يزيل عنه الشك البيان.

ولما
ذكر الله حال الدنيا، وحاصل نعيمها، شوق إلى الدار الباقية فقال:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:40 pm

{
25 - 26 ْ} { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى
وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ْ}

عم تعالى عباده
بالدعوة إلى دار السلام، والحث على ذلك، والترغيب، وخص بالهداية من شاء
استخلاصه واصطفاءه، فهذا فضله وإحسانه، والله يختص برحمته من يشاء، وذلك
عدله وحكمته، وليس لأحد عليه حجة بعد البيان والرسل، وسمى الله الجنة "دار
السلام" لسلامتها من جميع الآفات والنقائص، وذلك لكمال نعيمها وتمامه
وبقائه، وحسنه من كل وجه.

ولما دعا إلى دار السلام، كأن النفوس
تشوقت إلى الأعمال الموجبة لها الموصلة إليها، فأخبر عنها بقوله: {
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ْ} أي: للذين أحسنوا في
عبادة الخالق، بأن عبدوه على وجه المراقبة والنصيحة في عبوديته، وقاموا بما
قدروا عليه منها، وأحسنوا إلى عباد الله بما يقدرون عليه من الإحسان
القولي والفعلي، من بذل الإحسان المالي، والإحسان البدني، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهلين، ونصيحة المعرضين، وغير ذلك من وجوه
البر والإحسان.

فهؤلاء الذين أحسنوا، لهم "الحسنى" وهي الجنة
الكاملة في حسنها و "زيادة" وهي النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه،
والفوز برضاه والبهجة بقربه، فبهذا حصل لهم أعلى ما يتمناه المتمنون،
ويسأله السائلون.

ثم ذكر اندفاع المحذور عنهم فقال: { وَلَا
يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ْ} أي: لا ينالهم مكروه، بوجه
من الوجوه، لأن المكروه، إذا وقع بالإنسان، تبين ذلك في وجهه، وتغير وتكدر.

وأما
هؤلاء - فهم كما قال الله عنهم - { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ
النَّعِيم ْ} { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ْ} الملازمون لها { هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ ْ} لا يحولون ولا يزولون، ولا يتغيرون.


{ 27
ْ} { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا
وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا
أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ْ}

لما ذكر أصحاب الجنة
ذكر أصحاب النار، فذكر أن بضاعتهم التي اكتسبوها في الدنيا هي الأعمال
السيئة المسخطة لله، من أنواع الكفر والتكذيب، وأصناف المعاصي، فجزاؤهم
سيئة مثلها أي: جزاء يسوؤهم بحسب ما عملوا من السيئات على اختلاف أحوالهم.

{
وَتَرْهَقُهُمْ ْ} أي: تغشاهم { ذِلَّةٌ ْ} في قلوبهم وخوف من عذاب الله،
لا يدفعه عنهم دافع ولا يعصمهم منه عاصم، وتسري تلك الذلة الباطنة إلى
ظاهرهم، فتكون سوادًا في الوجوه .

{ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ
وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ْ} فكم بين الفريقين من الفرق، ويا بعد ما
بينهما من التفاوت؟!

{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى
رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ
بِهَا فَاقِرَةٌ ْ} { ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ
مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا
قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ْ}


{ 28 - 30
ْ} { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا
مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ
شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ
شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ
لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا
إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ ْ}

يقول تعالى: { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ْ}
أي: نجمع جميع الخلائق، لميعاد يوم معلوم، ونحضر المشركين، وما كانوا
يعبدون من دون الله.

{ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا
مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ْ} أي: الزموا مكانكم ليقع التحاكم
والفصل بينكم وبينهم.

{ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ْ} أي: فرقنا
بينهم، بالبعد البدني والقلبي، وحصلت بينهم العداوة الشديدة، بعد أن بذلوا
لهم في الدنيا خالص المحبة وصفو الوداد، فانقلبت تلك المحبة والولاية بغضًا
وعداوة.

وتبرأ شُرَكَاؤُهُمْ منهم وقالوا: { مَا كُنْتُمْ
إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ْ} فإننا ننزه الله أن يكون له شريك، أو نديد.

{
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ
عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ْ} ما أمرناكم بها، ولا دعوناكم لذلك، وإنما
عبدتم من دعاكم إلى ذلك، وهو الشيطان كما قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ْ} .

وقال: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا
يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ
كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ْ}

فالملائكة
الكرام والأنبياء والأولياء ونحوهم يتبرؤون ممن عبدهم يوم القيامة
ويتنصلون من دعائهم إياهم إلى عبادتهم وهم الصادقون البارون في ذلك، فحينئذ
يتحسر المشركون حسرة لا يمكن وصفها، ويعلمون مقدار ما قدموا من الأعمال،
وما أسلفوا من رديء الخصال، ويتبين لهم يومئذ أنهم كانوا كاذبين، وأنهم
مفترون على الله، قد ضلت عبادتهم، واضمحلت معبوداتهم، وتقطعت بهم الأسباب
والوسائل.

ولهذا قال تعالى: { هُنَالِكَ ْ} أي: في ذلك اليوم {
تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ْ} أي: تتفقد أعمالها وكسبها، وتتبعه
بالجزاء، وتجازي بحسبه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وضل عنهم ما كانوا
يفترون من قولهم بصحة ما هم عليه من الشرك وأن ما يعبدون من دون الله
تنفعهم وتدفع عنهم العذاب.

{ 31 - 33 ْ} { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ
مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ
وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ
أَفَلَا * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ
إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ْ}

أي:
{ قل ْ} لهؤلاء الذين أشركوا بالله، ما لم ينزل به سلطانًا - محتجًا عليهم
بما أقروا به من توحيد الربوبية، على ما أنكروه من توحيد الألوهية- { مَنْ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ْ} بإنزال الأرزاق من السماء،
وإخراج أنواعها من الأرض، وتيسير أسبابها فيها؟

{ أَمَّنْ يَمْلِكُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ْ} أي: من هو الذي خلقهما وهو مالكهما؟، وخصهما
بالذكر من باب التنبيه على المفضول بالفاضل، ولكمال شرفهما ونفعهما.

{
وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ْ} كإخراج أنواع الأشجار
والنبات من الحبوب والنوى، وإخراج المؤمن من الكافر، والطائر من البيضة،
ونحو ذلك، { وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ْ} عكس هذه المذكورات، {
وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ْ} في العالم العلوي والسفلي، وهذا شامل لجميع
أنواع التدابير الإلهية، فإنك إذا سألتهم عن ذلك { فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ
ْ} لأنهم يعترفون بجميع ذلك، وأن الله لا شريك له في شيء من المذكورات.

{
فَقُلْ ْ} لهم إلزامًا بالحجة { أَفَلَا تَتَّقُونَ ْ} الله فتخلصون له
العبادة وحده لا شريك له، وتخلعون ما تعبدون من دونه من الأنداد والأوثان.

{
فَذَلِكُمُ ْ} الذي وصف نفسه بما وصفها به { اللَّهُ رَبُّكُمْ ْ} أي:
المألوه المعبود المحمود، المربي جميع الخلق بالنعم وهو: { الْحَقُّ
فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ْ}

فإنه تعالى المنفرد
بالخلق والتدبير لجميع الأشياء، الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه، ولا يأتي
بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو، ذو الأسماء الحسنى والصفات
الكاملة العظيمة والجلال والإكرام.

{ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ْ} عن
عبادة من هذا وصفه، إلى عبادة الذي ليس له من وجوده إلا العدم، ولا يملك
لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.

فليس له من
الملك مثقال ذرة، ولا شركة له بوجه من الوجوه، ولا يشفع عند الله إلا
بإذنه، فتبا لمن أشرك به، وويحًا لمن كفر به، لقد عدموا عقولهم، بعد أن
عدموا أديانهم، بل فقدوا دنياهم وأخراهم.

ولهذا قال تعالى عنهم: {
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ ْ} بعد ما أراهم الله من الآيات البينات والبراهين النيرات،
ما فيه عبرة لأولي الألباب، وموعظة للمتقين وهدى للعالمين.

{ 34 -
36 ْ} { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ
أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ
كَيْفَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ْ}

يقول
تعالى - مبينًا عجز آلهة المشركين، وعدم اتصافها بما يوجب اتخاذها آلهة مع
الله- { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ْ} أي:
يبتديه { ثُمَّ يُعِيدُهُ ْ} وهذا استفهام بمعنى النفي والتقرير، أي: ما
منهم أحد يبدأ الخلق ثم يعيده، وهي أضعف من ذلك وأعجز، { قُلِ اللَّهُ
يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ْ} من غير مشارك ولا معاون له على ذلك.

{
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ْ} أي: تصرفون، وتنحرفون عن عبادة المنفرد
بالابتداء، والإعادة إلى عبادة من لا يخلق شيئًا وهم يخلقون.

{ قُلْ
هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ْ} ببيانه وإرشاده،
أو بإلهامه وتوفيقه.

{ قُلِ اللَّهُ ْ} وحده { يَهْدِي لِلْحَقِّ ْ}
بالأدلة والبراهين، وبالإلهام والتوفيق، والإعانة إلى سلوك أقوم طريق.

{
أَمَّنْ لَا يَهِدِّي ْ} أي: لا يهتدي { إِلَّا أَنْ يُهْدَى ْ} لعدم
علمه، ولضلاله، وهي شركاؤهم، التي لا تهدي ولا تهتدي إلا أن تهدى { فَمَا
لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ْ} أي: أيّ شيء جعلكم تحكمون هذا الحكم الباطل،
بصحة عبادة أحد مع الله، بعد ظهور الحجة والبرهان، أنه لا يستحق العبادة
إلا الله وحده.

فإذا تبين أنه ليس في آلهتهم التي يعبدون مع الله
أوصافا معنوية، ولا أوصافا فعلية، تقتضي أن تعبد مع الله، بل هي متصفة
بالنقائص الموجبة لبطلان إلهيتها، فلأي شيء جعلت مع الله آلهة؟

فالجواب:
أن هذا من تزيين الشيطان للإنسان، أقبح البهتان، وأضل الضلال، حتى اعتقد
ذلك وألفه، وظنه حقًا، وهو لا شيء.

ولهذا قال: وما يتبع الذين يدعون
من دون الله شركاء أي: ما يتبعون في الحقيقة شركاء لله، فإنه ليس لله شريك
أصلا عقلًا ولا نقلاً، وإنما يتبعون الظن و { إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي
مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ْ} فسموها آلهة، وعبدوها مع الله، { إِنْ هِيَ
إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ْ} .

{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا
يَفْعَلُونَ ْ} وسيجازيهم على ذلك بالعقوبة البليغة.


{ 37 - 41
ْ} { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا
رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا
بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ *
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي
عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا
بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ْ}

يقول تعالى: { وَمَا كَانَ هَذَا
الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ْ} أي: غير ممكن ولا متصور،
أن يفترى هذا القرآن على الله تعالى، لأنه الكتاب العظيم الذي { لَا
يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ
مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ْ} وهو الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن
يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، وهو كتاب الله الذي
تكلم به ]رب العالمين[، فكيف يقدر أحد من الخلق، أن يتكلم بمثله، أو بما
يقاربه، والكلام تابع لعظمة المتكلم ووصفه؟".

فإن كان أحد يماثل
الله في عظمته، وأوصاف كماله، أمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن، ولو تنزلنا
على الفرض والتقدير، فتقوله أحد على رب العالمين، لعاجله بالعقوبة، وبادره
بالنكال.

{ وَلَكِنْ ْ} الله أنزل هذا الكتاب، رحمة للعالمين، وحجة
على العباد أجمعين.

أنزله { تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ْ}
من كتب الله السماوية، بأن وافقها، وصدقها بما شهدت به، وبشرت بنزوله، فوقع
كما أخبرت.

{ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ ْ} للحلال والحرام، والأحكام
الدينية والقدرية، والإخبارات الصادقة.

{ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ
رَبِّ الْعَالَمِينَ ْ} أي: لا شك ولا مرية فيه بوجه من الوجوه، بل هو الحق
اليقين: تنزيل من رب العالمين الذي ربى جميع الخلق بنعمه.

ومن أعظم
أنواع تربيته أن أنزل عليهم هذا الكتاب الذي فيه مصالحهم الدينية
والدنيوية، المشتمل على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.

{ أَمْ
يَقُولُونَ ْ} أي: المكذبون به عنادًا وبغيًا: { افْتَرَاهُ ْ} محمد على
الله، واختلقه، { قُلْ ْ} لهم -ملزما لهم بشيء- إن قدروا عليه، أمكن ما
ادعوه، وإلا كان قولهم باطلاً.

{ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
ْ} يعاونكم على الإتيان بسورة مثله، وهذا محال، ولو كان ممكنًا لادعوا
قدرتهم على ذلك، ولأتوا بمثله.

ولكن لما بان عجزهم تبين أن ما قالوه
باطل، لا حظ له من الحجة، والذي حملهم على التكذيب بالقرآن المشتمل على
الحق الذي لا حق فوقه، أنهم لم يحيطوا به علمًا.

فلو أحاطوا به
علمًا وفهموه حق فهمه، لأذعنوا بالتصديق به، وكذلك إلى الآن لم يأتهم
تأويله الذي وعدهم أن ينزل بهم العذاب ويحل بهم النكال، وهذا التكذيب
الصادر منهم، من جنس تكذيب من قبلهم، ولهذا قال: { كَذَلِكَ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
ْ} وهو الهلاك الذي لم يبق منهم أحدًا.

فليحذر هؤلاء، أن يستمروا
على تكذيبهم، فيحل بهم ما أحل بالأمم المكذبين والقرون المهلكين.

وفي
هذا دليل على التثبت في الأمور، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يبادر بقبول شيء
أو رده، قبل أن يحيط به علمًا.

{ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ْ}
أي: بالقرآن وما جاء به، { وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ
أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ْ} وهم الذين لا يؤمنون به على وجه العناد
والظلم والفساد، فسيجازيهم على فسادهم بأشد العذاب.

{ وَإِنْ
كَذَّبُوكَ ْ} فاستمر على دعوتك، وليس عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك
عليهم من شيء، لكل عمله. { فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ
أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ
ْ}

كما قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ْ}


{ 42 - 44 ْ} { وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا
يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي
الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ
النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ْ}

يخبر
تعالى عن بعض المكذبين للرسول، ولما جاء به، و أن { منهم مَنْ
يَسْتَمِعُونَ ْ} إلى النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، وقت قراءته للوحي، لا على وجه الاسترشاد،
بل على وجه التفرج والتكذيب وتطلب العثرات، وهذا استماع غير نافع، ولا
مُجدٍ على أهله خيرًا، لا جرم انسد عليهم باب التوفيق، وحرموا من فائدة
الاستماع، ولهذا قال: { أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا
يَعْقِلُونَ ْ} وهذا الاستفهام، بمعنى النفي المتقرر، أي: لا تسمع الصم
الذين لا يستمعون القول ولو جهرت به، وخصوصًا إذا كان عقلهم معدومًا.

فإذا
كان من المحال إسماع الأصم الذي لا يعقل للكلام، فهؤلاء المكذبون، كذلك
ممتنع إسماعك إياهم، إسماعًا ينتفعون به.

وأما سماع الحجة، فقد
سمعوا ما تقوم عليهم به حجة الله البالغة، فهذا طريق عظيم من طرق العلم قد
انسد عليهم، وهو طريق المسموعات المتعلقة بالخير.

ثم ذكر انسداد
الطريق الثاني، وهو: طريق النظر فقال: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ
ْ} فلا يفيده نظره إليك، ولا سبر أحوالك شيئًا، فكما أنك لا تهدي العمي
ولو كانوا لا يبصرون، فكذلك لا تهدي هؤلاء.

فإذا فسدت عقولهم
وأسماعهم وأبصارهم التي هي الطرق الموصلة إلى العلم ومعرفة الحقائق، فأين
الطريق الموصل لهم إلى الحق؟

ودل قوله: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ
إِلَيْكَ ْ} الآية، أن النظر إلى حالة النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، وهديه وأخلاقه وأعماله وما يدعو إليه من
أعظم الأدلة على صدقه وصحة ما جاء به، وأنه يكفي البصير عن غيره من الأدلة.

وقوله:
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ْ} فلا يزيد في سيئاتهم،
ولا ينقص من حسناتهم.

{ وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ ْ} يجيئهم الحق فلا يقبلونه، فيعاقبهم الله بعد ذلك بالطبع على
قلوبهم، والختم على أسماعهم وأبصارهم.


{ 45 ْ} { وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ
يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ
اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ْ}

يخبر تعالى، عن سرعة انقضاء
الدنيا، وأن الله تعالى إذا حشر الناس وجمعهم ليوم لا ريب فيه، كأنهم ما
لبثوا إلا ساعة من نهار، وكأنه ما مر عليهم نعيم ولا بؤس، وهم يتعارفون
بينهم، كحالهم في الدنيا، ففي هذا اليوم يربح المتقون، ويخسر الذين كذبوا
بلقاء الله وما كانوا مهتدين إلى الصراط المستقيم والدين القويم، حيث فاتهم
النعيم، واستحقوا دخول النار.

{ 46 ْ} { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ
بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ
ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ْ}

أي: لا تحزن أيها
الرسول على هؤلاء المكذبين، ولا تستعجل لهم، فإنهم لا بد أن يصيبهم الذي
نعدهم من العذاب.

إما في الدنيا فتراه بعينك، وتقر به نفسك.

وإما
في الآخرة بعد الوفاة، فإن مرجعهم إلى الله، وسينبئهم بما كانوا يعملون،
أحصاه ونسوه، والله على كل شيء شهيد، ففيه الوعيد الشديد لهم، والتسلية
للرسول الذي كذبه قومه وعاندوه.


{ 47 - 49 ْ} { وَلِكُلِّ
أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ
فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ْ}

يقول
تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ْ} من الأمم الماضية { رَسُولٌ ْ} يدعوهم إلى
توحيد الله ودينه.

{ فَإِذَا جَاءَ ْ} هم { رَسُولُهُمْ ْ} بالآيات،
صدقه بعضهم، وكذبه آخرون، فيقضي الله بينهم بالقسط بنجاة المؤمنين، وإهلاك
المكذبين { وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ْ} بأن يعذبوا قبل إرسال الرسول وبيان
الحجة، أو يعذبوا بغير جرمهم، فليحذر المكذبون لك من مشابهة الأمم
المهلكين، فيحل بهم ما حل بأولئك.

ولا يستبطئوا العقوبة ويقولوا: {
مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ْ} فإن هذا ظلم منهم، حيث
طلبوه من النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، فإنه ليس له من الأمر شيء، وإنما عليه
البلاغ والبيان للناس.

وأما حسابهم وإنزال العذاب عليهم، فمن الله
تعالى، ينزله عليهم إذا جاء الأجل الذي أجله فيه، والوقت الذي قدره فيه،
الموافق لحكمته الإلهية.

فإذا جاء ذلك الوقت لا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون، فليحذر المكذبون من الاستعجال بالعذاب، فإنهم مستعجلون بعذاب
الله الذي إذا نزل لا يرد بأسه عن القوم المجرمين، ولهذا قال:


{
50 - 52 ْ} { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ
نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا
وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ *
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ
تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ْ}

يقول تعالى: {
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا ْ} وقت نومكم بالليل {
أَوْ نَهَارًا ْ} في وقت غفلتكم { مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ
الْمُجْرِمُونَ ْ} أي: أي بشارة استعجلوا بها؟ وأي عقاب ابتدروه؟.

{
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ْ} فإنه لا ينفع الإيمان حين
حلول عذاب الله، ويقال لهم توبيخًا وعتابًا في تلك الحال التي زعموا أنهم
يؤمنون، { الْآنَ ْ} تؤمنون في حال الشدة والمشقة؟ { وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ
تَسْتَعْجِلُونَ ْ} فإن سنة الله في عباده أنه يعتبهم إذا استعتبوه قبل
وقوع العذاب، فإذا وقع العذاب لا ينفع نفسًا إيمانها، كما قال تعالى عن
فرعون، لما أدركه الغرق { قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي
آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ْ} وأنه
يقال له: { الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ْ} .

وقال تعالى: {
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ
اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ْ} وقال هنا: { أَثُمَّ إِذَا
مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ، آلْآنَ ْ} تدعون الإيمان { وَقَدْ كُنْتُمْ
بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ْ} فهذا ما عملت أيديكم، وهذا ما استعجلتم به.

{
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ْ} حين يوفون أعمالهم يوم القيامة: {
ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ ْ} أي: العذاب الذي تخلدون فيه، ولا يفتر عنكم
ساعة. { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ْ} من الكفر
والتكذيب والمعاصي


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:41 pm


- 56 ْ} { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ
لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ
ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ
لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ *
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ْ}

يقول تعالى
لنبيه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999: { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ْ}
أي: يستخبرك المكذبون على وجه التعنت والعناد، لا على وجه التبين والرشاد

{
أَحَقٌّ هُوَ ْ} أى: أصحيح حشر العباد، وبعثهم بعد موتهم ليوم المعاد،
وجزاء العباد بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر؟

{ قُلْ ْ} لهم
مقسمًا على صحته، مستدلا عليه بالدليل الواضح والبرهان: { إِي وَرَبِّي
إِنَّهُ لَحَقٌّ ْ} لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه.

{ وَمَا أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ ْ} لله أن يبعثكم، فكما ابتدأ خلقكم ولم تكونوا شيئًا، كذلك
يعيدكم مرة أخرى ليجازيكم بأعمالكم.

{ و ْ} إذا كانت القيامة فـ {
لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ْ} بالكفر والمعاصي جميع { مَا فِي
الْأَرْضِ ْ} من ذهب وفضة وغيرهما، لتفتدي به من عذاب الله { لَافْتَدَتْ
بِهِ ْ} ولما نفعها ذلك، وإنما النفع والضر والثواب والعقاب، على الأعمال
الصالحة والسيئة.

{ وَأَسَرُّوا ْ} [أي] الذين ظلموا { النَّدَامَةَ
لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ْ} ندموا على ما قدموا، ولات حين مناص، {
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ْ} أي: العدل التام الذي لا ظلم ولا جور
فيه بوجه من الوجوه.

{ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ ْ} يحكم فيهم بحكمه الديني والقدري، وسيحكم فيهم بحكمه
الجزائي. ولهذا قال: { أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ْ} فلذلك لا يستعدون للقاء الله، بل ربما لم
يؤمنوا به، وقد تواترت عليه الأدلة القطعية والبراهين النقلية والعقلية.

{
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ْ} أي: هو المتصرف بالإحياء والإماتة، وسائر أنواع
التدبير ، لا شريك له في ذلك.

{ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ْ} يوم
القيامة، فيجازيكم بأعمالكم خيرها وشرها.

{ 57 - 58 ْ} { يَا
أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ
لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ
اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ ْ}

يقول تعالى - مرغبًا للخلق في الإقبال على هذا
الكتاب الكريم، بذكر أوصافه الحسنة الضرورية للعباد فقال: { يَا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ْ} أي: تعظكم،
وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله، المقتضية لعقابه وتحذركم عنها ببيان
آثارها ومفاسدها.

{ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ْ} وهو هذا
القرآن، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع
وأمراض الشبهات، القادحة في العلم اليقيني، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب
والترهيب، والوعد والوعيد، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة.

وإذا
وجدت فيه الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، ونمتا على تكرر ما يرد إليها
من معاني القرآن، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي
الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه.

وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة
التي صرفها الله غاية التصريف، وبينها أحسن بيان، مما يزيل الشبه القادحة
في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين.

وإذا صح القلب من
مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد
بفساده. { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ْ} فالهدى هو العلم بالحق
والعمل به.

والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل
والآجل، لمن اهتدى به، فالهدى أجل الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب،
ولكن لا يهتدي به، ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين.

وإذا حصل
الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح،
والفرح والسرور.

ولذلك أمر تعالى بالفرح بذلك فقال: { قُلْ بِفَضْلِ
اللَّهِ ْ} الذي هو القرآن، الذي هو أعظم نعمة ومنة، وفضل تفضل الله به
على عباده { وَبِرَحْمَتِهِ ْ} الدين والإيمان، وعبادة الله ومحبته
ومعرفته. { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ْ}
من متاع الدنيا ولذاتها.

فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين، لا
نسبة بينها، وبين جميع ما في الدنيا، مما هو مضمحل زائل عن قريب.

وإنما
أمر الله تعالى بالفرح بفضله ورحمته، لأن ذلك مما يوجب انبساط النفس
ونشاطها، وشكرها لله تعالى، وقوتها، وشدة الرغبة في العلم والإيمان الداعي
للازدياد منهما، وهذا فرح محمود، بخلاف الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها، أو
الفرح بالباطل، فإن هذا مذموم كما قال [تعالى عن] قوم قارون له: { لَا
تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ْ} .

وكما قال
تعالى في الذين فرحوا بما عندهم من الباطل المناقض لما جاءت به الرسل: {
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا
عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ْ}


{ 59 - 60 ْ} { قُلْ أَرَأَيْتُمْ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا
وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ *
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ْ}

يقول تعالى - منكرًا على المشركين،
الذين ابتدعوا تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه -: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ ْ} يعني أنواع الحيوانات المحللة،
التي جعلها الله رزقا لهم ورحمة في حقهم. { فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا
وَحَلَالًا ْ} قل لهم - موبخا على هذا القول الفاسد-: { آللَّهُ أَذِنَ
لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ْ} ومن المعلوم أن الله لم يأذن
لهم، فعلم أنهم مفترون.

{ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ْ} أن يفعل الله بهم من النكال،
ويحل بهم من العقاب، قال تعالى: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ْ} .

{ إِنَّ
اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ْ} كثير، وذو إحسان جزيل، وَلَكِنَّ
أكثر الناس لا يشكرون، إما أن لا يقوموا بشكرها، وإما أن يستعينوا بها على
معاصيه، وإما أن يحرموا منها، ويردوا ما منَّ الله به على عباده، وقليل
منهم الشاكر الذي يعترف بالنعمة، ويثني بها على الله، ويستعين بها على
طاعته.

ويستدل بهذه الآية على أن الأصل في جميع الأطعمة الحل، إلا
ما ورد الشرع بتحريمه، لأن الله أنكر على من حرم الرزق الذي أنزله لعباده.


{
61 ْ} { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ
وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ
تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي
الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ
إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ْ}

يخبر تعالى، عن عموم مشاهدته،
واطلاعه على جميع أحوال العباد في حركاتهم، وسكناتهم، وفي ضمن هذا، الدعوة
لمراقبته على الدوام فقال: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ْ} أي: حال من
أحوالك الدينية والدنيوية. { وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ْ} أي: وما
تتلو من القرآن الذي أوحاه الله إليك.

{ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ
عَمَلٍ ْ} صغير أو كبير { إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ
تُفِيضُونَ فِيهِ ْ} أي: وقت شروعكم فيه، واستمراركم على العمل به.

فراقبوا
الله في أعمالكم، وأدوها على وجه النصيحة، والاجتهاد فيها، وإياكم، وما
يكره الله تعالى، فإنه مطلع عليكم، عالم بظواهركم وبواطنكم.

{ وَمَا
يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ ْ} أي: ما يغيب عن علمه، وسمعه، وبصره ومشاهدته {
مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ
مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ْ} أي: قد أحاط به
علمه، وجرى به قلمه.

وهاتان المرتبتان من مراتب القضاء والقدر،
كثيرًا ما يقرن الله بينهما، وهما: العلم المحيط بجميع الأشياء، وكتابته
المحيطة بجميع الحوادث، كقوله تعالى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ْ}

{ 62 - 64 ْ} { أَلَا إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ}

يخبر تعالى عن أوليائه
وأحبائه، ويذكر أعمالهم وأوصافهم، وثوابهم فقال: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ
اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ْ} فيما يستقبلونه مما أمامهم من المخاوف
والأهوال.

{ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ْ} على ما أسلفوا، لأنهم لم
يسلفوا إلا صالح الأعمال، وإذا كانوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ثبت لهم
الأمن والسعادة، والخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.

ثم
ذكر وصفهم فقال: { الَّذِينَ آمَنُوا ْ} بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر وبالقدر خيره وشره، وصدقوا إيمانهم، باستعمال التقوى، بامتثال
الأوامر، واجتناب النواهي.

فكل من كان مؤمنًا تقيًا كان لله [تعالى]
وليًا، و { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ
ْ}

أما البشارة في الدنيا، فهي: الثناء الحسن، والمودة في قلوب
المؤمنين، والرؤيا الصالحة، وما يراه العبد من لطف الله به وتيسيره لأحسن
الأعمال والأخلاق، وصرفه عن مساوئ الأخلاق.

وأما في الآخرة، فأولها
البشارة عند قبض أرواحهم، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا
رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ
الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ْ}

وفي القبر ما يبشر به
من رضا الله تعالى والنعيم المقيم.

وفي الآخرة تمام البشرى بدخول
جنات النعيم، والنجاة من العذاب الأليم.

{ لَا تَبْدِيلَ
لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ْ} بل ما وعد الله فهو حق، لا يمكن تغييره ولا تبديله،
لأنه الصادق في قيله، الذي لا يقدر أحد أن يخالفه فيما قدره وقضاه.

{
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ} لأنه اشتمل على النجاة من كل محذور،
والظفر بكل مطلوب محبوب، وحصر الفوز فيه، لأنه لا فوز لغير أهل الإيمان
والتقوى.

والحاصل أن البشرى شاملة لكل خير وثواب، رتبه الله في
الدنيا والآخرة، على الإيمان والتقوى، ولهذا أطلق ذلك، فلم يقيده.


{
65 ْ} { وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ْ}

أي: ولا يحزنك قول المكذبين فيك من
الأقوال التي يتوصلون بها إلى القدح فيك، وفي دينك فإن أقوالهم لا تعزهم،
ولا تضرك شيئًا. { إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ْ} يؤتيها من يشاء،
ويمنعها ممن يشاء.

قال تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ
فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ْ} أي: فليطلبها بطاعته، بدليل قوله بعده: {
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ ْ}

ومن المعلوم، أنك على طاعة الله، وأن العزة لك
ولأتباعك من الله { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
ْ}

وقوله: { هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ْ} أي: سمعه قد أحاط بجميع
الأصوات، فلا يخفى عليه شيء منها.

وعلمه قد أحاط بجميع الظواهر
والبواطن، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، في السماوات والأرض، ولا أصغر من ذلك
ولا أكبر.

وهو تعالى يسمع قولك، وقول أعدائك فيك، ويعلم ذلك تفصيلا،
فاكتف بعلم الله وكفايته، فمن يتق الله، فهو حسبه.


{ 66 - 67
ْ} { أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * هُوَ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ
مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَْ}

يخبر
تعالى: أن له ما في السماوات والأرض، خلقًا وملكًا وعبيدًا، يتصرف فيهم بما
شاء من أحكامه، فالجميع مماليك لله، مسخرون، مدبرون، لا يستحقون شيئًا من
العبادة، وليسوا شركاء لله بوجه الوجوه، ولهذا قال: { وَمَا يَتَّبِعُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ ْ} الذي لا يغني من الحق شيئًا { وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ ْ} في ذلك، خرص كذب وإفك وبهتان.

فإن كانوا صادقين في
أنها شركاء لله، فليظهروا من أوصافها ما تستحق به مثقال ذرة من العبادة،
فلن يستطيعوا، فهل منهم أحد يخلق شيئًا أو يرزق، أو يملك شيئًا من
المخلوقات، أو يدبر الليل والنهار، الذي جعله الله قياما للناس؟.

و {
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ْ} في النوم
والراحة بسبب الظلمة، التي تغشى وجه الأرض، فلو استمر الضياء، لما قروا،
ولما سكنوا.

{ و ْ} جعل الله { النَّهَارَ مُبْصِرًا ْ} أي: مضيئًا،
يبصر به الخلق، فيتصرفون في معايشهم، ومصالح دينهم ودنياهم.

{
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ْ} عن الله، سمع فهم،
وقبول، واسترشاد، لا سمع تعنت وعناد، فإن في ذلك لآيات، لقوم يسمعون،
يستدلون بها على أنه وحده المعبود وأنه الإله الحق، وأن إلهية ما سواه
باطلة، وأنه الرءوف الرحيم العليم الحكيم.


{ 68 - 70 ْ} {
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ
بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ
الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ
فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ
الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ْ}

يقول تعالى مخبرًا عن بهت
المشركين لرب العالمين { قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ْ} فنزه نفسه
عن ذلك بقوله: { سُبْحَانَهُ ْ} أي: تنزه عما يقول الظالمون في نسبة
النقائص إليه علوًا كبيرًا، ثم برهن على ذلك، بعدة براهين:

أحدها:
قوله: { هُوَ الْغَنِيُّ ْ} أي: الغنى منحصر فيه، وأنواع الغنى مستغرقة
فيه، فهو الغني الذي له الغنى التام بكل وجه واعتبار من جميع الوجوه، فإذا
كان غنيًا من كل وجه، فلأي شيء يتخذ الولد؟

ألحاجة منه إلى الولد،
فهذا مناف لغناه فلا يتخذ أحد ولدًا إلا لنقص في غناه.

البرهان
الثاني، قوله: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ْ} وهذه
كلمة جامعة عامة لا يخرج عنها موجود من أهل السماوات والأرض، الجميع
مخلوقون عبيد مماليك.

ومن المعلوم أن هذا الوصف العام ينافي أن يكون
له منهم ولد، فإن الولد من جنس والده، لا يكون مخلوقًا ولا مملوكًا.
فملكيته لما في السماوات والأرض عمومًا، تنافي الولادة.

البرهان
الثالث، قوله: { إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا ْ} أي: هل عندكم
من حجة وبرهان يدل على أن لله ولدًا، فلو كان لهم دليل لأبدوه، فلما تحداهم
وعجزهم عن إقامة الدليل، علم بطلان ما قالوه. وأن ذلك قول بلا علم، ولهذا
قال: { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ْ} فإن هذا من أعظم
المحرمات.

{ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ْ} أي: لا ينالون مطلوبهم، ولا يحصل لهم
مقصودهم، وإنما يتمتعون في كفرهم وكذبهم، في الدنيا، قليلاً، ثم ينتقلون
إلى الله، ويرجعون إليه، فيذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون. { وَمَا
ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ْ}

{ 71 - 73
ْ} { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ
إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ
فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ
ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ
وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ
إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ
وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ْ}

يقول تعالى
لنبيه: واتل على قومك { نَبَأَ نُوحٍ ْ} في دعوته لقومه، حين دعاهم إلى
الله مدة طويلة، فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، فلم يزدهم دعاؤه إياهم
إلا طغيانًا، فتمللوا منه وسئموا، وهو عليه الصلاة والسلام غير متكاسل،
ولا متوان في دعوتهم، فقال لهم: { يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ
مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ ْ} أي: إن كان مقامي عندكم،
وتذكيري إياكم ما ينفعكم { بِآيَاتِ اللَّهِ ْ} الأدلة الواضحة البينة، قد
شق عليكم وعظم لديكم، وأردتم أن تنالوني بسوء أو تردوا الحق. { فَعَلَى
اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ْ} أي: اعتمدت على الله، في دفع كل شر يراد بي، وبما
أدعو إليه، فهذا جندي، وعدتي. وأنتم، فأتوا بما قدرتم عليه، من أنواع
العَدَدَ والعُددَ.

{ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ْ} كلكم، بحيث لا
يتخلف منكم أحد، ولا تدخروا من مجهودكم شيئًا.

{ و ْ} أحضروا {
َشُرَكَاءَكُمْ ْ} الذي كنتم تعبدونهم وتوالونهم من دون الله رب العالمين.

{
ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ْ} أي: مشتبهًا خفيًا، بل
ليكن ذلك ظاهرًا علانية.

{ ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ْ} أي: اقضوا علي
بالعقوبة والسوء، الذي في إمكانكم، { وَلَا تُنْظِرُونِ ْ} أي: لا تمهلوني
ساعة من نهار. فهذا برهان قاطع، وآية عظيمة على صحة رسالته، وصدق ما جاء
به، حيث كان وحده لا عشيرة تحميه، ولا جنود تؤويه.

وقد بادأ قومه
بتسفيه آرائهم، وفساد دينهم، وعيب آلهتهم. وقد حملوا من بغضه، وعداوته ما
هو أعظم من الجبال الرواسي، وهم أهل القدرة والسطوة، وهو يقول لهم: اجتمعوا
أنتم وشركاؤكم ومن استطعتم، وأبدوا كل ما تقدرون عليه من الكيد، فأوقعوا
بي إن قدرتم على ذلك، فلم يقدروا على شيء من ذلك.

فعلم أنه الصادق
حقًا، وهم الكاذبون فيما يدعون، ولهذا قال: { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ْ} عن
ما دعوتكم إليه، فلا موجب لتوليكم، لأنه تبين أنكم لا تولون عن باطل إلى
حق، وإنما تولون عن حق قامت الأدلة على صحته، إلى باطل قامت الأدلة على
فساده.

ومع هذا { فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ْ} على دعوتي،
وعلى إجابتكم، فتقولوا: هذا جاءنا ليأخذ أموالنا، فتمتنعون لأجل ذلك.

{
إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ْ} أي: لا أريد الثواب والجزاء إلا
منه، { و ْ} أيضا فإني ما أمرتكم بأمر وأخالفكم إلى ضده، بل { أمرت أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ْ} فأنا أول داخل، وأول فاعل لما أمرتكم به.

{
فَكَذَّبُوهُ ْ} بعد ما دعاهم ليلاً ونهارًا، سرًا وجهارًا، فلم يزدهم
دعاؤه إلا فرارًا، { فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ْ} الذي
أمرناه أن يصنعه بأعيننا، وقلنا له إذا فار التنور: فـ { احْمِلْ فِيهَا
مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ْ} ففعل ذلك.

فأمر الله السماء أن تمطر بماء
منهمر وفجر الأرض عيونًا، فالتقى الماء على أمر قد قدر: { وَحَمَلْنَاهُ
عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ْ} تجري بأعيننا، { وَجَعَلْنَاهُمْ
خَلَائِفَ ْ} في الأرض بعد إهلاك المكذبين.

ثم بارك الله في ذريته،
وجعل ذريته، هم الباقين، ونشرهم في أقطار الأرض، { وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ْ} بعد ذلك البيان، وإقامة البرهان، { فَانْظُرْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ْ} وهو: الهلاك المخزي، واللعنة
المتتابعة عليهم في كل قرن يأتي بعدهم، لا تسمع فيهم إلا لوما، ولا ترى إلا
قدحًا وذمًا.

فليحذر هؤلاء المكذبون، أن يحل بهم ما حل بأولئك
الأقوام المكذبين من الهلاك، والخزي، والنكال.


ِ{ 74 ْ} { ثُمَّ
بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ
قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ْ}

أي: {
ثُمَّ بَعَثْنَا ْ} من بعد نوح عليه السلام { رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ ْ}
المكذبين، يدعونهم إلى الهدى، ويحذرونهم من أسباب الردى.
{ فَجَاءُوهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ ْ} أي: كل نبي أيد دعوته، بالآيات الدالة على صحة ما جاء
به.

{ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ
ْ} يعني: أن الله تعالى عاقبهم حيث جاءهم الرسول، فبادروا بتكذيبه، طبع
الله على قلوبهم، وحال بينهم وبين الإيمان بعد أن كانوا متمكنين منه، كما
قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ
يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ْ}

ولهذا قال هنا: { كَذَلِكَ
نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ْ} أي: نختم عليها، فلا يدخلها خير،
وما ظلمهم [الله]، ولكنهم ظلموا أنفسهم بردهم الحق لما جاءهم، وتكذيبهم
الأول.


{ 75 ْ} { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى
وَهَارُونَ ْ} إلى آخر القصة

أي: { ثُمَّ بَعَثْنَا ْ} من بعد هؤلاء
الرسل، الذين أرسلهم الله إلى القوم المكذبين المهلكين.

{ مُوسَى
ْ} بن عمران، كليم الرحمن، أحد أولي العزم من المرسلين، وأحد الكبار
المقتدى بهم، المنزل عليهم الشرائع المعظمة الواسعة.

{ و ْ} جعلنا
معه أخاه { هَارُونَ ْ} وزيرًا بعثناهما { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ْ}
أي: كبار دولته ورؤسائهم، لأن عامتهم، تبع للرؤساء.

{ بِآيَاتِنَا
ْ} الدالة على صدق ما جاءا به من توحيد الله، والنهي عن عبادة ما سوى الله
تعالى، { فَاسْتَكْبَرُوا ْ} عنها ظلمًا وعلوًا، بعد ما استيقنوها.

{
وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ْ} أي: وصفهم الإجرام والتكذيب.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:45 pm

{ 76 ْ} { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ
عِنْدِنَا ْ}

الذي هو أكبر أنواع الحق وأعظمها، وهو من عند الله
الذي خضعت لعظمته الرقاب، وهو رب العالمين، المربي جميع خلقه بالنعم.

فلما
جاءهم الحق من عند الله على يد موسى، ردوه فلم يقبلوه، و { قَالُوا إِنَّ
هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ْ} لم يكفهم - قبحهم الله - إعراضهم ولا ردهم إياه،
حتى جعلوه أبطل الباطل، وهو السحر: الذي حقيقته التمويه، بل جعلوه سحرًا
مبينًا، ظاهرًا، وهو الحق المبين. ولهذا { قَالَ ْ} لهم { مُوسَى ْ} -
موبخا لهم عن ردهم الحق، الذي لا يرده إلا أظلم الناس:- { أَتَقُولُونَ
لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ ْ} أي: أتقولون إنه سحر مبين.

{
أَسِحْرٌ هَذَا ْ} أي: فانظروا وصفه وما اشتمل عليه، فبمجرد ذلك يجزم بأنه
الحق. { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ْ} لا في الدنيا، ولا في الآخرة،
فانظروا لمن تكون له العاقبة، ولمن له الفلاح، وعلى يديه النجاح. وقد علموا
بعد ذلك وظهر لكل أحد أن موسى عليه السلام هو الذي أفلح، وفاز بظفر الدنيا
والآخرة.


{ 78 ْ} { قَالُوا ْ} لموسى رادين لقوله بما لا يرده:
{ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ْ} أي:
أجئتنا لتصدنا عما وجدنا عليه آباءنا، من الشرك وعبادة غير الله، وتأمرنا
بأن نعبد الله وحده لا شريك له؟ فجعلوا قول آبائهم الضالين حجة، يردون بها
الحق الذي جاءهم به موسى عليه السلام.

وقولهم : { وَتَكُونَ لَكُمَا
الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ْ} أي: وجئتمونا لتكونوا أنتم الرؤساء،
ولتخرجونا من أرضنا. وهذا تمويه منهم، وترويج على جهالهم، وتهييج لعوامهم
على معاداة موسى، وعدم الإيمان به.

وهذا لا يحتج به، من عرف
الحقائق، وميز بين الأمور، فإن الحجج لا تدفع إلا بالحجج والبراهين.

وأما
من جاء بالحق، فرد قوله بأمثال هذه الأمور، فإنها تدل على عجز موردها، عن
الإتيان بما يرد القول الذي جاء خصمه، لأنه لو كان له حجة لأوردها، ولم
يلجأ إلى قوله: قصدك كذا، أو مرادك كذا، سواء كان صادقًا في قوله وإخباره
عن قصد خصمه، أم كاذبًا، مع أن موسى عليه الصلاة والسلام كل من عرف حاله،
وما يدعو إليه، عرف أنه ليس له قصد في العلو في الأرض، وإنما قصده كقصد
إخوانه المرسلين، هداية الخلق، وإرشادهم لما فيه نفعهم.

ولكن حقيقة
الأمر، كما نطقوا به بقولهم: { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ْ} أي:
تكبرًا وعنادًا، لا لبطلان ما جاء به موسى وهارون، ولا لاشتباه فيه، ولا
لغير ذلك من المعاني، سوى الظلم والعدوان، وإرادة العلو الذي رموا به موسى
وهارون.

{ 79 } { وَقَالَ فِرْعَوْنُ } معارضًا للحق، الذي جاء به
موسى، ومغالطًا لملئه وقومه: { ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } أي:
ماهر بالسحر، متقن له. فأرسل في مدائن مصر، من أتاه بأنواع السحرة، على
اختلاف أجناسهم وطبقاتهم.

{ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ } للمغالبة
مع موسى { قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ } أي: أي
شيء أردتم، لا أعين لكم شيئًا، وذلك لأنه جازم بغلبته، غير مبال بهم، وبما
جاءوا به.

{ فَلَمَّا أَلْقَوْا } حبالهم وعصيهم، إذا هي كأنها حيات
تسعى، فـ { قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ } أي: هذا السحر
الحقيقي العظيم، ولكن مع عظمته { إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } فإنهم يريدون بذلك نصر الباطل على
الحق، وأي فساد أعظم من هذا؟!!

وهكذا كل مفسد عمل عملاً، واحتال
كيدًا، أو أتى بمكر، فإن عمله سيبطل ويضمحل، وإن حصل لعمله روجان في وقت
ما، فإن مآله الاضمحلال والمحق.

وأما المصلحون الذين قصدهم بأعمالهم
وجه الله تعالى، وهي أعمال ووسائل نافعة، مأمور بها، فإن الله يصلح
أعمالهم ويرقيها، وينميها على الدوام، فألقى موسى عصاه، فتلقفت جميع ما
صنعوا، فبطل سحرهم، واضمحل باطلهم.


{ 82 } { وَيُحِقُّ اللَّهُ
الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } فألقي السحرة سجدًا
حين تبين لهم الحق. فتوعدهم فرعون بالصلب، وتقطيع الأيدي والأرجل، فلم
يبالوا بذلك وثبتوا على إيمانهم.

وأما فرعون وملؤه، وأتباعهم، فلم
يؤمن منهم أحد، بل استمروا في طغيانهم يعمهون.

ولهذا قال: { فَمَا
آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } أي: شباب من بني
إسرائيل، صبروا على الخوف، لما ثبت في قلوبهم الإيمان.

{ عَلَى
خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ } عن دينهم {
وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ } أي: له القهر والغلبة فيها،
فحقيق بهم أن يخافوا من بطشته.

{ و } خصوصًا { إِنَّهُ } كان {
لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } أي: المتجاوزين للحد، في البغي والعدوان.

والحكمة
-والله أعلم- بكونه ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، أن الذرية والشباب،
أقبل للحق، وأسرع له انقيادًا، بخلاف الشيوخ ونحوهم، ممن تربى على الكفر
فإنهم -بسبب ما مكث في قلوبهم من العقائد الفاسدة- أبعد من الحق من غيرهم.


{
84 } { وَقَالَ مُوسَى } موصيًا لقومه بالصبر، ومذكرًا لهم ما يستعينون به
على ذلك فقال: { يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ } فقوموا
بوظيفة الإيمان.

{ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ
مُسْلِمِينَ } أي: اعتمدوا عليه، والجؤوا إليه واستنصروه.

{ 85 } {
فَقَالُوا } ممتثلين لذلك { عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي: لا تسلطهم علينا،
فيفتنونا، أو يغلبونا، فيفتتنون بذلك، ويقولون: لو كانوا على حق لما غلبوا.
{
86 } { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } لنسلم من
شرهم، ولنقيم [على] ديننا على وجه نتمكن به من إقامة شرائعه، وإظهاره من
غير معارض، ولا منازع.

{ 87 } { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى
وَأَخِيهِ } حين اشتد الأمر على قومهما، من فرعون وقومه، وحرصوا على فتنتهم
عن دينهم.

{ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } أي:
مروهم أن يجعلوا لهم بيوتًا، يتمكنون ]به[ من الاستخفاء فيها.

{
وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي: اجعلوها محلا، تصلون فيها، حيث
عجزتم عن إقامة الصلاة في الكنائس، والبيع العامة.

{ وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ } فإنها معونة على جميع الأمور، { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
بالنصر والتأييد، وإظهار دينهم، فإن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا،
وحين اشتد الكرب، وضاق الأمر، فرجه الله ووسعه.

فلما رأى موسى،
القسوة والإعراض من فرعون وملئه ، دعا عليهم وأمن هارون على دعائه، فقال:


{
88 } { رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً } يتزينون
بها من أنواع الحلي والثياب، والبيوت المزخرفة، والمراكب الفاخرة،
والخدام، { وَأَمْوَالًا } عظيمة { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا
لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ } أي: إن أموالهم لم يستعينوا بها إلا على
الإضلال في سبيلك، فيضلون ويضلون.

{ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى
أَمْوَالِهِمْ } أي: أتلفها عليهم: إما بالهلاك، وإما بجعلها حجارة، غير
منتفع بها.

{ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي: قسها { فَلَا
يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ }

قال ذلك، غضبًا
عليهم، حيث تجرؤوا على محارم الله، وأفسدوا عباد الله، وصدوا عن سبيله،
ولكمال معرفته بربه بأن الله سيعاقبهم على ما فعلوا، بإغلاق باب الإيمان
عليهم.

{ 89 } { قَالَ } الله تعالى { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا
} هذا دليل على أن موسى، [كان] يدعو، وهارون يؤمن على دعائه، وأن الذي
يؤمن، يكون شريكا للداعي في ذلك الدعاء.

{ فَاسْتَقِيمَا } على
دينكما، واستمرا على دعوتكما، { وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ } أي: لا تتبعان سبيل الجهال الضلال، المنحرفين عن الصراط
المستقيم، المتبعين لطرق الجحيم، فأمر الله موسى أن يسري ببني إسرائيل
ليلاً، وأخبره أنهم يتبعون، وأرسل فرعون في المدائن حاشرين يقولون: { إِنَّ
هَؤُلَاءِ } أي: موسى وقومه: { لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا
لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ }

فجمع جنوده، قاصيهم
ودانيهم، فأتبعهم بجنوده، بغيًا وعدوًا أي: خروجهم باغين على موسى وقومه،
ومعتدين في الأرض، وإذا اشتد البغي، واستحكم الذنب، فانتظر العقوبة.


{
90 } { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ } وذلك أن الله أوحى
إلى موسى، لما وصل البحر، أن يضربه بعصاه، فضربه، فانفلق اثنى عشر طريقًا،
وسلكه بنو إسرائيل، وساق فرعون وجنوده خلفه داخلين.

فلما استكمل
موسى وقومه خارجين من البحر، وفرعون وجنوده داخلين فيه، أمر الله البحر
فالتطم على فرعون وجنوده، فأغرقهم، وبنو إسرائيل ينظرون.

حتى إذا
أدرك فرعون الغرق، وجزم بهلاكه { قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا
الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ } وهو الله الإله الحق الذي لا
إله إلا هو { وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي: المنقادين لدين الله، ولما
جاء به موسى.


{ 91 } قال الله تعالى - مبينا أن هذا الإيمان في
هذه الحالة غير نافع له-: { آلْآنَ } تؤمن، وتقر برسول الله { وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ } أي: بارزت بالمعاصي، والكفر والتكذيب { وَكُنْتَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ } فلا ينفعك الإيمان كما جرت عادة الله، أن الكفار إذا
وصلوا إلى هذه الحالة الاضطرارية أنه لا ينفعهم إيمانهم، لأن إيمانهم، صار
إيمانًا مشاهدًا كإيمان من ورد القيامة، والذي ينفع، إنما هو الإيمان
بالغيب.


{ 92 } { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ
لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً }

قال المفسرون: إن بني إسرائيل لما في
قلوبهم من الرعب العظيم، من فرعون، كأنهم لم يصدقوا بإغراقه، وشكوا في ذلك،
فأمر الله البحر أن يلقيه على نجوة مرتفعة ببدنه، ليكون لهم عبرة وآية.

{
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } فلذلك تمر
عليهم وتتكرر فلا ينتفعون بها، لعدم إقبالهم عليها.

وأما من له عقل
وقلب حاضر، فإنه يرى من آيات الله ما هو أكبر دليل على صحة ما أخبرت به
الرسل.


{ 93 } { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
مُبَوَّأَ صِدْقٍ }

أي: أنزلهم الله وأسكنهم في مساكن آل فرعون،
وأورثهم أرضهم وديارهم.

{ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } من
المطاعم والمشارب وغيرهما { فَمَا اخْتَلَفُوا } في الحق { حَتَّى
جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } الموجب لاجتماعهم وائتلافهم، ولكن بغى بعضهم على
بعض، وصار لكثير منهم أهوية وأغراض تخالف الحق، فحصل بينهم من الاختلاف شيء
كثير.

{ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } بحكمة العدل الناشئ عن علمه التام،
وقدرته الشاملة، وهذا هو الداء، الذي يعرض لأهل الدين الصحيح.

وهو:
أن الشيطان إذا أعجزوه أن يطيعوه في ترك الدين بالكلية، سعى في التحريش
بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء، فحصل من الاختلاف ما هو موجب ذلك، ثم حصل
من تضليل بعضهم لبعض، وعداوة بعضهم لبعض، ما هو قرة عين اللعين.

وإلا
فإذا كان ربهم واحدًا، ورسولهم واحدًا، ودينهم واحدًا، ومصالحهم العامة
متفقة، فلأي شيء يختلفون اختلافًا يفرق شملهم، ويشتت أمرهم، ويحل رابطتهم
ونظامهم، فيفوت من مصالحهم الدينية والدنيوية ما يفوت، ويموت من دينهم،
بسبب ذلك ما يموت؟.

فنسألك اللهم، لطفًا بعبادك المؤمنين، يجمع
شملهم ويرأب صدعهم، ويرد قاصيهم على دانيهم، يا ذا الجلال والإكرام.


{
94 - 95 } { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلَا
تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ
الْخَاسِرِينَ }

يقول تعالى لنبيه محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999: { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا
أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ } هل هو صحيح أم غير صحيح؟.

{ فَاسْأَلِ
الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } أي: اسأل أهل الكتب
المنصفين، والعلماء الراسخين، فإنهم سيقرون لك بصدق ما أخبرت به، وموافقته
لما معهم، فإن قيل: إن كثيرًا من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، بل ربما
كان أكثرهم ومعظمهم كذبوا رسول الله وعاندوه، وردوا عليه دعوته.

والله
تعالى أمر رسوله أن يستشهد بهم، وجعل شهادتهم حجة لما جاء به، وبرهانًا
على صدقه، فكيف يكون ذلك؟

فالجواب عن هذا، من عدة أوجه:

منها:
أن الشهادة إذا أضيفت إلى طائفة، أو أهل مذهب، أو بلد ونحوهم، فإنها إنما
تتناول العدول الصادقين منهم.

وأما من عداهم، فلو كانوا أكثر من
غيرهم فلا عبرة فيهم، لأن الشهادة مبنية على العدالة والصدق، وقد حصل ذلك
بإيمان كثير من أحبارهم الربانيين، كـ "عبد الله بن سلام" [وأصحابه وكثير
ممن أسلم في وقت النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، وخلفائه، ومن بعده] و "كعب الأحبار"
وغيرهما.

ومنها: أن شهادة أهل الكتاب للرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 مبنية على كتابهم التوراة الذي ينتسبون
إليه.

فإذا كان موجودًا في التوراة، ما يوافق القرآن ويصدقه، ويشهد
له بالصحة، فلو اتفقوا من أولهم لآخرهم على إنكار ذلك، لم يقدح بما جاء به
الرسول.

ومنها: أن الله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بأهل الكتاب على
صحة ما جاءه، وأظهر ذلك وأعلنه على رءوس الأشهاد.

ومن المعلوم أن
كثيرًا منهم من أحرص الناس على إبطال دعوة الرسول محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، فلو كان عندهم ما يرد ما ذكره الله،
لأبدوه وأظهروه وبينوه، فلما لم يكن شيء من ذلك، كان عدم رد المعادي،
وإقرار المستجيب من أدل الأدلة على صحة هذا القرآن وصدقه.

ومنها:
أنه ليس أكثر أهل الكتاب، رد دعوة الرسول، بل أكثرهم استجاب لها، وانقاد
طوعًا واختيارًا، فإن الرسول بعث وأكثر أهل الأرض المتدينين أهل كتاب .

فلم
يمكث دينه مدة غير كثيرة، حتى انقاد للإسلام أكثر أهل الشام، ومصر،
والعراق، وما جاورها من البلدان التي هي مقر دين أهل الكتاب، ولم يبق إلا
أهل الرياسات الذين آثروا رياساتهم على الحق، ومن تبعهم من العوام الجهلة،
ومن تدين بدينهم اسمًا لا معنى، كالإفرنج الذين حقيقة أمرهم أنهم دهرية
منحلون عن جميع أديان الرسل، وإنما انتسبوا للدين المسيحي، ترويجًا لملكهم،
وتمويهًا لباطلهم، كما يعرف ذلك من عرف أحوالهم البينة الظاهرة.

وقوله:
{ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ } أي: الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه ولهذا
قال: { مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } كقوله تعالى: {
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ }

(95)
{ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ
مِنَ الْخَاسِرِينَ } وحاصل هذا أن الله نهى عن شيئين: الشك في هذا القرآن
والامتراء فيه.

وأشد من ذلك، التكذيب به، وهو آيات الله البينات
التي لا تقبل التكذيب بوجه، ورتب على هذا الخسار، وهو عدم الربح أصلاً،
وذلك بفوات الثواب في الدنيا والآخرة، وحصول العقاب في الدنيا والآخرة،
والنهي عن الشيء أمر بضده، فيكون أمرًا بالتصديق التام بالقرآن، وطمأنينة
القلب إليه، والإقبال عليه، علمًا وعملاً.

فبذلك يكون العبد من
الرابحين الذين أدركوا أجل المطالب، وأفضل الرغائب، وأتم المناقب، وانتفى
عنهم الخسار.


{ 96 - 97 } { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ
حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ }

يقول تعالى: { إِنَّ
الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } أي: إنهم من الضالين
الغاوين أهل النار، لا بد أن يصيروا إلى ما قدره الله وقضاه، فلا يؤمنون
ولو جاءتهم كل آية، فلا تزيدهم الآيات إلا طغيانا، وغيا إلى غيهم.

وما
ظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم بردهم للحق، لما جاءهم أول مرة، فعاقبهم
الله، بأن طبع على قلوبهم وأسماعهم، وأبصارهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب
الأليم، الذي وعدوا به.

فحينئذ يعلمون حق اليقين، أن ما هم عليه هو
الضلال، وأن ما جاءتهم به الرسل هو الحق. ولكن في وقت لا يجدي عليهم
إيمانهم شيئًا، فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم، ولا هم يستعتبون، وأما
الآيات فإنها تنفع من له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.

{ 98 } {
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ
يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }

يقول تعالى: {
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ْ} من قرى المكذبين { آمَنَتْ ْ} حين رأت
العذاب { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ْ} أي: لم يكن منهم أحد انتفع بإيمانه،
حين رأى العذاب، كما قال تعالى عن فرعون ما تقدم قريبًا، لما قال: {
آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ْ} فقيل له { آلْآنَ وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ْ}

وكما قال تعالى: {
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ
وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ
إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ْ}

وقال تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا
فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا ْ}

والحكمة في هذا ظاهرة، فإن الإيمان
الاضطراري، ليس بإيمان حقيقة، ولو صرف عنه العذاب والأمر الذي اضطره إلى
الإيمان، لرجع إلى الكفران.

وقوله: { إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا
آمَنُوا ْ} بعدما رأوا العذاب، { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ْ} فهم مستثنون من
العموم السابق.

ولا بد لذلك من حكمة لعالم الغيب والشهادة، لم تصل
إلينا، ولم تدركها أفهامنا.

قال الله تعالى: { وَإِنَّ يُونُسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ْ} إلى قوله: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ
أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ْ} ولعل
الحكمة في ذلك، أن غيرهم من المهلكين، لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.

وأما
قوم يونس، فإن الله علم أن إيمانهم سيستمر، [بل قد استمر فعلا وثبتوا
عليه] والله أعلم.


{ 99 - 100 } { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ
مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ
حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ }

يقول
تعالى لنبيه محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ْ} بأن يلهمهم الإيمان، ويوزع قلوبهم للتقوى،
فقدرته صالحة لذلك، ولكنه اقتضت حكمته أن كان بعضهم مؤمنين، وبعضهم
كافرين.

{ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ ْ} أي: لا تقدر على ذلك، وليس في إمكانك، ولا قدرة لغير الله
[على] شيء من ذلك.

{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ ْ} أي: بإرادته ومشيئته، وإذنه القدري الشرعي، فمن كان من
الخلق قابلاً لذلك، يزكو عنده الإيمان، وفقه وهداه.

{ وَيَجْعَلُ
الرِّجْسَ ْ} أي: الشر والضلال { عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ْ} عن
الله أوامره ونواهيه، ولا يلقوا بالا لنصائحه ومواعظه.


{ 101 -
103 } { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ
يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ
قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ
نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ
الْمُؤْمِنِينَ }

يدعو تعالى عباده إلى النظر لما في السماوات
والأرض، والمراد بذلك: نظر الفكر والاعتبار والتأمل، لما فيها، وما تحتوي
عليه، والاستبصار، فإن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون، وعبرًا لقوم يوقنون، تدل
على أن الله وحده، المعبود المحمود، ذو الجلال والإكرام، والأسماء والصفات
العظام.

{ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا
يُؤْمِنُونَ ْ} فإنهم لا ينتفعون بالآيات لإعراضهم وعنادهم.

{
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِهِمْ ْ} أي: فهل ينتظر هؤلاء الذين لا يؤمنون بآيات الله، بعد
وضوحها، { إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ْ}
أي: من الهلاك والعقاب، فإنهم صنعوا كصنيعهم وسنة الله جارية في الأولين
والآخرين.

{ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ
الْمُنْتَظِرِينَ ْ} فستعلمون من تكون له العاقبة الحسنة، والنجاة في
الدنيا والآخرة، وليست إلا للرسل وأتباعهم.

ولهذا قال: { ثُمَّ
نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ْ} من مكاره الدنيا والآخرة،
وشدائدهما.

{ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا ْ} أوجبناه على أنفسنا {
نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ْ} وهذا من دفعه عن المؤمنين، فإن الله يدافع عن
الذين آمنوا فإنه -بحسب ما مع العبد من الإيمان- تحصل له النجاة من
المكاره.


{ 104 - 106 } { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ
كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلَا تَدْعُ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ
فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ }

يقول تعالى لنبيه محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، سيد المرسلين، وإمام المتقين وخير
الموقنين: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ
دِينِي ْ} أي: في ريب واشتباه، فإني لست في شك منه، بل لدي العلم اليقيني
أنه الحق، وأن ما تدعون من دون الله باطل، ولي على ذلك، الأدلة الواضحة،
والبراهين الساطعة.

ولهذا قال: { فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ْ} من الأنداد، والأصنام وغيرها، لأنها لا
تخلق ولا ترزق، ولا تدبر شيئًا من الأمور، وإنما هي مخلوقة مسخرة، ليس فيها
ما يقتضي عبادتها.

{ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ ْ} أي: هو الله الذي خلقكم، وهو الذي يميتكم، ثم يبعثكم،
ليجازيكم بأعمالكم، فهو الذي يستحق أن يعبد، ويصلى له ويخضع ويسجد.

{
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا ْ} أي: أخلص أعمالك الظاهرة والباطنة لله، وأقم جميع
شرائع الدين حنيفًا، أي: مقبلاً على الله، معرضًا عما سواه، { وَلَا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ْ} لا في حالهم، ولا تكن معهم.

(106)
{ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ْ}
وهذا وصف لكل مخلوق، أنه لا ينفع ولا يضر، وإنما النافع الضار، هو الله
تعالى.

{ فَإِنْ فَعَلْتَ ْ} بأن دعوت من دون الله، ما لا ينفعك ولا
يضرك { فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ْ} أي: الضارين أنفسهم
بإهلاكها، وهذا الظلم هو الشرك كما قال تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ ْ} فإذا كان خير الخلق، لو دعا مع الله غيره، لكان من الظالمين
المشركين فكيف بغيره؟!!

{ 107 } { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ
بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا
رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }

هذا من أعظم الأدلة على أن الله وحده
المستحق للعبادة، فإنه النافع الضار، المعطي المانع، الذي إذا مس بضر، كفقر
ومرض، ونحوها { فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } لأن الخلق، لو اجتمعوا
على أن ينفعوا بشيء، لم ينفعوا إلا بما كتبه الله، ولو اجتمعوا على أن
يضروا أحدا، لم يقدروا على شيء من ضرره، إذا لم يرده الله، ولهذا قال: {
وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } أي: لا يقدر أحد من
الخلق، أن يرد فضله وإحسانه، كما قال تعالى: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا
مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ }

{ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ } أي: يختص برحمته من شاء من خلقه، والله ذو الفضل العظيم، {
وَهُوَ الْغَفُورُ } لجميع الزلات، الذي يوفق عبده لأسباب مغفرته، ثم إذا
فعلها العبد، غفر الله ذنوبه، كبارها، وصغارها.

{ الرَّحِيمِ } الذي
وسعت رحمته كل شيء، ووصل جوده إلى جميع الموجودات، بحيث لا تستغنى عن
إحسانه، طرفة عين، فإذا عرف العبد بالدليل القاطع، أن الله، هو المنفرد
بالنعم، وكشف النقم، وإعطاء الحسنات، وكشف السيئات والكربات، وأن أحدًا من
الخلق، ليس بيده من هذا شيء إلا ما أجراه الله على يده، جزم بأن الله هو
الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل.

ولهذا -لما بين الدليل
الواضح قال بعده:-

{ 108 - 109 } { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي
لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا
عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى
يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }

أي: { قُلْ } يا
أيها الرسول، لما تبين البرهان { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ } أي: الخبر الصادق المؤيد بالبراهين، الذي لا شك
فيه بوجه من الوجوه، وهو واصل إليكم من ربكم الذي من أعظم تربيته لكم، أن
أنزل إليكم هذا القرآن الذي فيه تبيان لكل شيء، وفيه من أنواع الأحكام
والمطالب الإلهية والأخلاق المرضية، ما فيه أعظم تربية لكم، وإحسان منه
إليكم، فقد تبين الرشد من الغي، ولم يبق لأحد شبهة.

{ فَمَنِ
اهْتَدَى } بهدى الله بأن علم الحق وتفهمه، وآثره على غيره فلِنَفْسِهِ
والله تعالى غني عن عباده، وإنما ثمرة أعمالهم راجعة إليهم.

{
وَمَنْ ضَلَّ } عن الهدى بأن أعرض عن العلم بالحق، أو عن العمل به، {
فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } ولا يضر الله شيئًا، فلا يضر إلا نفسه.

{
وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } فأحفظ أعمالكم وأحاسبكم عليها، وإنما
أنا لكم نذير مبين، والله عليكم وكيل. فانظروا لأنفسكم، ما دمتم في مدة
الإمهال.

{ وَاتَّبَعَ } أيها الرسول { مَا يُوحَى إِلَيْكَ }
علمًا، وعملاً، وحالاً، ودعوة إليه، { وَاصْبِرْ } على ذلك، فإن هذا أعلى
أنواع الصبر، وإن عاقبته حميدة، فلا تكسل، ولا تضجر، بل دم على ذلك، واثبت،
{ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ } بينك وبين من كذبك { وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ } فإن حكمه، مشتمل على العدل التام، والقسط الذي يحمد عليه.

وقد
امتثل تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 أمر ربه، وثبت على الصراط المستقيم، حتى
أظهر الله دينه على سائر الأديان، ونصره على أعدائه بالسيف والسنان، بعد ما
نصره [الله] عليهم، بالحجة والبرهان، فلله الحمد، والثناء الحسن، كما
ينبغي لجلاله، وعظمته، وكماله وسعة إحسانه.

تم تفسير سورة يونس
والحمد
لله رب العالمين.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:46 pm

تفسير
سورة هود عليه الصلاة

سورة مكية

{ 1 - 4 } { بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ
فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ
إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى اللَّهِ
مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

يقول تعالى: هذا {
كِتَابٌ } عظيم، ونزل كريم، { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } أي: أتقنت وأحسنت،
صادقة أخبارها، عادلة أوامرها ونواهيها، فصيحة ألفاظه بهية معانيه.

{
ثُمَّ فُصِّلَتْ } أي: ميزت وبينت بيانا في أعلى أنواع البيان، { مِنْ
لَدُنْ حَكِيمٍ } يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها، لا يأمر ولا ينهى
إلا بما تقتضيه حكمته، { خَبِيرٌ } مطلع على الظواهر والبواطن.

{ 2 }
فإذا كان إحكامه وتفصيله من عند الله الحكيم الخبير، فلا تسأل بعد هذا، عن
عظمته وجلالته واشتماله على كمال الحكمة، وسعة الرحمة . وإنما أنزل الله
كتابه لـ { أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ } أي: لأجل إخلاص الدين كله
لله، وأن لا يشرك به أحد من خلقه.

{ إِنَّنِي لَكُمْ } أيها الناس {
مِنْهُ } أي: من الله ربكم { نَذِيرٍ } لمن تجرأ على المعاصي بعقاب الدنيا
والآخرة، { وَبَشِيرٌ } للمطيعين لله بثواب الدنيا والآخرة.

{ 3 } {
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ } عن ما صدر منكم من الذنوب { ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ } فيما تستقبلون من أعماركم، بالرجوع إليه، بالإنابة
والرجوع عما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه.

ثم ذكر ما يترتب على
الاستغفار والتوبة فقال: { يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا } أي: يعطيكم من
رزقه، ما تتمتعون به وتنتفعون.

{ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي: إلى
وقت وفاتكم { وَيُؤْتِ } منكم { كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي: يعطي أهل
الإحسان والبر من فضله وبره، ما هو جزاء لإحسانهم، من حصول ما يحبون، ودفع
ما يكرهون.

{ وَإِنْ تَوَلَّوْا } عن ما دعوتكم إليه، بل أعرضتم
عنه، وربما كذبتم به { فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ
} وهو يوم القيامة الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين، فيجازيهم
بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

وفي قوله: { وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } كالدليل على إحياء الله الموتى، فإنه قدير على كل
شيء ، ومن جملة الأشياء إحياء الموتى، وقد أخبر بذلك وهو أصدق القائلين،
فيجب وقوع ذلك عقلا ونقلا.


{ 5 } { أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ
صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ
يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ }

يخبر تعالى عن جهل المشركين، وشدة ضلالهم، أنهم {
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } أي: يميلونها { لِيَسْتَخْفُوا } من الله، فتقع
صدورهم حاجبة لعلم الله بأحوالهم، وبصره لهيئاتهم.

قال تعالى -مبينا
خطأهم في هذا الظن- { أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } أي: يتغطون
بها، يعلمهم في تلك الحال، التي هي من أخفى الأشياء.

بل { يَعْلَمُ
مَا يُسِرُّونَ } من الأقوال والأفعال { وَمَا يُعْلِنُونَ } منها، بل ما
هو أبلغ من ذلك، وهو: { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي: بما فيها
من الإرادات، والوساوس، والأفكار، التي لم ينطقوا بها، سرا ولا جهرا، فكيف
تخفى عليه حالكم، إذا ثنيتم صدوركم لتستخفوا منه.

ويحتمل أن المعنى
في هذا أن الله يذكر إعراض المكذبين للرسول الغافلين عن دعوته، أنهم -من
شدة إعراضهم- يثنون صدورهم، أي: يحدودبون حين يرون الرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 لئلا يراهم ويسمعهم دعوته، ويعظهم بما
ينفعهم، فهل فوق هذا الإعراض شيء؟"

ثم توعدهم بعلمه تعالى بجميع
أحوالهم، وأنهم لا يخفون عليه، وسيجازيهم بصنيعهم.


{ 6 } {
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا
وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }

أي:
جميع ما دب على وجه الأرض، من آدمي، أو حيوان بري أو بحري، فالله تعالى قد
تكفل بأرزاقهم وأقواتهم، فرزقها على الله.

{ وَيَعْلَمُ
مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } أي: يعلم مستقر هذه الدواب، وهو:
المكان الذي تقيم فيه وتستقر فيه، وتأوي إليه، ومستودعها: المكان الذي
تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها، وعوارض أحوالها.

{ كُلِّ } من تفاصيل
أحوالها { فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } أي: في اللوح المحفوظ المحتوي على جميع
الحوادث الواقعة، والتي تقع في السماوات والأرض. الجميع قد أحاط بها علم
الله، وجرى بها قلمه، ونفذت فيها مشيئته، ووسعها رزقه، فلتطمئن القلوب إلى
كفاية من تكفل بأرزاقها، وأحاط علما بذواتها، وصفاتها.


{ 7 - 8 }
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ
لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ *
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ
لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا
عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }

يخبر
تعالى أنه { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }
أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة { و } حين خلق السماوات والأرض { كَانَ
عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } فوق السماء السابعة.

فبعد أن خلق
السماوات والأرض استوى عليه، يدبر الأمور، ويصرفها كيف شاء من الأحكام
القدرية، والأحكام الشرعية. ولهذا قال: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا } أي: ليمتحنكم، إذ خلق لكم ما في السماوات والأرض بأمره
ونهيه، فينظر أيكم أحسن عملا.

قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "أخلصه
وأصوبه"

قيل يا أبا علي: "ما أخلصه وأصوبه" ؟.

فقال: إن
العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا، لم يقبل.

وإذا كان صوابا ولم
يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا.

والخالص: أن يكون لوجه
الله، والصواب: أن يكون متبعا فيه الشرع والسنة، وهذا كما قال تعالى: {
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }

وقال
تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عِلْمًا } فالله تعالى خلق الخلق لعبادته ومعرفته بأسمائه وصفاته، وأمرهم
بذلك، فمن انقاد، وأدى ما أمر به، فهو من المفلحين، ومن أعرض عن ذلك،
فأولئك هم الخاسرون، ولا بد أن يجمعهم في دار يجازيهم فيها على ما أمرهم به
ونهاهم.

ولهذا ذكر الله تكذيب المشركين بالجزاء، فقال: { وَلَئِنْ
قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ }

أي: ولئن
قلت لهؤلاء وأخبرتهم بالبعث بعد الموت، لم يصدقوك، بل كذبوك أشد التكذيب ،
وقدحوا فيما جئت به، وقالوا: { إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } ألا وهو
الحق المبين.

{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى
أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ } أي: إلى وقت مقدر فتباطأوه، لقالوا من جهلهم وظلمهم {
مَا يَحْبِسُهُ } ومضمون هذا تكذيبهم به، فإنهم يستدلون بعدم وقوعه بهم
عاجلا على كذب الرسول المخبر بوقوع العذاب، فما أبعد هذا الاستدلال"

{
أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ } العذاب { لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ }
فيتمكنون من النظر في أمرهم.

{ وَحَاقَ بِهِمْ } أي: نزل { مَا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } من العذاب، حيث تهاونوا به، حتى جزموا بكذب
من جاء به.


{ 9 - 10 } { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ
مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ *
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ
ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ
صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ
كَبِيرٌ }

يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان، أنه جاهل ظالم بأن الله إذا
أذاقه منه رحمة كالصحة والرزق، والأولاد، ونحو ذلك، ثم نزعها منه، فإنه
يستسلم لليأس، وينقاد للقنوط، فلا يرجو ثواب الله، ولا يخطر بباله أن الله
سيردها أو مثلها، أو خيرا منها عليه.

وأنه إذا أذاقه رحمة من بعد
ضراء مسته، أنه يفرح ويبطر، ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير، ويقول: { ذَهَبَ
السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } أي: فرح بما أوتي مما
يوافق هوى نفسه، فخور بنعم الله على عباد الله، وذلك يحمله على الأشر
والبطر والإعجاب بالنفس، والتكبر على الخلق، واحتقارهم وازدرائهم، وأي عيب
أشد من هذا؟"

وهذه طبيعة الإنسان من حيث هو، إلا من وفقه الله
وأخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضده، وهم الذين صبروا أنفسهم عند الضراء
فلم ييأسوا، وعند السراء فلم يبطروا، وعملوا الصالحات من واجبات ومستحبات.

{
أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } لذنوبهم، يزول بها عنهم كل محذور. {
وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } وهو: الفوز بجنات النعيم، التي فيها ما تشتهيه الأنفس،
وتلذ الأعين.


{ 12 - 14 } { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا
يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ
وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }

يقول
تعالى - مسليا لنبيه محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، عن تكذيب المكذبين-: { فَلَعَلَّكَ
تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ
يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ } أي: لا ينبغي هذا لمثلك، أن
قولهم يؤثر فيك، ويصدك عما أنت عليه، فتترك بعض ما يوحى إليك، ويضيق صدرك
لتعنتهم بقولهم: { لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ
مَلَكٌ } فإن هذا القول ناشئ من تعنت، وظلم، وعناد، وضلال، وجهل بمواقع
الحجج والأدلة، فامض على أمرك، ولا تصدك هذه الأقوال الركيكة التي لا تصدر
إلا من سفيه ولا يضق لذلك صدرك.

فهل أوردوا عليك حجة لا تستطيع
حلها؟ أم قدحوا ببعض ما جئت به قدحا، يؤثر فيه وينقص قدره، فيضيق صدرك
لذلك؟!

أم عليك حسابهم، ومطالب بهدايتهم جبرا؟ { إِنَّمَا أَنْتَ
نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } فهو الوكيل عليهم، يحفظ
أعمالهم، ويجازيهم بها أتم الجزاء.

{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ }
أي: افترى محمد هذا القرآن؟

فأجابهم بقوله: { قُلْ } لهم { فَأْتُوا
بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أنه قد افتراه ، فإنه لا
فرق بينكم وبينه في الفصاحة والبلاغة، وأنتم الأعداء حقا، الحريصون بغاية
ما يمكنكم على إبطال دعوته، فإن كنتم صادقين، فأتوا بعشر سور مثله مفتريات.

{
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ } على شيء من ذلكم { فَاعْلَمُوا
أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ } [من عند الله] لقيام الدليل
والمقتضي، وانتفاء المعارض.

{ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي:
واعلموا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أي: هو وحده المستحق للألوهية
والعبادة، { فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي: منقادون لألوهيته، مستسلمون
لعبوديته، وفي هذه الآيات إرشاد إلى أنه لا ينبغي للداعي إلى الله أن يصده
اعتراض المعترضين، ولا قدح القادحين.

خصوصا إذا كان القدح لا مستند
له، ولا يقدح فيما دعا إليه، وأنه لا يضيق صدره، بل يطمئن بذلك، ماضيا على
أمره، مقبلا على شأنه، وأنه لا يجب إجابة اقتراحات المقترحين للأدلة التي
يختارونها. بل يكفي إقامة الدليل السالم عن المعارض، على جميع المسائل
والمطالب. وفيها أن هذا القرآن، معجز بنفسه، لا يقدر أحد من البشر أن يأتي
بمثله، ولا بعشر سور من مثله، بل ولا بسورة من مثله، لأن الأعداء البلغاء
الفصحاء، تحداهم الله بذلك، فلم يعارضوه، لعلمهم أنهم لا قدرة فيهم على
ذلك.

وفيها: أن مما يطلب فيه العلم، ولا يكفي غلبة الظن، علم
القرآن، وعلم التوحيد، لقوله تعالى: { فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ
بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }


{ 15 - 16 } {
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ
إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ *
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ
وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

يقول
تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } أي: كل
إرادته مقصورة على الحياة الدنيا، وعلى زينتها من النساء والبنين،
والقناطير المقنطرة، من الذهب، والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث.
قد صرف رغبته وسعيه وعمله في هذه الأشياء، ولم يجعل لدار القرار من إرادته
شيئا، فهذا لا يكون إلا كافرا، لأنه لو كان مؤمنا، لكان ما معه من الإيمان
يمنعه أن تكون جميع إرادته للدار الدنيا، بل نفس إيمانه وما تيسر له من
الأعمال أثر من آثار إرادته الدار الآخرة.

ولكن هذا الشقي، الذي
كأنه خلق للدنيا وحدها { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } أي:
نعطيهم ما قسم لهم في أم الكتاب من ثواب الدنيا.

{ وَهُمْ فِيهَا
لَا يُبْخَسُونَ } أي: لا ينقصون شيئا مما قدر لهم، ولكن هذا منتهى نعيمهم.

{
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ }
خالدين فيها أبدا، لا يفتَّر عنهم العذاب، وقد حرموا جزيل الثواب.

{
وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا } أي: في الدنيا، أي: بطل واضمحل ما عملوه
مما يكيدون به الحق وأهله، وما عملوه من أعمال الخير التي لا أساس لها، ولا
وجود لشرطها، وهو الإيمان.


{ 17 } { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ
كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ
يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي
مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ }

يذكر تعالى، حال رسوله محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 ومن قام مقامه من ورثته القائمين بدينه،
وحججه الموقنين بذلك، وأنهم لا يوصف بهم غيرهم ولا يكون أحد مثلهم، فقال: {
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } بالوحي الذي أنزل الله فيه
المسائل المهمة، ودلائلها الظاهرة، فتيقن تلك البينة.

{
وَيَتْلُوهُ } أي: يتلو هذه البينة والبرهان برهان آخر { شَاهِدٌ مِنْهُ }
وهو شاهد الفطرة المستقيمة، والعقل الصحيح، حين شهد حقيقة ما أوحاه الله
وشرعه، وعلم بعقله حسنه، فازداد بذلك إيمانا إلى إيمانه.

{ و } ثم
شاهد ثالث وهو { كِتَابُ مُوسَى } التوراة التي جعلها الله { إِمَامًا }
للناس { وَرَحْمَةً } لهم، يشهد لهذا القرآن بالصدق، ويوافقه فيما جاء به
من الحق.

أي: أفمن كان بهذا الوصف قد تواردت عليه شواهد الإيمان،
وقامت لديه أدلة اليقين، كمن هو في الظلمات والجهالات، ليس بخارج منها؟!

لا
يستوون عند الله، ولا عند عباد الله، { أُولَئِكَ } أي: الذين وفقوا لقيام
الأدلة عندهم، { يُؤْمِنُونَ } بالقرآن حقيقة، فيثمر لهم إيمانهم كل خير
في الدنيا والآخرة.

{ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ } أي: القرآن { مِنَ
الْأَحْزَابِ } أي: سائر طوائف أهل الأرض، المتحزبة على رد الحق، {
فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } لا بد من وروده إليها { فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ
منه } أي: في أدنى شك { إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ } إما جهلا منهم وضلالا، وإما ظلما وعنادا وبغيا،
وإلا فمن كان قصده حسنا وفهمه مستقيما، فلا بد أن يؤمن به، لأنه يرى ما
يدعوه إلى الإيمان من كل وجه.


{ 18 - 22 } { وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى
رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى
رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ
يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ
بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ *أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي
الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ
يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا
كَانُوا يُبْصِرُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ
هُمُ الْأَخْسَرُونَ }

يخبر تعالى أنه لا أحد { أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } ويدخل في هذا كل من كذب على الله، بنسبة
الشريك له، أو وصفه بما لا يليق بجلاله، أو الإخبار عنه، بما لم يقل، أو
ادعاء النبوة، أو غير ذلك من الكذب على الله، فهؤلاء أعظم الناس ظلما {
أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ } ليجازيهم بظلمهم، فعندما يحكم
عليهم بالعقاب الشديد { يَقُولُ الْأَشْهَادُ } أي: الذين شهدوا عليهم
بافترائهم وكذبهم: { هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا
لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } أي: لعنة لا تنقطع، لأن ظلمهم صار
وصفا لهم ملازما، لا يقبل التخفيف.

ثم وصف ظلمهم فقال: { الَّذِينَ
يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } فصدوا بأنفسهم عن سبيل الله، وهي سبيل
الرسل، التي دعوا الناس إليها، وصدوا غيرهم عنها، فصاروا أئمة يدعون إلى
النار.

{ وَيَبْغُونَهَا } أي: سبيل الله { عِوَجًا } أي: يجتهدون
في ميلها، وتشيينها، وتهجينها، لتصير عند الناس غير مستقيمة، فيحسنون
الباطل ويقبحون الحق، قبحهم الله { وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }

{
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ } أي: ليسوا فائتين
الله، لأنهم تحت قبضته وفي سلطانه.

{ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ } فيدفعون عنهم المكروه، أو يحصلون لهم ما
ينفعهم، بل تقطعت بهم الأسباب.

{ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ } أي:
يغلظ ويزداد، لأنهم ضلوا بأنفسهم وأضلوا غيرهم.

{ مَا كَانُوا
يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } أي: من بغضهم للحق ونفورهم عنه، ما كانوا
يستطيعون أن يسمعوا آيات الله سماعا ينتفعون به { فَمَا لَهُمْ عَنِ
التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ
مِنْ قَسْوَرَةٍ } { وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } أي: ينظرون نظر عبرة
وتفكر، فيما ينفعهم، وإنما هم كالصم البكم الذين لا يعقلون.

{
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } حيث فوتوها أعظم الثواب،
واستحقوا أشد العذاب، { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي:
اضمحل دينهم الذي يدعون إليه ويحسنونه، ولم تغن عنهم آلهتهم التي يعبدون من
دون الله لما جاء أمر ربك.

{ لَا جَرَمَ } أي: حقا وصدقا {
أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ } حصر الخسار فيهم، بل جعل
لهم منه أشده، لشدة حسرتهم وحرمانهم وما يعانون من المشقة والعذاب، نستجير
بالله من حالهم.

ولما ذكر حال الأشقياء، ذكر أوصاف السعداء وما لهم
عند الله من الثواب، فقال:


{ 23 - 24 } { إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ
كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ
مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }

يقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا } بقلوبهم، أي: صدقوا واعترفوا, لما أمر الله بالإيمان به، من أصول
الدين وقواعده.

{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } المشتملة على أعمال
القلوب والجوارح، وأقوال اللسان. { وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ } أي:
خضعوا له، واستكانوا لعظمته، وذلوا لسلطانه، وأنابوا إليه بمحبته، وخوفه،
ورجائه، والتضرع إليه.

{ أُولَئِكَ } الذين جمعوا تلك الصفات {
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لأنهم لم يتركوا من الخير
مطلبا، إلا أدركوه، ولا خيرا، إلا سبقوا إليه.

{ مَثَلُ
الْفَرِيقَيْنِ } أي: فريق الأشقياء، وفريق السعداء. { كَالْأَعْمَى
وَالْأَصَمِّ } هؤلاء الأشقياء، { وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ } مثل
السعداء.

{ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } لا يستوون مثلا، بل بينهما
من الفرق ما لا يأتي عليه الوصف، { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } الأعمال، التي
تنفعكم، فتفعلونها، والأعمال التي تضركم، فتتركونها.


{ 25 - 49 }
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ
مُبِينٌ }

إلى آخر القصة أي: ولقد أرسلنا رسولنا نوحا أول المرسلين
إلى قومه يدعوهم إلى الله وينهاهم عن الشرك فقال لهم: { إِنِّي لَكُمْ
نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي: بينت لكم ما أنذرتكم به، بيانا زال به الإشكال.

{
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ } أي: أخلصوا العبادة لله وحده،
واتركوا كل ما يعبد من دون الله. { إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ أَلِيمٍ } إن لم تقوموا بتوحيد الله وتطيعوني.

{ 27 } {
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } أي: الأشراف
والرؤساء، رادين لدعوة نوح عليه السلام، كما جرت العادة لأمثالهم، أنهم أول
من رد دعوة المرسلين.

{ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا }
وهذا مانع بزعمهم عن اتباعه، مع أنه في نفس الأمر هو الصواب، الذي لا ينبغي
غيره، لأن البشر يتمكن البشر، أن يتلقوا عنه، ويراجعوه في كل أمر، بخلاف
الملائكة.

{ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ
أَرَاذِلُنَا } أي: ما نرى اتبعك منا إلا الأراذل والسفلة، بزعمهم.

وهم
في الحقيقة الأشراف، وأهل العقول، الذين انقادوا للحق ولم يكونوا
كالأراذل، الذين يقال لهم الملأ، الذين اتبعوا كل شيطان مريد، واتخذوا آلهة
من الحجر والشجر، يتقربون إليها ويسجدون لها، فهل ترى أرذل من هؤلاء
وأخس؟.

وقولهم: { بَادِيَ الرَّأْيِ } أي: إنما اتبعوك من غير تفكر
وروية، بل بمجرد ما دعوتهم اتبعوك، يعنون بذلك، أنهم ليسوا على بصيرة من
أمرهم، ولم يعلموا أن الحق المبين تدعو إليه بداهة العقول، وبمجرد ما يصل
إلى أولي الألباب، يعرفونه ويتحققونه، لا كالأمور الخفية، التي تحتاج إلى
تأمل، وفكر طويل.

{ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } أي:
لستم أفضل منا فننقاد لكم، { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } وكذبوا في
قولهم هذا، فإنهم رأوا من الآيات التي جعلها الله مؤيدة لنوح، ما يوجب لهم
الجزم التام على صدقه.

ولهذا { قَالَ } لهم نوح مجاوبا { يَا قَوْمِ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي: على يقين
وجزم، يعني، وهو الرسول الكامل القدوة، الذي ينقاد له أولو الألباب، ويضمحل
في جنب عقله، عقول الفحول من الرجال, وهو الصادق حقا، فإذا قال: إني على
بينة من ربي، فحسبك بهذا القول، شهادة له وتصديقا.

{ وَآتَانِي
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ } أي: أوحى إلي وأرسلني، ومنَّ علي بالهداية، {
فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي: خفيت عليكم، وبها تثاقلتم.

{
أَنُلْزِمُكُمُوهَا } أي: أنكرهكم على ما تحققناه، وشككتم أنتم فيه؟ {
وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } حتى حرصتم على رد ما جئت به، ليس ذلك ضارنا،
وليس بقادح من يقيننا فيه، ولا قولكم وافتراؤكم علينا، صادا لنا عما كنا
عليه.

وإنما غايته أن يكون صادا لكم أنتم، وموجبا لعدم انقيادكم
للحق الذي تزعمون أنه باطل، فإذا وصلت الحال إلى هذه الغاية، فلا نقدر على
إكراهكم، على ما أمر الله، ولا إلزامكم، ما نفرتم عنه، ولهذا قال: {
أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ }

{ وَيَا قَوْمِ
لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي: على دعوتي إياكم { مَا لَا } فستستثقلون
المغرم.

{ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ } وكأنهم طلبوا منه
طرد المؤمنين الضعفاء، فقال لهم: { وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ
آمَنُوا } أي: ما ينبغي لي، ولا يليق بي ذلك، بل أتلقاهم بالرحب والإكرام،
والإعزاز والإعظام { إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ } فمثيبهم على إيمانهم
وتقواهم بجنات النعيم.

{ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ }
حيث تأمرونني، بطرد أولياء الله, وإبعادهم عني. وحيث رددتم الحق، لأنهم
أتباعه، وحيث استدللتم على بطلان الحق بقولكم إني بشر مثلكم وإنه ليس لنا
عليكم من فضل.

{ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ
طَرَدْتُهُمْ } أي: من يمنعني من عذابه، فإن طردهم موجب للعذاب والنكال،
الذي لا يمنعه من دون الله مانع.

{ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } ما هو
الأنفع لكم والأصلح، وتدبرون الأمور.

{ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ
عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي
مَلَكٌ } أي: غايتي أني رسول الله إليكم، أبشركم، وأنذركم، وأما ما عدا
ذلك، فليس بيدي من الأمر شيء، فليست خزائن الله عندي، أدبرها أنا، وأعطي من
أشاء، وأحرم من أشاء، { وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } فأخبركم بسرائركم
وبواطنكم { وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } والمعنى: أني لا أدعي رتبة فوق
رتبتي، ولا منزلة سوى المنزلة، التي أنزلني الله بها، ولا أحكم على الناس،
بظني.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:48 pm

{
وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ } أي: ضعفاء المؤمنين،
الذين يحتقرهم الملأ الذين كفروا { لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا
اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ } فإن كانوا صادقين في إيمانهم،
فلهم الخير الكثير، وإن كانوا غير ذلك، فحسابهم على الله.

{ إِنِّي
إِذًا } أي: إن قلت لكم شيئا مما تقدم { لَمِنَ الظَّالِمِينَ } وهذا تأييس
منه، عليه الصلاة والسلام لقومه، أن ينبذ فقراء المؤمنين, أو يمقتهم،
وتقنيع لقومه، بالطرق المقنعة للمنصف.

فلما رأوه، لا ينكف عما كان
عليه من دعوتهم، ولم يدركوا منه مطلوبهم { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ
جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من
العذاب { إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فما أجهلهم وأضلهم، حيث قالوا
هذه المقالة، لنبيهم الناصح.

فهلا قالوا: إن كانوا صادقين: يا نوح
قد نصحتنا، وأشفقت علينا, ودعوتنا إلى أمر، لم يتبين لنا، فنريد منك أن
تبينه لنا لننقاد لك، وإلا فأنت مشكور في نصحك. لكان هذا الجواب المنصف،
الذي قد دعي إلى أمر خفي عليه، ولكنهم في قولهم، كاذبون، وعلى نبيهم
متجرئون. ولم يردوا ما قاله بأدنى شبهة، فضلا عن أن يردوه بحجة.

ولهذا
عدلوا - من جهلهم وظلمهم - إلى الاستعجال بالعذاب، وتعجيز الله، ولهذا
أجابهم نوح عليه السلام بقوله: { إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ
شَاءَ } أي: إن اقتضت مشيئته وحكمته، أن ينزله بكم، فعل ذلك. { وَمَا
أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } لله، وأنا ليس بيدي من الأمر شيء.

{ وَلَا
يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ
اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } أي: إن إرادة الله غالبة، فإنه إذا
أراد أن يغويكم، لردكم الحق، فلو حرصت غاية مجهودي، ونصحت لكم أتم النصح -
وهو قد فعل عليه السلام - فليس ذلك بنافع لكم شيئا، { هُوَ رَبُّكُمْ }
يفعل بكم ما يشاء، ويحكم فيكم بما يريد { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
فيجازيكم بأعمالكم.

{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } هذا الضمير
محتمل أن يعود إلى نوح، كما كان السياق في قصته مع قومه، وأن المعنى: أن
قومه يقولون: افترى على الله كذبا، وكذب بالوحي الذي يزعم أنه من الله، وأن
الله أمره أن يقول: { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي
وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ } أي: كل عليه وزره { وَلَا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }

ويحتمل أن يكون عائدا إلى النبي محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، وتكون هذه الآية معترضة، في أثناء
قصة نوح وقومه، لأنها من الأمور التي لا يعلمها إلا الأنبياء، فلما شرع
الله في قصها على رسوله، وكانت من جملة الآيات الدالة على صدقه ورسالته،
ذكر تكذيب قومه له مع البيان التام فقال: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ }
أي: هذا القرآن اختلقه محمد من تلقاء نفسه، أي: فهذا من أعجب الأقوال
وأبطلها، فإنهم يعلمون أنه لم يقرأ ولم يكتب، ولم يرحل عنهم لدراسة على أهل
الكتاب، فجاء بهذا الكتاب الذي تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله.

فإذا
زعموا - مع هذا - أنه افتراه، علم أنهم معاندون، ولم يبق فائدة في حجاجهم،
بل اللائق في هذه الحال، الإعراض عنهم، ولهذا قال: { قُلْ إِنِ
افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } أي: ذنبي وكذبي، { وَأَنَا بَرِيءٌ
مِمَّا تُجْرِمُونَ } أي: فلم تستلجون في تكذيبي.

وقوله: {
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ
قَدْ آمَنَ } أي: قد قسوا، { فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }
أي: فلا تحزن، ولا تبال بهم, وبأفعالهم، فإن الله قد مقتهم، وأحق عليهم
عذابه الذي لا يرد.

{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا
وَوَحْيِنَا } أي: بحفظنا، ومرأى منا, وعلى مرضاتنا، { وَلَا تُخَاطِبْنِي
فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي: لا تراجعني في إهلاكهم، { إِنَّهُمْ
مُغْرَقُونَ } أي: قد حق عليهم القول، ونفذ فيهم القدر.

فامتثل أمر
ربه، وجعل يصنع الفلك { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ }
ورأوا ما يصنع { سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا } الآن {
فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ
يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } نحن أم
أنتم. وقد علموا ذلك، حين حل بهم العقاب.

{ حَتَّى إِذَا جَاءَ
أَمْرُنَا } أي قدرنا بوقت نزول العذاب بهم { وَفَارَ التَّنُّورُ } أي:
أنزل الله السماء بالماء بالمنهمر، وفجر الأرض كلها عيونا حتى التنانير
التي هي محل النار في العادة، وأبعد ما يكون عن الماء، تفجرت فالتقى الماء
على أمر، قد قدر.

{ قُلْنَا } لنوح: { احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } أي: من كل صنف من أصناف المخلوقات، ذكر وأنثى،
لتبقى مادة سائر الأجناس وأما بقية الأصناف الزائدة عن الزوجين، فلأن
السفينة لا تطيق حملها { وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ
} ممن كان كافرا، كابنه الذي غرق.

{ وَمَنْ آمَنَ } { و } الحال
أنه { مَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ }

{ وَقَالَ } نوح لمن أمره
الله أن يحملهم: { ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا
وَمُرْسَاهَا } أي: تجري على اسم الله، وترسو على اسم الله، وتجري بتسخيره
وأمره.

{ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } حيث غفر لنا ورحمنا،
ونجانا من القوم الظالمين.

ثم وصف جريانها كأنا نشاهدها فقال: {
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ } أي: بنوح، ومن ركب معه { فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ }
والله حافظها وحافظ أهلها { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ } لما ركب، ليركب معه {
وَكَانَ } ابنه { فِي مَعْزِلٍ } عنهم، حين ركبوا، أي: مبتعدا وأراد منه،
أن يقرب ليركب، فقال له: { يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ
الْكَافِرِينَ } فيصيبك ما يصيبهم.

فـ { قَالَ } ابنه، مكذبا لأبيه
أنه لا ينجو إلا من ركب معه السفينة.

{ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ
يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ } أي: سأرتقي جبلا، أمتنع به من الماء، فـ {
قَالَ } نوح: { لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ
رَحِمَ } فلا يعصم أحدا، جبل ولا غيره، ولو تسبب بغاية ما يمكنه من
الأسباب، لما نجا إن لم ينجه الله. { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ
فَكَانَ } الابن { مِنَ الْمُغْرَقِينَ }

فلما أغرقهم الله ونجى
نوحا ومن معه { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ } الذي خرج منك، والذي
نزل إليك، أي: ابلعي الماء الذي على وجهك { وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي }
فامتثلتا لأمر الله، فابتلعت الأرض ماءها, وأقلعت السماء، فنضب الماء من
الأرض، { وَقُضِيَ الْأَمْرُ } بهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين.

{
وَاسْتَوَتْ } السفينة { عَلَى الْجُودِيِّ } أي: أرست على ذلك الجبل
المعروف في أرض الموصل.

{ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
} أي: أتبعوا بعد هلاكهم لعنة وبعدا, وسحقا لا يزال معهم.

{
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ
وَعْدَكَ الْحَقُّ } أي: وقد قلت لي: فـ { احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ } ولن تخلف ما وعدتني به.

لعله
عليه الصلاة والسلام، حملته الشفقة، وأن الله وعده بنجاة أهله، ظن أن الوعد
لعمومهم، من آمن، ومن لم يؤمن، فلذلك دعا ربه بذلك الدعاء، ومع هذا، ففوض
الأمر لحكمة الله البالغة.

فـ { قَالَ } الله له: { إِنَّهُ لَيْسَ
مِنْ أَهْلِكَ } الذين وعدتك بإنجائهم { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ }
أي: هذا الدعاء الذي دعوت به، لنجاة كافر, لا يؤمن بالله ولا رسوله.

{
فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي: ما لا تعلم
عاقبته،ومآله، وهل يكون خيرا، أو غير خير.

{ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ
تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } أي: أني أعظك وعظا تكون به من الكاملين،
وتنجو به من صفات الجاهلين.

فحينئذ ندم نوح، عليه السلام، ندامة
شديدة، على ما صدر منه, و { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ
أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي
وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

فبالمغفرة والرحمة ينجو
العبد من أن يكون من الخاسرين، ودل هذا على أن نوحا، عليه السلام، لم يكن
عنده علم، بأن سؤاله لربه، في نجاة ابنه محرم، داخل في قوله { وَلَا
تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ } بل تعارض
عنده الأمران، وظن دخوله في قوله: { وَأَهْلَكَ }

وبعد ذلك تبين له
أنه داخل في المنهي عن الدعاء لهم، والمراجعة فيهم.

{ قِيلَ يَا
نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ
مِمَّنْ مَعَكَ } من الآدميين وغيرهم من الأزواج التي حملها معه، فبارك
الله في الجميع، حتى ملأوا أقطار الأرض ونواحيها.

{ وَأُمَمٌ
سَنُمَتِّعُهُمْ } في الدنيا { ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }
أي: هذا الإنجاء، ليس بمانع لنا من أن من كفر بعد ذلك، أحللنا به العقاب،
وإن متعوا قليلا، فسيؤخذون بعد ذلك.

قال الله لنبيه محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 بعد ما قص عليه هذه القصة المبسوطة، التي
لا يعلمها إلا من منَّ عليه برسالته.

{ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا
قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا } فيقولوا: إنه كان يعلمها.

فاحمد الله،
واشكره، واصبر على ما أنت عليه، من الدين القويم، والصراط المستقيم،
والدعوة إلى الله { إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } الذين يتقون الشرك
وسائر المعاصي، فستكون لك العاقبة على قومك، كما كانت لنوح على قومه.

{
50 - 60 } { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا }

إلى آخر القصة أي: {
و } أرسلنا { إِلَى عَادٍ } وهم القبيلة المعروفة في الأحقاف, من أرض
اليمن، { أَخَاهُمْ } في النسب { هُودًا } ليتمكنوا من الأخذ عنه والعلم
بصدقه.

فـ { قَالَ } لهم { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ
مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ } أي: أمرهم
بعبادة الله وحده، ونهاهم عما هم عليه، من عبادة غير الله، وأخبرهم أنهم قد
افتروا على الله الكذب في عبادتهم لغيره, وتجويزهم لذلك، ووضح لهم وجوب
عبادة الله، وفساد عبادة ما سواه.

ثم ذكر عدم المانع لهم من
الانقياد فقال { يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } أي: غرامة
من أموالكم، على ما دعوتكم إليه، فتقولوا: هذا يريد أن يأخذ أموالنا،
وإنما أدعوكم وأعلمكم مجانا.

{ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي
فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ } ما أدعوكم إليه، وأنه موجب لقبوله، منتف
المانع عن رده.

{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ } عما مضى
منكم { ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } فيما تستقبلونه، بالتوبة النصوح، والإنابة
إلى الله تعالى.

فإنكم إذا فعلتم ذلك { يُرْسِلِ السَّمَاءَ
عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } بكثرة الأمطار التي تخصب بها الأرض، ويكثر خيرها.

{
وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ } فإنهم كانوا من أقوى الناس،
ولهذا قالوا: { من أشد منا قوة } ؟ ، فوعدهم أنهم إن آمنوا، زادهم قوة إلى
قوتهم.

{ وَلَا تَتَوَلَّوْا } عنه، أي: عن ربكم { مُجْرِمِينَ }
أي: مستكبرين عن عبادته، متجرئين على محارمه.

فـ { قَالُوا } رادين
لقوله: { يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ } إن كان قصدهم بالبينة
البينة التي يقترحونها، فهذه غير لازمة للحق، بل اللازم أن يأتي النبي بآية
تدل على صحة ما جاء به، وإن كان قصدهم أنه لم يأتهم ببينة، تشهد لما قاله
بالصحة، فقد كذبوا في ذلك، فإنه ما جاء نبي لقومه، إلا وبعث الله على يديه،
من الآيات ما يؤمن على مثله البشر.

ولو لم يكن له آية، إلا دعوته
إياهم لإخلاص الدين لله، وحده لا شريك له، والأمر بكل عمل صالح، وخلق جميل،
والنهي عن كل خلق ذميم من الشرك بالله، والفواحش، والظلم، وأنواع
المنكرات، مع ما هو مشتمل عليه هود، عليه السلام، من الصفات، التي لا تكون
إلا لخيار الخلق وأصدقهم، لكفى بها آيات وأدلة، على صدقه.

بل أهل
العقول، وأولو الألباب، يرون أن هذه الآية، أكبر من مجرد الخوارق، التي
يراها بعض الناس، هي المعجزات فقط. ومن آياته، وبيناته الدالة على صدقه،
أنه شخص واحد، ليس له أنصار ولا أعوان، وهو يصرخ في قومه، ويناديهم،
ويعجزهم، ويقول لهم: { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي
وَرَبِّكُمْ }

{ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا
تُنْظِرُونِ } وهم الأعداء الذين لهم السطوة والغلبة، ويريدون إطفاء ما
معه من النور، بأي طريق كان، وهو غير مكترث منهم، ولا مبال بهم، وهم عاجزون
لا يقدرون أن ينالوه بشيء من السوء، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.

وقولهم:
{ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ } أي: لا نترك عبادة
آلهتنا لمجرد قولك، الذي ما أقمت عليه بينة بزعمهم، { وَمَا نَحْنُ لَكَ
بِمُؤْمِنِينَ } وهذا تأييس منهم لنبيهم، هود عليه السلام, في إيمانهم،
وأنهم لا يزالون في كفرهم يعمهون.

{ إِنْ نَقُولُ } فيك { إِلَّا
اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } أي: أصابتك بخبال وجنون، فصرت تهذي
بما لا يعقل. فسبحان من طبع على قلوب الظالمين، كيف جعلوا أصدق الخلق الذي
جاء بأحق الحق، بهذه المرتبة، التي يستحي العاقل من حكايتها عنهم لولا أن
الله حكاها عنهم.

ولهذا بين هود، عليه الصلاة والسلام، أنه واثق
غاية الوثوق، أنه لا يصيبه منهم، ولا من آلهتهم أذى، فقال: { إِنِّي
أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ
دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا } أي: اطلبوا لي الضرر كلكم، بكل طريق
تتمكنون بها مني { ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ } أي: لا تمهلوني.

{
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ } أي: اعتمدت في أمري كله على الله {
رَبِّي وَرَبُّكُمْ } أي: هو خالق الجميع، ومدبرنا وإياكم، وهو الذي ربانا.

{
مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } فلا تتحرك ولا تسكن
إلا بإذنه، فلو اجتمعتم جميعا على الإيقاع بي، والله لم يسلطكم علي، لم
تقدروا على ذلك، فإن سلطكم، فلحكمة أرادها.

فـ { إِنَّ رَبِّي عَلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي: على عدل، وقسط، وحكمة، وحمد في قضائه وقدره، في
شرعه وأمره، وفي جزائه وثوابه، وعقابه، لا تخرج أفعاله عن الصراط
المستقيم، التي يحمد، ويثنى عليه بها.

{ فَإِنْ تَوَلَّوْا } عما
دعوتكم إليه { فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ } فلم
يبق عليَّ تبعة من شأنكم.

{ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا
غَيْرَكُمْ } يقومون بعبادته، ولا يشركون به شيئا، { وَلَا تَضُرُّونَهُ
شَيْئًا } فإن ضرركم، إنما يعود عليكم، فالله لا تضره معصية العاصين. ولا
تنفعه طاعة المطيعين { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها } [ { إِنَّ
رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } ].

{ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا
} أي: عذابنا بإرسال الريح العقيم، التي { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ
عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ }

{ نَجَّيْنَا هُودًا
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ
عَذَابٍ غَلِيظٍ } أي: عظيم شديد، أحله الله بعاد، فأصبحوا لا يرى إلا
مساكنهم.

{ وَتِلْكَ عَادٌ } الذين أوقع الله بهم ما أوقع، بظلم
منهم لأنهم { جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } ولهذا قالوا لهود: { ما جئتنا
ببينة } فتبين بهذا أنهم متيقنون لدعوته، وإنما عاندوا وجحدوا { وَعَصَوْا
رُسُلَهُ } لأن من عصى رسولا، فقد عصى جميع المرسلين، لأن دعوتهم واحدة.

{
وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ } أي: متسلط على عباد الله بالجبروت، {
عنيد } أي: معاند لآيات الله، فعصوا كل ناصح ومشفق عليهم، واتبعوا كل غاش
لهم، يريد إهلاكهم لا جرم أهلكهم الله.

{ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا لَعْنَةً } فكل وقت وجيل، إلا ولأنبائهم القبيحة، وأخبارهم
الشنيعة، ذكر يذكرون به، وذم يلحقهم { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ } لهم أيضا
لعنة، { أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ } أي: جحدوا من خلقهم
ورزقهم ورباهم. { أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } أي: أبعدهم الله عن
كل خير وقربهم من كل شر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:51 pm

{
61 - 68 } { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا }

إلى آخر قصتهم ،
أي: { و } أرسلنا { إِلَى ثَمُودَ } وهم: عاد الثانية، المعروفون، الذين
يسكنون الحجر، ووادي القرى، { أَخَاهُمْ } في النسب { صَالِحًا } عبد الله
ورسوله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فـ { قَالَ
يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ } أي: وحدوه، وأخلصوا له الدين { مَا لَكُمْ
مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } لا من أهل السماء، ولا من أهل الأرض.

{ هُوَ
أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ } أي: خلقكم فيها { وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا
} أي: استخلفكم فيها، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، ومكنكم في
الأرض، تبنون، وتغرسون، وتزرعون، وتحرثون ما شئتم، وتنتفعون بمنافعها،
وتستغلون مصالحها، فكما أنه لا شريك له في جميع ذلك، فلا تشركوا به في
عبادته.

{ فَاسْتَغْفِرُوهُ } مما صدر منكم، من الكفر، والشرك،
والمعاصي, وأقلعوا عنها، { ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } أي: ارجعوا إليه
بالتوبة النصوح، والإنابة، { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } أي: قريب ممن
دعاه دعاء مسألة، أو دعاء عبادة، يجيبه بإعطائه سؤله، وقبول عبادته،
وإثابته عليها، أجل الثواب، واعلم أن قربه تعالى نوعان: عام، وخاص، فالقرب
العام: قربه بعلمه، من جميع الخلق، وهو المذكور في قوله تعالى: { وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } والقرب الخاص: قربه من عابديه،
وسائليه، ومحبيه، وهو المذكور في قوله تعالى { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ }

وفي
هذه الآية، وفي قوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ } وهذا النوع، قرب يقتضي إلطافه تعالى،
وإجابته لدعواتهم، وتحقيقه لمراداتهم، ولهذا يقرن، باسمه "القريب" اسمه
"المجيب"

فلما أمرهم نبيهم صالح عليه السلام، ورغبهم في الإخلاص لله
وحده, ردوا عليه دعوته، وقابلوه أشنع المقابلة.

{ قَالُوا يَا
صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا } أي: قد كنا نرجوك
ونؤمل فيك العقل والنفع، وهذا شهادة منهم، لنبيهم صالح، أنه ما زال معروفا
بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وأنه من خيار قومه.

ولكنه، لما جاءهم
بهذا الأمر، الذي لا يوافق أهواءهم الفاسدة, قالوا هذه المقالة، التي
مضمونها، أنك [قد] كنت كاملا، والآن أخلفت ظننا فيك، وصرت بحالة لا يرجى
منك خير.

وذنبه، ما قالوه عنه، وهو قولهم: { أَتَنْهَانَا أَنْ
نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } وبزعمهم أن هذا من أعظم القدح في صالح،
كيف قدح في عقولهم، وعقول آبائهم الضالين، وكيف ينهاهم عن عبادة، من لا
ينفع ولا يضر، ولا يغني شيئا من الأحجار، والأشجار ونحوها.

وأمرهم
بإخلاص الدين لله ربهم، الذي لم تزل نعمه عليهم تترى, وإحسانه عليهم دائما
ينزل، الذي ما بهم من نعمة، إلا منه، ولا يدفع عنهم السيئات إلا هو.

{
وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } أي: ما زلنا
شاكين فيما دعوتنا إليه، شكا مؤثرا في قلوبنا الريب، وبزعمهم أنهم لو
علموا صحة ما دعاهم إليه، لاتبعوه، وهم كذبة في ذلك، ولهذا بين كذبهم في
قوله: { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّي } أي: برهان ويقين مني { وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً } أي: منَّ علي
برسالته ووحيه، أي: أفأتابعكم على ما أنتم عليه، وما تدعونني إليه؟.

{
فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي
غَيْرَ تَخْسِيرٍ } أي: غير خسار وتباب، وضرر.

{ وَيَا قَوْمِ
هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً } لها شرب من البئر يوما، ثم يشربون
كلهم من ضرعها، ولهم شرب يوم معلوم.

{ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي
أَرْضِ اللَّهِ } أي: ليس عليكم من مؤنتها وعلفها شيء، { وَلَا تَمَسُّوهَا
بِسُوءٍ } أي: بعقر { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا
فَقَالَ } لهم صالح: { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } بل لا بد من وقوعه.

{ فَلَمَّا
جَاءَ أَمْرُنَا } بوقوع العذاب { نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ } أي: نجيناهم من
العذاب والخزي والفضيحة.

{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ
الْعَزِيزُ } ومن قوته وعزته، أن أهلك الأمم الطاغية، ونجى الرسل وأتباعهم.

{
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } العظيمة فقطعت قلوبهم، {
فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي: خامدين لا حراك لهم.

{
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا } أي: كأنهم لما جاءهم العذاب ما تمتعوا في
ديارهم، ولا أنسوا بها ولا تنعموا بها يوما من الدهر، قد فارقهم النعيم،
وتناولهم العذاب السرمدي، الذي ينقطع، الذي كأنه لم يزل.

{ أَلَا
إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ } أي: جحدوه بعد أن جاءتهم الآية
المبصرة، { أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ } فما أشقاهم وأذلهم، نستجير بالله من
عذاب الدنيا وخزيها.


{ 69 - 83 } { وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا
إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى }

إلى آخر القصة أي: { وَلَقَدْ جَاءَتْ
رُسُلُنَا } من الملائكة الكرام، رسولنا { إِبْرَاهِيمَ } الخليل {
بِالْبُشْرَى } أي: بالبشارة بالولد، حين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط،
وأمرهم أن يمروا على إبراهيم، فيبشروه بإسحاق، فلما دخلوا عليه { قَالُوا
سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ } أي: سلموا عليه، ورد عليهم السلام.

ففي
هذا مشروعية السلام، وأنه لم يزل من ملة إبراهيم عليه السلام، وأن السلام
قبل الكلام، وأنه ينبغي أن يكون الرد، أبلغ من الابتداء, لأن سلامهم
بالجملة الفعلية، الدالة على التجدد، ورده بالجملة الاسمية، الدالة على
الثبوت والاستمرار، وبينهما فرق كبير كما هو معلوم في علم العربية.

{
فَمَا لَبِثَ } إبراهيم لما دخلوا عليه { أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ }
أي: بادر لبيته، فاستحضر لأضيافه عجلا مشويا على الرضف سمينا، فقربه إليهم
فقال: ألا تأكلون؟.

{ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ
إِلَيْهِ } أي: إلى تلك الضيافة { نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً }
وظن أنهم أتوه بشر ومكروه، وذلك قبل أن يعرف أمرهم.

فـ { قَالُوا
لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ } أي: إنا رسل الله,
أرسلنا الله إلى إهلاك قوم لوط.

وامرأة إبراهيم { قَائِمَةٌ } تخدم
أضيافه { فَضَحِكَتْ } حين سمعت بحالهم، وما أرسلوا به، تعجبا.

{
فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } فتعجبت
من ذلك.

و { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ
وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا } فهذان مانعان من وجود الولد { إِنَّ هَذَا
لَشَيْءٌ عَجِيبٌ }

{ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ }
فإن أمره لا عجب فيه، لنفوذ مشيئته التامة في كل شيء، فلا يستغرب على قدرته
شيء، وخصوصا فيما يدبره ويمضيه، لأهل هذا البيت المبارك.

{
رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ } أي: لا تزال
رحمته وإحسانه وبركاته، وهي: الزيادة من خيره وإحسانه، وحلول الخير الإلهي
على العبد { عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } أي:
حميد الصفات، لأن صفاته صفات كمال، حميد الأفعال لأن أفعاله إحسان، وجود،
وبر، وحكمة، وعدل، وقسط.

مجيد، والمجد: هو عظمة الصفات وسعتها، فله
صفات الكمال، وله من كل صفة كمال أكملها وأتمها وأعمها.

{ فَلَمَّا
ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ } الذي أصابه من خيفة أضيافه {
وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى } بالولد، التفت حينئذ، إلى مجادلة الرسل في إهلاك
قوم لوط، وقال لهم: { إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله
إلا امرأته }

{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ } أي: ذو خلق حسن وسعة
صدر، وعدم غضب، عند جهل الجاهلين.

{ أَوَّاهٌ } أي: متضرع إلى الله
في جميع الأوقات، { مُنِيبٌ } أي: رجَّاع إلى الله بمعرفته ومحبته،
والإقبال عليه, والإعراض عمن سواه، فلذلك كان يجادل عمن حتَّم الله
بهلاكهم.

فقيل له: { يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } الجدال
{ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ } بهلاكهم { وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ
عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } فلا فائدة في جدالك.

{ وَلَمَّا جَاءَتْ
رُسُلُنَا } أي: الملائكة الذين صدروا من إبراهيم لما أتوا { لُوطًا سِيءَ
بِهِمْ } أي: شق عليه مجيئهم، { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا
يَوْمٌ عَصِيبٌ } أي: شديد حرج، لأنه علم أن قومه لا يتركونهم، لأنهم في
صور شباب، جرد، مرد, في غاية الكمال والجمال، ولهذا وقع ما خطر بباله.

فـ
{ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } أي: يسرعون ويبادرون، يريدون
أضيافه بالفاحشة، التي كانوا يعملونها، ولهذا قال: { ومن قبل كانوا يعملون
السيئات } أي: الفاحشة التي ما سبقهم عليها أحد من العالمين.

{
قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } من أضيافي، [
وهذا كما عرض لسليمان تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، على المرأتين أن يشق الولد المختصم فيه,
لاستخراج الحق ولعلمه أن بناته ممتنع منالهن، ولا حق لهم فيهن. والمقصود
الأعظم، دفع هذه الفاحشة الكبرى ]

{ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا
تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } أي: إما أن تراعوا تقوى الله, وإما أن تراعوني في
ضيفي، ولا تخزون عندهم.

{ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ }
فينهاكم، ويزجركم، وهذا دليل على مروجهم وانحلالهم، من الخير والمروءة.

فـ
{ قَالُوا } له: { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ
وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } أي: لا نريد إلا الرجال، ولا لنا رغبة
في النساء.

فاشتد قلق لوط عليه الصلاة والسلام، و { قَالَ لَوْ
أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } كقبيلة مانعة،
لمنعتكم.

وهذا بحسب الأسباب المحسوسة، وإلا فإنه يأوي إلى أقوى
الأركان وهو الله، الذي لا يقوم لقوته أحد، ولهذا لما بلغ الأمر منتهاه
واشتد الكرب.

{ قَالُوا } له: { إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ } أي: أخبروه
بحالهم ليطمئن قلبه، { لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } بسوء.

ثم قال
جبريل بجناحه، فطمس أعينهم، فانطلقوا يتوعدون لوطا بمجيء الصبح، وأمر
الملائكة لوطا، أن يسري بأهله { بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ } أي: بجانب منه
قبل الفجر بكثير، ليتمكنوا من البعد عن قريتهم.

{ وَلَا يَلْتَفِتْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ } أي: بادروا بالخروج، وليكن همكم النجاة ولا تلتفتوا إلى
ما وراءكم.

{ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا } من العذاب {
مَا أَصَابَهُمُ } لأنها تشارك قومها في الإثم، فتدلهم على أضياف لوط، إذا
نزل به أضياف.

{ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ } فكأن لوطا، استعجل
ذلك، فقيل له: { أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }

{ فَلَمَّا جَاءَ
أَمْرُنَا } بنزول العذاب، وإحلاله فيهم { جَعَلْنَا } ديارهم { عَالِيَهَا
سَافِلَهَا } أي: قلبناها عليهم { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ
سِجِّيلٍ } أي: من حجارة النار الشديدة الحرارة { مَنْضُودٍ } أي.
متتابعة، تتبع من شذ عن القرية.

{ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ } أي:
معلمة، عليها علامة العذاب والغضب، { وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ }
الذين يشابهون لفعل قوم لوط { بِبَعِيدٍ } فليحذر العباد، أن يفعلوا
كفعلهم، لئلا يصيبهم ما أصابهم.


{ 84 - 95 } { وَإِلَى مَدْيَنَ
أَخَاهُمْ شُعَيْبًا }

إلى آخر القصة أي: { و ْ} أرسلنا { إِلَى
مَدْيَنَ ْ} القبيلة المعروفة، الذين يسكنون مدين في أدنى فلسطين، {
أَخَاهُمْْ} في النسب { شُعَيْبًا ْ} لأنهم يعرفونه، وليتمكنوا من الأخذ
عنه.

فـ { قَالَ ْ} لهم { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ
مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ْ} أي: أخلصوا له العبادة، فإنهم كانوا يشركون به،
وكانوا - مع شركهم - يبخسون المكيال والميزان، ولهذا نهاهم عن ذلك فقال: {
وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ْ} بل أوفوا الكيل والميزان
بالقسط.

{ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ ْ} أي: بنعمة كثيرة، وصحة،
وكثرة أموال وبنين, فاشكروا الله على ما أعطاكم، ولا تكفروا بنعمة الله،
فيزيلها عنكم.

{ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ
مُحِيطٍ ْ} أي: عذابا يحيط بكم, ولا يبقي منكم باقية.

{ وَيَا
قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ْ} أي: بالعدل
الذي ترضون أن تعطوه، { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ْ} أي: لا
تنقصوا من أشياء الناس، فتسرقوها بأخذها، بنقص المكيال والميزان.

{
وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ْ} فإن الاستمرار على المعاصي،
يفسد الأديان، والعقائد، والدين، والدنيا، ويهلك الحرث والنسل.

{
بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ْ} أي: يكفيكم ما أبقى الله لكم من الخير،
وما هو لكم، فلا تطمعوا في أمر لكم عنه غنية، وهو ضار لكم جدا.

{
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ْ} فاعملوا بمقتضى الإيمان، { وَمَا أَنَا
عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ْ} أي: لست بحافظ لأعمالكم، ووكيل عليها، وإنما الذي
يحفظها الله تعالى، وأما أنا، فأبلغكم ما أرسلت به.

{ قَالُوا يَا
شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ْ}
أي: قالوا ذلك على وجه التهكم بنبيهم، والاستبعاد لإجابتهم له.

ومعنى
كلامهم: أنه لا موجب لنهيك لنا، إلا أنك تصلي لله, وتتعبد له، أفإن كنت
كذلك، أفيوجب لنا أن نترك ما يعبد آباؤنا، لقول ليس عليه دليل إلا أنه
موافق لك، فكيف نتبعك، ونترك آباءنا الأقدمين أولي العقول والألباب؟!

وكذلك
لا يوجب قولك لنا: { أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا ْ} ما قلت لنا، من
وفاء الكيل، والميزان، وأداء الحقوق الواجبة فيها، بل لا نزال نفعل فيها ما
شئنا، لأنها أموالنا، فليس لك فيها تصرف.

ولهذا قالوا في تهكمهم: {
إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ْ} أي: أئنك أنت الذي، الحلم
والوقار، لك خلق، والرشد لك سجية، فلا يصدر عنك إلا رشد، ولا تأمر إلا
برشد، ولا تنهى إلا عن غي، أي: ليس الأمر كذلك.

وقصدهم أنه موصوف
بعكس هذين الوصفين: بالسفه والغواية، أي: أن المعنى: كيف تكون أنت الحليم
الرشيد، وآباؤنا هم السفهاء الغاوون؟!!

وهذا القول الذي أخرجوه
بصيغة التهكم، وأن الأمر بعكسه, ليس كما ظنوه، بل الأمر كما قالوه. إن
صلاته تأمره أن ينهاهم، عما كان يعبد آباؤهم الضالون، وأن يفعلوا في
أموالهم ما يشاءون، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأي فحشاء ومنكر،
أكبر من عبادة غير الله، ومن منع حقوق عباد الله، أو سرقتها بالمكاييل
والموازين، وهو عليه الصلاة والسلام الحليم الرشيد.

{ قَالَ ْ} لهم
شعيب: { يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي
ْ} أي: يقين وطمأنينة، في صحة ما جئت به، { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا
حَسَنًا ْ} أي: أعطاني الله من أصناف المال ما أعطاني.

{ وَ ْ} أنا
لا { أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ْ} فلست
أريد أن أنهاكم عن البخس، في المكيال، والميزان، وأفعله أنا، وحتى تتطرق
إليَّ التهمة في ذلك. بل ما أنهاكم عن أمر إلا وأنا أول مبتدر لتركه.

{
إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ْ} أي: ليس لي من
المقاصد إلا أن تصلح أحوالكم، وتستقيم منافعكم، وليس لي من المقاصد الخاصة
لي وحدي، شيء بحسب استطاعتي.

ولما كان هذا فيه نوع تزكية للنفس، دفع
هذا بقوله: { وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ْ} أي: وما يحصل لي من
التوفيق لفعل الخير، والانفكاك عن الشر إلا بالله تعالى، لا بحولي ولا
بقوتي.

{ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ْ} أي: اعتمدت في أموري، ووثقت في
كفايته، { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ْ} في أداء ما أمرني به من أنواع العبادات،
وفي [هذا] التقرب إليه بسائر أفعال الخيرات.

وبهذين الأمرين تستقيم
أحوال العبد، وهما الاستعانة بربه، والإنابة إليه، كما قال تعالى: {
فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ْ} وقال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ ْ}

{ وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي ْ}
أي: لا تحملنكم مخالفتي ومشاقتي { أَنْ يُصِيبَكُمُ ْ} من العقوبات {
مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ
وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ْ} لا في الدار ولا في الزمان.

{
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ْ} عما اقترفتم من الذنوب { ثُمَّ تُوبُوا
إِلَيْهِ ْ} فيما يستقبل من أعماركم، بالتوبة النصوح، والإنابة إليه
بطاعته، وترك مخالفته.

{ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ْ} لمن تاب
وأناب، يرحمه فيغفر له، ويتقبل توبته ويحبه، ومعنى الودود، من أسمائه
تعالى، أنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه، فهو "فعول" بمعنى "فاعل" وبمعنى
"مفعول"

{ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا
تَقُولُ ْ} أي: تضجروا من نصائحه ومواعظه لهم، فقالوا: { ما نفقه كثيرا مما
تقول ْ} وذلك لبغضهم لما يقول, ونفرتهم عنه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:53 pm

{
وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ْ} أي: في نفسك، لست من الكبار
والرؤساء بل من المستضعفين.

{ وَلَوْلَا رَهْطُكَ ْ} أي: جماعتك
وقبيلتك { لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ْ} أي: ليس لك
قدر في صدورنا، ولا احترام في أنفسنا، وإنما احترمنا قبيلتك، بتركنا إياك.

فـ
{ قَالَ ْ} لهم مترققا لهم: { يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ
مِنَ اللَّهِ ْ} أي: كيف تراعوني لأجل رهطي، ولا تراعوني لله، فصار رهطي
أعز عليكم من الله.

{ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ْ}
أي: نبذتم أمر الله، وراء ظهوركم، ولم تبالوا به، ولا خفتم منه.

{
إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ْ} لا يخفى عليه من أعمالكم مثقال
ذرة في الأرض ولا في السماء، فسيجازيكم على ما عملتم أتم الجزاء.

{ و
ْ} لما أعيوه وعجز عنهم قال: { يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ
ْ} أي: على حالتكم ودينكم.

{ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ْ} ويحل عليه عذاب مقيم أنا أم أنتم، وقد
علموا ذلك حين وقع عليهم العذاب.

{ وَارْتَقِبُوا ْ} ما يحل بي {
إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ْ} ما يحل بكم.

{ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا
ْ} بإهلاك قوم شعيب { نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا
فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ْ} لا تسمع لهم صوتا، ولا ترى منهم حركة.

{
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ْ} أي: كأنهم ما أقاموا في ديارهم، ولا
تنعموا فيها حين أتاهم العذاب.

{ أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ ْ} إذ
أهلكها الله وأخزاها { كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ْ} أي: قد اشتركت هاتان
القبيلتان في السحق والبعد والهلاك.

وشعيب عليه السلام كان يسمى
خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته لقومه، وفي قصته من الفوائد والعبر، شيء كثير.

منها:
أن الكفار، كما يعاقبون، ويخاطبون، بأصل الإسلام, فكذلك بشرائعه وفروعه،
لأن شعيبا دعا قومه إلى التوحيد، وإلى إيفاء المكيال والميزان، وجعل
الوعيد، مرتبا على مجموع ذلك.

ومنها: أن نقص المكاييل والموازين، من
كبائر الذنوب, وتخشى العقوبة العاجلة، على من تعاطى ذلك، وأن ذلك من سرقة
أموال الناس، وإذا كان سرقتهم في المكاييل والموازين، موجبة للوعيد،
فسرقتهم - على وجه القهر والغلبة - من باب أولى وأحرى.

ومنها: أن
الجزاء من جنس العمل، فمن بخس أموال الناس، يريد زيادة ماله، عوقب بنقيض
ذلك, وكان سببا لزوال الخير الذي عنده من الرزق لقوله: { إِنِّي أَرَاكُمْ
بِخَيْرٍ ْ} أي: فلا تسببوا إلى زواله بفعلكم.

ومنها: أن على العبد
أن يقنع بما آتاه الله، ويقنع بالحلال عن الحرام وبالمكاسب المباحة عن
المكاسب المحرمة، وأن ذلك خير له لقوله: { بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ
ْ} ففي ذلك، من البركة، وزيادة الرزق ما ليس في التكالب على الأسباب
المحرمة من المحق، وضد البركة.

ومنها: أن ذلك، من لوازم الإيمان
وآثاره، فإنه رتب العمل به, على وجود الإيمان، فدل على أنه إذا لم يوجد
العمل، فالإيمان ناقص أو معدوم.

ومنها: أن الصلاة، لم تزل مشروعة
للأنبياء المتقدمين، وأنها من أفضل الأعمال، حتى إنه متقرر عند الكفار
فضلها، وتقديمها على سائر الأعمال, وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي
ميزان للإيمان وشرائعه، فبإقامتها تكمل أحوال العبد، وبعدم إقامتها، تختل
أحواله الدينية.

ومنها: أن المال الذي يرزقه الله الإنسان - وإن كان
الله قد خوله إياه - فليس له أن يصنع فيه ما يشاء، فإنه أمانة عنده، عليه
أن يقيم حق الله فيه بأداء ما فيه من الحقوق، والامتناع من المكاسب التي
حرمها الله ورسوله، لا كما يزعمه الكفار، ومن أشبههم، أن أموالهم لهم أن
يصنعوا فيها ما يشاءون ويختارون، سواء وافق حكم الله، أو خالفه.

ومنها:
أن من تكملة دعوة الداعي وتمامها أن يكون أول مبادر لما يأمر غيره به،
وأول منته عما ينهى غيره عنه، كما قال شعيب عليه السلام: { وَمَا أُرِيدُ
أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ْ} ولقوله تعالى: { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كبر
مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ْ}

ومنها: أن وظيفة الرسل
وسنتهم وملتهم، إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان، فيأتون بتحصيل المصالح
وتكميلها، أو بتحصيل ما يقدر عليه منها، وبدفع المفاسد وتقليلها، ويراعون
المصالح العامة على المصالح الخاصة.

وحقيقة المصلحة، هي التي تصلح
بها أحوال العباد، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية.

ومنها: أن
من قام بما يقدر عليه من الإصلاح، لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله،
ما لا يقدر عليه، فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه، وفي غيره، ما
يقدر عليه.

ومنها: أن العبد ينبغي له أن لا يتكل على نفسه طرفة عين،
بل لا يزال مستعينا بربه، متوكلا عليه، سائلا له التوفيق، وإذا حصل له شيء
من التوفيق، فلينسبه لموليه ومسديه، ولا يعجب بنفسه لقوله: { وَمَا
تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ْ}

ومنها:
الترهيب بأخذات الأمم، وما جرى عليهم، وأنه ينبغي أن تذكر القصص التي فيها
إيقاع العقوبات بالمجرمين في سياق الوعظ والزجر.

كما أنه ينبغي ذكر
ما أكرم الله به أهل التقوى عند الترغيب والحث على التقوى.

ومنها:
أن التائب من الذنب كما يسمح له عن ذنبه، ويعفى عنه فإن الله تعالى يحبه
ويوده، ولا عبرة بقول من يقول: "إن التائب إذا تاب، فحسبه أن يغفر له,
ويعود عليه العفو، وأما عود الود والحب فإنه لا يعود" فإن الله قال: {
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ
وَدُودٌ ْ}

ومنها: أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، قد
يعلمون بعضها, وقد لا يعلمون شيئا منها، وربما دفع عنهم، بسبب قبيلتهم، أو
أهل وطنهم الكفار، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه، وأن هذه
الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين، لا بأس بالسعي فيها، بل
ربما تعين ذلك، لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان.

فعلى
هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا على جعل الولاية
جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية، لكان
أولى، من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على
إبادتها، وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم.

نعم إن أمكن أن تكون الدولة
للمسلمين، وهم الحكام، فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة، فالمرتبة
التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة، والله أعلم.


{ 96 -
101 ْ} وقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا
وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ْ}

إلى آخر القصة يقول تعالى: { وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا مُوسَى ْ} بن عمران { بِآيَاتِنَا ْ} الدالة على صدق ما جاء
به، كالعصا، واليد ونحوهما، من الآيات التي أجراها الله على يدي موسى عليه
السلام.

{ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ْ} أي: حجة ظاهرة بينة، ظهرت ظهور
الشمس.

{ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ْ} أي: أشراف قومه لأنهم
المتبوعون، وغيرهم تبع لهم، فلم ينقادوا لما مع موسى من الآيات، التي أراهم
إياها، كما تقدم بسطها في سورة الأعرف، ولكنهم { فَاتَّبَعُوا أَمْرَ
فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ْ} بل هو ضال غاو، لا يأمر
إلا بما هو ضرر محض، لا جرم - لما اتبعه قومه - أرداهم وأهلكهم.

{
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ
الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ ْ} أي: في الدنيا {
لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ْ} أي: يلعنهم الله وملائكته, والناس
أجمعون في الدنيا والآخرة.

{ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ْ} أي:
بئس ما اجتمع لهم، وترادف عليهم, من عذاب الله، ولعنة الدنيا والآخرة.

ولما
ذكر قصص هؤلاء الأمم مع رسلهم، قال الله تعالى لرسوله: { ذَلِكَ مِنْ
أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ْ} لتنذر به، ويكون آية على رسالتك،
وموعظة وذكرى للمؤمنين.

{ مِنْهَا قَائِمٌ ْ} لم يتلف، بل بقي من
آثار ديارهم، ما يدل عليهم، { وَ ْ} منها { حَصِيدٌ ْ} قد تهدمت مساكنهم،
واضمحلت منازلهم، فلم يبق لها أثر.

{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ْ} بأخذهم
بأنواع العقوبات { وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ْ} بالشرك والكفر،
والعناد.

{ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ْ} وهكذا كل
من التجأ إلى غير الله، لم ينفعه ذلك عند نزول الشدائد.

{ وَمَا
زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ْ} أي: خسار ودمار، بالضد مما خطر ببالهم.


{
102 ْ} { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ
ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ْ}

أي: يقصمهم بالعذاب
ويبيدهم، ولا ينفعهم، ما كانوا يدعون, من دون الله من شيء.

{ إِنَّ
فِي ذَلِكَ ْ} المذكور، من أخذه للظالمين، بأنواع العقوبات، { لَآيَةً
لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ْ} أي: لعبرة ودليلا، على أن أهل الظلم
والإجرام، لهم العقوبة الدنيوية، والعقوبة الأخروية، ثم انتقل من هذا، إلى
وصف الآخرة فقال: { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ْ} أي: جمعوا
لأجل ذلك اليوم، للمجازاة، وليظهر لهم من عظمة الله وسلطانه وعدله العظيم،
ما به يعرفونه حق المعرفة.

{ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ْ} أي:
يشهده الله وملائكته، وجميع المخلوقين.

{ وَمَا نُؤَخِّرُهُ ْ} أي:
إتيان يوم القيامة { إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ْ} إذا انقضى أجل الدنيا
وما قدر الله فيها من الخلق، فحينئد ينقلهم إلى الدار الأخرى، ويجري عليهم
أحكامه الجزائية، كما أجرى عليهم في الدنيا, أحكامه الشرعية.

{
يَوْمَ يَأْتِ ْ} ذلك اليوم، ويجتمع الخلق { لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا
بِإِذْنِهِ ْ} حتى الأنبياء، والملائكة الكرام، لا يشفعون إلا بإذنه، {
فَمِنْهُمْ ْ} أي: الخلق { شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ْ} فالأشقياء، هم الذين كفروا
بالله، وكذبوا رسله، وعصوا أمره، والسعداء، هم: المؤمنون المتقون.

وأما
جزاؤهم { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا ْ} أي: حصلت لهم الشقاوة، والخزي
والفضيحة، { فَفِي النَّارِ ْ} منغمسون في عذابها، مشتد عليهم عقابها، {
لَهُمْ فِيهَا ْ} من شدة ما هم فيه { زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ْ} وهو أشنع
الأصوات وأقبحها.

{ خَالِدِينَ فِيهَا ْ} أي: في النار، التي هذا
عذابها { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ
ْ} أي: خالدين فيها أبدا، إلا المدة التي شاء الله, أن لا يكونوا فيها،
وذلك قبل دخولها، كما قاله جمهور المفسرين، فالاستثناء على هذا، راجع إلى
ما قبل دخولها، فهم خالدون فيها جميع الأزمان، سوى الزمن الذي قبل الدخول
فيها.

{ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ْ} فكل ما أراد فعله
واقتضته حكمته فعله، تبارك وتعالى، لا يرده أحد عن مراده.

{
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا ْ} أي: حصلت لهم السعادة، والفلاح، والفوز {
فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ْ} ثم أكد ذلك بقوله: { عَطَاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ ْ} أي: ما أعطاهم الله من النعيم المقيم، واللذة العالية، فإنه
دائم مستمر، غير منقطع بوقت من الأوقات، نسأل الله الكريم من فضله.

{
109 ْ} { فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا
يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا
لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ْ}

يقول الله تعالى،
لرسوله محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999: { فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا
يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ ْ} المشركون، أي: لا تشك في حالهم، وأن ما هم عليه
باطل, فليس لهم عليه دليل شرعي ولا عقلي، وإنما دليلهم وشبهتهم، أنهم { مَا
يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ ْ}

ومن
المعلوم أن هذا، ليس بشبهة، فضلا عن أن يكون دليلا، لأن أقوال ما عدا
الأنبياء، يحتج لها لا يحتج بها، خصوصا أمثال هؤلاء الضالين، الذين كثر
خطأهم وفساد أقوالهم, في أصول الدين، فإن أقوالهم، وإن اتفقوا عليها، فإنها
خطأ وضلال.

{ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ
مَنْقُوصٍ ْ} أي: لا بد أن ينالهم نصيبهم من الدنيا، مما كتب لهم، وإن كثر
ذلك النصيب، أو راق في عينك, فإنه لا يدل على صلاح حالهم، فإن الله يعطي
الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان والدين الصحيح، إلا من يحب.
والحاصل أنه لا يغتر باتفاق الضالين، على قول الضالين من آبائهم الأقدمين،
ولا على ما خولهم الله، وآتاهم من الدنيا.


{ 110 - 113 ْ} {
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ
مِنْهُ مُرِيبٍ * وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ
أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَاسْتَقِمْ كَمَا
أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ
النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا
تُنْصَرُونَ ْ}

يخبر تعالى، أنه آتى موسى الكتاب، الذي هو التوراة،
الموجب للاتفاق على أوامره ونواهيه، والاجتماع، ولكن، مع هذا، فإن
المنتسبين إليه، اختلفوا فيه اختلافا، أضر بعقائدهم، وبجامعتهم الدينية.

{
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ْ} بتأخيرهم، وعدم معاجلتهم
بالعذاب { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ْ} بإحلال العقوبة بالظالم، ولكنه تعالى،
اقتضت حكمته، أن أخر القضاء بينهم إلى يوم القيامة، وبقوا في شك منه مريب.

وإذا
كانت هذه حالهم، مع كتابهم، فمع القرآن الذي أوحاه الله إليك، غير مستغرب،
من طائفة اليهود، أن لا يؤمنوا به، وأن يكونوا في شك منه مريب.

{
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ْ} أي: لا
بد أن الله يقضي بينهم يوم القيامة، بحكمه العدل، فيجازي كلا بما يستحقه.

{
إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ ْ} من خير وشر { خَبِيرٌ ْ} فلا يخفى عليه شيء
من أعمالهم، دقيقها وجليلها.

ثم لما أخبر بعدم استقامتهم، التي
أوجبت اختلافهم وافتراقهم, أمر نبيه محمدا تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، ومن معه، من المؤمنين، أن يستقيموا كما
أمروا، فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع، ويعتقدوا ما أخبر الله به من
العقائد الصحيحة، ولا يزيغوا عن ذلك يمنة ولا يسرة، ويدوموا على ذلك، ولا
يطغوا بأن يتجاوزوا ما حده الله لهم من الاستقامة.

وقوله: { إِنَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ْ} أي: لا يخفى عليه من أعمالكم شيء, وسيجازيكم
عليها، ففيه ترغيب لسلوك الاستقامة، وترهيب من ضدها، ولهذا حذرهم عن الميل
إلى من تعدى الاستقامة فقال: { وَلَا تَرْكَنُوا ْ} أي: لا تميلوا { إِلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا ْ} فإنكم، إذا ملتم إليهم، ووافقتموهم على ظلمهم، أو
رضيتم ما هم عليه من الظلم { فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ْ} إن فعلتم ذلك {
وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ْ} يمنعونكم من عذاب
الله، ولا يحصلون لكم شيئا، من ثواب الله.

{ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ
ْ} أي: لا يدفع عنكم العذاب إذا مسكم، ففي هذه الآية: التحذير من الركون
إلى كل ظالم، والمراد بالركون، الميل والانضمام إليه بظلمه وموافقته على
ذلك، والرضا بما هو عليه من الظلم.

وإذا كان هذا الوعيد في الركون
إلى الظلمة، فكيف حال الظلمة بأنفسهم؟!! نسأل الله العافية من الظلم.


{
114 - 115 ْ} { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ
اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى
لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ ْ}

يأمر تعالى بإقامة الصلاة كاملة { طَرَفَيِ
النَّهَارِ ْ} أي: أوله وآخره، ويدخل في هذا، صلاة الفجر، وصلاتا الظهر
والعصر، { وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ْ} ويدخل في ذلك، صلاة المغرب والعشاء،
ويتناول ذلك قيام الليل، فإنها مما تزلف العبد، وتقربه إلى الله تعالى.

{
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ْ} أي: فهذه الصلوات الخمس،
وما ألحق بها من التطوعات من أكبر الحسنات، وهي: مع أنها حسنات تقرب إلى
الله، وتوجب الثواب، فإنها تذهب السيئات وتمحوها، والمراد بذلك: الصغائر،
كما قيدتها الأحاديث الصحيحة عن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999، مثل قوله: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى
الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر"، بل كما
قيدتها الآية التي في سورة النساء، وهي قوله تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ْ}

ذلك لعل الإشارة، لكل ما
تقدم، من لزوم الاستقامة على الصراط المستقيم، وعدم مجاوزته وتعديه، وعدم
الركون إلى الذين ظلموا، والأمر بإقامة الصلاة، وبيان أن الحسنات يذهبن
السيئات، الجميع { ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ْ} يفهمون بها ما أمرهم الله به،
ونهاهم عنه، ويمتثلون لتلك الأوامر الحسنة المثمرة للخيرات، الدافعة
للشرور والسيئات، ولكن تلك الأمور، تحتاج إلى مجاهدة النفس، والصبر عليها،
ولهذا قال:

{ وَاصْبِرْ ْ} أي: احبس نفسك على طاعة الله، وعن
معصيته، وإلزامها لذلك، واستمر ولا تضجر.

{ فَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ْ} بل يتقبل الله عنهم أحسن الذي عملوا،
ويجزيهم أجرهم، بأحسن ما كانوا يعملون، وفي هذا ترغيب عظيم، للزوم الصبر،
بتشويق النفس الضعيفة إلى ثواب الله، كلما ونت وفترت.


{ 116 ْ} {
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ
يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ
أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ
وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ْ}

لما ذكر تعالى، إهلاك الأمم المكذبة
للرسل، وأن أكثرهم منحرفون، حتى أهل الكتب الإلهية، وذلك كله يقضي على
الأديان بالذهاب والاضمحلال، ذكر أنه لولا أنه جعل في القرون الماضية
بقايا، من أهل الخير يدعون إلى الهدى، وينهون عن الفساد والردى، فحصل من
نفعهم ما بقيت به الأديان، ولكنهم قليلون جدا.

وغاية الأمر، أنهم
نجوا، باتباعهم المرسلين، وقيامهم بما قاموا به من دينهم، وبكون حجة الله
أجراها على أيديهم، ليهلك من هلك عن بيِّنة ويحيا من حيَّ عن بيِّنة

{
و ْ} لكن { اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ ْ} أي:
اتبعوا ما هم فيه من النعيم والترف، ولم يبغوا به بدلا.

{ وَكَانُوا
مُجْرِمِينَ ْ} أي: ظالمين، باتباعهم ما أترفوا فيه، فلذلك حق عليهم
العقاب، واستأصلهم العذاب. وفي هذا، حث لهذه الأمة، أن يكون فيهم بقايا
مصلحون، لما أفسد الناس، قائمون بدين الله، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون
منهم على الأذى، ويبصرونهم من العمى.

وهذه الحالة أعلى حالة يرغب
فيها الراغبون، وصاحبها يكون, إماما في الدين، إذا جعل عمله خالصا لرب
العالمين.


{ 117 ْ} { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى
بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ْ}

أي: وما كان الله ليهلك أهل
القرى بظلم منه لهم، والحال أنهم مصلحون, أي: مقيمون على الصلاح، مستمرون
عليه، فما كان الله ليهلكهم، إلا إذا ظلموا، وقامت عليهم حجة الله.

ويحتمل،
أن المعنى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلمهم السابق، إذا رجعوا وأصلحوا
عملهم، فإن الله يعفو عنهم، ويمحو ما تقدم من ظلمهم.

{ 118 - 119 ْ}
{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ
خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ْ}

يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل
الناس كلهم أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع
عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته، أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط
المستقيم, متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق، فيما قاله،
والضلال في قول غيره.

{ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ْ} فهداهم إلى
العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم، سابقة السعادة،
وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي.

وأما من عداهم، فهم
مخذولون موكولون إلى أنفسهم.

وقوله: { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ْ} أي:
اقتضت حكمته، أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون
والمختلفون، والفريق الذين هدى الله, والفريق الذين حقت عليهم الضلالة،
ليتبين للعباد، عدله وحكمته، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير
والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان
والابتلاء.

{ وَ ْ} لأنه { تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ْ} فلا بد أن ييسر للنار
أهلا، يعملون بأعمالها الموصلة إليها.


{ 120 - 123 ْ} {
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ
فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى
مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ *
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ
كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ ْ}

لما ذكر في هذه السورة من أخبار الأنبياء، ما ذكر،
ذكر الحكمة في ذكر ذلك، فقال: { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ْ} أي: قلبك ليطمئن ويثبت ويصبر
كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن النفوس تأنس بالاقتداء، وتنشط على
الأعمال، وتريد المنافسة لغيرها, ويتأيد الحق بذكر شواهده، وكثرة من قام
به.

{ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ ْ} السورة { الْحَقُّ ْ} اليقين، فلا شك
فيه بوجه من الوجوه، فالعلم بذلك من العلم بالحق الذي هو أكبر فضائل
النفوس.

{ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ْ} أي: يتعظون
به، فيرتدعون عن الأمور المكروهة، ويتذكرون الأمور المحبوبة لله فيفعلونها.

وأما
من ليس من أهل الإيمان، فلا تنفعهم المواعظ، وأنواع التذكير، ولهذا قال: {
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ْ} بعد ما قامت عليهم الآيات، {
اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ْ} أي: حالتكم التي أنتم عليها { إِنَّا
عَامِلُونَ ْ} على ما كنا عليه.

{ وَانْتَظِرُوا ْ} ما يحل بنا {
إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ْ} ما يحل بكم.

وقد فصل الله بين الفريقين،
وأرى عباده، نصره لعباده المؤمنين, وقمعه لأعداء الله المكذبين.

{
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ْ} أي: ما غاب فيهما من
الخفايا، والأمور الغيبية.

{ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ
ْ} من الأعمال والعمال، فيميز الخبيث من الطيب { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ
عَلَيْهِ ْ} أي: قم بعبادته، وهي جميع ما أمر الله به مما تقدر عليه، وتوكل
على الله في ذلك.

{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ْ}
من الخير والشر، بل قد أحاط علمه بذلك، وجرى به قلمه، وسيجري عليه حكمه،
وجزاؤه.

تم تفسير سورة هود، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على
محمد وسلم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:56 pm

تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة
والسلام

وهي مكية


{ 1 - 3 ْ} { بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ
نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا
الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ْ}

يخبر
تعالى أن آيات القرآن هي { آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ْ} أي: البين
الواضحة ألفاظه ومعانيه.

ومن بيانه وإيضاحه: أنه أنزله باللسان
العربي، أشرف الألسنة، وأبينها، [المبين لكل ما يحتاجه الناس من الحقائق
النافعة ] وكل هذا الإيضاح والتبيين { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ْ} أي:
لتعقلوا حدوده وأصوله وفروعه، وأوامره ونواهيه.

فإذا عقلتم ذلك
بإيقانكم واتصفت قلوبكم بمعرفتها، أثمر ذلك عمل الجوارح والانقياد إليه، و {
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ْ} أي: تزداد عقولكم بتكرر المعاني الشريفة
العالية، على أذهانكم،. فتنتقلون من حال إلى أحوال أعلى منها وأكمل.

{
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ْ} وذلك لصدقها وسلاسة
عبارتها ورونق معانيها، { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ْ}
أي: بما اشتمل عليه هذا القرآن الذي أوحيناه إليك، وفضلناك به على سائر
الأنبياء، وذاك محض منَّة من الله وإحسان.

{ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ
قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ْ} أي: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان
قبل أن يوحي الله إليك، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.

ولما
مدح ما اشتمل عليه هذا القرآن من القصص، وأنها أحسن القصص على الإطلاق،
فلا يوجد من القصص في شيء من الكتب مثل هذا القرآن، ذكر قصه يوسف، وأبيه
وإخوته، القصة العجيبة الحسنة فقال:


{ 4 - 6 ْ} { إِذْ قَالَ
يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ* قَالَ يَا بُنَيَّ
لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ
الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ
رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ
قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

واعلم
أن الله ذكر أنه يقص على رسوله أحسن القصص في هذا الكتاب، ثم ذكر هذه
القصة وبسطها، وذكر ما جرى فيها، فعلم بذلك أنها قصة تامة كاملة حسنة، فمن
أراد أن يكملها أو يحسنها بما يذكر في الإسرائيليات التي لا يعرف لها سند
ولا ناقل وأغلبها كذب، فهو مستدرك على الله، ومكمل لشيء يزعم أنه ناقص،
وحسبك بأمر ينتهي إلى هذا الحد قبحا، فإن تضاعيف هذه السورة قد ملئت في
كثير من التفاسير، من الأكاذيب والأمور الشنيعة المناقضة لما قصه الله
تعالى بشيء كثير.

فعلى العبد أن يفهم عن الله ما قصه، ويدع ما سوى
ذلك مما ليس عن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 ينقل.

فقوله تعالى: { إِذْ قَالَ
يُوسُفُ لِأَبِيهِ ْ} يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم الصلاة
والسلام: { يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ْ} فكانت هذه الرؤيا
مقدمة لما وصل إليه يوسف عليه السلام من الارتفاع في الدنيا والآخرة.

وهكذا
إذا أراد الله أمرا من الأمور العظام قدم بين يديه مقدمة، توطئة له،
وتسهيلا لأمره، واستعدادا لما يرد على العبد من المشاق، لطفا بعبده،
وإحسانا إليه، فأوَّلها يعقوب بأن الشمس: أمه، والقمر: أبوه، والكواكب:
إخوته، وأنه ستنتقل به الأحوال إلى أن يصير إلى حال يخضعون له، ويسجدون له
إكراما وإعظاما، وأن ذلك لا يكون إلا بأسباب تتقدمه من اجتباء الله له،
واصطفائه له، وإتمام نعمته عليه بالعلم والعمل، والتمكين في الأرض.

وأن
هذه النعمة ستشمل آل يعقوب، الذين سجدوا له وصاروا تبعا له فيها، ولهذا
قال:

{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ْ} أي: يصطفيك ويختارك بما
يمنُّ به عليك من الأوصاف الجليلة والمناقب الجميلة،. { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ
تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ْ} أي: من تعبير الرؤيا، وبيان ما تئول إليه
الأحاديث الصادقة، كالكتب السماوية ونحوها، { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ ْ} في الدنيا والآخرة، بأن يؤتيك في الدنيا حسنة، وفي الآخرة
حسنة، { كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ ْ} حيث أنعم الله عليهما، بنعم عظيمة واسعة، دينية، ودنيوية.

{
إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ} أي: علمه محيط بالأشياء، وبما احتوت
عليه ضمائر العباد من البر وغيره، فيعطي كلا ما تقتضيه حكمته وحمده، فإنه
حكيم يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها.

ولما بان تعبيرها
ليوسف، قال له أبوه: { يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى
إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ْ} أي: حسدا من عند أنفسهم، أن تكون
أنت الرئيس الشريف عليهم.

{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ
عَدُوٌّ مُبِينٌ ْ} لا يفتر عنه ليلا ولا نهارا، ولا سرا ولا جهارا، فالبعد
عن الأسباب التي يتسلط بها على العبد أولى، فامتثل يوسف أمر أبيه، ولم
يخبر إخوته بذلك، بل كتمها عنهم.



{ 7 - 9 } { لَقَدْ كَانَ
فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ
وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا
لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا
يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا
صَالِحِينَ }

يقول تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ
آيَاتٌ ْ} أي: عبر وأدلة على كثير من المطالب الحسنة، { لِلسَّائِلِينَ ْ}
أي: لكل من سأل عنها بلسان الحال أو بلسان المقال، فإن السائلين هم الذين
ينتفعون بالآيات والعبر، وأما المعرضون فلا ينتفعون بالآيات، ولا في القصص
والبينات.

{ إِذْ قَالُوا ْ} فيما بينهم: { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ ْ}
بنيامين، أي: شقيقه، وإلا فكلهم إخوة. { أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا
وَنَحْنُ عُصْبَةٌْ} أي: جماعة، فكيف يفضلهما علينا بالمحبة والشفقة، {
إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ْ} أي: لفي خطأ بيِّن، حيث فضلهما
علينا من غير موجب نراه، ولا أمر نشاهده.

{ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ
اطْرَحُوهُ أَرْضًا ْ} أي: غيبوه عن أبيه في أرض بعيدة لا يتمكن من رؤيته
فيها.

فإنكم إذا فعلتم أحد هذين الأمرين { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ
أَبِيكُمْ ْ} أي: يتفرغ لكم، ويقبل عليكم بالشفقة والمحبة، فإنه قد اشتغل
قلبه بيوسف شغلا لا يتفرغ لكم، { وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ ْ} أي: من بعد
هذا الصنيع { قَوْمًا صَالِحِينَ ْ} أي: تتوبون إلى الله، وتستغفرون من بعد
ذنبكم.

فقدموا العزم على التوبة قبل صدور الذنب منهم تسهيلا لفعله،
وإزالة لشناعته، وتنشيطا من بعضهم لبعض.


{ 10 } { قَالَ
قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ
الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ }

أي:
{ قَالَ قَائِلٌ ْ} من إخوة يوسف الذين أرادوا قتله أو تبعيده: { لَا
تَقْتُلُوا يُوسُفَ ْ} فإن قتله أعظم إثما وأشنع، والمقصود يحصل بتبعيده عن
أبيه من غير قتل، ولكن توصلوا إلى تبعيده بأن تلقوه { فِي غَيَابَةِ
الْجُبِّ ْ} وتتوعدوه على أنه لا يخبر بشأنكم، بل على أنه عبد مملوك آبق
منكم، لأجل أن { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ْ} الذين يريدون مكانا
بعيدا، فيحتفظون فيه.

وهذا القائل أحسنهم رأيا في يوسف، وأبرهم
وأتقاهم في هذه القضية، فإن بعض الشر أهون من بعض، والضرر الخفيف يدفع به
الضرر الثقيل، .فلما اتفقوا على هذا الرأي.


{ 11 - 14 } {
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ
لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ
وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ *
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا
لَخَاسِرُونَ }

أي: قال إخوة يوسف، متوصلين إلى مقصدهم لأبيهم: {
يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ
لَنَاصِحُونَ ْ} أي: لأي شيء يدخلك الخوف منا على يوسف، من غير سبب ولا
موجب؟ { وَ ْ} الحال { إِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ْ} أي: مشفقون عليه، نود
له ما نود لأنفسنا، وهذا يدل على أن يعقوب عليه السلام لا يترك يوسف يذهب
مع إخوته للبرية ونحوها.

فلما نفوا عن أنفسهم التهمة المانعة من عدم
إرساله معهم، ذكروا له من مصلحة يوسف وأنسه الذي يحبه أبوه له، ما يقتضي
أن يسمح بإرساله معهم، فقالوا:

{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ
وَيَلْعَبْ ْ} أي: يتنزه في البرية ويستأنس. { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
ْ} أي: سنراعيه، ونحفظه من أذى يريده.

فأجابهم بقوله: { إِنِّي
لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ْ} أي: مجرد ذهابكم به يحزنني ويشق
علي، لأنني لا أقدر على فراقه، ولو مدة يسيرة، فهذا مانع من إرساله { وَ ْ}
مانع ثان، وهو أني { أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ
غَافِلُونَ ْ} أي: في حال غفلتكم عنه، لأنه صغير لا يمتنع من الذئب.

{
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ْ} أي: جماعة،
حريصون على حفظه، { إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ْ} أي: لا خير فينا ولا نفع
يرجى منا إن أكله الذئب وغلبنا عليه.

فلما مهدوا لأبيهم الأسباب
الداعية لإرساله، وعدم الموانع، سمح حينئذ بإرساله معهم لأجل أنسه.

{
15 - 18 } { فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي
غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ
بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً
يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا
يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ
لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }

أي: لما ذهب إخوة
يوسف بيوسف بعد ما أذن له أبوه، وعزموا على أن يجعلوه في غيابة الجب، كما
قال قائلهم السابق ذكره، وكانوا قادرين على ما أجمعوا عليه، فنفذوا فيه
قدرتهم، وألقوه في الجب، ثم إن الله لطف به بأن أوحى إليه وهو في تلك الحال
الحرجة، { لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }
أي: سيكون منك معاتبة لهم، وإخبار عن أمرهم هذا، وهم لا يشعرون بذلك
الأمر، ففيه بشارة له، بأنه سينجو مما وقع فيه، وأن الله سيجمعه بأهله
وإخوته على وجه العز والتمكين له في الأرض.

{ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ
عِشَاءً يَبْكُونَ } ليكون إتيانهم متأخرا عن عادتهم، وبكاؤهم دليلا لهم،
وقرينة على صدقهم.

فقالوا - متعذرين بعذر كاذب - { يَا أَبَانَا
إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } إما على الأقدام، أو بالرمي والنضال، {
وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا } توفيرا له وراحة. { فَأَكَلَهُ
الذِّئْبُ } في حال غيبتنا عنه في استباقنا { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ
لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } أي: تعذرنا بهذا العذر، والظاهر أنك لا
تصدقنا لما في قلبك من الحزن على يوسف، والرقة الشديدة عليه.

ولكن
عدم تصديقك إيانا، لا يمنعنا أن نعتذر بالعذر الحقيقي، وكل هذا، تأكيد
لعذرهم. { وَ } مما أكدوا به قولهم، أنهم { جَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ
كَذِبٍ } زعموا أنه دم يوسف حين أكله الذئب، فلم يصدقهم أبوهم بذلك، و {
قَالَ } { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا } أي: زينت لكم
أنفسكم أمرا قبيحا في التفريق بيني وبينه، لأنه رأى من القرائن والأحوال [
ومن رؤيا يوسف التي قصَّها عليه ] ما دلّه على ما قال.

{ فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } أي: أما أنا
فوظيفتي سأحرص على القيام بها، وهي أني أصبر على هذه المحنة صبرا جميلا
سالما من السخط والتَّشكِّي إلى الخلق، وأستعين الله على ذلك، لا على حولي
وقوتي، فوعد من نفسه هذا الأمر وشكى إلى خالقه في قوله: { إِنَّمَا أَشْكُو
بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } لأن الشكوى إلى الخالق لا تنافي الصبر
الجميل، لأن النبي إذا وعد وفى.


{ 19 - 20 } { وَجَاءَتْ
سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى
هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا
فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ }

أي: مكث يوسف في الجب ما مكث، حتى {
جَاءَتْ سَيَّارَةٌ } أي: قافلة تريد مصر، { فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ }
أي: فرطهم ومقدمهم، الذي يعس لهم المياه، ويسبرها ويستعد لهم بتهيئة الحياض
ونحو ذلك، { فَأَدْلَى } ذلك الوارد { دَلْوَهُ } فتعلق فيه يوسف عليه
السلام وخرج. { قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ } أي: استبشر وقال: هذا
غلام نفيس، { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } وكان إخوته قريبا منه، فاشتراه
السيارة منهم، { بِثَمَنٍ بَخْسٍ } أي: قليل جدا، فسره بقوله: { دَرَاهِمَ
مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ }

لأنه لم يكن لهم
قصد إلا تغييبه وإبعاده عن أبيه، ولم يكن لهم قصد في أخذ ثمنه، والمعنى في
هذا: أن السيارة لما وجدوه، عزموا أن يُسِرُّوا أمره، ويجعلوه من جملة
بضائعهم التي معهم، حتى جاءهم إخوته فزعموا أنه عبد أبق منهم، فاشتروه منهم
بذلك الثمن، واستوثقوا منهم فيه لئلا يهرب، والله أعلم.


{ 21 }
{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي
مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ
مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ
الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }

أي: لما ذهب به السيارة إلى مصر وباعوه
بها، فاشتراه عزيز مصر، فلما اشتراه، أعجب به، ووصى عليه امرأته وقال: {
أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا }
أي: إما أن ينفعنا كنفع العبيد بأنواع الخدم، وإما أن نستمتع فيه استمتاعنا
بأولادنا، ولعل ذلك أنه لم يكن لهما ولد، { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ } أي: كما يسرنا له أن يشتريه عزيز مصر، ويكرمه
هذا الإكرام، جعلنا هذا مقدمة لتمكينه في الأرض من هذا الطريق.

{
وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } إذا بقي لا شغل له ولا
همَّ له سوى العلم صار ذلك من أسباب تعلمه علما كثيرا، من علم الأحكام،
وعلم التعبير، وغير ذلك. { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ } أي: أمره
تعالى نافذ، لا يبطله مبطل، ولا يغلبه مغالب، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } فلذلك يجري منهم ويصدر ما يصدر، في مغالبة
أحكام الله القدرية، وهم أعجز وأضعف من ذلك.


{ 22 } { وَلَمَّا
بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ }

أي: { وَلَمَّا بَلَغَ } يوسف { أَشُدَّهُ } أي:
كمال قوته المعنوية والحسية، وصلح لأن يتحمل الأحمال الثقيلة، من النبوة
والرسالة. { آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } أي: جعلناه نبيا رسولا، وعالما
ربانيا، { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } في عبادة الخالق ببذل
الجهد والنصح فيها، وإلى عباد الله ببذل النفع والإحسان إليهم، نؤتيهم من
جملة الجزاء على إحسانهم علما نافعا.

ودل هذا، على أن يوسف وفَّى
مقام الإحسان، فأعطاه الله الحكم بين الناس والعلم الكثير والنبوة.

{
23 - 29 } { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ
وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ
إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ *
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ
كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ
مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ
مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
* قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا
إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ
وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ
قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ
أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ
الْخَاطِئِينَ }

هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف من محنة إخوته،
وصبره عليها أعظم أجرا، لأنه صبر اختيار مع وجود الدواعي الكثيرة، لوقوع
الفعل، فقدم محبة الله عليها، وأما محنته بإخوته، فصبره صبر اضطرار، بمنزلة
الأمراض والمكاره التي تصيب العبد بغير اختياره وليس له ملجأ إلا الصبر
عليها، طائعا أو كارها، وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام بقي مكرما في بيت
العزيز، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك، أن { رَاوَدَتْهُ
الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ } أي: هو غلامها، وتحت تدبيرها،
والمسكن واحد، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير إشعار أحد، ولا إحساس
بشر.

{ وَ } زادت المصيبة، بأن { غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ } وصار
المحل خاليا، وهما آمنان من دخول أحد عليهما، بسبب تغليق الأبواب، وقد دعته
إلى نفسها { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } أي: افعل الأمر المكروه وأقبل إليَّ،
ومع هذا فهو غريب، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه،
وهو أسير تحت يدها، وهي سيدته، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك، وهو
شاب عزب، وقد توعدته، إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن، أو العذاب الأليم.

فصبر
عن معصية الله، مع وجود الداعي القوي فيه، لأنه قد هم فيها هما تركه لله،
وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء، ورأى من برهان ربه - وهو ما
معه من العلم والإيمان، الموجب لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد
والانكفاف، عن هذه المعصية الكبيرة، و { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ } أي: أعوذ
بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح، لأنه مما يسخط الله ويبعد منه، ولأنه
خيانة في حق سيدي الذي أكرم مثواي.

فلا يليق بي أن أقابله في أهله
بأقبح مقابلة، وهذا من أعظم الظلم، والظالم لا يفلح، والحاصل أنه جعل
الموانع له من هذا الفعل تقوى الله، ومراعاة حق سيده الذي أكرمه، وصيانة
نفسه عن الظلم الذي لا يفلح من تعاطاه، وكذلك ما منَّ الله عليه من برهان
الإيمان الذي في قلبه، يقتضي منه امتثال الأوامر، واجتناب الزواجر، والجامع
لذلك كله أن الله صرف عنه السوء والفحشاء، لأنه من عباده المخلصين له في
عباداتهم، الذين أخلصهم الله واختارهم، واختصهم لنفسه، وأسدى عليهم من
النعم، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه.

ولما امتنع
من إجابة طلبها بعد المراودة الشديدة، ذهب ليهرب عنها ويبادر إلى الخروج من
الباب ليتخلص، ويهرب من الفتنة، فبادرت إليه، وتعلقت بثوبه، فشقت قميصه،
فلما وصلا إلى الباب في تلك الحال، ألفيا سيدها، أي: زوجها لدى الباب، فرأى
أمرا شق عليه، فبادرت إلى الكذب، أن المراودة قد كانت من يوسف، وقالت: {
مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا } ولم تقل "من فعل بأهلك سوءا"
تبرئة لها وتبرئة له أيضا من الفعل.

وإنما النزاع عند الإرادة
والمراودة { إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: أو يعذب
عذابا أليما.

فبرأ نفسه مما رمته به، وقال: { هِيَ رَاوَدَتْنِي
عَنْ نَفْسِي } فحينئذ احتملت الحال صدق كل واحد منهما ولم يعلم أيهما.

ولكن
الله تعالى جعل للحق والصدق علامات وأمارات تدل عليه، قد يعلمها العباد
وقد لا يعلمونها، فمنَّ الله في هذه القضية بمعرفة الصادق منهما، تبرئة
لنبيه وصفيه يوسف عليه السلام، فانبعث شاهد من أهل بيتها، يشهد بقرينة من
وجدت معه، فهو الصادق، فقال: { إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ
فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } لأن ذلك يدل على أنه هو المقبل
عليها، المراود لها المعالج، وأنها أرادت أن تدفعه عنها، فشقت قميصه من هذا
الجانب.

{ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ
وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ } لأن ذلك يدل على هروبه منها، وأنها هي التي
طلبته فشقت قميصه من هذا الجانب.

{ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ
مِنْ دُبُرٍ } عرف بذلك صدق يوسف وبراءته، وأنها هي الكاذبة.

فقال
لها سيدها: { إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } وهل
أعظم من هذا الكيد، الذي برأت به نفسها مما أرادت وفعلت، ورمت به نبي الله
يوسف عليه السلام، ثم إن سيدها لما تحقق الأمر، قال ليوسف: { يُوسُفُ
أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } أي: اترك الكلام فيه وتناسه ولا تذكره لأحد، طلبا
للستر على أهله، { وَاسْتَغْفِرِي } أيتها المرأة { لِذَنْبِكِ إِنَّكِ
كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } فأمر يوسف بالإعراض، وهي بالاستغفار والتوبة.

{
30 - 35 } { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ
تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا
فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ *فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ
إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ
أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا
بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي
لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ
وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ
الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا
يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ
فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ
بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى
حِينٍ }

يعني: أن الخبر اشتهر وشاع في البلد، وتحدث به النسوة فجعلن
يلمنها، ويقلن: { امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ
قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا } أي: هذا أمر مستقبح، هي امرأة كبيرة القدر، وزوجها
كبير القدر، ومع هذا لم تزل تراود فتاها الذي تحت يدها وفي خدمتها عن
نفسه،.ومع هذا فإن حبه قد بلغ من قلبها مبلغا عظيما.

{ قَدْ
شَغَفَهَا حُبًّا } أي: وصل حبه إلى شغاف قلبها، وهو باطنه وسويداؤه، وهذا
أعظم ما يكون من الحب، { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } حيث وجدت
منها هذه الحالة التي لا تنبغي منها، وهي حالة تحط قدرها وتضعه عند الناس،
وكان هذا القول منهن مكرا، ليس المقصود به مجرد اللوم لها والقدح فيها،
وإنما أردن أن يتوصلن بهذا الكلام إلى رؤية يوسف الذي فتنت به امرأة العزيز
لتحنق امرأة العزيز، وتريهن إياه ليعذرنها، ولهذا سماه مكرا، فقال: {
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } تدعوهن إلى
منزلها للضيافة.

{ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً } أي: محلا مهيأ
بأنواع الفرش والوسائد، وما يقصد بذلك من المآكل اللذيذة، وكان في جملة ما
أتت به وأحضرته في تلك الضيافة، طعام يحتاج إلى سكين، إما أترج، أو غيره، {
وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا } ليقطعن فيها ذلك الطعام {
وَقَالَتِ } ليوسف: { اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } في حالة جماله وبهائه.

{
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } أي: أعظمنه في صدورهن، ورأين منظرا
فائقا لم يشاهدن مثله، { وَقَطَّعْنَ } من الدهش { أَيْدِيَهُنَّ } بتلك
السكاكين اللاتي معهن، { وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ } أي: تنزيها لله { مَا
هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } وذلك أن يوسف أعطي من
الجمال الفائق والنور والبهاء، ما كان به آية للناظرين، وعبرة للمتأملين.

فلما
تقرر عندهن جمال يوسف الظاهر، وأعجبهن غاية، وظهر منهن من العذر لامرأة
العزيز، شيء كثير - أرادت أن تريهن جماله الباطن بالعفة التامة فقالت معلنة
لذلك ومبينة لحبه الشديد غير مبالية، ولأن اللوم انقطع عنها من النسوة: {
وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } أي: امتنع وهي مقيمة
على مراودته، لم تزدها مرور الأوقات إلا قلقا ومحبة وشوقا لوصاله وتوقا.

ولهذا
قالت له بحضرتهن: { وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ
وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } لتلجئه بهذا الوعيد إلى حصول مقصودها
منه، فعند ذلك اعتصم يوسف بربه، واستعان به على كيدهن و { قَالَ رَبِّ
السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } وهذا يدل على أن
النسوة، جعلن يشرن على يوسف في مطاوعة سيدته، وجعلن يكدنه في ذلك.

فاستحب
السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة توجب العذاب الشديد، { وَإِلَّا
تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أي: أمل إليهن، فإني
ضعيف عاجز، إن لم تدفع عني السوء، { وَأَكُنْ } إن صبوت إليهن { مِنَ
الْجَاهِلِينَ } فإن هذا جهل، لأنه آثر لذة قليلة منغصة، على لذات متتابعات
وشهوات متنوعات في جنات النعيم، ومن آثر هذا على هذا، فمن أجهل منه؟" فإن
العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللذتين، ويؤثر ما كان
محمود العاقبة.

{ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ } حين دعاه { فَصَرَفَ
عَنْهُ كَيْدَهُنَّ } فلم تزل تراوده وتستعين عليه بما تقدر عليه من
الوسائل، حتى أيسها، وصرف الله عنه كيدها، { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ }
لدعاء الداعي { الْعَلِيمُ } بنيته الصالحة، وبنيته الضعيفة المقتضية
لإمداده بمعونته ولطفه.

فهذا ما نجى الله به يوسف من هذه الفتنة
الملمة والمحنة الشديدة،.وأما أسياده فإنه لما اشتهر الخبر وبان، وصار
الناس فيها بين عاذر ولائم وقادح.

{ بَدَا لَهُمْ } أي: ظهر لهم {
مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ } الدالة على براءته، { لَيَسْجُنُنَّهُ
حَتَّى حِينٍ } أي: لينقطع بذلك الخبر ويتناساه الناس، فإن الشيء إذا شاع
لم يزل يذكر ويشاع مع وجود أسبابه، فإذا عدمت أسبابه نسي، فرأوا أن هذا
مصلحة لهم، فأدخلوه في السجن.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 6:56 pm

-
40 } { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي
أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ
فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا
بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لَا
يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ
قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي
تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ
هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ
مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ
وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }

أي: { و }
لما دخل يوسف السجن، كان في جملة من { دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ }
أي: شابان، فرأى كل واحد منهما رؤيا، فقصها على يوسف ليعبرها، .فـ { قَالَ
أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي
أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا } وذلك الخبز { تَأْكُلُ
الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } أي: بتفسيره، وما يؤول إليه
أمرهما، وقولهما: { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } أي: من أهل
الإحسان إلى الخلق، فأحسن إلينا في تعبيرك لرؤيانا، كما أحسنت إلى غيرنا،
فتوسلا ليوسف بإحسانه.

فـ { قَالَ } لهما مجيبا لطلبتهما: { لَا
يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ
قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } أي: فلتطمئن قلوبكما، فإني سأبادر إلى تعبير
رؤياكما، فلا يأتيكما غداؤكما، أو عشاؤكما، أول ما يجيء إليكما، إلا
نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما.

ولعل يوسف عليه الصلاة والسلام قصد
أن يدعوهما إلى الإيمان في هذه الحال التي بدت حاجتهما إليه، ليكون أنجع
لدعوته، وأقبل لهما.

ثم قال: { ذَلِكُمَا } التعبير الذي سأعبره
لكما { مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي } أي: هذا من علم الله علمنيه وأحسن إليَّ
به، وذلك { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } والترك كما يكون للداخل في شيء ثم
ينتقل عنه، يكون لمن لم يدخل فيه أصلًا.

فلا يقال: إن يوسف كان من
قبل، على غير ملة إبراهيم.

{ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ثم فسر تلك الملة بقوله: { مَا
كَانَ لَنَا } أي: ما ينبغي ولا يليق بنا { أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ
شَيْءٍ } بل نفرد الله بالتوحيد، ونخلص له الدين والعبادة.

{ ذَلِكَ
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ } أي: هذا من أفضل مننه
وإحسانه وفضله علينا، وعلى من هداه الله كما هدانا، فإنه لا أفضل من منة
الله على العباد بالإسلام والدين القويم، فمن قبله وانقاد له فهو حظه، وقد
حصل له أكبر النعم وأجل الفضائل.

{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَشْكُرُونَ } فلذلك تأتيهم المنة والإحسان، فلا يقبلونها ولا يقومون لله
بحقه، وفي هذا من الترغيب للطريق التي هو عليها ما لا يخفى، فإن الفتيين
لما تقرر عنده أنهما رأياه بعين التعظيم والإجلال -وأنه محسن معلم- ذكر
لهما أن هذه الحالة التي أنا عليها، كلها من فضل الله وإحسانه، حيث منَّ
عليَّ بترك الشرك وباتباع ملة آبائه، فبهذا وصلت إلى ما رأيتما، فينبغي
لكما أن تسلكا ما سلكت.

ثم صرح لهما بالدعوة، فقال: { يَا صَاحِبَيِ
السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ } أي: أرباب عاجزة ضعيفة لا تنفع ولا تضر، ولا تعطي ولا تمنع،
وهي متفرقة ما بين أشجار وأحجار وملائكة وأموات، وغير ذلك من أنواع
المعبودات التي يتخذها المشركون، أتلك { خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ } الذي له
صفات الكمال، { الْوَاحِدُ } في ذاته وصفاته وأفعاله فلا شريك له في شيء من
ذلك.

{ الْقَهَّارُ } الذي انقادت الأشياء لقهره وسلطانه، فما شاء
كان وما لم يشأ لم يكن { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها } ومن المعلوم أن
من هذا شأنه ووصفه خير من الآلهة المتفرقة التي هي مجرد أسماء، لا كمال لها
ولا أفعال لديها. ولهذا قال: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا
أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ }

أي: كسوتموها
أسماء، سميتموها آلهة، وهي لا شيء، ولا فيها من صفات الألوهية شيء، { مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } بل أنزل الله السلطان بالنهي عن
عبادتها وبيان بطلانها، وإذا لم ينزل الله بها سلطانا، لم يكن طريق ولا
وسيلة ولا دليل لها.

لأن الحكم لله وحده، فهو الذي يأمر وينهى،
ويشرع الشرائع، ويسن الأحكام، وهو الذي أمركم { أن لا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي: المستقيم الموصل إلى كل خير،
وما سواه من الأديان، فإنها غير مستقيمة، بل معوجة توصل إلى كل شر.

{
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } حقائق الأشياء، وإلا فإن
الفرق بين عبادة الله وحده لا شريك له، وبين الشرك به، أظهر الأشياء
وأبينها.

ولكن لعدم العلم من أكثر الناس بذلك، حصل منهم ما حصل من
الشرك،.فيوسف عليه السلام دعا صاحبي السجن لعبادة الله وحده، وإخلاص الدين
له، فيحتمل أنهما استجابا وانقادا، فتمت عليهما النعمة، ويحتمل أنهما لم
يزالا على شركهما، فقامت عليهما -بذلك- الحجة، ثم إنه عليه السلام شرع يعبر
رؤياهما، بعد ما وعدهما ذلك، فقال:

{ 41 } { يَا صَاحِبَيِ
السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا } وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا، فإنه يخرج من
السجن { فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } أي: يسقي سيده الذي كان يخدمه خمرا،
وذلك مستلزم لخروجه من السجن، { وَأَمَّا الْآخَرُ } وهو: الذي رأى أنه
يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه.

{ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ
الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ } فإنه عبر [عن] الخبز الذي تأكله الطير، بلحم
رأسه وشحمه، وما فيه من المخ، وأنه لا يقبر ويستر عن الطيور، بل يصلب ويجعل
في محل، تتمكن الطيور من أكله، ثم أخبرهما بأن هذا التأويل الذي تأوله
لهما، أنه لا بد من وقوعه فقال: { قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ
تَسْتَفْتِيَانِ } أي: تسألان عن تعبيره وتفسيره.

{ 42 } { وَقَالَ
لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ
فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ
سِنِينَ }

أي: { وَقَالَ } يوسف عليه السلام: { لِلَّذِي ظَنَّ
أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا } وهو: الذي رأى أنه يعصر خمرا: { اذْكُرْنِي
عِنْدَ رَبِّكَ } أي: اذكر له شأني وقصتي، لعله يرقُّ لي، فيخرجني مما أنا
فيه، { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } أي: فأنسى الشيطان ذلك
الناجي ذكر الله تعالى، وذكر ما يقرب إليه، ومن جملة ذلك نسيانه ذكر يوسف
الذي يستحق أن يجازى بأتم الإحسان، وذلك ليتم الله أمره وقضاءه.

{
فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } والبضع من الثلاث إلى التسع،
ولهذا قيل: إنه لبث سبع سنين، ولما أراد الله أن يتم أمره، ويأذن بإخراج
يوسف من السجن، قدر لذلك سببا لإخراج يوسف وارتفاع شأنه وإعلاء قدره، وهو
رؤيا الملك.

{ 43 - 49 } { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ
بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ
خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي
رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ
أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ
الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ
بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا
فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ
سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا
حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ *
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا
قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }

لما
أراد الله تعالى أن يخرج يوسف من السجن، أرى الله الملك هذه الرؤيا
العجيبة، الذي تأويلها يتناول جميع الأمة، ليكون تأويلها على يد يوسف،
فيظهر من فضله، ويبين من علمه ما يكون له رفعة في الدارين، ومن التقادير
المناسبة أن الملك الذي ترجع إليه أمور الرعية هو الذي رآها، لارتباط
مصالحها به.

وذلك أنه رأى رؤيا هالته، فجمع لها علماء قومه وذوي
الرأي منهم وقال: { إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ
سَبْعٌ } أي: سبع من البقرات { عِجَافٌ } وهذا من العجب، أن السبع العجاف
الهزيلات اللاتي سقطت قوتهن، يأكلن السبع السمان التي كنَّ نهاية في القوة.

{
وَ } رأيت { سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ } يأكلهن سبع سنبلات { يَابِسَاتٍ }
{ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ } لأن تعبير الجميع
واحد، وتأويله شيء واحد. { إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }
فتحيروا، ولم يعرفوا لها وجها.

و { قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ }
أي أحلام لا حاصل لها، ولا لها تأويل.

وهذا جزم منهم بما لا يعلمون،
وتعذر منهم، [بما ليس بعذر] ثم قالوا: { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ
الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ } أي: لا نعبر إلا الرؤيا، وأما الأحلام التي هي
من الشيطان، أو من حديث النفس، فإنا لا نعبرها.

فجمعوا بين الجهل
والجزم، بأنها أضغات أحلام، والإعجاب بالنفس، بحيث إنهم لم يقولوا: لا نعلم
تأويلها، وهذا من الأمور التي لا تنبغي لأهل الدين والحجا، وهذا أيضا من
لطف الله بيوسف عليه السلام. فإنه لو عبرها ابتداء - قبل أن يعرضها على
الملأ من قومه وعلمائهم، فيعجزوا عنها -لم يكن لها ذلك الموقع، ولكن لما
عرضها عليهم فعجزوا عن الجواب، وكان الملك مهتما لها غاية، فعبرها يوسف-
وقعت عندهم موقعا عظيما، وهذا نظير إظهار الله فضل آدم على الملائكة
بالعلم، بعد أن سألهم فلم يعلموا. ثم سأل آدم، فعلمهم أسماء كل شيء، فحصل
بذلك زيادة فضله، وكما يظهر فضل أفضل خلقه محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 في القيامة، أن يلهم الله الخلق أن يتشفعوا
بآدم، ثم بنوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم السلام، فيعتذرون
عنها، ثم يأتون محمدا تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 0099999 فيقول: "أنا لها أنا لها" فيشفع في جميع
الخلق، وينال ذلك المقام المحمود، الذي يغبطه به الأولون والآخرون.

فسبحان
من خفيت ألطافه، ودقَّت في إيصاله البر والإحسان، إلى خواص أصفيائه
وأوليائه.

{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا } أي: من الفتيين،
وهو: الذي رأى أنه يعصر خمرا، وهو الذي أوصاه يوسف أن يذكره عند ربه {
وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } أي: وتذكر يوسف، وما جرى له في تعبيره
لرؤياهما، وما وصاه به، وعلم أنه كفيل بتعبير هذه الرؤيا بعد مدة من السنين
فقال: { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } إلى يوسف
لأسأله عنها.

فأرسلوه، فجاء إليه، ولم يعنفه يوسف على نسيانه، بل
استمع ما يسأله عنه، وأجابه عن ذلك فقال: { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ }
أي: كثير الصدق في أقواله وأفعاله. { أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ
سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ
وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَعْلَمُونَ } فإنهم متشوقون لتعبيرها، وقد أهمتهم.

فعبر يوسف،
السبع البقرات السمان والسبع السنبلات الخضر، بأنهن سبع سنين مخصبات،
والسبع البقرات العجاف، والسبع السنبلات اليابسات، بأنهن سنين مجدبات، ولعل
وجه ذلك - والله أعلم - أن الخصب والجدب لما كان الحرث مبنيا عليه، وأنه
إذا حصل الخصب قويت الزروع والحروث، وحسن منظرها، وكثرت غلالها، والجدب
بالعكس من ذلك. وكانت البقر هي التي تحرث عليها الأرض، وتسقى عليها الحروث
في الغالب، والسنبلات هي أعظم الأقوات وأفضلها، عبرها بذلك، لوجود
المناسبة، فجمع لهم في تأويلها بين التعبير والإشارة لما يفعلونه، ويستعدون
به من التدبير في سني الخصب، إلى سني الجدب فقال: { تَزْرَعُونَ سَبْعَ
سِنِينَ دَأَبًا } أي: متتابعات.

{ فَمَا حَصَدْتُمْ } من تلك
الزروع { فَذَرُوهُ } أي: اتركوه { فِي سُنْبُلِهِ } لأنه أبقى له وأبعد من
الالتفات إليه { إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ } أي: دبروا أيضا
أكلكم في هذه السنين الخصبة، وليكن قليلا، ليكثر ما تدخرون ويعظم نفعه
ووقعه.

{ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي: بعد تلك السنين
السبع المخصبات. { سَبْعٌ شِدَادٌ } أي: مجدبات جدا { يَأْكُلْنَ مَا
قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ } أي: يأكلن جميع ما ادخرتموه ولو كان كثيرا. { إِلَّا
قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ } أي: تمنعونه من التقديم لهن.

{
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي: بعد السبع الشداد { عَامٌ فِيهِ
يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } أي: فيه تكثر الأمطار والسيول،
وتكثر الغلات، وتزيد على أقواتهم، حتى إنهم يعصرون العنب ونحوه زيادة على
أكلهم، ولعل استدلاله على وجود هذا العام الخصب، مع أنه غير مصرح به في
رؤيا الملك، لأنه فهم من التقدير بالسبع الشداد، أن العام الذي يليها يزول
به شدتها،.ومن المعلوم أنه لا يزول الجدب المستمر سبع سنين متواليات، إلا
بعام مخصب جدا، وإلا لما كان للتقدير فائدة، فلما رجع الرسول إلى الملك
والناس، وأخبرهم بتأويل يوسف للرؤيا، عجبوا من ذلك، وفرحوا بها أشد الفرح.



{
50 - 57 } { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ
الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ
اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ *
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ
حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ
الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ
وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا
أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا
رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي
بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ
الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ
الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي
الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ
نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ
خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }

يقول تعالى: {
وَقَالَ الْمَلِكُ } لمن عنده { ائْتُونِي بِهِ } أي: بيوسف عليه السلام،
بأن يخرجوه من السجن ويحضروه إليه، فلما جاء يوسف الرسول وأمره بالحضور عند
الملك، امتنع عن المبادرة إلى الخروج، حتى تتبين براءته التامة، وهذا من
صبره وعقله ورأيه التام.

فـ { قَالَ } للرسول: { ارْجِعْ إِلَى
رَبِّكَ } يعني به الملك. { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي
قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي: اسأله ما شأنهن وقصتهن، فإن أمرهن ظاهر متضح
{ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ }.

فأحضرهن الملك، وقال: {
مَا خَطْبُكُنَّ } أي: شأنكن { إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ }
فهل رأيتن منه ما يريب؟

فبرَّأنه و { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا
عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ } أي: لا قليل ولا كثير، فحينئذ زال السبب
الذي تنبني عليه التهمة، ولم يبق إلا ما عند امرأة العزيز، فـ { قَالَتِ
امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ } أي: تمحض وتبين، بعد ما
كنا ندخل معه من السوء والتهمة، ما أوجب له السجن { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ
نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } في أقواله وبراءته.

{
ذَلِكَ } الإقرار، الذي أقررت [أني راودت يوسف] { لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ
أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ }

يحتمل أن مرادها بذلك زوجها أي: ليعلم أني
حين أقررت أني راودت يوسف، أني لم أخنه بالغيب، أي: لم يجر منِّي إلا مجرد
المراودة، ولم أفسد عليه فراشه، ويحتمل أن المراد بذلك ليعلم يوسف حين
أقررت أني أنا الذي راودته، وأنه صادق أني لم أخنه في حال غيبته عني. {
وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } فإن كل خائن، لا بد أن
تعود خيانته ومكره على نفسه، ولا بد أن يتبين أمره.

ثم لما كان في
هذا الكلام نوع تزكية لنفسها، وأنه لم يجر منها ذنب في شأن يوسف، استدركت
فقالت: { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي } أي: من المراودة والهمِّ، والحرص
الشديد، والكيد في ذلك. { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } أي:
لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء، أي: الفاحشة، وسائرالذنوب، فإنها مركب
الشيطان، ومنها يدخل على الإنسان { إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } فنجاه من
نفسه الأمارة، حتى صارت نفسه مطمئنة إلى ربها، منقادة لداعي الهدى، متعاصية
عن داعي الردى، فذلك ليس من النفس، بل من فضل الله ورحمته بعبده.

{
إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: هو غفور لمن تجرأ على الذنوب
والمعاصي، إذا تاب وأناب، { رَحِيمٌ } بقبول توبته، وتوفيقه للأعمال
الصالحة،. وهذا هو الصواب أن هذا من قول امرأة العزيز، لا من قول يوسف، فإن
السياق في كلامها، ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر.

فلما تحقق الملك
والناس براءة يوسف التامة، أرسل إليه الملك وقال: { ائْتُونِي بِهِ
أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } أي: أجعله خصيصة لي ومقربا لديَّ فأتوه به
مكرما محترما، { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } أعجبه كلامه، وزاد موقعه عنده فقال
له: { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا } أي: عندنا { مَكِينٌ أَمِينٌ } أي:
متمكن، أمين على الأسرار، فـ { قَالَ } يوسف طلبا للمصلحة العامة: {
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ } أي: على خزائن جبايات الأرض
وغلالها، وكيلا حافظا مدبرا.

{ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } أي: حفيظ
للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابط للداخل والخارج، عليم
بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات، وليس ذلك
حرصا من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع العام، وقد عرف من
نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه.

فلذلك طلب
من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، فجعله الملك على خزائن الأرض وولاه
إياها.

قال تعالى: { وَكَذَلِكَ } أي: بهذه الأسباب والمقدمات
المذكورة، { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ
يَشَاءُ } في عيش رغد، ونعمة واسعة، وجاه عريض، { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا
مَنْ نَشَاءُ } أي: هذا من رحمة الله بيوسف التي أصابه بها وقدرها له،
وليست مقصورة على نعمة الدنيا.

{ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ } ويوسف عليه السلام من سادات المحسنين، فله في الدنيا حسنة
وفي الآخرة حسنة، ولهذا قال: { وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ } من أجر
الدنيا { لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } أي: لمن جمع بين
التقوى والإيمان، فبالتقوى تترك الأمور المحرمة من كبائر الذنوب وصغائرها،
وبالإيمان التام يحصل تصديق القلب، بما أمر الله بالتصديق به، وتتبعه أعمال
القلوب وأعمال الجوارح، من الواجبات والمستحبات.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 7:01 pm

{
58 - 68 } { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ
وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ
ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي
الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ
فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ
عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا
بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا
انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجَعُوا
إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ
مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ
آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا
فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا
يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ
أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ
يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ
اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ
مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا
بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ
مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ
الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ
مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي
نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }

أي: لما تولى يوسف
عليه السلام خزائن الأرض، دبرها أحسن تدبير، فزرع في أرض مصر جميعها في
السنين الخصبة، زروعا هائلة، واتخذ لها المحلات الكبار، وجبا من الأطعمة
شيئا كثيرا وحفظه، وضبطه ضبطا تاما، فلما دخلت السنون المجدبة، وسرى الجدب،
حتى وصل إلى فلسطين، التي يقيم فيها يعقوب وبنوه، فأرسل يعقوب بنيه لأجل
الميرة إلى مصر. { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ
فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } أي: لم يعرفوه.

{ وَلَمَّا
جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } أي: كال لهم كما كان يكيل لغيرهم، وكان من
تدبيره الحسن أنه لا يكيل لكل واحد أكثر من حمل بعير، وكان قد سألهم عن
حالهم، فأخبروه أن لهم أخا عند أبيه، وهو بنيامين.

فـ { قَالَ }
لهم: { ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ } ثم رغبهم في الإتيان به
فقال: { أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ
الْمُنْزِلِينَ } في الضيافة والإكرام.

ثم رهبهم بعدم الإتيان به،
فقال: { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا
تَقْرَبُونِ } وذلك لعلمه باضطرارهم إلى الإتيان إليه، وأن ذلك يحملهم على
الإتيان به.

فـ { قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ } دل هذا على
أن يعقوب عليه السلام كان مولعا به لا يصبر عنه، وكان يتسلى به بعد يوسف،
فلذلك احتاج إلى مراودة في بعثه معهم { وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } لما أمرتنا
به.

{ وَقَالَ } يوسف { لِفِتْيَانِهِ } الذين في خدمته: {
اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } أي: الثمن الذي اشتروا به من الميرة. { فِي
رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا } أي: بضاعتهم إذا رأوها بعد ذلك
في رحالهم، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لأجل التحرج من أخذها على ما قيل،
والظاهر أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه إليهم بالكيل لهم كيلا وافيا، ثم
إعادة بضاعتهم إليهم على وجه لا يحسون بها، ولا يشعرون لما يأتي، فإن
الإحسان يوجب للإنسان تمام الوفاء للمحسن.

{ فَلَمَّا رَجَعُوا
إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ } أي: إن لم
ترسل معنا أخانا، { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ } أي: ليكون ذلك
سببا لكيلنا، ثم التزموا له بحفظه، فقالوا: { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }
من أن يعرض له ما يكره.

{ قَالَ } لهم يعقوب عليه السلام: { هَلْ
آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ }
أي: تقدم منكم التزام، أكثر من هذا في حفظ يوسف، ومع هذا لم تفوا بما
عقدتم من التأكيد، فلا أثق بالتزامكم وحفظكم، وإنما أثق بالله تعالى.

{
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } أي: يعلم
حالي، وأرجو أن يرحمني، فيحفظه ويرده علي، وكأنه في هذا الكلام قد لان
لإرساله معهم.

ثم إنهم { وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا
بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } هذا دليل على أنه قد كان معلوما عندهم
أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد، وأنه أراد أن يملكهم إياها. فـ { قَالُوا }
لأبيهم - ترغيبا في إرسال أخيهم معهم -: { يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي } أي:
أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام الجميل، حيث وفَّى لنا الكيل، ورد علينا
بضاعتنا على الوجه الحسن، المتضمن للإخلاص ومكارم الأخلاق؟

{ هَذِهِ
بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } أي: إذا ذهبنا
بأخينا صار سببا لكيله لنا، فمرنا أهلنا، وأتينا لهم، بما هم مضطرون إليه
من القوت، { وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } بإرساله
معنا، فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير، { ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي: سهل لا
ينالك ضرر، لأن المدة لا تطول، والمصلحة قد تبينت.

فـ { قَالَ } لهم
يعقوب: { لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنْ
اللَّهِ } أي: عهدا ثقيلا، وتحلفون بالله { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا
أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ } أي: إلا أن يأتيكم أمر لا قبل لكم به، ولا تقدرون
دفعه، { فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ } على ما قال وأراد { قَالَ اللَّهُ
عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي: تكفينا شهادته علينا وحفظه وكفالته.

ثم
لما أرسله معهم وصاهم، إذا هم قدموا مصر، أن { لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ
وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } وذلك أنه خاف عليهم
العين، لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا سبب.

{
وَ } إلا فـ { مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } فالمقدر لا
بد أن يكون، { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } أي: القضاء قضاؤه، والأمر
أمره، فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي: اعتمدت
على الله، لا على ما وصيتكم به من السبب، { وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ } فإن بالتوكل يحصل كل مطلوب، ويندفع كل مرهوب.

{
وَلَمَّا } ذهبوا و { دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا
كَانَ } ذلك الفعل { يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } وهو موجب الشفقة والمحبة للأولاد،
فحصل له في ذلك نوع طمأنينة، وقضاء لما في خاطره.

وليس هذا قصورا
في علمه، فإنه من الرسل الكرام والعلماء الربانيين، ولهذا قال عنه: {
وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ } أي: لصاحب علم عظيم { لِمَا عَلَّمْنَاهُ } أي:
لتعليمنا إياه، لا بحوله وقوته أدركه، بل بفضل الله وتعليمه، { وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } عواقب الأمور ودقائق الأشياء وكذلك
أهل العلم منهم، يخفى عليهم من العلم وأحكامه ولوازمه شيء كثير.

{
69 - 79 } { وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ
إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ
أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ
لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ *
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ
وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا
لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا
جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ
بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ
وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ
فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ
نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ * قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ
يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا
كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا
عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ }

أي: لما دخل إخوة يوسف على
يوسف { آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } أي: شقيقه وهو "بنيامين" الذي أمرهم
بالإتيان به، [و] ضمه إليه، واختصه من بين إخوته، وأخبره بحقيقة الحال، و {
قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ } أي: لا تحزن { بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ } فإن العاقبة خير لنا، ثم خبره بما يريد أن يصنع
ويتحيل لبقائه عنده إلى أن ينتهي الأمر.

{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهَازِهِمْ } أي: كال لكل واحد من إخوته، ومن جملتهم أخوه هذا. { جَعَلَ
السِّقَايَةَ } وهو: الإناء الذي يشرب به، ويكال فيه { فِي رَحْلِ أَخِيهِ
ثُمَّ } أوعوا متاعهم، فلما انطلقوا ذاهبين، { أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } ولعل هذا المؤذن، لم يعلم
بحقيقة الحال.

{ قَالُوا } أي: إخوة يوسف { وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ
} لإبعاد التهمة، فإن السارق ليس له همٌّ إلا البعد والانطلاق عمن سرق
منه، لتسلم له سرقته، وهؤلاء جاءوا مقبلين إليهم، ليس لهم همٌّ إلا إزالة
التهمة التي رموا بها عنهم، فقالوا في هذه الحال: { مَاذَا تَفْقِدُونَ }
ولم يقولوا: "ما الذي سرقنا" لجزمهم بأنهم براء من السرقة.

{
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ }
أي: أجرة له على وجدانه { وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } أي: كفيل، وهذا يقوله
المؤذن المتفقد.

{ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا
لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ } بجميع أنواع المعاصي، { وَمَا كُنَّا
سَارِقِينَ } فإن السرقة من أكبر أنواع الفساد في الأرض، وإنما أقسموا على
علمهم أنهم ليسوا مفسدين ولا سارقين، لأنهم عرفوا أنهم سبروا من أحوالهم ما
يدلهم على عفتهم وورعهم، وأن هذا الأمر لا يقع منهم بعلم من اتهموهم، وهذا
أبلغ في نفي التهمة، من أن لو قالوا: { تالله لم نفسد في الأرض ولم نسرق
}.

{ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ } أي: جزاء هذا الفعل { إِنْ كُنْتُمْ
كَاذِبِينَ } بأن كان معكم؟

{ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ } أي: الموجود في رحله { جَزَاؤُهُ } بأن يتملكه صاحب
السرقة، وكان هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة كان ملكا لصاحب
المال المسروق، ولهذا قالوا: { كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }

{
فَبَدَأَ } المفتش { بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ } وذلك لتزول
الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا {
اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } ولم يقل "وجدها، أو سرقها أخوه"
مراعاة للحقيقة الواقعة.

فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه
عنده، على وجه لا يشعر به إخوته، قال تعالى: { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ }
أي: يسرنا له هذا الكيد، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم { مَا كَانَ
لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } لأنه ليس من دينه أن يتملك
السارق، وإنما له عندهم، جزاء آخر، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك، لم
يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده، ولكنه جعل الحكم منهم، ليتم له ما أراد.

قال
تعالى: { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } بالعلم النافع، ومعرفة الطرق
الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف، { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ } فكل عالم، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى عالم الغيب
والشهادة.

فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ }
هذا الأخ، فليس هذا غريبا منه. { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ }
يعنون: يوسف عليه السلام، ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر
منهما ما يصدر من السرقة، وهما ليسا شقيقين لنا.

وفي هذا من الغض
عليهما ما فيه، ولهذا: أسرها يوسف في نفسه { وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } أي:
لم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون، بل كظم الغيظ، وأسرَّ الأمر في نفسه.
و { قَالَ } في نفسه { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا } حيث ذممتمونا بما أنتم
على أشر منه، { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } منا، من وصفنا
بالسرقة، يعلم الله أنا براء منها، ثم سلكوا معه مسلك التملق، لعله يسمح
لهم بأخيهم.

فـ { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا
شَيْخًا كَبِيرًا } أي: وإنه لا يصبر عنه، وسيشق عليه فراقه، { فَخُذْ
أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } فأحسن إلينا
وإلى أبينا بذلك.

فـ { قَالَ } يوسف { مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ
نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ } أي: هذا ظلم منا، لو
أخذنا البريء بذنب من وجدنا متاعنا عنده، ولم يقل "من سرق" كل هذا تحرز من
الكذب، { إِنَّا إِذًا } أي: إن أخذنا غير من وجد في رحله { لَظَالِمُونَ }
حيث وضعنا العقوبة في غير موضعها.

{ 80 - 83 } { فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ
تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ
وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ
حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ
ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا
لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا
وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ
أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }

أي:
فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم { خَلَصُوا نَجِيًّا }
أي: اجتمعوا وحدهم، ليس معهم غيرهم، وجعلوا يتناجون فيما بينهم، فـ { قَالَ
كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ
مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ } في حفظه، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم {
وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ } ، فاجتمع عليكم الأمران،
تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به
أبي.

{ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ } أي: سأقيم في هذه الأرض ولا
أزال بها { حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي } أي:
يقدر لي المجيء وحدي، أو مع أخي { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }

ثم
وصَّاهم بما يقولون لأبيهم، فقال: { ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا
يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ } أي: وأخذ بسرقته، ولم يحصل لنا أن
نأتيك به، مع ما بذلنا من الجهد في ذلك. والحال أنا ما شهدنا بشيء لم
نعلمه، وإنما شهدنا بما علمنا، لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله، { وَمَا
كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } أي: لو كنا نعلم الغيب لما حرصنا وبذلنا
المجهود في ذهابه معنا، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا، فلم نظن أن الأمر
سيبلغ ما بلغ.

{ وَاسْأَلِ } إن شككت في قولنا { الْقَرْيَةَ
الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } فقد اطلعوا
على ما أخبرناك به { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } لم نكذب ولم نغير ولم نبدل،
بل هذا الواقع.

فلما رجعوا إلى أبيهم وأخبروه بهذا الخبر، اشتد حزنه
وتضاعف كمده، واتهمهم أيضا في هذه القضية، كما اتهمهم في الأولى، و {
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أي:
ألجأ في ذلك إلى الصبر الجميل، الذي لا يصحبه تسخط ولا جزع، ولا شكوى
للخلق، ثم لجأ إلى حصول الفرج لما رأى أن الأمر اشتد، والكربة انتهت فقال: {
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا } أي: يوسف و "بنيامين"
وأخوهم الكبير الذي أقام في مصر.

{ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } الذي
يعلم حالي، واحتياجي إلى تفريجه ومنَّته، واضطراري إلى إحسانه، {
الْحَكِيمُ } الذي جعل لكل شيء قدرا، ولكل أمر منتهى، بحسب ما اقتضته حكمته
الربانية.

{ 84 - 86 } { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى
عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ *
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ
تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي
إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }

أي:
وتولى يعقوب عليه الصلاة والسلام عن أولاده بعد ما أخبروه هذا الخبر، واشتد
به الأسف والأسى، وابيضت عيناه من الحزن الذي في قلبه، والكمد الذي أوجب
له كثرة البكاء، حيث ابيضت عيناه من ذلك.

{ فَهُوَ كَظِيمٌ } أي:
ممتلئ القلب من الحزن الشديد، { وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } أي:
ظهر منه ما كمن من الهم القديم والشوق المقيم، وذكرته هذه المصيبة الخفيفة
بالنسبة للأولى، المصيبة الأولى.

فقال له أولاده متعجبين من حاله: {
تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } أي: لا تزال تذكر يوسف في جميع
أحوالك. { حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا } أي: فانيا لا حراك فيك ولا قدرة على
الكلام.

{ أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ } أي: لا تترك ذكره مع
قدرتك على ذكره أبدا.

{ قَالَ } يعقوب { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي }
أي: ما أبث من الكلام { وَحُزْنِي } الذي في قلبي { إِلَى اللَّهِ } وحده،
لا إليكم ولا إلى غيركم من الخلق، فقولوا ما شئتم { وَأَعْلَمُ مِنَ
اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } من أنه سيردهم علي ويقر عيني بالاجتماع بهم.

{
87 - 88 } { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ
وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ
اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا
بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا
إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ }

أي: قال يعقوب عليه
السلام لبنيه: { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ
وَأَخِيهِ } أي: احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما { وَلَا تَيْأَسُوا
مِنْ رَوْحِ اللَّهِ } فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه،
والإياس: يوجب له التثاقل والتباطؤ، وأولى ما رجا العباد، فضل الله وإحسانه
ورحمته وروحه، { إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا
الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } فإنهم لكفرهم يستبعدون رحمته، ورحمته بعيدة
منهم، فلا تتشبهوا بالكافرين.

ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد
يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه، فذهبوا { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ } أي:
على يوسف { قَالُوا } متضرعين إليه: { يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا
وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا
الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } أي: قد اضطررنا نحن وأهلنا { وَجِئْنَا
بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ } أي: مدفوعة مرغوب عنها لقلتها، وعدم وقوعها
الموقع، { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ } أي: مع عدم وفاء العرض، وتصدق علينا
بالزيادة عن الواجب. { إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } بثواب
الدنيا والآخرة.

فلما انتهى الأمر، وبلغ أشده، رقَّ لهم يوسف رقَّة
شديدة، وعرَّفهم بنفسه، وعاتبهم.

{ 89 - 92 } { قَالَ هَلْ
عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ *
قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي
قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ
آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا
تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ }

{ قال هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ
وَأَخِيهِ } أما يوسف فظاهر فعلهم فيه، وأما أخوه، فلعله والله أعلم قولهم:
{ إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } أو أن الحادث الذي
فرَّق بينه وبين أبيه، هم السبب فيه، والأصل الموجب له. { إِذْ أَنْتُمْ
جَاهِلُونَ } وهذا نوع اعتذار لهم بجهلهم، أو توبيخ لهم إذ فعلوا فعل
الجاهلين، مع أنه لا ينبغي ولا يليق منهم.

فعرفوا أن الذي خاطبهم هو
يوسف، فقالوا: { أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا
أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } بالإيمان والتقوى والتمكين في
الدنيا، وذلك بسبب الصبر والتقوى، { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ } أي:
يتقي فعل ما حرم الله، ويصبر على الآلام والمصائب، وعلى الأوامر بامتثالها
{ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فإن هذا من
الإحسان، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

{ قَالُوا تَاللَّهِ
لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا } أي: فضلك علينا بمكارم الأخلاق ومحاسن
الشيم، وأسأنا إليك غاية الإساءة، وحرصنا على إيصال الأذى إليك، والتبعيد
لك عن أبيك، فآثرك الله تعالى ومكنك مما تريد { وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ
} وهذا غاية الاعتراف منهم بالجرم الحاصل منهم على يوسف.

فـ {
قَالَ } لهم يوسف عليه السلام، كرما وجودا: { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ } أي: لا أثرب عليكم ولا ألومكم { يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ
وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } فسمح لهم سماحا تاما، من غير تعيير لهم
على ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذا نهاية الإحسان،
الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين.

{ 93 - 98 } {
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ
بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ
الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ
تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ
*فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ
بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا
كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }

أي: قال يوسف عليه السلام لإخوته: {
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ
بَصِيرًا } لأن كل داء يداوى بضده، فهذا القميص - لما كان فيه أثر ريح
يوسف، الذي أودع قلب أبيه من الحزن والشوق ما الله به عليم - أراد أن يشمه،
فترجع إليه روحه، وتتراجع إليه نفسه، ويرجع إليه بصره، ولله في ذلك حكم
وأسرار، لا يطلع عليها العباد، وقد اطلع يوسف من ذلك على هذا الأمر.

{
وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } أي: أولادكم وعشيرتكم وتوابعكم
كلهم، ليحصل تمام اللقاء، ويزول عنكم نكد المعيشة، وضنك الرزق.

{
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ } عن أرض مصر مقبلة إلى أرض فلسطين، شمَّ يعقوب
ريح القميص، فقال: { إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ
تُفَنِّدُونِ } أي: تسخرون مني، وتزعمون أن هذا الكلام، صدر مني من غير
شعور، لأنه رأى منهم من التعجب من حاله ما أوجب له هذا القول.

فوقع
ما ظنه بهم فقالوا: { تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ } أي:
لا تزال تائها في بحر الحبّ لا تدري ما تقول.

{ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ
الْبَشِيرُ } بقرب الاجتماع بيوسف وإخوته وأبيهم، { أَلْقَاهُ } أي:
القميص { عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا } أي: رجع على حاله الأولى
بصيرا، بعد أن ابيضت عيناه من الحزن، فقال لمن حضره من أولاده وأهله الذين
كانوا يفندون رأيه، ويتعجبون منه منتصرا عليهم، متبجحا بنعمة الله عليه: {
أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
حيث كنت مترجيا للقاء يوسف، مترقبا لزوال الهم والغم والحزن.

فأقروا
بذنبهم ونجعوا بذلك و { قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } حيث فعلنا معك ما فعلنا.

فـ {
قَالَ } مجيبا لطلبتهم، ومسرعا لإجابتهم: { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ
رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي: ورجائي به أن يغفر لكم
ويرحمكم، ويتغمدكم برحمته، وقد قيل: إنه أخر الاستغفار لهم إلى وقت السحر
الفاضل، ليكون أتمَّ للاستغفار، وأقرب للإجابة.

{ 99 - 100 } {
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ
ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى
الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ
رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي
إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ
بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي
لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }

أي: {
فَلَمَّا } تجهز يعقوب وأولاده وأهلهم أجمعون، وارتحلوا من بلادهم قاصدين
الوصول إلى يوسف في مصر وسكناها، فلما وصلوا إليه، و { دَخَلُوا عَلَى
يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } أي: ضمهما إليه، واختصهما بقربه، وأبدى
لهما من البر والإكرام والتبجيل والإعظام شيئا عظيما، { وَقَالَ } لجميع
أهله: { ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } من جميع المكاره
والمخاوف، فدخلوا في هذه الحال السارة، وزال عنهم النصب ونكد المعيشة، وحصل
السرور والبهجة.

{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } أي: على
سرير الملك، ومجلس العزيز، { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } أي: أبوه، وأمه
وإخوته، سجودا على وجه التعظيم والتبجيل والإكرام، { وَقَالَ } لما رأى هذه
الحال، ورأى سجودهم له: { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ
قَبْلُ } حين رأي أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين، فهذا وقوعها الذي
آلت إليه ووصلت { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } فلم يجعلها أضغاث أحلام.

{
وَقَدْ أَحْسَنَ بِي } إحسانا جسيما { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ
وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ } وهذا من لطفه وحسن خطابه عليه السلام، حيث
ذكر حاله في السجن، ولم يذكر حاله في الجب، لتمام عفوه عن إخوته، وأنه لا
يذكر ذلك الذنب، وأن إتيانكم من البادية من إحسان الله إلي.

فلم
يقل: جاء بكم من الجوع والنصب، ولا قال: "أحسن بكم" بل قال { أَحْسَنَ بِي }
جعل الإحسان عائدا إليه، فتبارك من يختص برحمته من يشاء من عباده، ويهب
لهم من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. { مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ
بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } فلم يقل "نزغ الشيطان إخوتي" بل كأن الذنب
والجهل، صدر من الطرفين، فالحمد لله الذي أخزى الشيطان ودحره، وجمعنا بعد
تلك الفرقة الشاقة.

{ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } يوصل
بره وإحسانه إلى العبد من حيث لا يشعر، ويوصله إلى المنازل الرفيعة من أمور
يكرهها، { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } الذي يعلم ظواهر الأمور وبواطنها،
وسرائر العباد وضمائرهم، { الْحَكِيمُ } في وضعه الأشياء مواضعها، وسوقه
الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها.{ 58 - 68 } { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا
جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ
أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ *
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا
تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ *
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا
أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا
أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا
بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ
بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا
وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ
مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ
إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ
عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ
بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي
عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا
دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ
مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا
وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ }

أي: لما تولى يوسف عليه السلام خزائن الأرض،
دبرها أحسن تدبير، فزرع في أرض مصر جميعها في السنين الخصبة، زروعا هائلة،
واتخذ لها المحلات الكبار، وجبا من الأطعمة شيئا كثيرا وحفظه، وضبطه ضبطا
تاما، فلما دخلت السنون المجدبة، وسرى الجدب، حتى وصل إلى فلسطين، التي
يقيم فيها يعقوب وبنوه، فأرسل يعقوب بنيه لأجل الميرة إلى مصر. { وَجَاءَ
إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ } أي: لم يعرفوه.

{ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ
} أي: كال لهم كما كان يكيل لغيرهم، وكان من تدبيره الحسن أنه لا يكيل لكل
واحد أكثر من حمل بعير، وكان قد سألهم عن حالهم، فأخبروه أن لهم أخا عند
أبيه، وهو بنيامين.

فـ { قَالَ } لهم: { ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ
مِنْ أَبِيكُمْ } ثم رغبهم في الإتيان به فقال: { أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي
أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } في الضيافة والإكرام.

ثم
رهبهم بعدم الإتيان به، فقال: { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ
لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ } وذلك لعلمه باضطرارهم إلى الإتيان
إليه، وأن ذلك يحملهم على الإتيان به.

فـ { قَالُوا سَنُرَاوِدُ
عَنْهُ أَبَاهُ } دل هذا على أن يعقوب عليه السلام كان مولعا به لا يصبر
عنه، وكان يتسلى به بعد يوسف، فلذلك احتاج إلى مراودة في بعثه معهم {
وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } لما أمرتنا به.

{ وَقَالَ } يوسف {
لِفِتْيَانِهِ } الذين في خدمته: { اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } أي: الثمن
الذي اشتروا به من الميرة. { فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا }
أي: بضاعتهم إذا رأوها بعد ذلك في رحالهم، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
لأجل التحرج من أخذها على ما قيل، والظاهر أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه
إليهم بالكيل لهم كيلا وافيا، ثم إعادة بضاعتهم إليهم على وجه لا يحسون
بها، ولا يشعرون لما يأتي، فإن الإحسان يوجب للإنسان تمام الوفاء للمحسن.

{
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا
الْكَيْلُ } أي: إن لم ترسل معنا أخانا، { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا
نَكْتَلْ } أي: ليكون ذلك سببا لكيلنا، ثم التزموا له بحفظه، فقالوا: {
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } من أن يعرض له ما يكره.

{ قَالَ } لهم
يعقوب عليه السلام: { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ
عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ } أي: تقدم منكم التزام، أكثر من هذا في حفظ
يوسف، ومع هذا لم تفوا بما عقدتم من التأكيد، فلا أثق بالتزامكم وحفظكم،
وإنما أثق بالله تعالى.

{ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } أي: يعلم حالي، وأرجو أن يرحمني، فيحفظه ويرده
علي، وكأنه في هذا الكلام قد لان لإرساله معهم.

ثم إنهم { وَلَمَّا
فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } هذا
دليل على أنه قد كان معلوما عندهم أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد، وأنه أراد
أن يملكهم إياها. فـ { قَالُوا } لأبيهم - ترغيبا في إرسال أخيهم معهم -: {
يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي } أي: أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام الجميل، حيث
وفَّى لنا الكيل، ورد علينا بضاعتنا على الوجه الحسن، المتضمن للإخلاص
ومكارم الأخلاق؟

{ هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ
أَهْلَنَا } أي: إذا ذهبنا بأخينا صار سببا لكيله لنا، فمرنا أهلنا،
وأتينا لهم، بما هم مضطرون إليه من القوت، { وَنَحْفَظُ أَخَانَا
وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } بإرساله معنا، فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير، {
ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي: سهل لا ينالك ضرر، لأن المدة لا تطول،
والمصلحة قد تبينت.

فـ { قَالَ } لهم يعقوب: { لَنْ أُرْسِلَهُ
مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ } أي: عهدا ثقيلا،
وتحلفون بالله { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ } أي: إلا
أن يأتيكم أمر لا قبل لكم به، ولا تقدرون دفعه، { فَلَمَّا آتَوْهُ
مَوْثِقَهُمْ } على ما قال وأراد { قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ
وَكِيلٌ } أي: تكفينا شهادته علينا وحفظه وكفالته.

ثم لما أرسله
معهم وصاهم، إذا هم قدموا مصر، أن { لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ
وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } وذلك أنه خاف عليهم العين،
لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا سبب.

{ وَ } إلا
فـ { مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } فالمقدر لا بد أن
يكون، { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } أي: القضاء قضاؤه، والأمر أمره،
فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي: اعتمدت على
الله، لا على ما وصيتكم به من السبب، { وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ } فإن بالتوكل يحصل كل مطلوب، ويندفع كل مرهوب.

{
وَلَمَّا } ذهبوا و { دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا
كَانَ } ذلك الفعل { يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } وهو موجب الشفقة والمحبة للأولاد،
فحصل له في ذلك نوع طمأنينة، وقضاء لما في خاطره.

وليس هذا قصورا
في علمه، فإنه من الرسل الكرام والعلماء الربانيين، ولهذا قال عنه: {
وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ } أي: لصاحب علم عظيم { لِمَا عَلَّمْنَاهُ } أي:
لتعليمنا إياه، لا بحوله وقوته أدركه، بل بفضل الله وتعليمه، { وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } عواقب الأمور ودقائق الأشياء وكذلك
أهل العلم منهم، يخفى عليهم من العلم وأحكامه ولوازمه شيء كثير.

{
69 - 79 } { وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ
إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ
أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ
لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ *
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ
وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا
لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا
جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ
بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ
وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ
فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ
نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ * قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ
يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا
كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا
عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ }

أي: لما دخل إخوة يوسف على
يوسف { آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } أي: شقيقه وهو "بنيامين" الذي أمرهم
بالإتيان به، [و] ضمه إليه، واختصه من بين إخوته، وأخبره بحقيقة الحال، و {
قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ } أي: لا تحزن { بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ } فإن العاقبة خير لنا، ثم خبره بما يريد أن يصنع
ويتحيل لبقائه عنده إلى أن ينتهي الأمر.

{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهَازِهِمْ } أي: كال لكل واحد من إخوته، ومن جملتهم أخوه هذا. { جَعَلَ
السِّقَايَةَ } وهو: الإناء الذي يشرب به، ويكال فيه { فِي رَحْلِ أَخِيهِ
ثُمَّ } أوعوا متاعهم، فلما انطلقوا ذاهبين، { أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } ولعل هذا المؤذن، لم يعلم
بحقيقة الحال.

{ قَالُوا } أي: إخوة يوسف { وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ
} لإبعاد التهمة، فإن السارق ليس له همٌّ إلا البعد والانطلاق عمن سرق
منه، لتسلم له سرقته، وهؤلاء جاءوا مقبلين إليهم، ليس لهم همٌّ إلا إزالة
التهمة التي رموا بها عنهم، فقالوا في هذه الحال: { مَاذَا تَفْقِدُونَ }
ولم يقولوا: "ما الذي سرقنا" لجزمهم بأنهم براء من السرقة.

{
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ }
أي: أجرة له على وجدانه { وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } أي: كفيل، وهذا يقوله
المؤذن المتفقد.

{ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا
لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ } بجميع أنواع المعاصي، { وَمَا كُنَّا
سَارِقِينَ } فإن السرقة من أكبر أنواع الفساد في الأرض، وإنما أقسموا على
علمهم أنهم ليسوا مفسدين ولا سارقين، لأنهم عرفوا أنهم سبروا من أحوالهم ما
يدلهم على عفتهم وورعهم، وأن هذا الأمر لا يقع منهم بعلم من اتهموهم، وهذا
أبلغ في نفي التهمة، من أن لو قالوا: { تالله لم نفسد في الأرض ولم نسرق
}.

{ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ } أي: جزاء هذا الفعل { إِنْ كُنْتُمْ
كَاذِبِينَ } بأن كان معكم؟

{ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ } أي: الموجود في رحله { جَزَاؤُهُ } بأن يتملكه صاحب
السرقة، وكان هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة كان ملكا لصاحب
المال المسروق، ولهذا قالوا: { كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }

{
فَبَدَأَ } المفتش { بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ } وذلك لتزول
الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا {
اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } ولم يقل "وجدها، أو سرقها أخوه"
مراعاة للحقيقة الواقعة.

فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه
عنده، على وجه لا يشعر به إخوته، قال تعالى: { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ }
أي: يسرنا له هذا الكيد، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم { مَا كَانَ
لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } لأنه ليس من دينه أن يتملك
السارق، وإنما له عندهم، جزاء آخر، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك، لم
يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده، ولكنه جعل الحكم منهم، ليتم له ما أراد.

قال
تعالى: { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } بالعلم النافع، ومعرفة الطرق
الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف، { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ } فكل عالم، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى عالم الغيب
والشهادة.

فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ }
هذا الأخ، فليس هذا غريبا منه. { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ }
يعنون: يوسف عليه السلام، ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر
منهما ما يصدر من السرقة، وهما ليسا شقيقين لنا.

وفي هذا من الغض
عليهما ما فيه، ولهذا: أسرها يوسف في نفسه { وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } أي:
لم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون، بل كظم الغيظ، وأسرَّ الأمر في نفسه.
و { قَالَ } في نفسه { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا } حيث ذممتمونا بما أنتم
على أشر منه، { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } منا، من وصفنا
بالسرقة، يعلم الله أنا براء منها، ثم سلكوا معه مسلك التملق، لعله يسمح
لهم بأخيهم.

فـ { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا
شَيْخًا كَبِيرًا } أي: وإنه لا يصبر عنه، وسيشق عليه فراقه، { فَخُذْ
أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } فأحسن إلينا
وإلى أبينا بذلك.

فـ { قَالَ } يوسف { مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ
نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ } أي: هذا ظلم منا، لو
أخذنا البريء بذنب من وجدنا متاعنا عنده، ولم يقل "من سرق" كل هذا تحرز من
الكذب، { إِنَّا إِذًا } أي: إن أخذنا غير من وجد في رحله { لَظَالِمُونَ }
حيث وضعنا العقوبة في غير موضعها.

{ 80 - 83 } { فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ
تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ
وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ
حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ
ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا
لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا
وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ
أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }

أي:
فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم { خَلَصُوا نَجِيًّا }
أي: اجتمعوا وحدهم، ليس معهم غيرهم، وجعلوا يتناجون فيما بينهم، فـ { قَالَ
كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ
مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ } في حفظه، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم {
وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ } ، فاجتمع عليكم الأمران،
تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به
أبي.

{ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ } أي: سأقيم في هذه الأرض ولا
أزال بها { حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي } أي:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 7:09 pm

{
58 - 68 } { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ
وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ
ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي
الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ
فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ
عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا
بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا
انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجَعُوا
إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ
مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ
آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا
فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا
يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ
أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ
يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ
اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ
مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا
بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ
مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ
الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ
مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي
نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }

أي: لما تولى يوسف
عليه السلام خزائن الأرض، دبرها أحسن تدبير، فزرع في أرض مصر جميعها في
السنين الخصبة، زروعا هائلة، واتخذ لها المحلات الكبار، وجبا من الأطعمة
شيئا كثيرا وحفظه، وضبطه ضبطا تاما، فلما دخلت السنون المجدبة، وسرى الجدب،
حتى وصل إلى فلسطين، التي يقيم فيها يعقوب وبنوه، فأرسل يعقوب بنيه لأجل
الميرة إلى مصر. { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ
فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } أي: لم يعرفوه.

{ وَلَمَّا
جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } أي: كال لهم كما كان يكيل لغيرهم، وكان من
تدبيره الحسن أنه لا يكيل لكل واحد أكثر من حمل بعير، وكان قد سألهم عن
حالهم، فأخبروه أن لهم أخا عند أبيه، وهو بنيامين.

فـ { قَالَ }
لهم: { ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ } ثم رغبهم في الإتيان به
فقال: { أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ
الْمُنْزِلِينَ } في الضيافة والإكرام.

ثم رهبهم بعدم الإتيان به،
فقال: { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا
تَقْرَبُونِ } وذلك لعلمه باضطرارهم إلى الإتيان إليه، وأن ذلك يحملهم على
الإتيان به.

فـ { قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ } دل هذا على
أن يعقوب عليه السلام كان مولعا به لا يصبر عنه، وكان يتسلى به بعد يوسف،
فلذلك احتاج إلى مراودة في بعثه معهم { وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } لما أمرتنا
به.

{ وَقَالَ } يوسف { لِفِتْيَانِهِ } الذين في خدمته: {
اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } أي: الثمن الذي اشتروا به من الميرة. { فِي
رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا } أي: بضاعتهم إذا رأوها بعد ذلك
في رحالهم، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لأجل التحرج من أخذها على ما قيل،
والظاهر أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه إليهم بالكيل لهم كيلا وافيا، ثم
إعادة بضاعتهم إليهم على وجه لا يحسون بها، ولا يشعرون لما يأتي، فإن
الإحسان يوجب للإنسان تمام الوفاء للمحسن.

{ فَلَمَّا رَجَعُوا
إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ } أي: إن لم
ترسل معنا أخانا، { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ } أي: ليكون ذلك
سببا لكيلنا، ثم التزموا له بحفظه، فقالوا: { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }
من أن يعرض له ما يكره.

{ قَالَ } لهم يعقوب عليه السلام: { هَلْ
آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ }
أي: تقدم منكم التزام، أكثر من هذا في حفظ يوسف، ومع هذا لم تفوا بما
عقدتم من التأكيد، فلا أثق بالتزامكم وحفظكم، وإنما أثق بالله تعالى.

{
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } أي: يعلم
حالي، وأرجو أن يرحمني، فيحفظه ويرده علي، وكأنه في هذا الكلام قد لان
لإرساله معهم.

ثم إنهم { وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا
بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } هذا دليل على أنه قد كان معلوما عندهم
أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد، وأنه أراد أن يملكهم إياها. فـ { قَالُوا }
لأبيهم - ترغيبا في إرسال أخيهم معهم -: { يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي } أي:
أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام الجميل، حيث وفَّى لنا الكيل، ورد علينا
بضاعتنا على الوجه الحسن، المتضمن للإخلاص ومكارم الأخلاق؟

{ هَذِهِ
بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } أي: إذا ذهبنا
بأخينا صار سببا لكيله لنا، فمرنا أهلنا، وأتينا لهم، بما هم مضطرون إليه
من القوت، { وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } بإرساله
معنا، فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير، { ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي: سهل لا
ينالك ضرر، لأن المدة لا تطول، والمصلحة قد تبينت.

فـ { قَالَ } لهم
يعقوب: { لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنْ
اللَّهِ } أي: عهدا ثقيلا، وتحلفون بالله { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا
أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ } أي: إلا أن يأتيكم أمر لا قبل لكم به، ولا تقدرون
دفعه، { فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ } على ما قال وأراد { قَالَ اللَّهُ
عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي: تكفينا شهادته علينا وحفظه وكفالته.

ثم
لما أرسله معهم وصاهم، إذا هم قدموا مصر، أن { لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ
وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } وذلك أنه خاف عليهم
العين، لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا سبب.

{
وَ } إلا فـ { مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } فالمقدر لا
بد أن يكون، { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } أي: القضاء قضاؤه، والأمر
أمره، فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي: اعتمدت
على الله، لا على ما وصيتكم به من السبب، { وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ } فإن بالتوكل يحصل كل مطلوب، ويندفع كل مرهوب.

{
وَلَمَّا } ذهبوا و { دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا
كَانَ } ذلك الفعل { يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } وهو موجب الشفقة والمحبة للأولاد،
فحصل له في ذلك نوع طمأنينة، وقضاء لما في خاطره.

وليس هذا قصورا
في علمه، فإنه من الرسل الكرام والعلماء الربانيين، ولهذا قال عنه: {
وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ } أي: لصاحب علم عظيم { لِمَا عَلَّمْنَاهُ } أي:
لتعليمنا إياه، لا بحوله وقوته أدركه، بل بفضل الله وتعليمه، { وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } عواقب الأمور ودقائق الأشياء وكذلك
أهل العلم منهم، يخفى عليهم من العلم وأحكامه ولوازمه شيء كثير.

{
69 - 79 } { وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ
إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ
أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ
لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ *
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ
وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا
لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا
جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ
بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ
وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ
فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ
نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ * قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ
يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا
كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا
عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ }

أي: لما دخل إخوة يوسف على
يوسف { آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } أي: شقيقه وهو "بنيامين" الذي أمرهم
بالإتيان به، [و] ضمه إليه، واختصه من بين إخوته، وأخبره بحقيقة الحال، و {
قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ } أي: لا تحزن { بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ } فإن العاقبة خير لنا، ثم خبره بما يريد أن يصنع
ويتحيل لبقائه عنده إلى أن ينتهي الأمر.

{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهَازِهِمْ } أي: كال لكل واحد من إخوته، ومن جملتهم أخوه هذا. { جَعَلَ
السِّقَايَةَ } وهو: الإناء الذي يشرب به، ويكال فيه { فِي رَحْلِ أَخِيهِ
ثُمَّ } أوعوا متاعهم، فلما انطلقوا ذاهبين، { أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } ولعل هذا المؤذن، لم يعلم
بحقيقة الحال.

{ قَالُوا } أي: إخوة يوسف { وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ
} لإبعاد التهمة، فإن السارق ليس له همٌّ إلا البعد والانطلاق عمن سرق
منه، لتسلم له سرقته، وهؤلاء جاءوا مقبلين إليهم، ليس لهم همٌّ إلا إزالة
التهمة التي رموا بها عنهم، فقالوا في هذه الحال: { مَاذَا تَفْقِدُونَ }
ولم يقولوا: "ما الذي سرقنا" لجزمهم بأنهم براء من السرقة.

{
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ }
أي: أجرة له على وجدانه { وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } أي: كفيل، وهذا يقوله
المؤذن المتفقد.

{ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا
لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ } بجميع أنواع المعاصي، { وَمَا كُنَّا
سَارِقِينَ } فإن السرقة من أكبر أنواع الفساد في الأرض، وإنما أقسموا على
علمهم أنهم ليسوا مفسدين ولا سارقين، لأنهم عرفوا أنهم سبروا من أحوالهم ما
يدلهم على عفتهم وورعهم، وأن هذا الأمر لا يقع منهم بعلم من اتهموهم، وهذا
أبلغ في نفي التهمة، من أن لو قالوا: { تالله لم نفسد في الأرض ولم نسرق
}.

{ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ } أي: جزاء هذا الفعل { إِنْ كُنْتُمْ
كَاذِبِينَ } بأن كان معكم؟

{ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ } أي: الموجود في رحله { جَزَاؤُهُ } بأن يتملكه صاحب
السرقة، وكان هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة كان ملكا لصاحب
المال المسروق، ولهذا قالوا: { كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }

{
فَبَدَأَ } المفتش { بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ } وذلك لتزول
الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا {
اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } ولم يقل "وجدها، أو سرقها أخوه"
مراعاة للحقيقة الواقعة.

فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه
عنده، على وجه لا يشعر به إخوته، قال تعالى: { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ }
أي: يسرنا له هذا الكيد، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم { مَا كَانَ
لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } لأنه ليس من دينه أن يتملك
السارق، وإنما له عندهم، جزاء آخر، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك، لم
يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده، ولكنه جعل الحكم منهم، ليتم له ما أراد.

قال
تعالى: { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } بالعلم النافع، ومعرفة الطرق
الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف، { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ } فكل عالم، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى عالم الغيب
والشهادة.

فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ }
هذا الأخ، فليس هذا غريبا منه. { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ }
يعنون: يوسف عليه السلام، ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر
منهما ما يصدر من السرقة، وهما ليسا شقيقين لنا.

وفي هذا من الغض
عليهما ما فيه، ولهذا: أسرها يوسف في نفسه { وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } أي:
لم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون، بل كظم الغيظ، وأسرَّ الأمر في نفسه.
و { قَالَ } في نفسه { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا } حيث ذممتمونا بما أنتم
على أشر منه، { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } منا، من وصفنا
بالسرقة، يعلم الله أنا براء منها، ثم سلكوا معه مسلك التملق، لعله يسمح
لهم بأخيهم.

فـ { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا
شَيْخًا كَبِيرًا } أي: وإنه لا يصبر عنه، وسيشق عليه فراقه، { فَخُذْ
أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } فأحسن إلينا
وإلى أبينا بذلك.

فـ { قَالَ } يوسف { مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ
نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ } أي: هذا ظلم منا، لو
أخذنا البريء بذنب من وجدنا متاعنا عنده، ولم يقل "من سرق" كل هذا تحرز من
الكذب، { إِنَّا إِذًا } أي: إن أخذنا غير من وجد في رحله { لَظَالِمُونَ }
حيث وضعنا العقوبة في غير موضعها.

{ 80 - 83 } { فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ
تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ
وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ
حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ
ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا
لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا
وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ
أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }

أي:
فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم { خَلَصُوا نَجِيًّا }
أي: اجتمعوا وحدهم، ليس معهم غيرهم، وجعلوا يتناجون فيما بينهم، فـ { قَالَ
كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ
مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ } في حفظه، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم {
وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ } ، فاجتمع عليكم الأمران،
تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به
أبي.

{ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ } أي: سأقيم في هذه الأرض ولا
أزال بها { حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي } أي:
يقدر لي المجيء وحدي، أو مع أخي { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }

ثم
وصَّاهم بما يقولون لأبيهم، فقال: { ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا
يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ } أي: وأخذ بسرقته، ولم يحصل لنا أن
نأتيك به، مع ما بذلنا من الجهد في ذلك. والحال أنا ما شهدنا بشيء لم
نعلمه، وإنما شهدنا بما علمنا، لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله، { وَمَا
كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } أي: لو كنا نعلم الغيب لما حرصنا وبذلنا
المجهود في ذهابه معنا، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا، فلم نظن أن الأمر
سيبلغ ما بلغ.

{ وَاسْأَلِ } إن شككت في قولنا { الْقَرْيَةَ
الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } فقد اطلعوا
على ما أخبرناك به { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } لم نكذب ولم نغير ولم نبدل،
بل هذا الواقع.

فلما رجعوا إلى أبيهم وأخبروه بهذا الخبر، اشتد حزنه
وتضاعف كمده، واتهمهم أيضا في هذه القضية، كما اتهمهم في الأولى، و {
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أي:
ألجأ في ذلك إلى الصبر الجميل، الذي لا يصحبه تسخط ولا جزع، ولا شكوى
للخلق، ثم لجأ إلى حصول الفرج لما رأى أن الأمر اشتد، والكربة انتهت فقال: {
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا } أي: يوسف و "بنيامين"
وأخوهم الكبير الذي أقام في مصر.

{ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } الذي
يعلم حالي، واحتياجي إلى تفريجه ومنَّته، واضطراري إلى إحسانه، {
الْحَكِيمُ } الذي جعل لكل شيء قدرا، ولكل أمر منتهى، بحسب ما اقتضته حكمته
الربانية.

{ 84 - 86 } { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى
عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ *
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ
تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي
إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }

أي:
وتولى يعقوب عليه الصلاة والسلام عن أولاده بعد ما أخبروه هذا الخبر، واشتد
به الأسف والأسى، وابيضت عيناه من الحزن الذي في قلبه، والكمد الذي أوجب
له كثرة البكاء، حيث ابيضت عيناه من ذلك.

{ فَهُوَ كَظِيمٌ } أي:
ممتلئ القلب من الحزن الشديد، { وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } أي:
ظهر منه ما كمن من الهم القديم والشوق المقيم، وذكرته هذه المصيبة الخفيفة
بالنسبة للأولى، المصيبة الأولى.

فقال له أولاده متعجبين من حاله: {
تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } أي: لا تزال تذكر يوسف في جميع
أحوالك. { حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا } أي: فانيا لا حراك فيك ولا قدرة على
الكلام.

{ أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ } أي: لا تترك ذكره مع
قدرتك على ذكره أبدا.

{ قَالَ } يعقوب { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي }
أي: ما أبث من الكلام { وَحُزْنِي } الذي في قلبي { إِلَى اللَّهِ } وحده،
لا إليكم ولا إلى غيركم من الخلق، فقولوا ما شئتم { وَأَعْلَمُ مِنَ
اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } من أنه سيردهم علي ويقر عيني بالاجتماع بهم.

{
87 - 88 } { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ
وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ
اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا
بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا
إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ }

أي: قال يعقوب عليه
السلام لبنيه: { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ
وَأَخِيهِ } أي: احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما { وَلَا تَيْأَسُوا
مِنْ رَوْحِ اللَّهِ } فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه،
والإياس: يوجب له التثاقل والتباطؤ، وأولى ما رجا العباد، فضل الله وإحسانه
ورحمته وروحه، { إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا
الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } فإنهم لكفرهم يستبعدون رحمته، ورحمته بعيدة
منهم، فلا تتشبهوا بالكافرين.

ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد
يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه، فذهبوا { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ } أي:
على يوسف { قَالُوا } متضرعين إليه: { يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا
وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا
الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } أي: قد اضطررنا نحن وأهلنا { وَجِئْنَا
بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ } أي: مدفوعة مرغوب عنها لقلتها، وعدم وقوعها
الموقع، { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ } أي: مع عدم وفاء العرض، وتصدق علينا
بالزيادة عن الواجب. { إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } بثواب
الدنيا والآخرة.

فلما انتهى الأمر، وبلغ أشده، رقَّ لهم يوسف رقَّة
شديدة، وعرَّفهم بنفسه، وعاتبهم.

{ 89 - 92 } { قَالَ هَلْ
عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ *
قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي
قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ
آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا
تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ }

{ قال هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ
وَأَخِيهِ } أما يوسف فظاهر فعلهم فيه، وأما أخوه، فلعله والله أعلم قولهم:
{ إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } أو أن الحادث الذي
فرَّق بينه وبين أبيه، هم السبب فيه، والأصل الموجب له. { إِذْ أَنْتُمْ
جَاهِلُونَ } وهذا نوع اعتذار لهم بجهلهم، أو توبيخ لهم إذ فعلوا فعل
الجاهلين، مع أنه لا ينبغي ولا يليق منهم.

فعرفوا أن الذي خاطبهم هو
يوسف، فقالوا: { أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا
أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } بالإيمان والتقوى والتمكين في
الدنيا، وذلك بسبب الصبر والتقوى، { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ } أي:
يتقي فعل ما حرم الله، ويصبر على الآلام والمصائب، وعلى الأوامر بامتثالها
{ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فإن هذا من
الإحسان، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

{ قَالُوا تَاللَّهِ
لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا } أي: فضلك علينا بمكارم الأخلاق ومحاسن
الشيم، وأسأنا إليك غاية الإساءة، وحرصنا على إيصال الأذى إليك، والتبعيد
لك عن أبيك، فآثرك الله تعالى ومكنك مما تريد { وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ
} وهذا غاية الاعتراف منهم بالجرم الحاصل منهم على يوسف.

فـ {
قَالَ } لهم يوسف عليه السلام، كرما وجودا: { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ } أي: لا أثرب عليكم ولا ألومكم { يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ
وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } فسمح لهم سماحا تاما، من غير تعيير لهم
على ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذا نهاية الإحسان،
الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين.

{ 93 - 98 } {
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ
بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ
الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ
تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ
*فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ
بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا
كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }

أي: قال يوسف عليه السلام لإخوته: {
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ
بَصِيرًا } لأن كل داء يداوى بضده، فهذا القميص - لما كان فيه أثر ريح
يوسف، الذي أودع قلب أبيه من الحزن والشوق ما الله به عليم - أراد أن يشمه،
فترجع إليه روحه، وتتراجع إليه نفسه، ويرجع إليه بصره، ولله في ذلك حكم
وأسرار، لا يطلع عليها العباد، وقد اطلع يوسف من ذلك على هذا الأمر.

{
وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } أي: أولادكم وعشيرتكم وتوابعكم
كلهم، ليحصل تمام اللقاء، ويزول عنكم نكد المعيشة، وضنك الرزق.

{
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ } عن أرض مصر مقبلة إلى أرض فلسطين، شمَّ يعقوب
ريح القميص، فقال: { إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ
تُفَنِّدُونِ } أي: تسخرون مني، وتزعمون أن هذا الكلام، صدر مني من غير
شعور، لأنه رأى منهم من التعجب من حاله ما أوجب له هذا القول.

فوقع
ما ظنه بهم فقالوا: { تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ } أي:
لا تزال تائها في بحر الحبّ لا تدري ما تقول.

{ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ
الْبَشِيرُ } بقرب الاجتماع بيوسف وإخوته وأبيهم، { أَلْقَاهُ } أي:
القميص { عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا } أي: رجع على حاله الأولى
بصيرا، بعد أن ابيضت عيناه من الحزن، فقال لمن حضره من أولاده وأهله الذين
كانوا يفندون رأيه، ويتعجبون منه منتصرا عليهم، متبجحا بنعمة الله عليه: {
أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
حيث كنت مترجيا للقاء يوسف، مترقبا لزوال الهم والغم والحزن.

فأقروا
بذنبهم ونجعوا بذلك و { قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } حيث فعلنا معك ما فعلنا.

فـ {
قَالَ } مجيبا لطلبتهم، ومسرعا لإجابتهم: { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ
رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي: ورجائي به أن يغفر لكم
ويرحمكم، ويتغمدكم برحمته، وقد قيل: إنه أخر الاستغفار لهم إلى وقت السحر
الفاضل، ليكون أتمَّ للاستغفار، وأقرب للإجابة.

{ 99 - 100 } {
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ
ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى
الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ
رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي
إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ
بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي
لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }

أي: {
فَلَمَّا } تجهز يعقوب وأولاده وأهلهم أجمعون، وارتحلوا من بلادهم قاصدين
الوصول إلى يوسف في مصر وسكناها، فلما وصلوا إليه، و { دَخَلُوا عَلَى
يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } أي: ضمهما إليه، واختصهما بقربه، وأبدى
لهما من البر والإكرام والتبجيل والإعظام شيئا عظيما، { وَقَالَ } لجميع
أهله: { ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } من جميع المكاره
والمخاوف، فدخلوا في هذه الحال السارة، وزال عنهم النصب ونكد المعيشة، وحصل
السرور والبهجة.

{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } أي: على
سرير الملك، ومجلس العزيز، { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } أي: أبوه، وأمه
وإخوته، سجودا على وجه التعظيم والتبجيل والإكرام، { وَقَالَ } لما رأى هذه
الحال، ورأى سجودهم له: { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ
قَبْلُ } حين رأي أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين، فهذا وقوعها الذي
آلت إليه ووصلت { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } فلم يجعلها أضغاث أحلام.

{
وَقَدْ أَحْسَنَ بِي } إحسانا جسيما { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ
وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ } وهذا من لطفه وحسن خطابه عليه السلام، حيث
ذكر حاله في السجن، ولم يذكر حاله في الجب، لتمام عفوه عن إخوته، وأنه لا
يذكر ذلك الذنب، وأن إتيانكم من البادية من إحسان الله إلي.

فلم
يقل: جاء بكم من الجوع والنصب، ولا قال: "أحسن بكم" بل قال { أَحْسَنَ بِي }
جعل الإحسان عائدا إليه، فتبارك من يختص برحمته من يشاء من عباده، ويهب
لهم من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. { مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ
بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } فلم يقل "نزغ الشيطان إخوتي" بل كأن الذنب
والجهل، صدر من الطرفين، فالحمد لله الذي أخزى الشيطان ودحره، وجمعنا بعد
تلك الفرقة الشاقة.

{ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } يوصل
بره وإحسانه إلى العبد من حيث لا يشعر، ويوصله إلى المنازل الرفيعة من أمور
يكرهها، { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } الذي يعلم ظواهر الأمور وبواطنها،
وسرائر العباد وضمائرهم، { الْحَكِيمُ } في وضعه الأشياء مواضعها، وسوقه
الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها.{ 58 - 68 } { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا
جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ
أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ *
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا
تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ *
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا
أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا
أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا
بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ
بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا
وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ
مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ
إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ
عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ
بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي
عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا
دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ
مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا
وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ }

أي: لما تولى يوسف عليه السلام خزائن الأرض،
دبرها أحسن تدبير، فزرع في أرض مصر جميعها في السنين الخصبة، زروعا هائلة،
واتخذ لها المحلات الكبار، وجبا من الأطعمة شيئا كثيرا وحفظه، وضبطه ضبطا
تاما، فلما دخلت السنون المجدبة، وسرى الجدب، حتى وصل إلى فلسطين، التي
يقيم فيها يعقوب وبنوه، فأرسل يعقوب بنيه لأجل الميرة إلى مصر. { وَجَاءَ
إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ } أي: لم يعرفوه.

{ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ
} أي: كال لهم كما كان يكيل لغيرهم، وكان من تدبيره الحسن أنه لا يكيل لكل
واحد أكثر من حمل بعير، وكان قد سألهم عن حالهم، فأخبروه أن لهم أخا عند
أبيه، وهو بنيامين.

فـ { قَالَ } لهم: { ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ
مِنْ أَبِيكُمْ } ثم رغبهم في الإتيان به فقال: { أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي
أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } في الضيافة والإكرام.

ثم
رهبهم بعدم الإتيان به، فقال: { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ
لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ } وذلك لعلمه باضطرارهم إلى الإتيان
إليه، وأن ذلك يحملهم على الإتيان به.

فـ { قَالُوا سَنُرَاوِدُ
عَنْهُ أَبَاهُ } دل هذا على أن يعقوب عليه السلام كان مولعا به لا يصبر
عنه، وكان يتسلى به بعد يوسف، فلذلك احتاج إلى مراودة في بعثه معهم {
وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } لما أمرتنا به.

{ وَقَالَ } يوسف {
لِفِتْيَانِهِ } الذين في خدمته: { اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } أي: الثمن
الذي اشتروا به من الميرة. { فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا }
أي: بضاعتهم إذا رأوها بعد ذلك في رحالهم، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
لأجل التحرج من أخذها على ما قيل، والظاهر أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه
إليهم بالكيل لهم كيلا وافيا، ثم إعادة بضاعتهم إليهم على وجه لا يحسون
بها، ولا يشعرون لما يأتي، فإن الإحسان يوجب للإنسان تمام الوفاء للمحسن.

{
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا
الْكَيْلُ } أي: إن لم ترسل معنا أخانا، { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا
نَكْتَلْ } أي: ليكون ذلك سببا لكيلنا، ثم التزموا له بحفظه، فقالوا: {
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } من أن يعرض له ما يكره.

{ قَالَ } لهم
يعقوب عليه السلام: { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ
عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ } أي: تقدم منكم التزام، أكثر من هذا في حفظ
يوسف، ومع هذا لم تفوا بما عقدتم من التأكيد، فلا أثق بالتزامكم وحفظكم،
وإنما أثق بالله تعالى.

{ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } أي: يعلم حالي، وأرجو أن يرحمني، فيحفظه ويرده
علي، وكأنه في هذا الكلام قد لان لإرساله معهم.

ثم إنهم { وَلَمَّا
فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } هذا
دليل على أنه قد كان معلوما عندهم أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد، وأنه أراد
أن يملكهم إياها. فـ { قَالُوا } لأبيهم - ترغيبا في إرسال أخيهم معهم -: {
يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي } أي: أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام الجميل، حيث
وفَّى لنا الكيل، ورد علينا بضاعتنا على الوجه الحسن، المتضمن للإخلاص
ومكارم الأخلاق؟

{ هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ
أَهْلَنَا } أي: إذا ذهبنا بأخينا صار سببا لكيله لنا، فمرنا أهلنا،
وأتينا لهم، بما هم مضطرون إليه من القوت، { وَنَحْفَظُ أَخَانَا
وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } بإرساله معنا، فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير، {
ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي: سهل لا ينالك ضرر، لأن المدة لا تطول،
والمصلحة قد تبينت.

فـ { قَالَ } لهم يعقوب: { لَنْ أُرْسِلَهُ
مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ } أي: عهدا ثقيلا،
وتحلفون بالله { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ } أي: إلا
أن يأتيكم أمر لا قبل لكم به، ولا تقدرون دفعه، { فَلَمَّا آتَوْهُ
مَوْثِقَهُمْ } على ما قال وأراد { قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ
وَكِيلٌ } أي: تكفينا شهادته علينا وحفظه وكفالته.

ثم لما أرسله
معهم وصاهم، إذا هم قدموا مصر، أن { لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ
وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } وذلك أنه خاف عليهم العين،
لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا سبب.

{ وَ } إلا
فـ { مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } فالمقدر لا بد أن
يكون، { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } أي: القضاء قضاؤه، والأمر أمره،
فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي: اعتمدت على
الله، لا على ما وصيتكم به من السبب، { وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ } فإن بالتوكل يحصل كل مطلوب، ويندفع كل مرهوب.

{
وَلَمَّا } ذهبوا و { دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا
كَانَ } ذلك الفعل { يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } وهو موجب الشفقة والمحبة للأولاد،
فحصل له في ذلك نوع طمأنينة، وقضاء لما في خاطره.

وليس هذا قصورا
في علمه، فإنه من الرسل الكرام والعلماء الربانيين، ولهذا قال عنه: {
وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ } أي: لصاحب علم عظيم { لِمَا عَلَّمْنَاهُ } أي:
لتعليمنا إياه، لا بحوله وقوته أدركه، بل بفضل الله وتعليمه، { وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } عواقب الأمور ودقائق الأشياء وكذلك
أهل العلم منهم، يخفى عليهم من العلم وأحكامه ولوازمه شيء كثير.

{
69 - 79 } { وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ
إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ
أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ
لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ *
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ
وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا
لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا
جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ
بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ
وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ
فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ
نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ * قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ
يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا
كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا
عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ }

أي: لما دخل إخوة يوسف على
يوسف { آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } أي: شقيقه وهو "بنيامين" الذي أمرهم
بالإتيان به، [و] ضمه إليه، واختصه من بين إخوته، وأخبره بحقيقة الحال، و {
قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ } أي: لا تحزن { بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ } فإن العاقبة خير لنا، ثم خبره بما يريد أن يصنع
ويتحيل لبقائه عنده إلى أن ينتهي الأمر.

{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهَازِهِمْ } أي: كال لكل واحد من إخوته، ومن جملتهم أخوه هذا. { جَعَلَ
السِّقَايَةَ } وهو: الإناء الذي يشرب به، ويكال فيه { فِي رَحْلِ أَخِيهِ
ثُمَّ } أوعوا متاعهم، فلما انطلقوا ذاهبين، { أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } ولعل هذا المؤذن، لم يعلم
بحقيقة الحال.

{ قَالُوا } أي: إخوة يوسف { وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ
} لإبعاد التهمة، فإن السارق ليس له همٌّ إلا البعد والانطلاق عمن سرق
منه، لتسلم له سرقته، وهؤلاء جاءوا مقبلين إليهم، ليس لهم همٌّ إلا إزالة
التهمة التي رموا بها عنهم، فقالوا في هذه الحال: { مَاذَا تَفْقِدُونَ }
ولم يقولوا: "ما الذي سرقنا" لجزمهم بأنهم براء من السرقة.

{
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ }
أي: أجرة له على وجدانه { وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } أي: كفيل، وهذا يقوله
المؤذن المتفقد.

{ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا
لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ } بجميع أنواع المعاصي، { وَمَا كُنَّا
سَارِقِينَ } فإن السرقة من أكبر أنواع الفساد في الأرض، وإنما أقسموا على
علمهم أنهم ليسوا مفسدين ولا سارقين، لأنهم عرفوا أنهم سبروا من أحوالهم ما
يدلهم على عفتهم وورعهم، وأن هذا الأمر لا يقع منهم بعلم من اتهموهم، وهذا
أبلغ في نفي التهمة، من أن لو قالوا: { تالله لم نفسد في الأرض ولم نسرق
}.

{ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ } أي: جزاء هذا الفعل { إِنْ كُنْتُمْ
كَاذِبِينَ } بأن كان معكم؟

{ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ } أي: الموجود في رحله { جَزَاؤُهُ } بأن يتملكه صاحب
السرقة، وكان هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة كان ملكا لصاحب
المال المسروق، ولهذا قالوا: { كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }

{
فَبَدَأَ } المفتش { بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ } وذلك لتزول
الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا {
اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } ولم يقل "وجدها، أو سرقها أخوه"
مراعاة للحقيقة الواقعة.

فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه
عنده، على وجه لا يشعر به إخوته، قال تعالى: { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ }
أي: يسرنا له هذا الكيد، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم { مَا كَانَ
لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } لأنه ليس من دينه أن يتملك
السارق، وإنما له عندهم، جزاء آخر، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك، لم
يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده، ولكنه جعل الحكم منهم، ليتم له ما أراد.

قال
تعالى: { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } بالعلم النافع، ومعرفة الطرق
الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف، { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ } فكل عالم، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى عالم الغيب
والشهادة.

فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ }
هذا الأخ، فليس هذا غريبا منه. { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ }
يعنون: يوسف عليه السلام، ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر
منهما ما يصدر من السرقة، وهما ليسا شقيقين لنا.

وفي هذا من الغض
عليهما ما فيه، ولهذا: أسرها يوسف في نفسه { وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } أي:
لم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون، بل كظم الغيظ، وأسرَّ الأمر في نفسه.
و { قَالَ } في نفسه { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا } حيث ذممتمونا بما أنتم
على أشر منه، { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } منا، من وصفنا
بالسرقة، يعلم الله أنا براء منها، ثم سلكوا معه مسلك التملق، لعله يسمح
لهم بأخيهم.

فـ { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا
شَيْخًا كَبِيرًا } أي: وإنه لا يصبر عنه، وسيشق عليه فراقه، { فَخُذْ
أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } فأحسن إلينا
وإلى أبينا بذلك.

فـ { قَالَ } يوسف { مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ
نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ } أي: هذا ظلم منا، لو
أخذنا البريء بذنب من وجدنا متاعنا عنده، ولم يقل "من سرق" كل هذا تحرز من
الكذب، { إِنَّا إِذًا } أي: إن أخذنا غير من وجد في رحله { لَظَالِمُونَ }
حيث وضعنا العقوبة في غير موضعها.

{ 80 - 83 } { فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ
تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ
وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ
حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ
ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا
لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا
وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ
أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }

أي:
فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم { خَلَصُوا نَجِيًّا }
أي: اجتمعوا وحدهم، ليس معهم غيرهم، وجعلوا يتناجون فيما بينهم، فـ { قَالَ
كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ
مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ } في حفظه، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم {
وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ } ، فاجتمع عليكم الأمران،
تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به
أبي.

{ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ } أي: سأقيم في هذه الأرض ولا
أزال بها { حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي } أي:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 4 Icon_minitime2/1/2011, 7:15 pm

{
58 - 68 } { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ
وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ
ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي
الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ
فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ
عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا
بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا
انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجَعُوا
إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ
مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ
آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا
فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا
يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ
أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ
يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ
اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ
مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا
بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ
مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ
الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ
مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي
نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }

أي: لما تولى يوسف
عليه السلام خزائن الأرض، دبرها أحسن تدبير، فزرع في أرض مصر جميعها في
السنين الخصبة، زروعا هائلة، واتخذ لها المحلات الكبار، وجبا من الأطعمة
شيئا كثيرا وحفظه، وضبطه ضبطا تاما، فلما دخلت السنون المجدبة، وسرى الجدب،
حتى وصل إلى فلسطين، التي يقيم فيها يعقوب وبنوه، فأرسل يعقوب بنيه لأجل
الميرة إلى مصر. { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ
فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } أي: لم يعرفوه.

{ وَلَمَّا
جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } أي: كال لهم كما كان يكيل لغيرهم، وكان من
تدبيره الحسن أنه لا يكيل لكل واحد أكثر من حمل بعير، وكان قد سألهم عن
حالهم، فأخبروه أن لهم أخا عند أبيه، وهو بنيامين.

فـ { قَالَ }
لهم: { ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ } ثم رغبهم في الإتيان به
فقال: { أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ
الْمُنْزِلِينَ } في الضيافة والإكرام.

ثم رهبهم بعدم الإتيان به،
فقال: { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا
تَقْرَبُونِ } وذلك لعلمه باضطرارهم إلى الإتيان إليه، وأن ذلك يحملهم على
الإتيان به.

فـ { قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ } دل هذا على
أن يعقوب عليه السلام كان مولعا به لا يصبر عنه، وكان يتسلى به بعد يوسف،
فلذلك احتاج إلى مراودة في بعثه معهم { وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } لما أمرتنا
به.

{ وَقَالَ } يوسف { لِفِتْيَانِهِ } الذين في خدمته: {
اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } أي: الثمن الذي اشتروا به من الميرة. { فِي
رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا } أي: بضاعتهم إذا رأوها بعد ذلك
في رحالهم، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لأجل التحرج من أخذها على ما قيل،
والظاهر أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه إليهم بالكيل لهم كيلا وافيا، ثم
إعادة بضاعتهم إليهم على وجه لا يحسون بها، ولا يشعرون لما يأتي، فإن
الإحسان يوجب للإنسان تمام الوفاء للمحسن.

{ فَلَمَّا رَجَعُوا
إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ } أي: إن لم
ترسل معنا أخانا، { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ } أي: ليكون ذلك
سببا لكيلنا، ثم التزموا له بحفظه، فقالوا: { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }
من أن يعرض له ما يكره.

{ قَالَ } لهم يعقوب عليه السلام: { هَلْ
آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ }
أي: تقدم منكم التزام، أكثر من هذا في حفظ يوسف، ومع هذا لم تفوا بما
عقدتم من التأكيد، فلا أثق بالتزامكم وحفظكم، وإنما أثق بالله تعالى.

{
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } أي: يعلم
حالي، وأرجو أن يرحمني، فيحفظه ويرده علي، وكأنه في هذا الكلام قد لان
لإرساله معهم.

ثم إنهم { وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا
بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } هذا دليل على أنه قد كان معلوما عندهم
أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد، وأنه أراد أن يملكهم إياها. فـ { قَالُوا }
لأبيهم - ترغيبا في إرسال أخيهم معهم -: { يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي } أي:
أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام الجميل، حيث وفَّى لنا الكيل، ورد علينا
بضاعتنا على الوجه الحسن، المتضمن للإخلاص ومكارم الأخلاق؟

{ هَذِهِ
بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } أي: إذا ذهبنا
بأخينا صار سببا لكيله لنا، فمرنا أهلنا، وأتينا لهم، بما هم مضطرون إليه
من القوت، { وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } بإرساله
معنا، فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير، { ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي: سهل لا
ينالك ضرر، لأن المدة لا تطول، والمصلحة قد تبينت.

فـ { قَالَ } لهم
يعقوب: { لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنْ
اللَّهِ } أي: عهدا ثقيلا، وتحلفون بالله { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا
أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ } أي: إلا أن يأتيكم أمر لا قبل لكم به، ولا تقدرون
دفعه، { فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ } على ما قال وأراد { قَالَ اللَّهُ
عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي: تكفينا شهادته علينا وحفظه وكفالته.

ثم
لما أرسله معهم وصاهم، إذا هم قدموا مصر، أن { لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ
وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } وذلك أنه خاف عليهم
العين، لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا سبب.

{
وَ } إلا فـ { مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } فالمقدر لا
بد أن يكون، { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } أي: القضاء قضاؤه، والأمر
أمره، فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي: اعتمدت
على الله، لا على ما وصيتكم به من السبب، { وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ } فإن بالتوكل يحصل كل مطلوب، ويندفع كل مرهوب.

{
وَلَمَّا } ذهبوا و { دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا
كَانَ } ذلك الفعل { يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } وهو موجب الشفقة والمحبة للأولاد،
فحصل له في ذلك نوع طمأنينة، وقضاء لما في خاطره.

وليس هذا قصورا
في علمه، فإنه من الرسل الكرام والعلماء الربانيين، ولهذا قال عنه: {
وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ } أي: لصاحب علم عظيم { لِمَا عَلَّمْنَاهُ } أي:
لتعليمنا إياه، لا بحوله وقوته أدركه، بل بفضل الله وتعليمه، { وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } عواقب الأمور ودقائق الأشياء وكذلك
أهل العلم منهم، يخفى عليهم من العلم وأحكامه ولوازمه شيء كثير.

{
69 - 79 } { وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ
إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ
أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ
لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ *
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ
وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا
لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا
جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ
بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ
وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ
فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ
نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ * قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ
يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا
كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا
عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ }

أي: لما دخل إخوة يوسف على
يوسف { آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } أي: شقيقه وهو "بنيامين" الذي أمرهم
بالإتيان به، [و] ضمه إليه، واختصه من بين إخوته، وأخبره بحقيقة الحال، و {
قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ } أي: لا تحزن { بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ } فإن العاقبة خير لنا، ثم خبره بما يريد أن يصنع
ويتحيل لبقائه عنده إلى أن ينتهي الأمر.

{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهَازِهِمْ } أي: كال لكل واحد من إخوته، ومن جملتهم أخوه هذا. { جَعَلَ
السِّقَايَةَ } وهو: الإناء الذي يشرب به، ويكال فيه { فِي رَحْلِ أَخِيهِ
ثُمَّ } أوعوا متاعهم، فلما انطلقوا ذاهبين، { أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } ولعل هذا المؤذن، لم يعلم
بحقيقة الحال.

{ قَالُوا } أي: إخوة يوسف { وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ
} لإبعاد التهمة، فإن السارق ليس له همٌّ إلا البعد والانطلاق عمن سرق
منه، لتسلم له سرقته، وهؤلاء جاءوا مقبلين إليهم، ليس لهم همٌّ إلا إزالة
التهمة التي رموا بها عنهم، فقالوا في هذه الحال: { مَاذَا تَفْقِدُونَ }
ولم يقولوا: "ما الذي سرقنا" لجزمهم بأنهم براء من السرقة.

{
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ }
أي: أجرة له على وجدانه { وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } أي: كفيل، وهذا يقوله
المؤذن المتفقد.

{ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا
لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ } بجميع أنواع المعاصي، { وَمَا كُنَّا
سَارِقِينَ } فإن السرقة من أكبر أنواع الفساد في الأرض، وإنما أقسموا على
علمهم أنهم ليسوا مفسدين ولا سارقين، لأنهم عرفوا أنهم سبروا من أحوالهم ما
يدلهم على عفتهم وورعهم، وأن هذا الأمر لا يقع منهم بعلم من اتهموهم، وهذا
أبلغ في نفي التهمة، من أن لو قالوا: { تالله لم نفسد في الأرض ولم نسرق
}.

{ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ } أي: جزاء هذا الفعل { إِنْ كُنْتُمْ
كَاذِبِينَ } بأن كان معكم؟

{ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ } أي: الموجود في رحله { جَزَاؤُهُ } بأن يتملكه صاحب
السرقة، وكان هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة كان ملكا لصاحب
المال المسروق، ولهذا قالوا: { كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }

{
فَبَدَأَ } المفتش { بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ } وذلك لتزول
الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا {
اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } ولم يقل "وجدها، أو سرقها أخوه"
مراعاة للحقيقة الواقعة.

فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه
عنده، على وجه لا يشعر به إخوته، قال تعالى: { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ }
أي: يسرنا له هذا الكيد، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم { مَا كَانَ
لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } لأنه ليس من دينه أن يتملك
السارق، وإنما له عندهم، جزاء آخر، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك، لم
يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده، ولكنه جعل الحكم منهم، ليتم له ما أراد.

قال
تعالى: { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } بالعلم النافع، ومعرفة الطرق
الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف، { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ } فكل عالم، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى عالم الغيب
والشهادة.

فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ }
هذا الأخ، فليس هذا غريبا منه. { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ }
يعنون: يوسف عليه السلام، ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر
منهما ما يصدر من السرقة، وهما ليسا شقيقين لنا.

وفي هذا من الغض
عليهما ما فيه، ولهذا: أسرها يوسف في نفسه { وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } أي:
لم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون، بل كظم الغيظ، وأسرَّ الأمر في نفسه.
و { قَالَ } في نفسه { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا } حيث ذممتمونا بما أنتم
على أشر منه، { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } منا، من وصفنا
بالسرقة، يعلم الله أنا براء منها، ثم سلكوا معه مسلك التملق، لعله يسمح
لهم بأخيهم.

فـ { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا
شَيْخًا كَبِيرًا } أي: وإنه لا يصبر عنه، وسيشق عليه فراقه، { فَخُذْ
أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } فأحسن إلينا
وإلى أبينا بذلك.

فـ { قَالَ } يوسف { مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ
نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ } أي: هذا ظلم منا، لو
أخذنا البريء بذنب من وجدنا متاعنا عنده، ولم يقل "من سرق" كل هذا تحرز من
الكذب، { إِنَّا إِذًا } أي: إن أخذنا غير من وجد في رحله { لَظَالِمُونَ }
حيث وضعنا العقوبة في غير موضعها.

{ 80 - 83 } { فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ
تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ
وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ
حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ
ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا
لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا
وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ
أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }

أي:
فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم { خَلَصُوا نَجِيًّا }
أي: اجتمعوا وحدهم، ليس معهم غيرهم، وجعلوا يتناجون فيما بينهم، فـ { قَالَ
كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ
مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ } في حفظه، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم {
وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ } ، فاجتمع عليكم الأمران،
تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به
أبي.

{ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ } أي: سأقيم في هذه الأرض ولا
أزال بها { حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي } أي:
يقدر لي المجيء وحدي، أو مع أخي { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }

ثم
وصَّاهم بما يقولون لأبيهم، فقال: { ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا
يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ } أي: وأخذ بسرقته، ولم يحصل لنا أن
نأتيك به، مع ما بذلنا من الجهد في ذلك. والحال أنا ما شهدنا بشيء لم
نعلمه، وإنما شهدنا بما علمنا، لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله، { وَمَا
كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } أي: لو كنا نعلم الغيب لما حرصنا وبذلنا
المجهود في ذهابه معنا، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا، فلم نظن أن الأمر
سيبلغ ما بلغ.

{ وَاسْأَلِ } إن شككت في قولنا { الْقَرْيَةَ
الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } فقد اطلعوا
على ما أخبرناك به { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } لم نكذب ولم نغير ولم نبدل،
بل هذا الواقع.

فلما رجعوا إلى أبيهم وأخبروه بهذا الخبر، اشتد حزنه
وتضاعف كمده، واتهمهم أيضا في هذه القضية، كما اتهمهم في الأولى، و {
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أي:
ألجأ في ذلك إلى الصبر الجميل، الذي لا يصحبه تسخط ولا جزع، ولا شكوى
للخلق، ثم لجأ إلى حصول الفرج لما رأى أن الأمر اشتد، والكربة انتهت فقال: {
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا } أي: يوسف و "بنيامين"
وأخوهم الكبير الذي أقام في مصر.

{ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } الذي
يعلم حالي، واحتياجي إلى تفريجه ومنَّته، واضطراري إلى إحسانه، {
الْحَكِيمُ } الذي جعل لكل شيء قدرا، ولكل أمر منتهى، بحسب ما اقتضته حكمته
الربانية.

{ 84 - 86 } { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى
عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ *
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ
تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي
إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }

أي:
وتولى يعقوب عليه الصلاة والسلام عن أولاده بعد ما أخبروه هذا الخبر، واشتد
به الأسف والأسى، وابيضت عيناه من الحزن الذي في قلبه، والكمد الذي أوجب
له كثرة البكاء، حيث ابيضت عيناه من ذلك.

{ فَهُوَ كَظِيمٌ } أي:
ممتلئ القلب من الحزن الشديد، { وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } أي:
ظهر منه ما كمن من الهم القديم والشوق المقيم، وذكرته هذه المصيبة الخفيفة
بالنسبة للأولى، المصيبة الأولى.

فقال له أولاده متعجبين من حاله: {
تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } أي: لا تزال تذكر يوسف في جميع
أحوالك. { حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا } أي: فانيا لا حراك فيك ولا قدرة على
الكلام.

{ أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ } أي: لا تترك ذكره مع
قدرتك على ذكره أبدا.

{ قَالَ } يعقوب { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي }
أي: ما أبث من الكلام { وَحُزْنِي } الذي في قلبي { إِلَى اللَّهِ } وحده،
لا إليكم ولا إلى غيركم من الخلق، فقولوا ما شئتم { وَأَعْلَمُ مِنَ
اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } من أنه سيردهم علي ويقر عيني بالاجتماع بهم.

{
87 - 88 } { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ
وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ
اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا
بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا
إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ }

أي: قال يعقوب عليه
السلام لبنيه: { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ
وَأَخِيهِ } أي: احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما { وَلَا تَيْأَسُوا
مِنْ رَوْحِ اللَّهِ } فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه،
والإياس: يوجب له التثاقل والتباطؤ، وأولى ما رجا العباد، فضل الله وإحسانه
ورحمته وروحه، { إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا
الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } فإنهم لكفرهم يستبعدون رحمته، ورحمته بعيدة
منهم، فلا تتشبهوا بالكافرين.

ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد
يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه، فذهبوا { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ } أي:
على يوسف { قَالُوا } متضرعين إليه: { يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا
وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا
الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } أي: قد اضطررنا نحن وأهلنا { وَجِئْنَا
بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ } أي: مدفوعة مرغوب عنها لقلتها، وعدم وقوعها
الموقع، { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ } أي: مع عدم وفاء العرض، وتصدق علينا
بالزيادة عن الواجب. { إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } بثواب
الدنيا والآخرة.

فلما انتهى الأمر، وبلغ أشده، رقَّ لهم يوسف رقَّة
شديدة، وعرَّفهم بنفسه، وعاتبهم.

{ 89 - 92 } { قَالَ هَلْ
عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ *
قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي
قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ
آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا
تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ }

{ قال هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ
وَأَخِيهِ } أما يوسف فظاهر فعلهم فيه، وأما أخوه، فلعله والله أعلم قولهم:
{ إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } أو أن الحادث الذي
فرَّق بينه وبين أبيه، هم السبب فيه، والأصل الموجب له. { إِذْ أَنْتُمْ
جَاهِلُونَ } وهذا نوع اعتذار لهم بجهلهم، أو توبيخ لهم إذ فعلوا فعل
الجاهلين، مع أنه لا ينبغي ولا يليق منهم.

فعرفوا أن الذي خاطبهم هو
يوسف، فقالوا: { أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا
أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } بالإيمان والتقوى والتمكين في
الدنيا، وذلك بسبب الصبر والتقوى، { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ } أي:
يتقي فعل ما حرم الله، ويصبر على الآلام والمصائب، وعلى الأوامر بامتثالها
{ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فإن هذا من
الإحسان، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

{ قَالُوا تَاللَّهِ
لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا } أي: فضلك علينا بمكارم الأخلاق ومحاسن
الشيم، وأسأنا إليك غاية الإساءة، وحرصنا على إيصال الأذى إليك، والتبعيد
لك عن أبيك، فآثرك الله تعالى ومكنك مما تريد { وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ
} وهذا غاية الاعتراف منهم بالجرم الحاصل منهم على يوسف.

فـ {
قَالَ } لهم يوسف عليه السلام، كرما وجودا: { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ } أي: لا أثرب عليكم ولا ألومكم { يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ
وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } فسمح لهم سماحا تاما، من غير تعيير لهم
على ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذا نهاية الإحسان،
الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين.

{ 93 - 98 } {
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ
بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ
الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ
تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ
*فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ
بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا
كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }

أي: قال يوسف عليه السلام لإخوته: {
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ
بَصِيرًا } لأن كل داء يداوى بضده، فهذا القميص - لما كان فيه أثر ريح
يوسف، الذي أودع قلب أبيه من الحزن والشوق ما الله به عليم - أراد أن يشمه،
فترجع إليه روحه، وتتراجع إليه نفسه، ويرجع إليه بصره، ولله في ذلك حكم
وأسرار، لا يطلع عليها العباد، وقد اطلع يوسف من ذلك على هذا الأمر.

{
وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } أي: أولادكم وعشيرتكم وتوابعكم
كلهم، ليحصل تمام اللقاء، ويزول عنكم نكد المعيشة، وضنك الرزق.

{
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ } عن أرض مصر مقبلة إلى أرض فلسطين، شمَّ يعقوب
ريح القميص، فقال: { إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ
تُفَنِّدُونِ } أي: تسخرون مني، وتزعمون أن هذا الكلام، صدر مني من غير
شعور، لأنه رأى منهم من التعجب من حاله ما أوجب له هذا القول.

فوقع
ما ظنه بهم فقالوا: { تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ } أي:
لا تزال تائها في بحر الحبّ لا تدري ما تقول.

{ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ
الْبَشِيرُ } بقرب الاجتماع بيوسف وإخوته وأبيهم، { أَلْقَاهُ } أي:
القميص { عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا } أي: رجع على حاله الأولى
بصيرا، بعد أن ابيضت عيناه من الحزن، فقال لمن حضره من أولاده وأهله الذين
كانوا يفندون رأيه، ويتعجبون منه منتصرا عليهم، متبجحا بنعمة الله عليه: {
أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
حيث كنت مترجيا للقاء يوسف، مترقبا لزوال الهم والغم والحزن.

فأقروا
بذنبهم ونجعوا بذلك و { قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } حيث فعلنا معك ما فعلنا.

فـ {
قَالَ } مجيبا لطلبتهم، ومسرعا لإجابتهم: { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ
رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي: ورجائي به أن يغفر لكم
ويرحمكم، ويتغمدكم برحمته، وقد قيل: إنه أخر الاستغفار لهم إلى وقت السحر
الفاضل، ليكون أتمَّ للاستغفار، وأقرب للإجابة.

{ 99 - 100 } {
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ
ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى
الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ
رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي
إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ
بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي
لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }

أي: {
فَلَمَّا } تجهز يعقوب وأولاده وأهلهم أجمعون، وارتحلوا من بلادهم قاصدين
الوصول إلى يوسف في مصر وسكناها، فلما وصلوا إليه، و { دَخَلُوا عَلَى
يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } أي: ضمهما إليه، واختصهما بقربه، وأبدى
لهما من البر والإكرام والتبجيل والإعظام شيئا عظيما، { وَقَالَ } لجميع
أهله: { ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } من جميع المكاره
والمخاوف، فدخلوا في هذه الحال السارة، وزال عنهم النصب ونكد المعيشة، وحصل
السرور والبهجة.

{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } أي: على
سرير الملك، ومجلس العزيز، { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } أي: أبوه، وأمه
وإخوته، سجودا على وجه التعظيم والتبجيل والإكرام، { وَقَالَ } لما رأى هذه
الحال، ورأى سجودهم له: { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ
قَبْلُ } حين رأي أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين، فهذا وقوعها الذي
آلت إليه ووصلت { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } فلم يجعلها أضغاث أحلام.

{
وَقَدْ أَحْسَنَ بِي } إحسانا جسيما { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ
وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ } وهذا من لطفه وحسن خطابه عليه السلام، حيث
ذكر حاله في السجن، ولم يذكر حاله في الجب، لتمام عفوه عن إخوته، وأنه لا
يذكر ذلك الذنب، وأن إتيانكم من البادية من إحسان الله إلي.

فلم
يقل: جاء بكم من الجوع والنصب، ولا قال: "أحسن بكم" بل قال { أَحْسَنَ بِي }
جعل الإحسان عائدا إليه، فتبارك من يختص برحمته من يشاء من عباده، ويهب
لهم من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. { مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ
بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } فلم يقل "نزغ الشيطان إخوتي" بل كأن الذنب
والجهل، صدر من الطرفين، فالحمد لله الذي أخزى الشيطان ودحره، وجمعنا بعد
تلك الفرقة الشاقة.

{ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } يوصل
بره وإحسانه إلى العبد من حيث لا يشعر، ويوصله إلى المنازل الرفيعة من أمور
يكرهها، { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } الذي يعلم ظواهر الأمور وبواطنها،
وسرائر العباد وضمائرهم، { الْحَكِيمُ } في وضعه الأشياء مواضعها، وسوقه
الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها.{ 58 - 68 } { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا
جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ
أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ *
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا
تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ *
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا
أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا
أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا
بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ
بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا
وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ
مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ
إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ
عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ
بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي
عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا
دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ
مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا
وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ }

أي: لما تولى يوسف عليه السلام خزائن الأرض،
دبرها أحسن تدبير، فزرع في أرض مصر جميعها في السنين الخصبة، زروعا هائلة،
واتخذ لها المحلات الكبار، وجبا من الأطعمة شيئا كثيرا وحفظه، وضبطه ضبطا
تاما، فلما دخلت السنون المجدبة، وسرى الجدب، حتى وصل إلى فلسطين، التي
يقيم فيها يعقوب وبنوه، فأرسل يعقوب بنيه لأجل الميرة إلى مصر. { وَجَاءَ
إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ } أي: لم يعرفوه.

{ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ
} أي: كال لهم كما كان يكيل لغيرهم، وكان من تدبيره الحسن أنه لا يكيل لكل
واحد أكثر من حمل بعير، وكان قد سألهم عن حالهم، فأخبروه أن لهم أخا عند
أبيه، وهو بنيامين.

فـ { قَالَ } لهم: { ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ
مِنْ أَبِيكُمْ } ثم رغبهم في الإتيان به فقال: { أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي
أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } في الضيافة والإكرام.

ثم
رهبهم بعدم الإتيان به، فقال: { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ
لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ } وذلك لعلمه باضطرارهم إلى الإتيان
إليه، وأن ذلك يحملهم على الإتيان به.

فـ { قَالُوا سَنُرَاوِدُ
عَنْهُ أَبَاهُ } دل هذا على أن يعقوب عليه السلام كان مولعا به لا يصبر
عنه، وكان يتسلى به بعد يوسف، فلذلك احتاج إلى مراودة في بعثه معهم {
وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } لما أمرتنا به.

{ وَقَالَ } يوسف {
لِفِتْيَانِهِ } الذين في خدمته: { اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } أي: الثمن
الذي اشتروا به من الميرة. { فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا }
أي: بضاعتهم إذا رأوها بعد ذلك في رحالهم، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
لأجل التحرج من أخذها على ما قيل، والظاهر أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه
إليهم بالكيل لهم كيلا وافيا، ثم إعادة بضاعتهم إليهم على وجه لا يحسون
بها، ولا يشعرون لما يأتي، فإن الإحسان يوجب للإنسان تمام الوفاء للمحسن.

{
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا
الْكَيْلُ } أي: إن لم ترسل معنا أخانا، { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا
نَكْتَلْ } أي: ليكون ذلك سببا لكيلنا، ثم التزموا له بحفظه، فقالوا: {
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } من أن يعرض له ما يكره.

{ قَالَ } لهم
يعقوب عليه السلام: { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ
عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ } أي: تقدم منكم التزام، أكثر من هذا في حفظ
يوسف، ومع هذا لم تفوا بما عقدتم من التأكيد، فلا أثق بالتزامكم وحفظكم،
وإنما أثق بالله تعالى.

{ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } أي: يعلم حالي، وأرجو أن يرحمني، فيحفظه ويرده
علي، وكأنه في هذا الكلام قد لان لإرساله معهم.

ثم إنهم { وَلَمَّا
فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } هذا
دليل على أنه قد كان معلوما عندهم أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد، وأنه أراد
أن يملكهم إياها. فـ { قَالُوا } لأبيهم - ترغيبا في إرسال أخيهم معهم -: {
يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي } أي: أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام الجميل، حيث
وفَّى لنا الكيل، ورد علينا بضاعتنا على الوجه الحسن، المتضمن للإخلاص
ومكارم الأخلاق؟

{ هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ
أَهْلَنَا } أي: إذا ذهبنا بأخينا صار سببا لكيله لنا، فمرنا أهلنا،
وأتينا لهم، بما هم مضطرون إليه من القوت، { وَنَحْفَظُ أَخَانَا
وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } بإرساله معنا، فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير، {
ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي: سهل لا ينالك ضرر، لأن المدة لا تطول،
والمصلحة قد تبينت.

فـ { قَالَ } لهم يعقوب: { لَنْ أُرْسِلَهُ
مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ } أي: عهدا ثقيلا،
وتحلفون بالله { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ } أي: إلا
أن يأتيكم أمر لا قبل لكم به، ولا تقدرون دفعه، { فَلَمَّا آتَوْهُ
مَوْثِقَهُمْ } على ما قال وأراد { قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ
وَكِيلٌ } أي: تكفينا شهادته علينا وحفظه وكفالته.

ثم لما أرسله
معهم وصاهم، إذا هم قدموا مصر، أن { لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ
وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } وذلك أنه خاف عليهم العين،
لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا سبب.

{ وَ } إلا
فـ { مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } فالمقدر لا بد أن
يكون، { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } أي: القضاء قضاؤه، والأمر أمره،
فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي: اعتمدت على
الله، لا على ما وصيتكم به من السبب، { وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ } فإن بالتوكل يحصل كل مطلوب، ويندفع كل مرهوب.

{
وَلَمَّا } ذهبوا و { دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا
كَانَ } ذلك الفعل { يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } وهو موجب الشفقة والمحبة للأولاد،
فحصل له في ذلك نوع طمأنينة، وقضاء لما في خاطره.

وليس هذا قصورا
في علمه، فإنه من الرسل الكرام والعلماء الربانيين، ولهذا قال عنه: {
وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ } أي: لصاحب علم عظيم { لِمَا عَلَّمْنَاهُ } أي:
لتعليمنا إياه، لا بحوله وقوته أدركه، بل بفضل الله وتعليمه، { وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } عواقب الأمور ودقائق الأشياء وكذلك
أهل العلم منهم، يخفى عليهم من العلم وأحكامه ولوازمه شيء كثير.

{
69 - 79 } { وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ
إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ
أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ
لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ *
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ
وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا
لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا
جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ
بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ
وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ
فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ
نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ * قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ
يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا
كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا
عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ }

أي: لما دخل إخوة يوسف على
يوسف { آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } أي: شقيقه وهو "بنيامين" الذي أمرهم
بالإتيان به، [و] ضمه إليه، واختصه من بين إخوته، وأخبره بحقيقة الحال، و {
قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ } أي: لا تحزن { بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ } فإن العاقبة خير لنا، ثم خبره بما يريد أن يصنع
ويتحيل لبقائه عنده إلى أن ينتهي الأمر.

{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهَازِهِمْ } أي: كال لكل واحد من إخوته، ومن جملتهم أخوه هذا. { جَعَلَ
السِّقَايَةَ } وهو: الإناء الذي يشرب به، ويكال فيه { فِي رَحْلِ أَخِيهِ
ثُمَّ } أوعوا متاعهم، فلما انطلقوا ذاهبين، { أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } ولعل هذا المؤذن، لم يعلم
بحقيقة الحال.

{ قَالُوا } أي: إخوة يوسف { وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ
} لإبعاد التهمة، فإن السارق ليس له همٌّ إلا البعد والانطلاق عمن سرق
منه، لتسلم له سرقته، وهؤلاء جاءوا مقبلين إليهم، ليس لهم همٌّ إلا إزالة
التهمة التي رموا بها عنهم، فقالوا في هذه الحال: { مَاذَا تَفْقِدُونَ }
ولم يقولوا: "ما الذي سرقنا" لجزمهم بأنهم براء من السرقة.

{
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ }
أي: أجرة له على وجدانه { وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } أي: كفيل، وهذا يقوله
المؤذن المتفقد.

{ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا
لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ } بجميع أنواع المعاصي، { وَمَا كُنَّا
سَارِقِينَ } فإن السرقة من أكبر أنواع الفساد في الأرض، وإنما أقسموا على
علمهم أنهم ليسوا مفسدين ولا سارقين، لأنهم عرفوا أنهم سبروا من أحوالهم ما
يدلهم على عفتهم وورعهم، وأن هذا الأمر لا يقع منهم بعلم من اتهموهم، وهذا
أبلغ في نفي التهمة، من أن لو قالوا: { تالله لم نفسد في الأرض ولم نسرق
}.

{ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ } أي: جزاء هذا الفعل { إِنْ كُنْتُمْ
كَاذِبِينَ } بأن كان معكم؟

{ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ } أي: الموجود في رحله { جَزَاؤُهُ } بأن يتملكه صاحب
السرقة، وكان هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة كان ملكا لصاحب
المال المسروق، ولهذا قالوا: { كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }

{
فَبَدَأَ } المفتش { بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ } وذلك لتزول
الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا {
اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } ولم يقل "وجدها، أو سرقها أخوه"
مراعاة للحقيقة الواقعة.

فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه
عنده، على وجه لا يشعر به إخوته، قال تعالى: { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ }
أي: يسرنا له هذا الكيد، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم { مَا كَانَ
لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } لأنه ليس من دينه أن يتملك
السارق، وإنما له عندهم، جزاء آخر، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك، لم
يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده، ولكنه جعل الحكم منهم، ليتم له ما أراد.

قال
تعالى: { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } بالعلم النافع، ومعرفة الطرق
الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف، { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ } فكل عالم، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى عالم الغيب
والشهادة.

فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ }
هذا الأخ، فليس هذا غريبا منه. { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ }
يعنون: يوسف عليه السلام، ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر
منهما ما يصدر من السرقة، وهما ليسا شقيقين لنا.

وفي هذا من الغض
عليهما ما فيه، ولهذا: أسرها يوسف في نفسه { وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } أي:
لم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون، بل كظم الغيظ، وأسرَّ الأمر في نفسه.
و { قَالَ } في نفسه { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا } حيث ذممتمونا بما أنتم
على أشر منه، { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } منا، من وصفنا
بالسرقة، يعلم الله أنا براء منها، ثم سلكوا معه مسلك التملق، لعله يسمح
لهم بأخيهم.

فـ { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا
شَيْخًا كَبِيرًا } أي: وإنه لا يصبر عنه، وسيشق عليه فراقه، { فَخُذْ
أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } فأحسن إلينا
وإلى أبينا بذلك.

فـ { قَالَ } يوسف { مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ
نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ } أي: هذا ظلم منا، لو
أخذنا البريء بذنب من وجدنا متاعنا عنده، ولم يقل "من سرق" كل هذا تحرز من
الكذب، { إِنَّا إِذًا } أي: إن أخذنا غير من وجد في رحله { لَظَالِمُونَ }
حيث وضعنا العقوبة في غير موضعها.

{ 80 - 83 } { فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ
تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ
وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ
حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ
ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا
لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا
وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ
أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }

أي:
فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم { خَلَصُوا نَجِيًّا }
أي: اجتمعوا وحدهم، ليس معهم غيرهم، وجعلوا يتناجون فيما بينهم، فـ { قَالَ
كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ
مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ } في حفظه، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم {
وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ } ، فاجتمع عليكم الأمران،
تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به
أبي.

{ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ } أي: سأقيم في هذه الأرض ولا
أزال بها { حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي } أي:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تفسير القران الكريم كاملا
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 4 من اصل 4انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4
 مواضيع مماثلة
-
»  القران الكريم كاملا بصيغه Mp3
» تفسير القرأن للشيخ الشعراوي كاملا صوت وصورة
»  برنامج لتحميل القرآن الكريم كاملا في 5 ثواني بصوت 28 قارئ ؟؟
»  تعريف القران الكريم
»  علوم القران الكريم

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ :: `·.¸¸.·´´¯`··._.· ( واحة الايمان ) `·.¸¸.·´´¯`··._.·` :: :: المنتـ ـ ـ ـ ــدى الاســ ـ ـ ــلامـ ـ ــى العــ ـ ـ ـــام ::-
انتقل الى:  
.: اتصل بنا :.
لو فى اى مشكلة فى المنتدى