ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ
تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Ouooou10
ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ
تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Ouooou10
ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ

اهلا,.بك،.,فى.،ملتقى.شلة:شباب.فى،ـبنات,,معانا:هتستمتع.,بالوقت،افتح,.قلبك,ـواتكلم’.معانا.هتسمع،،أحـلى.,اغانى,,واحلى:،كلام.,فى,:الحب،دا،إحنا.شباب،.علي:.كيفك
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول


 

 تفسير القران الكريم كاملا

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime1/1/2011, 9:05 pm

{
79 - 99 } { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا
لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا عَلَى
الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا
تَكْتُمُونَ }

يخبر تعالى أنه جعل { الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ
الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ } يقوم بالقيام بتعظيمه دينُهم ودنياهم،
فبذلك يتم إسلامهم، وبه تحط أوزارهم، وتحصل لهم - بقصده - العطايا الجزيلة،
والإحسان الكثير، وبسببه تنفق الأموال، وتتقحم - من أجله - الأهوال.

ويجتمع
فيه من كل فج عميق جميع أجناس المسلمين، فيتعارفون ويستعين بعضهم ببعض،
ويتشاورون على المصالح العامة، وتنعقد بينهم الروابط في مصالحهم الدينية
والدنيوية.

قال تعالى: { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } ومن أجل كون البيت قياما للناس
قال من قال من العلماء: إن حج بيت الله فرض كفاية في كل سنة. فلو ترك الناس
حجه لأثم كل قادر، بل لو ترك الناس حجه لزال ما به قوامهم، وقامت القيامة.

وقوله:
{ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ } أي: وكذلك جعل الهدي والقلائد -التي هي
أشرف أنواع الهدي- قياما للناس، ينتفعون بهما ويثابون عليهما. { ذَلِكَ
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فمن علمه أن جعل لكم
هذا البيت الحرام، لما يعلمه من مصالحكم الدينية والدنيوية.

{
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ } أي: ليكن هذان العلمان موجودين في قلوبكم على وجه الجزم واليقين،
تعلمون أنه شديد العقاب العاجل والآجل على من عصاه، وأنه غفور رحيم لمن
تاب إليه وأطاعه.فيثمر لكم هذا العلمُ الخوفَ من عقابه، والرجاءَ لمغفرته
وثوابه، وتعملون على ما يقتضيه الخوف والرجاء.

ثم قال تعالى: { مَا
عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ } وقد بلَّغ كما أُمِر، وقام بوظيفته،
وما سـوى ذلك فليـس لـه مـن الأمـر شـيء. { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } فيجازيكم بما يعلمه تعالى منكم.


{
100 } { قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ
كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

أي: { قُلْ } للناس محذرا عن الشر ومرغبا
في الخير: { لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } من كل شيء، فلا
يستوي الإيمان والكفر، ولا الطاعة والمعصية، ولا أهل الجنة وأهل النار، ولا
الأعمال الخبيثة والأعمال الطيبة، ولا المال الحرام بالمال الحلال.

{
وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } فإنه لا ينفع صاحبه شيئا، بل
يضره في دينه ودنياه.

{ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فأمر أُولي الألباب، أي: أهل العقول الوافية،
والآراء الكاملة، فإن الله تعالى يوجه إليهم الخطاب. وهم الذين يؤبه لهم،
ويرجى أن يكون فيهم خير.

ثم أخبر أن الفلاح متوقف على التقوى التي
هي موافقة الله في أمره ونهيه، فمن اتقاه أفلح كل الفلاح، ومن ترك تقواه
حصل له الخسران وفاتته الأرباح.


{ 101 - 102 } { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ
لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا
قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ }

ينهى
عباده المؤمنين عن سؤال الأشياء التي إذا بينت لهم ساءتهم وأحزنتهم، وذلك
كسؤال بعض المسلمين لرسول الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 عن آبائهم، وعن حالهم في الجنة أو النار،
فهذا ربما أنه لو بين للسائل لم يكن له فيه خير، وكسؤالهم للأمور غير
الواقعة.

وكالسؤال الذي يترتب عليه تشديدات في الشرع ربما أحرجت
الأمة، وكالسؤال عما لا يعني، فهذه الأسئلة، وما أشبهها هي المنهي عنها،
وأما السؤال الذي لا يترتب عليه شيء من ذلك فهذا مأمور به، كما قال تعالى: {
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }

{
وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي:
وإذا وافق سؤالكم محله فسألتم عنها حين ينزل عليكم القرآن، فتسألون عن آية
أشكلت، أو حكم خفي وجهه عليكم، في وقت يمكن فيه نزول الوحي من السماء، تبد
لكم، أي: تبين لكم وتظهر، وإلا فاسكتوا عمّا سكت الله عنه.

{ عَفَا
اللَّهُ عَنْهَا } أي: سكت معافيا لعباده منها، فكل ما سكت الله عنه فهو
مما أباحه وعفا عنه. { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي: لم يزل بالمغفرة
موصوفا، وبالحلم والإحسان معروفا، فتعرضوا لمغفرته وإحسانه، واطلبوه من
رحمته ورضوانه.

وهذه المسائل التي نهيتم عنها { قَدْ سَأَلَهَا
قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي: جنسها وشبهها، سؤال تعنت لا استرشاد. فلما
بينت لهم وجاءتهم { أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } كما قال النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 في الحديث الصحيح: "ما نهيتكم عنه
فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك من كان قبلكم
كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم".


{ 103 - 104 } { مَا
جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا
حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا
عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا
وَلَا يَهْتَدُونَ }

هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم
يأذن به الله، وحرموا ما أحله الله، فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من
مواشيهم محرما، على حسب اصطلاحاتهم التي عارضت ما أنزل الله فقال: { مَا
جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ } وهي: ناقة يشقون أذنها، ثم يحرمون ركوبها
ويرونها محترمة.

{ وَلَا سَائِبَةٍ } وهي: ناقة، أو بقرة، أو شاة،
إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه، سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل،
وبعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة.

{ وَلَا حَامٍ } أي: جمل
يحمى ظهره عن الركوب والحمل، إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم.

فكل
هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان. وإنما ذلك افتراء على
الله، وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم، ولهذا قال: { وَلَكِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ } فلا نقل فيها ولا عقل، ومع هذا فقد أعجبوا بآرائهم التي بنيت
على الجهالة والظلم.

فإذا دعوا { إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
وَإِلَى الرَّسُولِ } أعرضوا فلم يقبلوا، و { قَالُوا حَسْبُنَا مَا
وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } من الدين، ولو كان غير سديد، ولا دينًا
ينجي من عذاب الله.

ولو كان في آبائهم كفاية ومعرفة ودراية لهان
الأمر. ولكن آباءهم لا يعقلون شيئا، أي: ليس عندهم من المعقول شيء، ولا من
العلم والهدى شيء. فتبا لمن قلد من لا علم عنده صحيح، ولا عقل رجيح، وترك
اتباع ما أنزل الله، واتباع رسله الذي يملأ القلوب علما وإيمانا, وهدى,
وإيقانا.


{ 105 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى
اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
}

يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ } أي: اجتهدوا في إصلاحها وكمالها وإلزامها سلوك الصراط
المستقيم، فإنكم إذا صلحتم لا يضركم من ضل عن الصراط المستقيم، ولم يهتد
إلى الدين القويم، وإنما يضر نفسه.

ولا يدل هذا على أن الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يضر العبدَ تركُهما وإهمالُهما، فإنه لا يتم
هداه, إلا بالإتيان بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

نعم،
إذا كان عاجزا عن إنكار المنكر بيده ولسانه وأنكره بقلبه، فإنه لا يضره
ضلال غيره.

وقوله: { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } أي:
مآلكم يوم القيامة، واجتماعكم بين يدي الله تعالى. { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من خير وشر.

{ 106 - 108 } { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ
غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ
مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ
فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا
وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا
لَمِنَ الْآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا
فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ
شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ *
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ
يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }

يخبر
تعالى خبرا متضمنا للأمر بإشهاد اثنين على الوصية، إذا حضر الإنسان
مقدماتُ الموت وعلائمه. فينبغي له أن يكتب وصيته، ويشهد عليها اثنين ذوي
عدل ممن تعتبر شهادتهما.

{ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي: من
غير أهل دينكم، من اليهود أو النصارى أو غيرهم، وذلك عند الحاجة والضرورة
وعدم غيرهما من المسلمين.

{ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ
} أي: سافرتم فيها { فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } أي:
فأشهدوهما، ولم يأمر بشهادتهما إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول، ويؤكد
عليهما، بأن يحبسا { مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ } التي يعظمونها.

{
فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } أنهما صدقا، وما غيرا ولا بدلا، هذا { إِنِ
ارْتَبْتُمْ } في شهادتهما، فإن صدقتموهما، فلا حاجة إلى القسم بذلك.

ويقولان:
{ لَا نَشْتَرِي بِهِ } أي: بأيماننا { ثَمَنًا } بأن نكذب فيها، لأجل عرض
من الدنيا. { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } فلا نراعيه لأجل قربه منا {
وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } بل نؤديها على ما سمعناها { إِنَّا
إِذًا } أي: إن كتمناها { لَمِنَ الْآثِمِينَ }

{ فَإِنْ عُثِرَ
عَلَى أَنَّهُمَا } أي: الشاهدين { اسْتَحَقَّا إِثْمًا } بأن وجد من
القرائن ما يدل على كذبهما وأنهما خانا { فآخران يقومان مقامهما من الذين
استحق عليهم الأوليان }

أي: فليقم رجلان من أولياء الميت، وليكونا
من أقرب الأولياء إليه. { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ
مِنْ شَهَادَتِهِمَا } أي: أنهما كذبا، وغيرا وخانا. { وَمَا اعْتَدَيْنَا
إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي: إن ظلمنا واعتدينا، وشهدنا بغير
الحق.

قال الله تعالى في بيان حكمة تلك الشهادة وتأكيدها، وردها على
أولياء الميت حين تظهر من الشاهدين الخيانة: { ذَلِكَ أَدْنَى } أي: أقرب {
أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا } حين تؤكد عليهما تلك
التأكيدات. { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ }
أي: أن لا تقبل أيمانهم، ثم ترد على أولياء الميت.

{ وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي: الذين وصْفُهم الفسق، فلا يريدون
الهدى والقصد إلى الصراط المستقيم.

وحاصل هذا، أن الميت - إذا حضره
الموت في سفر ونحوه، مما هو مظنة قلة الشهود المعتبرين- أنه ينبغي أن يوصي
شاهدين مسلمين عدلين.

فإن لم يجد إلا شاهدين كافرين، جاز أن يوصي
إليهما، ولكن لأجل كفرهما فإن الأولياء إذا ارتابوا بهما فإنهم يحلفونهما
بعد الصلاة، أنهما ما خانا، ولا كذبا، ولا غيرا، ولا بدلا، فيبرآن بذلك من
حق يتوجه إليهما.

فإن لم يصدقوهما ووجدوا قرينة تدل على كذب
الشاهدين، فإن شاء أولياء الميت، فليقم منهم اثنان، فيقسمان بالله:
لشهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين، وأنهما خانا وكذبا، فيستحقون
منهما ما يدعون.

وهذه الآيات الكريمة نزلت في قصة "تميم الداري" و
"عدي بن بداء" المشهورة حين أوصى لهما العدوي، والله أعلم.

ويستدل
بالآيات الكريمات على عدة أحكام:

منها: أن الوصية مشروعة، وأنه
ينبغي لمن حضره الموت أن يوصي.

ومنها: أنها معتبرة، ولو كان الإنسان
وصل إلى مقدمات الموت وعلاماته، ما دام عقله ثابتا.

ومنها: أن
شهادة الوصية لابد فيها من اثنين عدلين.

ومنها: أن شهادة الكافرين
في هذه الوصية ونحوها مقبولة لوجود الضرورة، وهذا مذهب الإمام أحمد. وزعم
كثير من أهل العلم: أن هذا الحكم منسوخ، وهذه دعوى لا دليل عليها.

ومنها:
أنه ربما استفيد من تلميح الحكم ومعناه، أن شهادة الكفار -عند عدم غيرهم،
حتى في غير هذه المسألة- مقبولة، كما ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.

ومنها:
جواز سفر المسلم مع الكافر إذا لم يكن محذور.

ومنها: جواز السفر
للتجارة.

ومنها: أن الشاهدين -إذا ارتيب منهما، ولم تبد قرينة تدل
على خيانتهما، وأراد الأولياء- أن يؤكدوا عليهم اليمين، ويحبسوهما من بعد
الصلاة، فيقسمان بصفة ما ذكر الله تعالى.

ومنها: أنه إذا لم تحصل
تهمة ولا ريب لم يكن حاجة إلى حبسهما، وتأكيد اليمين عليهما.

ومنها:
تعظيم أمر الشهادة حيث أضافها تعالى إلى نفسه، وأنه يجب الاعتناء بها
والقيام بها بالقسط.

ومنها: أنه يجوز امتحان الشاهدين عند الريبة
منهما، وتفريقهما لينظر عن شهادتهما.

ومنها: أنه إذا وجدت القرائن
الدالة على كذب الوصيين في هذه المسألة - قام اثنان من أولياء الميت فأقسما
بالله: أن أيماننا أصدق من أيمانهما، ولقد خانا وكذبا.

ثم يدفع
إليهما ما ادعياه، فتكون القرينة -مع أيمانهما- قائمة مقام البينة.

{
109 ، 110 } { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا
أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ *
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ
وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ
طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ
تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ
إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ
هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ }

يخبر تعالى عن يوم القيامة وما فيه
من الأهوال العظام، وأن الله يجمع به جميع الرسل فيسألهم: { مَاذَا
أُجِبْتُمْ } أي: ماذا أجابتكم به أممكم.

فـ { قَالُوا لَا عِلْمَ
لَنَا } وإنما العلم لك يا ربنا، فأنت أعلم منا. { إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ
الْغُيُوبِ } أي: تعلم الأمور الغائبة والحاضرة.

{ إِذْ قَالَ
اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى
وَالِدَتِكَ } أي: اذكرها بقلبك ولسانك، وقم بواجبها شكرا لربك، حيث أنعم
عليك نعما ما أنعم بها على غيرك.

{ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ
الْقُدُسِ } أي: إذ قويتك بالروح والوحي، الذي طهرك وزكاك، وصار لك قوة على
القيام بأمر الله والدعوة إلى سبيله. وقيل: إن المراد "بروح القدس" جبريل
عليه السلام، وأن الله أعانه به وبملازمته له، وتثبيته في المواطن المشقة.

{
تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا } المراد بالتكليم هنا، غير
التكليم المعهود الذي هو مجرد الكلام، وإنما المراد بذلك التكليم الذي
ينتفع به المتكلم والمخاطب، وهو الدعوة إلى الله.

ولعيسى عليه
السلام من ذلك، ما لإخوانه من أولي العزم من المرسلين، من التكليم في حال
الكهولة، بالرسالة والدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر، وامتاز عنهم بأنه
كلم الناس في المهد، فقال: { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ
وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ
وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } الآية.

{
وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فالكتاب يشمل الكتب
السابقة، وخصوصا التوراة، فإنه من أعلم أنبياء بني إسرائيل -بعد موسى- بها.
ويشمل الإنجيل الذي أنزله الله عليه.

والحكمة هي: معرفة أسرار
الشرع وفوائده وحكمه، وحسن الدعوة والتعليم، ومراعاة ما ينبغي، على الوجه
الذي ينبغي.

{ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ }
أي: طيرا مصورا لا روح فيه. فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وتبرئ الأكمه
الذي لا بصر له ولا عين. { وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ
الْمَوْتَى بِإِذْنِي } فهذه آيات بيِّنَات، ومعجزات باهرات، يعجز عنها
الأطباء وغيرهم، أيد الله بها عيسى وقوى بها دعوته. { وَإِذْ كَفَفْتُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ } لما جاءهم الحق مؤيدا بالبينات الموجبة
للإيمان به. { إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } وهموا بعيسى أن يقتلوه،
وسعوا في ذلك، فكفَّ الله أيديهم عنه، وحفظه منهم وعصمه.

فهذه
مِنَنٌ امتَنَّ الله بها على عبده ورسوله عيسى ابن مريم، ودعاه إلى شكرها
والقيام بها، فقام بها عليه السلام أتم القيام، وصبر كما صبر إخوانه من
أولي العزم.


{ 111 - 120 } { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى
الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا }

إلى
آخر الآيات أي: واذكر نعمتي عليك إذ يسرت لك أتباعا وأعوانا. فأوحيت إلى
الحواريين أي: ألهمتهم، وأوزعت قلوبهم الإيمان بي وبرسولي، أو أوحيت إليهم
على لسانك، أي: أمرتهم بالوحي الذي جاءك من عند الله، فأجابوا لذلك
وانقادوا، وقالوا: آمنا بالله، واشهد بأننا مسلمون، فجمعوا بين الإسلام
الظاهر، والانقياد بالأعمال الصالحة، والإيمان الباطن المخرج لصاحبه من
النفاق ومن ضعف الإيمان.

والحواريون هم: الأنصار، كما قال تعالى كما
قال عيسى ابن مريم للحواريين: { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ }

{ إِذْ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ
يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } أي: مائدة فيها طعام،
وهذا ليس منهم عن شك في قدرة الله، واستطاعته على ذلك. وإنما ذلك من باب
العرض والأدب منهم.

ولما كان سؤال آيات الاقتراح منافيا للانقياد
للحق، وكان هذا الكلام الصادر من الحواريين ربما أوهم ذلك، وعظهم عيسى عليه
السلام فقال: { اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فإن المؤمن
يحمله ما معه من الإيمان على ملازمة التقوى، وأن ينقاد لأمر الله، ولا يطلب
من آيات الاقتراح التي لا يدري ما يكون بعدها شيئا.

فأخبر
الحواريون أنهم ليس مقصودهم هذا المعنى، وإنما لهم مقاصد صالحة، ولأجل
الحاجة إلى ذلك فـ { قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا } وهذا دليل
على أنهم محتاجون لها، { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } بالإيمان حين نرى
الآيات العيانية، فيكون الإيمان عين اليقين، كما كان قبل ذلك علم اليقين.
كما سأل الخليل عليه الصلاة والسلام ربه أن يريه كيف يحيي الموتى { قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } فالعبد
محتاج إلى زيادة العلم واليقين والإيمان كل وقت، ولهذا قال: { وَنَعْلَمَ
أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا } أي: نعلم صدق ما جئت به، أنه حق وصدق، { وَنَكُونَ
عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ } فتكون مصلحة لمن بعدنا، نشهدها لك، فتقوم
الحجة، ويحصل زيادة البرهان بذلك.

فلما سمع عيسى عليه الصلاة
والسلام ذلك، وعلم مقصودهم، أجابهم إلى طلبهم في ذلك، فقال: { اللَّهُمَّ
رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا
عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ } أي: يكون وقت نزولها عيدا
وموسما، يتذكر به هذه الآية العظيمة، فتحفظ ولا تنسى على مرور الأوقات
وتكرر السنين.

كما جعل الله تعالى أعياد المسلمين ومناسكهم مذكرا
لآياته، ومنبها على سنن المرسلين وطرقهم القويمة، وفضله وإحسانه عليهم. {
وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ } أي: اجعلها لنا رزقا، فسأل
عيسى عليه السلام نزولها وأن تكون لهاتين المصلحتين، مصلحة الدين بأن تكون
آية باقية، ومصلحة الدنيا، وهي أن تكون رزقا.

{ قَالَ اللَّهُ
إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي
أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } لأنه
شاهد الآية الباهرة وكفر عنادا وظلما، فاستحق العذاب الأليم والعقاب
الشديد. واعلم أن الله تعالى وعد أنه سينزلها، وتوعدهم -إن كفروا- بهذا
الوعيد، ولم يذكر أنه أنزلها، فيحتمل أنه لم ينزلها بسبب أنهم لم يختاروا
ذلك، ويدل على ذلك، أنه لم يذكر في الإنجيل الذي بأيدي النصارى، ولا له
وجود. ويحتمل أنها نزلت كما وعد الله، والله لا يخلف الميعاد، ويكون عدم
ذكرها في الأناجيل التي بأيديهم من الحظ الذي ذكروا به فنسوه.

أو
أنه لم يذكر في الإنجيل أصلا، وإنما ذلك كان متوارثا بينهم، ينقله الخلف عن
السلف، فاكتفى الله بذلك عن ذكره في الإنجيل، ويدل على هذا المعنى قوله: {
وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ } والله أعلم بحقيقة الحال.

{
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } وهذا
توبيخ للنصارى الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، فيقول الله هذا الكلام
لعيسى. فيتبرأ عيسى ويقول: { سُبْحَانَكَ } عن هذا الكلام القبيح، وعمّا لا
يليق بك.

{ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ }
أي: ما ينبغي لي، ولا يليق أن أقول شيئا ليس من أوصافي ولا من حقوقي، فإنه
ليس أحد من المخلوقين، لا الملائكة المقربون ولا الأنبياء المرسلون ولا
غيرهم له حق ولا استحقاق لمقام الإلهية وإنما الجميع عباد، مدبرون، وخلق
مسخرون، وفقراء عاجزون { إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ
مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } فأنت أعلم بما صدر مني و
{ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } وهذا من كمال أدب المسيح عليه
الصلاة والسلام في خطابه لربه، فلم يقل عليه السلام: "لم أقل شيئا من ذلك"
وإنما أخبر بكلام ينفي عن نفسه أن يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف، وأن
هذا من الأمور المحالة، ونزه ربه عن ذلك أتم تنزيه، ورد العلم إلى عالم
الغيب والشهادة.

ثم صرح بذكر ما أمر به بني إسرائيل، فقال: { مَا
قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ } فأنا عبد متبع لأمرك، لا
متجرئ على عظمتك، { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } أي: ما
أمرتهم إلا بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له، المتضمن للنهي عن اتخاذي
وأمي إلهين من دون الله، وبيان أني عبد مربوب، فكما أنه ربكم فهو ربي.

{
وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ } أشهد على من قام بهذا
الأمر، ممن لم يقم به. { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ
عَلَيْهِمْ } أي: المطلع على سرائرهم وضمائرهم. { وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ } علما وسمعا وبصرا، فعلمك قد أحاط بالمعلومات، وسمعك
بالمسموعات، وبصرك بالمبصرات، فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير
وشر.

{ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } وأنت أرحم بهم
من أنفسهم وأعلم بأحوالهم، فلولا أنهم عباد متمردون لم تعذبهم. { وَإِنْ
تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي: فمغفرتك
صادرة عن تمام عزة وقدرة، لا كمن يغفر ويعفو عن عجز وعدم قدرة.

الحكيم
حيث كان من مقتضى حكمتك أن تغفر لمن أتى بأسباب المغفرة.

{ قَالَ
اللَّهُ } مبينا لحال عباده يوم القيامة، ومَن الفائز منهم ومَن الهالك،
ومَن الشقي ومَن السعيد، { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ
} والصادقون هم الذين استقامت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم على الصراط
المستقيم والهدْي القويم، فيوم القيامة يجدون ثمرة ذلك الصدق، إذا أحلهم
الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ولهذا قال: { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } والكاذبون بضدهم،
سيجدون ضرر كذبهم وافترائهم، وثمرة أعمالهم الفاسدة.

{ لِلَّهِ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } لأنه الخالق لهما والمدبر لذلك بحكمه
القدري، وحكمه الشرعي، وحكمه الجزائي، ولهذا قال: { وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ } فلا يعجزه شيء، بل جميع الأشياء منقادة لمشيئته، ومسخرة
بأمره.

تم تفسير سورة المائدة بفضل من الله وإحسان، والحمد لله رب
العالمين
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime1/1/2011, 9:07 pm

تفسير
سورة الأنعام

وهي مكية


{ 1 ، 2 } { بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى
أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ }

هذا
إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال، ونعوت العظمة والجلال عموما،
وعلى هذه المذكورات خصوصا. فحمد نفسه على خلقه السماوات والأرض، الدالة على
كمال قدرته، وسعة علمه ورحمته، وعموم حكمته، وانفراده بالخلق والتدبير،
وعلى جعله الظلمات والنور، وذلك شامل للحسي من ذلك، كالليل والنهار، والشمس
والقمر. والمعنوي، كظلمات الجهل، والشك، والشرك، والمعصية، والغفلة، ونور
العلم والإيمان، واليقين، والطاعة، وهذا كله، يدل دلالة قاطعة أنه تعالى،
هو المستحق للعبادة، وإخلاص الدين له، ومع هذا الدليل ووضوح البرهان {
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي يعدلون به سواه،
يسوونهم به في العبادة والتعظيم، مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال،
وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه.

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ طِينٍ } وذلك بخلق مادتكم وأبيكم آدم عليه السلام. { ثُمَّ قَضَى
أَجَلًا } أي: ضرب لمدة إقامتكم في هذه الدار أجلا، تتمتعون به وتمتحنون،
وتبتلون بما يرسل إليكم به رسله. { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلًا } ويعمركم ما يتذكر فيه من تذكر. { وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ }
وهي: الدار الآخرة، التي ينتقل العباد إليها من هذه الدار، فيجازيهم
بأعمالهم من خير وشر.

{ ثُمَّ } مع هذا البيان التام وقطع الحجة {
أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ } أي: تشكون في وعد الله ووعيده، ووقوع الجزاء يوم
القيامة.

وذكر الله الظلمات بالجمع، لكثرة موادها وتنوع طرقها. ووحد
النور لكون الصراط الموصلة إلى الله واحدة لا تعدد فيها،، وهي: الصراط
المتضمنة للعلم بالحق والعمل به، كما قال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }


{ 3 } { وَهُوَ اللَّهُ فِي
السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ
مَا تَكْسِبُونَ }

أي: وهو المألوه المعبود في السماوات وفي الأرض،
فأهل السماء والأرض، متعبدون لربهم، خاضعون لعظمته، مستكينون لعزه وجلاله،
الملائكة المقربون، والأنبياء والمرسلون، والصديقون، والشهداء والصالحون.

وهو
تعالى يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون، فاحذروا معاصيه وارغبوا في
الأعمال التي تقربكم منه، وتدنيكم من رحمته، واحذروا من كل عمل يبعدكم منه
ومن رحمته.

{ 4 - 6 } { وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ
رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا
بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ
مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ
وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا
مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ }


هذا إخبار منه تعالى عن
إعراض المشركين، وشدة تكذيبهم وعداوتهم، وأنهم لا تنفع فيهم الآيات حتى تحل
بهم المثلات، فقال: { وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِم }
الدالة على الحق دلالة قاطعة، الداعية لهم إلى اتباعه وقبوله { إِلَّا
كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِين } لا يلقون لها بالا، ولا يصغون لها سمعا، قد
انصرفت قلوبهم إلى غيرها، وولوها أدبارَهم.

{ فَقَدْ كَذَّبُوا
بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ } والحق حقه أن يتبع، ويشكر الله على تيسيره
لهم، وإتيانهم به، فقابلوه بضد ما يجب مقابلته به فاستحقوا العقاب الشديد. {
فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي:
فسوف يرون ما استهزأوا به، أنه الحق والصدق، ويبين الله للمكذبين كذبهم
وافتراءهم، وكانوا يستهزئون بالبعث والجنة والنار، فإذا كان يوم القيامة
قيل للمكذبين: { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ }

وقال
تعالى: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ
اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ } ثم أمرهم
أن يعتبروا بالأمم السالفة فقال: { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } أي: كم تتابع إهلاكنا للأمم المكذبين، وأمهلناهم
قبل ذلك الإهلاك، بأن { مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ }
لهؤلاء من الأموال والبنين والرفاهية.

{ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ
عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ }
فينبت لهم بذلك ما شاء الله، من زروع وثمار، يتمتعون بها، ويتناولون منها
ما يشتهون، فلم يشكروا الله على نعمه، بل أقبلوا على الشهوات، وألهتهم
أنواع اللذات، فجاءتهم رسلهم بالبينات، فلم يصدقوها، بل ردوها وكذبوها
فأهلكهم الله بذنوبهم وأنشأ { مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ }

فهذه
سنة الله ودأبه، في الأمم السابقين واللاحقين، فاعتبروا بمن قص الله عليكم
نبأهم.


{ 7 - 9 } { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي
قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ
وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ
*وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا
عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ }

هذا إخبار من الله لرسوله عن شدة عناد
الكافرين، وأنه ليس تكذيبهم لقصور فيما جئتهم به، ولا لجهل منهم بذلك،
وإنما ذلك ظلم وبغي، لا حيلة لكم فيه، فقال: { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ
كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } وتيقنوه { لَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا } ظلما وعلوا { إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ }

فأي
بينة أعظم من هذه البينة، وهذا قولهم الشنيع فيها، حيث كابروا المحسوس
الذي لا يمكن مَن له أدنى مسكة مِن عقل دفعه؟"

{ وَقَالُوا } أيضا
تعنتا مبنيا على الجهل، وعدم العلم بالمعقول. { لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
مَلَكٌ } أي: هلا أنزل مع محمد ملك، يعاونه ويساعده على ما هو عليه بزعمهم
أنه بشر، وأن رسالة الله، لا تكون إلا على أيدي الملائكة.

قال الله
في بيان رحمته ولطفه بعباده، حيث أرسل إليهم بشرا منهم يكون الإيمان بما
جاء به، عن علم وبصيرة، وغيب. { وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا } برسالتنا،
لكان الإيمان لا يصدر عن معرفة بالحق، ولكان إيمانا بالشهادة، الذي لا ينفع
شيئا وحده، هذا إن آمنوا، والغالب أنهم لا يؤمنون بهذه الحالة، فإذا لم
يؤمنوا قضي الأمر بتعجيل الهلاك عليهم وعدم إنظارهم، لأن هذه سنة الله،
فيمن طلب الآيات المقترحة فلم يؤمن بها، فإرسال الرسول البشري إليهم
بالآيات البينات، التي يعلم الله أنها أصلح للعباد، وأرفق بهم، مع إمهال
الله للكافرين والمكذبين خير لهم وأنفع، فطلبُهم لإنزال الملك شر لهم لو
كانوا يعلمون، ومع ذلك، فالملك لو أنزل عليهم، وأرسل، لم يطيقوا التلقي
عنه، ولا احتملوا ذلك، ولا أطاقته قواهم الفانية.

{ وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا } لأن الحكمة لا تقتضي سوى ذلك.
{ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } أي: ولكان الأمر، مختلطا
عليهم، وملبوسا وذلك بسبب ما لبسوه على أنفسهم، فإنهم بنوا أمرهم على هذه
القاعدة التي فيها اللبس، وبها عدم بيان الحق.

فلما جاءهم الحق،
بطرقه الصحيحة، وقواعده التي هي قواعده، لم يكن ذلك هداية لهم، إذا اهتدى
بذلك غيرهم، والذنب ذنبهم، حيث أغلقوا على أنفسهم باب الهدى، وفتحوا أبواب
الضلال.


{ 10 ، 11 } { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ
قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }

يقول تعالى مسليا لرسوله ومصبرا،
ومتهددا أعداءه ومتوعدا. { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ }
لما جاءوا أممهم بالبينات، كذبوهم واستهزأوا بهم وبما جاءوا به. فأهلكهم
الله بذلك الكفر والتكذيب، ووفى لهم من العذاب أكمل نصيب. { فَحَاقَ
بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } فاحذروا
-أيها المكذبون- أن تستمروا على تكذيبكم، فيصيبكم ما أصابهم.

فإن
شككتم في ذلك، أو ارتبتم، فسيروا في الأرض، ثم انظروا، كيف كان عاقبة
المكذبين، فلن تجدوا إلا قوما مهلكين، وأمما في المثلات تالفين، قد أوحشت
منهم المنازل، وعدم من تلك الربوع كل متمتع بالسرور نازل، أبادهم الملك
الجبار، وكان بناؤهم عبرة لأولي الأبصار. وهذا السير المأمور به، سير
القلوب والأبدان، الذي يتولد منه الاعتبار. وأما مجرد النظر من غير اعتبار،
فإن ذلك لا يفيد شيئا.

{ 12 } { قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }

يقول تعالى لنبيه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 { قُلْ } لهؤلاء المشركين بالله،
مقررا لهم وملزما بالتوحيد: { لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }
أي: مَن الخالق لذلك، المالك له، المتصرف فيه؟

{ قُلْ } لهم: {
لِلَّهِ } وهم مقرون بذلك لا ينكرونه، أفلا حين اعترفوا بانفراد الله
بالملك والتدبير، أن يعترفوا له بالإخلاص والتوحيد؟".

وقوله {
كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } أي: العالم العلوي والسفلي تحت ملكه
وتدبيره، وهو تعالى قد بسط عليهم رحمته وإحسانه، وتغمدهم برحمته وامتنانه،
وكتب على نفسه كتابا أن رحمته تغلب غضبه، وأن العطاء أحب إليه من المنع،
وأن الله قد فتح لجميع العباد أبواب الرحمة، إن لم يغلقوا عليهم أبوابها
بذنوبهم، ودعاهم إليها، إن لم تمنعهم من طلبها معاصيهم وعيوبهم، وقوله {
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ } وهذا قسم
منه، وهو أصدق المخبرين، وقد أقام على ذلك من الحجج والبراهين، ما يجعله حق
اليقين، ولكن أبى الظالمون إلا جحودا، وأنكروا قدرة الله على بعث الخلائق،
فأوضعوا في معاصيه، وتجرءوا على الكفر به، فخسروا دنياهم وأخراهم، ولهذا
قال: { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }

{
13 - 20 } { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي
أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ
الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ
لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ *قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ
بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً
أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }

اعلم أن هذه السورة الكريمة،
قد اشتملت على تقرير التوحيد، بكل دليل عقلي ونقلي، بل كادت أن تكون كلها
في شأن التوحيد ومجادلة المشركين بالله المكذبين لرسوله.

فهذه
الآيات، ذكر الله فيها ما يتبين به الهدى، وينقمع به الشرك. فذكر أن { لَهُ
} تعالى { مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } وذلك هو المخلوقات
كلها، من آدميها، وجِنِّها، وملائكتها، وحيواناتها وجماداتها، فالكل خلق
مدبرون، وعبيد مسخرون لربهم العظيم، القاهر المالك، فهل يصح في عقل ونقل،
أن يعبد مِن هؤلاء المماليك، الذي لا نفع عنده ولا ضر؟ ويترك الإخلاص
للخالق، المدبر المالك، الضار النافع؟! أم العقول السليمة، والفطر
المستقيمة، تدعو إلى إخلاص العبادة، والحب، والخوف، والرجاء لله رب
العالمين؟!.

{ السَّمِيعُ } لجميع الأصوات، على اختلاف اللغات،
بتفنن الحاجات. { الْعَلِيمُ } بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف
كان يكون، المطلع على الظواهر والبواطن؟!.

{ قُلْ } لهؤلاء المشركين
بالله: { أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا } من هؤلاء المخلوقات
العاجزة يتولاني، وينصرني؟!.

فلا أتخذ من دونه تعالى وليا، لأنه
فاطر السماوات والأرض، أي: خالقهما ومدبرهما. { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا
يُطْعَمُ } أي: وهو الرزاق لجميع الخلق، من غير حاجة منه تعالى إليهم، فكيف
يليق أن أتخذ وليا غير الخالق الرزاق، الغني الحميد؟" { قُلْ إِنِّي
أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } لله بالتوحيد، وانقاد له
بالطاعة، لأني أولى من غيري بامتثال أوامر ربي.

{ وَلَا تَكُونَنَّ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أي: ونهيت أيضا، عن أن أكون من المشركين، لا في
اعتقادهم، ولا في مجالستهم، ولا في الاجتماع بهم، فهذا أفرض الفروض عليَّ،
وأوجب الواجبات.

{ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } فإن المعصية في الشرك توجب الخلود في النار،
وسخطَ الجبار. وذلك اليوم هو اليوم الذي يُخاف عذابه، ويُحذر عقابه؛ لأنه
مَن صُرف عنه العذاب يومئذ فهو المرحوم، ومن نجا فيه فهو الفائز حقا، كما
أن من لم ينج منه فهو الهالك الشقي.

ومن أدلة توحيده، أنه تعالى
المنفرد بكشف الضراء، وجلب الخير والسراء. ولهذا قال: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللَّهُ بِضُرٍّ } من فقر، أو مرض، أو عسر، أو غم، أو هم أو نحوه. { فَلَا
كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ } فإذا كان وحده النافع الضار، فهو الذي يستحق أن يفرد
بالعبودية والإلهية.

{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } فلا
يتصرف منهم متصرف، ولا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن، إلا بمشيئته، وليس
للملوك وغيرهم الخروج عن ملكه وسلطانه، بل هم مدبرون مقهورون، فإذا كان هو
القاهر وغيره مقهورا، كان هو المستحق للعبادة.

{ وَهُوَ الْحَكِيمُ }
فيما أمر به ونهى، وأثاب، وعاقب، وفيما خلق وقدر. { الْخَبِيرُ } المطلع
على السرائر والضمائر وخفايا الأمور، وهذا كله من أدلة التوحيد.

{
قُلْ } لهم -لما بينا لهم الهدى، وأوضحنا لهم المسالك-: { أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهَادَةً } على هذا الأصل العظيم. { قُلِ اللَّهُ } أكبر شهادة،
فهو { شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فلا أعظم منه شهادة، ولا أكبر، وهو
يشهد لي بإقراره وفعله، فيقرني على ما قلت لكم، كما قال تعالى { وَلَوْ
تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } فالله حكيم قدير، فلا يليق بحكمته
وقدرته أن يقر كاذبا عليه، زاعما أن الله أرسله ولم يرسله، وأن الله أمره
بدعوة الخلق ولم يأمره، وأن الله أباح له دماء من خالفه، وأموالهم ونساءهم،
وهو مع ذلك يصدقه بإقراره وبفعله، فيؤيده على ما قال بالمعجزات الباهرة،
والآيات الظاهرة، وينصره، ويخذل من خالفه وعاداه، فأي: شهادة أكبر من هذه
الشهادة؟"

وقوله: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ
لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } أي وأوحى الله إليَّ هذا القرآن
الكريم لمنفعتكم ومصلحتكم، لأنذركم به من العقاب الأليم. والنذارة إنما
تكون بذكر ما ينذرهم به، من الترغيب، والترهيب، وببيان الأعمال، والأقوال،
الظاهرة والباطنة، التي مَن قام بها، فقد قبل النذارة، فهذا القرآن، فيه
النذارة لكم أيها المخاطبون، وكل من بلغه القرآن إلى يوم القيامة، فإن فيه
بيان كل ما يحتاج إليه من المطالب الإلهية.

لما بيّن تعالى شهادته
التي هي أكبر الشهادات على توحيده، قال: قل لهؤلاء المعارضين لخبر الله،
والمكذبين لرسله { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً
أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ } أي: إن شهدوا، فلا تشهد معهم.

فوازِنْ
بين شهادة أصدق القائلين، ورب العالمين، وشهادة أزكى الخلق المؤيدة
بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة، على توحيد الله وحده لا شريك له، وشهادة
أهل الشرك، الذين مرجت عقولهم وأديانهم، وفسدت آراؤهم وأخلاقهم، وأضحكوا
على أنفسهم العقلاء.

بل خالفوا بشهادة فطرهم، وتناقضت أقوالهم على
إثبات أن مع الله آلهة أخرى، مع أنه لا يقوم على ما قالوه أدنى شبهة، فضلا
عن الحجج، واختر لنفسك أي: الشهادتين، إن كنت تعقل، ونحن نختار لأنفسنا ما
اختاره الله لنبيه، الذي أمرنا الله بالاقتداء به، فقال: { قُلْ إِنَّمَا
هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي: منفرد، لا يستحق العبودية والإلهية سواه، كما
أنه المنفرد بالخلق والتدبير.

{ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ } به، من الأوثان، والأنداد، وكل ما أشرك به مع الله. فهذا
حقيقة التوحيد، إثبات الإلهية لله ونفيها عما عداه.

لما بيَّن
شهادته وشهادة رسوله على التوحيد، وشهادةَ المشركين الذين لا علم لديهم على
ضده، ذكر أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى. { يَعْرِفُونَهُ } أي: يعرفون
صحة التوحيد { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } أي: لا شك عندهم فيه
بوجه، كما أنهم لا يشتبهون بأولادهم، خصوصا البنين الملازمين في الغالب
لآبائهم.

ويحتمل أن الضمير عائد إلى الرسول محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، وأن أهل الكتاب لا يشتبهون بصحة رسالته
ولا يمترون بها، لما عندهم من البشارات به، ونعوته التي تنطبق عليه ولا
تصلح لغيره، والمعنيان متلازمان.

قوله { الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ } أي: فوتوها ما خلقت له، من الإيمان والتوحيد، وحرموها الفضل
من الملك المجيد { فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } فإذا لم يوجد الإيمان منهم،
فلا تسأل عن الخسار والشر، الذي يحصل لهم.


{ 21 } { وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }

أي: لا أعظم ظلما وعنادا، ممن
كان فيه أحد الوصفين، فكيف لو اجتمعا، افتراء الكذب على الله، أو التكذيب
بآياته، التي جاءت بها المرسلون، فإن هذا أظلم الناس، والظالم لا يفلح
أبدا.

ويدخل في هذا، كل من كذب على الله، بادعاء الشريك له والعوين،
أو [زعم] أنه ينبغي أن يعبد غيره أو اتخذ له صاحبة أو ولدا، وكل من رد
الحق الذي جاءت به الرسل أو مَنْ قام مقامهم.


{ 22 - 24 } {
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا
أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا
مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }

يخبر تعالى عن مآل أهل الشرك
يوم القيامة، وأنهم يسألون ويوبخون فيقال لهم { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } أي إن الله ليس له شريك، وإنما ذلك على
وجه الزعم منهم والافتراء. { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } أي: لم يكن
جوابهم حين يفتنون ويختبرون بذلك السؤال، إلا إنكارهم لشركهم وحلفهم أنهم
ما كانوا مشركين. { انْظُرْ } متعجبا منهم ومن أحوالهم { كَيْفَ كَذَبُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ } أي: كذبوا كذبا عاد بالخسار على أنفسهم وضرهم-والله-
غاية الضرر { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } من الشركاء الذين
زعموهم مع الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.


{ 25 } {
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ
آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ }

أي:
ومن هؤلاء المشركين، قوم يحملهم بعضَ الأوقات، بعضُ الدواعي إلى الاستماع
لما تقول، ولكنه استماع خال من قصد الحق واتباعه، ولهذا لا ينتفعون بذلك
الاستماع، لعدم إرادتهم للخير { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً }
أي: أغطية وأغشية، لئلا يفقهوا كلام الله، فصان كلامه عن أمثال هؤلاء. {
وَفِي آذَانِهِمْ } جعلنا { وَقْرًا } أي: صمما، فلا يستمعون ما ينفعهم.

{
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا } وهذا غاية الظلم
والعناد، أن الآيات البينات الدالة على الحق، لا ينقادون لها، ولا يصدقون
بها، بل يجادلون بالباطل الحقَّ ليدحضوه.

ولهذا قال: { حَتَّى إِذَا
جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا
أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي: مأخوذ من صحف الأولين المسطورة، التي ليست
عن الله، ولا عن رسله. وهذا من كفرهم، وإلا فكيف يكون هذا الكتاب الحاوي
لأنباءالسابقين واللاحقين، والحقائق التي جاءت بها الأنبياء والمرسلون،
والحق، والقسط، والعدل التام من كل وجه، أساطيرَ الأولين؟.

{ 26 } {
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }

وهم: أي المشركون بالله، المكذبون
لرسوله، يجمعون بين الضلال والإضلال، ينهون الناس عن اتباع الحق،
ويحذرونهم منه، ويبعدون بأنفسهم عنه، ولن يضروا الله ولا عباده المؤمنين،
بفعلهم هذا، شيئا. { وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا
يَشْعُرُونَ } بذلك.

{ 27 - 29 } { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا
عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ
رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا
يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }

يقول تعالى -مخبرا عن حال
المشركين يوم القيامة، وإحضارهم النار:. { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا
عَلَى النَّارِ } ليوبخوا ويقرعوا، لرأيت أمرا هائلا، وحالا مفظعة.
ولرأيتهم كيف أقروا على أنفسهم بالكفر والفسوق، وتمنوا أن لو يردون إلى
الدنيا. { فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ
رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا
يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ } فإنهم كانوا يخفون في أنفسهم، أنهم كانوا كاذبين،
ويَبدو في قلوبهم في كثير من الأوقات. ولكن الأغراض الفاسدة، صدتهم عن ذلك،
وصرفت قلوبهم عن الخير، وهم كذبة في هذه الأمنية، وإنما قصدهم، أن يدفعوا
بها عن أنفسهم العذاب.

{ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا
عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } { وَقَالُوا } منكرين للبعث { إِنْ هِيَ
إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } أي: ما حقيقة الحال والأمر وما المقصود من
إيجادنا، إلا الحياة الدنيا وحدها. { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }

{
30 } { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا
بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا
كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }

أي: { وَلَوْ تَرَى } الكافرين { إِذْ
وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ } لرأيت أمرا عظيما، وهَوْلًا جسيما، { قَالَ }
لهم موبخا ومقرعا: { أَلَيْسَ هَذَا } الذي ترون من العذاب { بِالْحَقِّ
قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } فأقروا، واعترفوا حيث لا ينفعهم ذلك، { قَالَ
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }


{ 31 } {
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا
جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا
فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ
أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ }

أي: قد خاب وخسر، وحرم الخير كله، من
كذب بلقاء الله، فأوجب له هذا التكذيب، الاجتراء على المحرمات، واقتراف
الموبقات { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ } وهم على أقبح حال
وأسوئه، فأظهروا غاية الندم. و { قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا
فَرَّطْنَا فِيهَا } ولكن هذا تحسر ذهب وقته، { وَهُمْ يَحْمِلُونَ
أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } فإن وزرهم
وزر يثقلهم، ولا يقدرون على التخلص منه، ولهذا خلدوا في النار، واستحقوا
التأبيد في غضب الجبار.

{ 32 } { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }

هذه حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة،
أما حقيقة الدنيا فإنها لعب ولهو، لعب في الأبدان ولهو في القلوب، فالقلوب
لها والهة، والنفوس لها عاشقة، والهموم فيها متعلقة، والاشتغال بها كلعب
الصبيان.

وأما الآخرة، فإنها { خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } في
ذاتها وصفاتها، وبقائها ودوامها، وفيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، من
نعيم القلوب والأرواح، وكثرة السرور والأفراح، ولكنها ليست لكل أحد، وإنما
هي للمتقين الذين يفعلون أوامر الله، ويتركون نواهيه وزواجره { أَفَلَا
تَعْقِلُونَ } أي: أفلا يكون لكم عقول، بها تدركون، أيّ الدارين أحق
بالإيثار.


{ 33 - 35 } { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ
الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ
نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ
نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ
فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا
فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ
عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }

أي: قد نعلم
أن الذي يقول المكذبون فيك يحزنك ويسوءك، ولم نأمرك بما أمرناك به من الصبر
إلا لتحصل لك المنازل العالية والأحوال الغالية. فلا تظن أن قولهم صادر عن
اشتباه في أمرك، وشك فيك. { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ } لأنهم
يعرفون صدقك، ومدخلك ومخرجك، وجميع أحوالك، حتى إنهم كانوا يسمونه -قبل
البعثة- الأمين. { وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }
أي: فإن تكذيبهم لآيات الله التي جعلها الله على يديك .

{ وَلَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا
حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } فاصبر كما صبروا، تظفر كما ظفروا. {
وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ } ما به يثبت فؤادك، ويطمئن
به قلبك.

{ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } أي: شق
عليك، من حرصك عليهم، ومحبتك لإيمانهم، فابذل وسعك في ذلك، فليس في مقدورك،
أن تهدي من لم يرد الله هدايته.

{ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ
تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ
فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ } أي: فافعل ذلك، فإنه لا يفيدهم شيئا، وهذا قطع
لطمعه في هدايته أشباه هؤلاء المعاندين.

{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } ولكن حكمته تعالى، اقتضت أنهم يبقون على
الضلال. { فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } الذين لا يعرفون حقائق
الأمور، ولا ينزلونها على منازلها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime1/1/2011, 9:08 pm

{
36 ، 37 } { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * وَقَالُوا لَوْلَا
نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى
أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }

يقول
تعالى لنبيه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999: { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ } لدعوتك، ويلبي
رسالتك، وينقاد لأمرك ونهيك { الَّذِينَ يَسْمَعُونَ } بقلوبهم ما ينفعهم،
وهم أولو الألباب والأسماع.

والمراد بالسماع هنا: سماع القلب
والاستجابة، وإلا فمجرد سماع الأذن، يشترك فيه البر والفاجر. فكل المكلفين
قد قامت عليهم حجة الله تعالى، باستماع آياته، فلم يبق لهم عذر، في عدم
القبول.

{ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ
يُرْجَعُونَ } يحتمل أن المعنى، مقابل للمعنى المذكور. أي: إنما يستجيب لك
أحياء القلوب، وأما أموات القلوب، الذين لا يشعرون بسعادتهم، ولا يحسون بما
ينجيهم، فإنهم لا يستجيبون لك، ولا ينقادون، وموعدهم القيامة، يبعثهم الله
ثم إليه يرجعون، ويحتمل أن المراد بالآية، على ظاهرها، وأن الله تعالى
يقرر المعاد، وأنه سيبعث الأموات يوم القيامة ثم ينبئهم بما كانوا يعملون.

ويكون
هذا، متضمنا للترغيب في الاستجابة لله ورسوله، والترهيب من عدم ذلك.

{
وَقَالُوا } أي: المكذبون بالرسول، تعنتا وعنادا: { لَوْلَا نُزِّلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ } يعنون بذلك آيات الاقتراح، التي يقترحونها
بعقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة.

كقولهم: { وَقَالُوا لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ
تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ
خِلَالَهَا تَفْجِيرًا *أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا
كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا } الآيات.

{
قُلْ } مجيبا لقولهم: { إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً
} فليس في قدرته قصور عن ذلك، كيف، وجميع الأشياء منقادة لعزته، مذعنة
لسلطانه؟!

ولكن أكثر الناس لا يعلمون فهم لجهلهم وعدم علمهم يطلبون
ما هو شر لهم من الآيات، التي لو جاءتهم، فلم يؤمنوا بها لعوجلوا بالعقاب،
كما هي سنة الله، التي لا تبديل لها، ومع هذا، فإن كان قصدهم الآيات التي
تبين لهم الحق، وتوضح السبيل، فقد أتى محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، بكل آية قاطعة، وحجة ساطعة، دالة على ما
جاء به من الحق، بحيث يتمكن العبد في كل مسألة من مسائل الدين، أن يجد فيما
جاء به عدة أدلة عقلية ونقلية، بحيث لا تبقي في القلوب أدنى شك وارتياب،
فتبارك الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأيده بالآيات البينات ليهلك من
هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم.


{ 38 }
{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ
إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ
ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }

أي: جميع الحيوانات، الأرضية
والهوائية، من البهائم والوحوش والطيور، كلها أمم أمثالكم خلقناها. كما
خلقناكم، ورزقناها كما رزقناكم، ونفذت فيها مشيئتنا وقدرتنا، كما كانت
نافذة فيكم.

{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } أي: ما
أهملنا ولا أغفلنا، في اللوح المحفوظ شيئا من الأشياء، بل جميع الأشياء،
صغيرها وكبيرها، مثبتة في اللوح المحفوظ، على ما هي عليه، فتقع جميع
الحوادث طبق ما جرى به القلم.

وفي هذه الآية، دليل على أن الكتاب
الأول، قد حوى جميع الكائنات، وهذا أحد مراتب القضاء والقدر، فإنها أربع
مراتب: علم الله الشامل لجميع الأشياء، وكتابه المحيط بجميع الموجودات،
ومشيئته وقدرته النافذة العامة لكل شيء، وخلقه لجميع المخلوقات، حتى أفعال
العباد.

ويحتمل أن المراد بالكتاب، هذا القرآن، وأن المعنى كالمعنى
في قوله تعالى { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ
شَيْءٍ }

وقوله { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } أي: جميع
الأمم تحشر وتجمع إلى الله في موقف القيامة، في ذلك الموقف العظيم الهائل،
فيجازيهم بعدله وإحسانه، ويمضي عليهم حكمه الذي يحمده عليه الأولون
والآخرون، أهل السماء وأهل الأرض.


{ 39 } { وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ
اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }

هذا
بيان لحال المكذبين بآيات الله، المكذبين لرسله، أنهم قد سدوا على أنفسهم
باب الهدى، وفتحوا باب الردى، وأنهم { صُمٌّ } عن سماع الحق { وَبُكْمٌ }
عن النطق به، فلا ينطقون إلا بباطل .

{ فِي الظُّلُمَاتِ } أي:
منغمسون في ظلمات الجهل، والكفر، والظلم، والعناد، والمعاصي. وهذا من إضلال
الله إياهم، فـ { مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ
يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } لأنه المنفرد بالهداية والإضلال،
بحسب ما اقتضاه فضله وحكمته.


{ 40 ، 41 } { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ
إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ
اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ
فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا
تُشْرِكُونَ }

يقول تعالى لرسوله: { قُلْ } للمشركين بالله،
العادلين به غيره: { أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ
أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ } أي: إذا حصلت هذه المشقات، وهذه الكروب، التي يضطر إلى دفعها،
هل تدعون آلهتكم وأصنامكم، أم تدعون ربكم الملك الحق المبين.

{
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ
وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } فإذا كانت هذه حالكم مع أندادكم عند
الشدائد، تنسونهم، لعلمكم أنهم لا يملكون لكم ضرا ولا نفعا، ولا موتا، ولا
حياة، ولا نشورا.

وتخلصون لله الدعاء، لعلمكم أنه هو النافع الضار،
المجيب لدعوة المضطر، فما بالكم في الرخاء تشركون به، وتجعلون له شركاء؟.
هل دلكم على ذلك، عقل أو نقل، أم عندكم من سلطان بهذا؟ بل تفترون على الله
الكذب؟


{ 42 - 45 } { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ
قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ
يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ
قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ
بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }

يقول
تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ } من الأمم
السالفين، والقرون المتقدمين، فكذبوا رسلنا، وجحدوا بآياتنا. {
فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ } أي: بالفقر والمرض
والآفات، والمصائب، رحمة منا بهم. { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } إلينا،
ويلجأون عند الشدة إلينا.

{ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا
تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } أي: استحجرت فلا تلين للحق. {
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فظنوا أن ما هم
عليه دين الحق، فتمتعوا في باطلهم برهة من الزمان، ولعب بعقولهم الشيطان.

{
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ
شَيْءٍ } من الدنيا ولذاتها وغفلاتها. { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا
أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } أي: آيسون من
كل خير، وهذا أشد ما يكون من العذاب، أن يؤخذوا على غرة، وغفلة وطمأنينة،
ليكون أشد لعقوبتهم، وأعظم لمصيبتهم.

{ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي اصطلموا بالعذاب، وتقطعت بهم الأسباب. {
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } على ما قضاه وقدره، من هلاك
المكذبين. فإن بذلك، تتبين آياته، وإكرامه لأوليائه، وإهانته لأعدائه، وصدق
ما جاءت به المرسلون.


{ 46 ، 47 } { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ
مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ
الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ
عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ
الظَّالِمُونَ }

يخبر تعالى، أنه كما أنه هو المتفرد بخلق الأشياء
وتدبيرها، فإنه المنفرد بالوحدانية والإلهية فقال: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى
قُلُوبِكُمْ } فبقيتم بلا سمع ولا بصر ولا عقل { مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ
اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ } فإذا لم يكن غير الله يأتي بذلك، فلم عبدتم معه
من لا قدرة له على شيء إلا إذا شاءه الله.

وهذا من أدلة التوحيد
وبطلان الشرك، ولهذا قال: { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ } أي:
ننوعها، ونأتي بها في كل فن، ولتنير الحق، وتتبين سبيل المجرمين. { ثُمَّ
هُمْ } مع هذا البيان التام { يَصْدِفُونَ } عن آيات الله، ويعرضون عنها.

{
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ } أي: أخبروني { إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ
بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً } أي: مفاجأة أو قد تقدم أمامه مقدمات، تعلمون بها
وقوعه. { هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } الذين صاروا سببا
لوقوع العذاب بهم، بظلمهم وعنادهم. فاحذروا أن تقيموا على الظلم، فإنه
الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي.


{ 48 ، 49 } { وَمَا نُرْسِلُ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }

يذكر
تعالى، زبدة ما أرسل به المرسلين؛ أنه البشارة والنذارة، وذلك مستلزم
لبيان المبشر والمبشر به، والأعمال التي إذا عملها العبد، حصلت له البشارة.
والمنذر والمنذر به، والأعمال التي من عملها، حقت عليه النذارة.

ولكن
الناس انقسموا -بحسب إجابتهم لدعوتهم وعدمها - إلى قسمين: { فَمَنْ آمَنَ
وَأَصْلَحَ } أي: آمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وأصلح
إيمانه وأعماله ونيته { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبل { وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما مضى.

{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ } أي: ينالهم، ويذوقونه { بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ }


{ 50 } { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ
عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ
إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ }

يقول
تعالى لنبيه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999؛ المقترحين عليه الآيات، أو القائلين له:
إنما تدعونا لنتخذك إلها مع الله. { وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي
خَزَائِنُ اللَّهِ } أي: مفاتيح رزقه ورحمته. { وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ }
وإنما ذلك كله عند الله فهو الذي ما يفتح للناس من رحمة فلا ممسك لها وما
يمسك فلا مرسل له من بعده، وهو وحده عالم الغيب والشهادة. فلا يظهر على
غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول.

{ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي
مَلَكٌ } فأكون نافذ التصرف قويا، فلست أدعي فوق منزلتي، التي أنزلني الله
بها. { إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } أي: هذا غايتي ومنتهى
أمري وأعلاه، إن أتبع إلا ما يوحى إلي، فأعمل به في نفسي، وأدعو الخلق كلهم
إلى ذلك.

فإذا عرفت منزلتي، فلأي شيء يبحث الباحث معي، أو يطلب مني
أمرا لست أدعيه، وهل يلزم الإنسان، بغير ما هو بصدده؟.

ولأي شيء
إذا دعوتكم، بما أوحي إلي أن تلزموني أني أدعي لنفسي غير مرتبتي. وهل هذا
إلا ظلم منكم، وعناد، وتمرد؟ قل لهم في بيان الفرق، بين من قبل دعوتي،
وانقاد لما أوحي إلي، وبين من لم يكن كذلك { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ } فتنزلون الأشياء
منازلها، وتختارون ما هو أولى بالاختيار والإيثار؟

{ 51 - 55 } {
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ
لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ
حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ
الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا
أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ
بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ
مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَكَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ }

هذا
القرآن نذارة للخلق كلهم، ولكن إنما ينتفع به { الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ
يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ } فهم متيقنون للانتقال، من هذه الدار، إلى دار
القرار، فلذلك يستصحبون ما ينفعهم ويدَعُون ما يضرهم. { لَيْسَ لَهُمْ
مِنْ دُونِهِ } أي: لا من دون الله { وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } أي: من يتولى
أمرهم فيحصّل لهم المطلوب، ويدفع عنهم المحذور، ولا من يشفع لهم، لأن
الخلق كلهم، ليس لهم من الأمر شيء. { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } الله،
بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فإن الإنذار موجب لذلك، وسبب من أسبابه.

{
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي: لا تطرد عنك، وعن مجالستك، أهل العبادة
والإخلاص، رغبة في مجالسة غيرهم، من الملازمين لدعاء ربهم، دعاء العبادة
بالذكر والصلاة ونحوها، ودعاء المسألة، في أول النهار وآخره، وهم قاصدون
بذلك وجه الله، ليس لهم من الأغراض سوى ذلك الغرض الجليل، فهؤلاء ليسوا
مستحقين للطرد والإعراض عنهم، بل مستحقون لموالاتهم ومحبتهم، وإدنائهم،
وتقريبهم، لأنهم الصفوة من الخلق وإن كانوا فقراء، والأعزاء في الحقيقة وإن
كانوا عند الناس أذلاء.

{ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ } أي: كلٌّ له حسابه،
وله عمله الحسن، وعمله القبيح. { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ
الظَّالِمِينَ } وقد امتثل تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 هذا الأمر، أشد امتثال، فكان إذا جلس
الفقراء من المؤمنين صبر نفسَه معهم، وأحسن معاملتهم، وألان لهم جانبه،
وحسن خلقَه، وقربهم منه، بل كانوا هم أكثر أهل مجلسه رضي الله عنهم.

وكان
سبب نزول هذه الآيات، أن أناسا [من قريش، أو] من أجلاف العرب قالوا للنبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999: إن أردت أن نؤمن لك ونتبعك، فاطرد
فلانا وفلانا، أناسا من فقراء الصحابة، فإنا نستحيي أن ترانا العرب جالسين
مع هؤلاء الفقراء، فحمله حبه لإسلامهم، واتباعهم له، فحدثته نفسه بذلك.
فعاتبه الله بهذه الآية ونحوها.

{ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ
بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا
} أي: هذا من ابتلاء الله لعباده، حيث جعل بعضهم غنيا؛ وبعضهم فقيرا،
وبعضهم شريفا، وبعضهم وضيعا، فإذا مَنَّ الله بالإيمان على الفقير أو
الوضيع؛. كان ذلك محل محنة للغني والشريف فإن كان قصده الحق واتباعه، آمن
وأسلم، ولم يمنعه من ذلك مشاركه الذي يراه دونه بالغنى أو الشرف، وإن لم
يكن صادقا في طلب الحق، كانت هذه عقبة ترده عن اتباع الحق.

وقالوا
محتقرين لمن يرونهم دونهم: { أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
بَيْنِنَا } فمنعهم هذا من اتباع الحق، لعدم زكائهم، قال الله مجيبا
لكلامهم المتضمن الاعتراض على الله في هداية هؤلاء، وعدم هدايتهم هم. {
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } الذين يعرفون النعمة،
ويقرون بها، ويقومون بما تقتضيه من العمل الصالح، فيضع فضله ومنته عليهم،
دون من ليس بشاكر، فإن الله تعالى حكيم، لا يضع فضله عند من ليس له بأهل،
وهؤلاء المعترضون بهذا الوصف، بخلاف من مَنَّ الله عليهم بالإيمان، من
الفقراء وغيرهم فإنهم هم الشاكرون. ولما نهى الله رسولَه، عن طرد المؤمنين
القانتين، أمَره بمقابلتهم بالإكرام والإعظام، والتبجيل والاحترام، فقال: {
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ } أي: وإذا جاءك المؤمنون، فحَيِّهم ورحِّب بهم ولَقِّهم منك
تحية وسلاما، وبشرهم بما ينشط عزائمهم وهممهم، من رحمة الله، وسَعة جوده
وإحسانه، وحثهم على كل سبب وطريق، يوصل لذلك.

ورَهِّبْهم من الإقامة
على الذنوب، وأْمُرْهم بالتوبة من المعاصي، لينالوا مغفرة ربهم وجوده،
ولهذا قال: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ
عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ }
أي: فلا بد مع ترك الذنوب والإقلاع، والندم عليها، من إصلاح العمل، وأداء
ما أوجب الله، وإصلاح ما فسد من الأعمال الظاهرة والباطنة.

فإذا وجد
ذلك كله { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: صب عليهم من مغفرته ورحمته،
بحسب ما قاموا به، مما أمرهم به.

{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ }
أي: نوضحها ونبينها، ونميز بين طريق الهدى من الضلال، والغي والرشاد،
ليهتدي بذلك المهتدون، ويتبين الحق الذي ينبغي سلوكه. { وَلِتَسْتَبِينَ
سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } الموصلة إلى سخط الله وعذابه، فإن سبيل المجرمين
إذا استبانت واتضحت، أمكن اجتنابها، والبعد منها، بخلاف ما لو كانت مشتبهة
ملتبسة، فإنه لا يحصل هذا المقصود الجليل.

{ 56 - 58 } { قُلْ
إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ
لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ * قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ
بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ
يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي
مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ }

يقول تعالى لنبيه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999: { قُلْ } لهؤلاء المشركين الذين يدعون مع
الله آلهة أخرى: { إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ } من الأنداد والأوثان، التي لا تملك نفعا ولا ضرا، ولا موتا
ولا حياة ولا نشورا، فإن هذا باطل، وليس لكم فيه حجة بل ولا شبهة، ولا
اتباع الهوى الذي اتباعه أعظم الضلال، ولهذا قال { قُلْ لَا أَتَّبِعُ
أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا } أي: إن اتبعت أهواءكم { وَمَا أَنَا
مِنَ الْمُهْتَدِينَ } بوجه من الوجوه. وأما ما أنا عليه، من توحيد الله
وإخلاص العمل له، فإنه هو الحق الذي تقوم عليه البراهين والأدلة القاطعة.

وأنا
{ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي: على يقين مبين، بصحته، وبطلان ما
عداه، وهذه شهادة من الرسول جازمة، لا تقبل التردد، وهو أعدل الشهود على
الإطلاق. فصدق بها المؤمنون، وتبين لهم من صحتها وصدقها، بحسب ما مَنَّ
الله به عليهم.

{ وَ } لكنكم أيها المشركون – { كذبتم به } وهو لا
يستحق هذا منكم، ولا يليق به إلا التصديق، وإذا استمررتم على تكذيبكم،
فاعلموا أن العذاب واقع بكم لا محالة، وهو عند الله، هو الذي ينزله عليكم،
إذا شاء، وكيف شاء، وإن استعجلتم به، فليس بيدي من الأمر شيء { إِنِ
الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } فكما أنه هو الذي حكم بالحكم الشرعي، فأمر
ونهى، فإنه سيحكم بالحكم الجزائي، فيثيب ويعاقب، بحسب ما تقتضيه حكمته.
فالاعتراض على حكمه مطلقا مدفوع، وقد أوضح السبيل، وقص على عباده الحق قصا،
قطع به معاذيرهم، وانقطعت له حجتهم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن
بينة { وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } بين عباده، في الدنيا والآخرة،
فيفصل بينهم فصلا، يحمده عليه، حتى من قضى عليه، ووجه الحق نحوه.

{
قُل } للمستعجلين بالعذاب، جهلا وعنادا وظلما، { لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فأوقعته
بكم ولا خير لكم في ذلك، ولكن الأمر، عند الحليم الصبور، الذي يعصيه
العاصون، ويتجرأ عليه المتجرئون، وهو يعافيهم، ويرزقهم، ويسدي عليهم نعمه،
الظاهرة والباطنة. { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } لا يخفى عليه من
أحوالهم شيء، فيمهلهم ولا يهملهم.

{ 59 } { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ
الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا
حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي
كِتَابٍ مُبِينٍ }

هذه الآية العظيمة، من أعظم الآيات تفصيلا لعلمه
المحيط، وأنه شامل للغيوب كلها، التي يطلع منها ما شاء من خلقه. وكثير منها
طوى علمه عن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، فضلا عن غيرهم من
العالمين، وأنه يعلم ما في البراري والقفار، من الحيوانات، والأشجار،
والرمال والحصى، والتراب، وما في البحار من حيواناتها، ومعادنها، وصيدها،
وغير ذلك مما تحتويه أرجاؤها، ويشتمل عليه ماؤها.

{ وَمَا تَسْقُطُ
مِنْ وَرَقَةٍ } من أشجار البر والبحر، والبلدان والقفر، والدنيا والآخرة،
إلا يعلمها. { وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ } من حبوب الثمار
والزروع، وحبوب البذور التي يبذرها الخلق؛ وبذور النوابت البرية التي ينشئ
منها أصناف النباتات.

{ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ } هذا عموم بعد
خصوص { إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } وهو اللوح المحفوظ، قد حواها، واشتمل
عليها، وبعض هذا المذكور، يبهر عقول العقلاء، ويذهل أفئدة النبلاء، فدل هذا
على عظمة الرب العظيم وسعته، في أوصافه كلها.

وأن الخلق -من أولهم
إلى آخرهم- لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفاته، لم يكن لهم قدرة ولا وسع
في ذلك، فتبارك الرب العظيم، الواسع العليم، الحميد المجيد، الشهيد،
المحيط.

وجل مِنْ إله، لا يحصي أحد ثناء عليه، بل كما أثنى على
نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده، فهذه الآية، دلت على علمه المحيط بجميع
الأشياء، وكتابه المحيط بجميع الحوادث.

{ 60 - 62 } { وَهُوَ
الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ
بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى
إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا
يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا
لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ }

هذا كله، تقرير
لألوهيته، واحتجاج على المشركين به، وبيان أنه تعالى المستحق للحب
والتعظيم، والإجلال والإكرام، فأخبر أنه وحده، المتفرد بتدبير عباده، في
يقظتهم ومنامهم، وأنه يتوفاهم بالليل، وفاة النوم، فتهدأ حركاتهم، وتستريح
أبدانهم، ويبعثهم في اليقظة من نومهم، ليتصرفوا في مصالحهم الدينية
والدنيوية وهو –تعالى- يعلم ما جرحوا وما كسبوا من تلك الأعمال. ثم لا يزال
تعالى هكذا، يتصرف فيهم، حتى يستوفوا آجالهم. فيقضى بهذا التدبير، أجل
مسمى، وهو: أجل الحياة، وأجل آخر فيما بعد ذلك، وهو البعث بعد الموت، ولهذا
قال: { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } لا إلى غيره { ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من خير وشر.

{ وَهُوَ } تعالى {
الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } ينفذ فيهم إرادته الشاملة، ومشيئته العامة،
فليسوا يملكون من الأمر شيئا، ولا يتحركون ولا يسكنون إلا بإذنه، ومع ذلك،
فقد وكل بالعباد حفظةً من الملائكة، يحفظون العبد ويحفظون عليه ما عمل، كما
قال تعالى: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ *
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ
قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }
فهذا حفظه لهم في حال الحياة.

{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } أي الملائكة الموكلون بقبض الأرواح. {
وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ } في ذلك، فلا يزيدون ساعة مما قدره الله وقضاه
ولا ينقصون، ولا ينفذون من ذلك، إلا بحسب المراسيم الإلهية والتقادير
الربانية.

{ ثُمَّ } بعد الموت والحياة البرزخية، وما فيها من الخير
والشر { رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ } أي: الذي تولاهم
بحكمه القدري، فنفذ فيهم ما شاء من أنواع التدبير، ثم تولاهم بأمره ونهيه،
وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ثم ردوا إليه ليتولى الحكم فيهم
بالجزاء، ويثيبهم على ما عملوا من الخيرات، ويعاقبهم على الشرور
والسيئات،وَلهذا قال: { أَلَا لَهُ الْحُكْمُ } وحده لا شريك له { وَهُوَ
أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } لكمال علمه وحفظه لأعمالهم، بما أثبتته في اللوح
المحفوظ، ثم أثبته ملائكته في الكتاب، الذي بأيديهم، فإذا كان تعالى هو
المنفرد بالخلق والتدبير، وهو القاهر فوق عباده، وقد اعتنى بهم كل
الاعتناء، في جميع أحوالهم، وهو الذي له الحكم القدري، والحكم الشرعي،
والحكم الجزائي، فأين للمشركين العدولُ عن من هذا وصفه ونعته، إلى عبادة من
ليس له من الأمر شيء، ولا عنده مثقال ذرة من النفع، ولا له قدرة وإرادة؟!.

أما
والله لو علموا حلم الله عليهم، وعفوه ورحمته بهم، وهم يبارزونه بالشرك
والكفران، ويتجرءون على عظمته بالإفك والبهتان، وهو يعافيهم ويرزقهم
لانجذبت، دواعيهم إلى معرفته، وذهلت عقولهم في حبه. ولمقتوا أنفسهم أشد
المقت، حيث انقادوا لداعي الشيطان، الموجب للخزي والخسران، ولكنهم قوم لا
يعقلون.


{ 63 ، 64 } { قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا
مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ
مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ }

أي {
قُلْ } للمشركين بالله، الداعين معه آلهة أخرى، ملزما لهم بما أثبتوه من
توحيد الربوبية، على ما أنكروا من توحيد الإلهية { مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ
ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي: شدائدهما ومشقاتهما، وحين يتعذر أو
يتعسر عليكم وجه الحيلة، فتدْعون ربكم تضرعا بقلب خاضع، ولسان لا يزال يلهج
بحاجته في الدعاء، وتقولون وأنتم في تلك الحال: { لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ
هَذِهِ } الشدة التي وقعنا فيها { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } لله،
أي المعترفين بنعمته، الواضعين لها في طاعة ربهم، الذين حفظوها عن أن
يبذلوها في معصيته.

{ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ
كُلِّ كَرْبٍ } أي: من هذه الشدة الخاصة، ومن جميع الكروب العامة. { ثُمَّ
أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ } لا تفون لله بما قلتم، وتنسون نعمه عليكم، فأي
برهان أوضح من هذا على بطلان الشرك، وصحة التوحيد؟"
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime1/1/2011, 9:10 pm

{
65 - 67 } { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ
عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ
شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ
الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ
الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ
وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }

أي: هو تعالى قادر على إرسال العذاب إليكم
من كل جهة. { مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ
يَلْبِسَكُمْ } أي: يخلطكم { شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ }
أي: في الفتنة، وقتل بعضكم بعضا.

فهو قادر على ذلك كله، فاحذروا من
الإقامة على معاصيه، فيصيبكم من العذاب ما يتلفكم ويمحقكم، ومع هذا فقد
أخبر أنه قادر على ذلك. ولكن من رحمته، أن رفع عن هذه الأمة العذاب من
فوقهم بالرجم والحصب، ونحوه، ومن تحت أرجلهم بالخسف.

ولكن عاقب من
عاقب منهم، بأن أذاق بعضهم بأس بعض، وسلط بعضهم على بعض، عقوبة عاجلة يراها
المعتبرون، ويشعر بها العالمون

{ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ
الْآيَاتِ } أي: ننوعها، ونأتي بها على أوجه كثيرة وكلها دالة على الحق. {
لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } أي: يفهمون ما خلقوا من أجله، ويفقهون الحقائق
الشرعية، والمطالب الإلهية.

{ وَكَذَّبَ بِهِ } أي: بالقرآن {
قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ } الذي لا مرية فيه، ولا شك يعتريه. { قُلْ
لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } أحفظ أعمالكم، وأجازيكم عليها، وإنما أنا
منذر ومبلغ.

{ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ } أي: وقت يستقر فيه،
وزمان لا يتقدم عنه ولا يتأخر. { وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ما توعدون به من
العذاب.


{ 68 ، 69 } { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ
فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى
مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ
حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

المراد
بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق، من تحسين المقالات الباطلة،
والدعوة إليها، ومدح أهلها، والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله، فأمر
الله رسوله أصلا، وأمته تبعا، إذا رأوا من يخوض بآيات الله بشيء مما ذكر،
بالإعراض عنهم، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل، والاستمرار على ذلك، حتى
يكون البحث والخوض في كلام غيره، فإذا كان في كلام غيره، زال النهي
المذكور.

فإن كان مصلحة كان مأمورا به، وإن كان غير ذلك، كان غير
مفيد ولا مأمور به، وفي ذم الخوض بالباطل، حث على البحث، والنظر، والمناظرة
بالحق. ثم قال: { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ } أي: بأن جلست
معهم، على وجه النسيان والغفلة. { فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } يشمل الخائضين بالباطل، وكل متكلم بمحرم، أو
فاعل لمحرم، فإنه يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر، الذي لا يقدر على
إزالته.

هذا النهي والتحريم، لمن جلس معهم، ولم يستعمل تقوى الله،
بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم، وعن الإنكار، فإن
استعمل تقوى الله تعالى، بأن كان يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر والكلام
الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه، فهذا ليس عليه حرج
ولا إثم، ولهذا قال: { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي: ولكن ليذكرهم،
ويعظهم، لعلهم يتقون الله تعالى.

وفي هذا دليل على أنه ينبغي أن
يستعمل المذكِّرُ من الكلام، ما يكون أقرب إلى حصول مقصود التقوى. وفيه
دليل على أنه إذا كان التذكير والوعظ، مما يزيد الموعوظ شرا إلى شره، إلى
أن تركه هو الواجب لأنه إذا ناقض المقصود، كان تركه مقصودا.


{
70 } { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا
وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ
بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ
وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ
أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ
بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }

المقصود من العباد، أن يخلصوا لله
الدين، بأن يعبدوه وحده لا شريك له، ويبذلوا مقدورهم في مرضاته ومحابه.
وذلك متضمن لإقبال القلب على الله وتوجهه إليه، وكون سعي العبد نافعا،
وجدًّا، لا هزلا، وإخلاصا لوجه الله، لا رياء وسمعة، هذا هو الدين الحقيقي،
الذي يقال له دين، فأما من زعم أنه على الحق، وأنه صاحب دين وتقوى، وقد
اتخذ دينَه لعبا ولهوا. بأن لَهَا قلبُه عن محبة الله ومعرفته، وأقبل على
كل ما يضره، ولَهَا في باطله، ولعب فيه ببدنه، لأن العمل والسعي إذا كان
لغير الله، فهو لعب، فهذا أَمَر الله تعالى أن يترك ويحذر، ولا يغتر به،
وتنظر حاله، ويحذر من أفعاله، ولا يغتر بتعويقه عما يقرب إلى الله.

{
وَذَكِّرْ بِهِ } أي: ذكر بالقرآن، ما ينفع العباد، أمرا، وتفصيلا،
وتحسينا له، بذكر ما فيه من أوصاف الحسن، وما يضر العباد نهيا عنه، وتفصيلا
لأنواعه، وبيان ما فيه، من الأوصاف القبيحة الشنيعة، الداعية لتركه، وكل
هذا لئلا تبسل نفس بما كسبت، أي: قبل اقتحام العبد للذنوب وتجرئه على علام
الغيوب، واستمرارها على ذلك المرهوب، فذكرها، وعظها، لترتدع وتنزجر، وتكف
عن فعلها.

وقوله { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا
شَفِيعٌ } أي: قبل [أن] تحيط بها ذنوبها، ثم لا ينفعها أحد من الخلق، لا
قريب ولا صديق، ولا يتولاها من دون الله أحد، ولا يشفع لها شافع { وَإِنْ
تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ } أي: تفتدي بكل فداء، ولو بملء الأرض ذهبا { لَا
يُؤْخَذْ مِنْهَا } أي: لا يقبل ولا يفيد.

{ أُولَئِكَ } الموصوفون
بما ذكر { الَّذِينَ أُبْسِلُوا } أي: أهلكوا وأيسوا من الخير، وذلك {
بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ } أي: ماء حار قد انتهى حره،
يشوي وجوههم، ويقطع أمعاءهم { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ
}


{ 71 - 73 } { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا
يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ
هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ
حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ
هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
* وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ
وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ
الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }

{ قُلْ } يا أيها الرسول للمشركين بالله،
الداعين معه غيره، الذين يدعونكم إلى دينهم، مبينا وشارحا لوصف آلهتهم،
التي يكتفي العاقل بذكر وصفها، عن النهي عنها، فإن كل عاقل إذا تصور مذهب
المشركين جزم ببطلانه، قبل أن تقام البراهين على ذلك، فقال: { أَنَدْعُو
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا } وهذا وصف، يدخل
فيه كل مَن عُبِد مِنْ دون الله، فإنه لا ينفع ولا يضر، وليس له من الأمر
شيء، إن الأمر إلا لله.

{ وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ
هَدَانَا اللَّهُ } أي: وننقلب بعد هداية الله لنا إلى الضلال، ومن الرشد
إلى الغي، ومن الصراط الموصل إلى جنات النعيم، إلى الطرق التي تفضي بسالكها
إلى العذاب الأليم. فهذه حال لا يرتضيها ذو رشد، وصاحبها { كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ } أي: أضلته وتيهته عن طريقه
ومنهجه له الموصل إلى مقصده. فبقي { حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ
إِلَى الْهُدَى } والشياطين يدعونه إلى الردى، فبقي بين الداعيين حائرا
وهذه حال الناس كلهم، إلا من عصمه الله تعالى، فإنهم يجدون فيهم جواذب
ودواعي متعارضة، دواعي الرسالة والعقل الصحيح، والفطرة المستقيمة {
يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى } والصعود إلى أعلى عليين.

ودواعي
الشيطان، ومن سلك مسلكه، والنفس الأمارة بالسوء، يدعونه إلى الضلال،
والنزول إلى أسفل سافلين، فمن الناس من يكون مع داعي الهدى، في أموره كلها
أو أغلبها، ومنهم من بالعكس من ذلك. ومنهم من يتساوى لديه الداعيان،
ويتعارض عنده الجاذبان، وفي هذا الموضع، تعرف أهل السعادة من أهل الشقاوة.

وقوله:
{ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } أي: ليس الهدى إلا الطريق
التي شرعها الله على لسان رسوله، وما عداه، فهو ضلال وردى وهلاك. {
وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } بأن ننقاد لتوحيده،
ونستسلم لأوامره ونواهيه، وندخل تحت عبوديته، فإن هذا أفضل نعمة أنعم الله
بها على العباد، وأكمل تربية أوصلها إليهم.

{ وَأَنْ أَقِيمُوا
الصَّلَاةَ } أي: وأمرنا أن نقيم الصلاة بأركانها وشروطها وسننها
ومكملاتها. { وَاتَّقُوهُ } بفعل ما أمر به، واجتناب ما عنه نهى. { وَهُوَ
الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي: تُجْمَعون ليوم القيامة، فيجازيكم
بأعمالكم، خيرها وشرها.

{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ } ليأمر العباد وينهاهم، ويثيبهم ويعاقبهم، {
وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ } الذي لا مرية فيه ولا
مثنوية، ولا يقول شيئا عبثا { وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ } أي: يوم القيامة، خصه بالذكر –مع أنه مالك كل شيء- لأنه تنقطع
فيه الأملاك، فلا يبقى ملك إلا الله الواحد القهار. { عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } الذي له الحكمة التامة،
والنعمة السابغة، والإحسان العظيم، والعلم المحيط بالسرائر والبواطن
والخفايا، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

{ 74 - 83 } { وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي
أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ
مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } إلى
آخر القصة.

يقول تعالى: واذكر قصة إبراهيم، عليه الصلاة والسلام،
مثنيا عليه ومعظما في حال دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك، وإذ قال
لأبيه { آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً } أي: لا تنفع ولا تضر وليس
لها من الأمر شيء، { إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } حيث
عبدتم من لا يستحق من العبادة شيئا، وتركتم عبادة خالقكم، ورازقكم،
ومدبركم.

{ وَكَذَلِكَ } حين وفقناه للتوحيد والدعوة إليه { نُرِي
إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي: ليرى ببصيرته، ما
اشتملت عليه من الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة { وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ } فإنه بحسب قيام الأدلة، يحصل له الإيقان والعلم التام
بجميع المطالب.

{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ } أي: أظلم {
رَأَى كَوْكَبًا } لعله من الكواكب المضيئة، لأن تخصيصه بالذكر، يدل على
زيادته عن غيره، ولهذا -والله أعلم- قال من قال: إنه الزهرة.

{
قَالَ هَذَا رَبِّي } أي: على وجه التنزل مع الخصم أي: هذا ربي، فهلم ننظر،
هل يستحق الربوبية؟ وهل يقوم لنا دليل على ذلك؟ فإنه لا ينبغي لعاقل أن
يتخذ إلهه هواه، بغير حجة ولا برهان.

{ فَلَمَّا أَفَلَ } أي: غاب
ذلك الكوكب { قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } أي: الذي يغيب ويختفي عمن
عبده، فإن المعبود لا بد أن يكون قائما بمصالح من عبده، ومدبرا له في جميع
شئونه، فأما الذي يمضي وقت كثير وهو غائب، فمن أين يستحق العبادة؟! وهل
اتخاذه إلها إلا من أسفه السفه، وأبطل الباطل؟!

{ فَلَمَّا رَأَى
الْقَمَرَ بَازِغًا } أي: طالعا، رأى زيادته على نور الكواكب ومخالفته لها {
قَالَ هَذَا رَبِّي } تنزلا. { فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ
يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } فافتقر غاية
الافتقار إلى هداية ربه، وعلم أنه إن لم يهده الله فلا هادي له، وإن لم
يعنه على طاعته، فلا معين له.

{ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً
قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ } من الكوكب ومن القمر. { فَلَمَّا
أَفَلَتْ } تقرر حينئذ الهدى، واضمحل الردى فـ { قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } حيث قام البرهان الصادق الواضح، على بطلانه.

{
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
حَنِيفًا } أي: لله وحده، مقبلا عليه، معرضا عن من سواه. { وَمَا أَنَا
مِنَ الْمُشْرِكِينَ } فتبرأ من الشرك، وأذعن بالتوحيد، وأقام على ذلك
البرهان [وهذا الذي ذكرنا في تفسير هذه الآيات، هو الصواب، وهو أن المقام
مقام مناظرة، من إبراهيم لقومه، وبيان بطلان إلهية هذه الأجرام العلوية
وغيرها. وأما من قال: إنه مقام نظر في حال طفوليته، فليس عليه دليل]

{
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ }
أيُّ فائدة لمحاجة من لم يتبين له الهدى؟ فأما من هداه الله، ووصل إلى أعلى
درجات اليقين، فإنه –هو بنفسه- يدعو الناس إلى ما هو عليه.

{ وَلَا
أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } فإنها لن تضرني، ولن تمنع عني من النفع
شيئا. { إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ
عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } فتعلمون أنه وحده المعبود المستحق
للعبودية.

{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ } وحالها حال العجز،
وعدم النفع، { وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا
لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا } أي: إلا بمجرد اتباع الهوى. {
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

قال
الله تعالى فاصلا بين الفريقين { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا }
أي: يخلطوا { إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ } الأمن من المخاوفِ والعذاب والشقاء، والهدايةُ إلى الصراط
المستقيم، فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا، لا بشرك، ولا بمعاص،
حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة. وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك
وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم
يحصل لهم كمالها. ومفهوم الآية الكريمة، أن الذين لم يحصل لهم الأمران، لم
يحصل لهم هداية، ولا أمن، بل حظهم الضلال والشقاء.

ولما حكم
لإبراهيم عليه السلام، بما بين به من البراهين القاطعة قال: { وَتِلْكَ
حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } أي: علا بها عليهم،
وفلجهم بها.

{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } كما رفعنا درجات
إبراهيم عليه السلام في الدنيا والآخرة، فإن العلم يرفع الله به صاحبه فوق
العباد درجات. خصوصا العالم العامل المعلم، فإنه يجعله الله إماما للناس،
بحسب حاله ترمق أفعاله، وتقتفى آثاره، ويستضاء بنوره، ويمشى بعلمه في ظلمة
ديجوره.

قال تعالى { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }

{ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ } فلا يضع العلم والحكمة، إلا في المحل اللائق بها، وهو أعلم بذلك
المحل، وبما ينبغي له.


{ 84 - 90 } { وَوَهَبْنَا لَهُ
إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى
وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى
وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ
وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ *
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ
وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي
بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ
وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ }

لما
ذكر الله تعالى عبده وخليله، إبراهيم عليه السلام، وذكر ما مَنَّ الله عليه
به، من العلم والدعوة، والصبر، ذكر ما أكرمه الله به من الذرية الصالحة،
والنسل الطيب. وأن الله جعل صفوة الخلق من نسله، وأعظم بهذه المنقبة
والكرامة الجسيمة، التي لا يدرك لها نظير فقال: { وَوَهَبْنَا لَهُ
إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ابنه، الذي هو إسرائيل، أبو الشعب الذي فضله الله
على العالمين.

{ كُلًّا } منهما { هَدَيْنَا } الصراط المستقيم، في
علمه وعمله.

{ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ } وهدايته من أنواع
الهدايات الخاصة التي لم تحصل إلا لأفراد من العالم؛ وهم أولو العزم من
الرسل، الذي هو أحدهم.

{ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ } يحتمل أن الضمير
عائد إلى نوح، لأنه أقرب مذكور، ولأن الله ذكر مع من ذكر لوطا، وهو من ذرية
نوح، لا من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه.

ويحتمل أن الضمير يعود إلى
إبراهيم لأن السياق في مدحه والثناء عليه، ولوط -وإن لم يكن من ذريته-
فإنه ممن آمن على يده، فكان منقبة الخليل وفضيلته بذلك، أبلغ من كونه مجرد
ابن له.

{ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } بن داود { وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ }
بن يعقوب. { وَمُوسَى وَهَارُونَ } ابني عمران، { وَكَذَلِكَ } كما أصلحنا
ذرية إبراهيم الخليل، لأنه أحسن في عبادة ربه، وأحسن في نفع الخلق { كذلك
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } بأن نجعل لهم من الثناء الصدق، والذرية الصالحة،
بحسب إحسانهم.

{ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى } ابنه { وَعِيسَى } ابن
مريم. { وَإِلْيَاسَ كُلٌّ } هؤلاء { مِنَ الصَّالِحِينَ } في أخلاقهم
وأعمالهم وعلومهم، بل هم سادة الصالحين وقادتهم وأئمتهم.

{
وَإِسْمَاعِيلَ } بن إبراهيم أبو الشعب الذي هو أفضل الشعوب، وهو الشعب
العربي، ووالد سيد ولد آدم، محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999. { وَيُونُسَ } بن متى { وَلُوطًا } بن
هاران، أخي إبراهيم. { وَكُلَا } من هؤلاء الأنبياء والمرسلين { فَضَّلْنَا
عَلَى الْعَالَمِينَ } لأن درجات الفضائل أربع – وهي التي ذكرها الله
بقوله: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } فهؤلاء من الدرجة العليا، بل هم أفضل
الرسل على الإطلاق، فالرسل الذين قصهم الله في كتابه، أفضل ممن لم يقص
علينا نبأهم بلا شك.

{ وَمِنْ آبَائِهِمْ } أي: آباء هؤلاء
المذكورين { وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ } أي: وهدينا من آباء هؤلاء
وذرياتهم وإخوانهم. { وَاجْتَبَيْنَاهُمْ } أي: اخترناهم {
وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }

{ ذَلِكَ } الهدى
المذكور { هُدَى اللَّهِ } الذي لا هدى إلا هداه. { يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } فاطلبوا منه الهدى فإنه إن لم يهدكم فلا هادي لكم
غيره، وممن شاء هدايته هؤلاء المذكورون. { وَلَوْ أَشْرَكُوا } على الفرض
والتقدير { لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فإن الشرك محبط
للعمل، موجب للخلود في النار. فإذا كان هؤلاء الصفوة الأخيار، لو أشركوا
-وحاشاهم- لحبطت أعمالهم فغيرهم أولى.

{ أُولَئِكَ } المذكورون {
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } أي: امش -أيها الرسول
الكريم- خلف هؤلاء الأنبياء الأخيار، واتبع ملتهم وقد امتثل تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، فاهتدى بهدي الرسل قبله، وجمع كل كمال
فيهم. فاجتمعت لديه فضائل وخصائص، فاق بها جميع العالمين، وكان سيد
المرسلين، وإمام المتقين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وبهذا
الملحظ، استدل بهذه من استدل من الصحابة، أن رسول الله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، أفضل الرسل كلهم.

{ قُلْ } للذين
أعرضوا عن دعوتك: { لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } أي: لا أطلب منكم
مغرما ومالا، جزاء عن إبلاغي إياكم، ودعوتي لكم فيكون من أسباب امتناعكم،
إن أجري إلا على الله.

{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ }
يتذكرون به ما ينفعهم، فيفعلونه، وما يضرهم، فيذرونه، ويتذكرون به معرفة
ربهم بأسمائه وأوصافه. ويتذكرون به الأخلاق الحميدة، والطرق الموصلة إليها،
والأخلاق الرذيلة، والطرق المفضية إليها، فإذا كان ذكرى للعالمين، كان
أعظم نعمة أنعم الله بها عليهم، فعليهم قبولها والشكر عليها
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
alfrmawi
:: عضو ممتاز ::
:: عضو ممتاز ::
alfrmawi


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : الاسد
عدد المساهمات : 801
نقاط : 25455
العمر : 31
تاريخ التسجيل : 21/11/2010

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 12:22 pm

بسم الله ماشاء الله


بس يا ترى التفسير ده جيباه منين
من كتاب إيه ؟؟؟؟؟؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 5:19 pm

بص يا حبيبى انتا لو بتقرا كويس هتعرف انا جايبو منين

وبليز محدش يرد لحد مخلص الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 5:22 pm

{
91 } { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي
جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ
تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا
أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ
يَلْعَبُونَ }

هذا تشنيع على من نفى الرسالة، [من اليهود والمشركين]
وزعم أن الله ما أنزل على بشر من شيء، فمن قال هذا، فما قدر الله حق قدره،
ولا عظمه حق عظمته، إذ هذا قدح في حكمته، وزعم أنه يترك عباده هملا، لا
يأمرهم ولا ينهاهم، ونفي لأعظم منة، امتن الله بها على عباده، وهي الرسالة،
التي لا طريق للعباد إلى نيل السعادة، والكرامة، والفلاح، إلا بها، فأي
قدح في الله أعظم من هذا؟"

{ قُلْ ْ} لهم –ملزما بفساد قولهم،
وقرِّرْهم، بما به يقرون-: { مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ
مُوسَى ْ} وهو التوراة العظيمة { نُورًا ْ} في ظلمات الجهل { وَهُدًى ْ} من
الضلالة، وهاديا إلى الصراط المستقيم علما وعملا، وهو الكتاب الذي شاع
وذاع، وملأ ذكره القلوب والأسماع. حتى أنهم جعلوا يتناسخونه في القراطيس،
ويتصرفون فيه بما شاءوا، فما وافق أهواءهم منه، أبدوه وأظهروه، وما خالف
ذلك، أخفوه وكتموه، وذلك كثير.

{ وَعُلِّمْتُمْ ْ} من العلوم التي
بسبب ذلك الكتاب الجليل { مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ
ْ} فإذا سألتهم عمن أنزل هذا الكتاب الموصوف بتلك الصفات، فأجب عن هذا
السؤال. و { قل الله ْ} الذي أنزله، فحينئذ يتضح الحق وينجلي مثل الشمس،
وتقوم عليهم الحجة، ثم إذا ألزمتهم بهذا الإلزام { ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ
يَلْعَبُونَ ْ} أي: اتركهم يخوضوا في الباطل، ويلعبوا بما لا فائدة فيه،
حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.


{ 92 } { وَهَذَا كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ
أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ }

أي: {
وَهَذَا ْ} القرآن الذي { أَنْزَلْنَاهُ ْ} إليك { مُبَارَكٌ ْ} أي:
وَصْفُه البركة، وذلك لكثرة خيراته، وسعة مبراته. { مُصَدِّقُ الَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ ْ} أي: موافق للكتب السابقة، وشاهد لها بالصدق.

{
وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ْ} أي: وأنزلناه أيضا لتنذر
أم القرى، وهي: مكة المكرمة، ومن حولها، من ديار العرب، بل، ومن سائر
البلدان. فتحذر الناس عقوبة الله، وأخذه الأمم، وتحذرهم مما يوجب ذلك. {
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ْ} لأن الخوف إذا
كان في القلب عمرت أركانه، وانقاد لمراضي الله.

{ وَهُمْ عَلَى
صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ْ} أي: يداومون عليها، ويحفظون أركانها وحدودها
وشروطها وآدابها، ومكملاتها. جعلنا الله منهم.


{ 93 - 94 } {
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ
أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ
مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي
غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا
أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ
تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ
تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ
وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ
فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ }

يقول تعالى: لا أحد أعظم ظلما، ولا أكبر
جرما، ممن كذب [على] الله.بأن نسب إلى الله قولا أو حكما وهو تعالى بريء
منه، وإنما كان هذا أظلم الخلق، لأن فيه من الكذب، وتغيير الأديان أصولها،
وفروعها، ونسبة ذلك إلى الله -ما هو من أكبر المفاسد.

ويدخل في ذلك،
ادعاء النبوة، وأن الله يوحي إليه، وهو كاذب في ذلك، فإنه - مع كذبه على
الله، وجرأته على عظمته وسلطانه- يوجب على الخلق أن يتبعوه، ويجاهدهم على
ذلك، ويستحل دماء من خالفه وأموالهم.

ويدخل في هذه الآية، كل من
ادعى النبوة، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي والمختار، وغيرهم ممن اتصف
بهذا الوصف.

{ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
ْ} أي: ومن أظلم ممن زعم. أنه يقدر على ما يقدر الله عليه ويجاري الله في
أحكامه، ويشرع من الشرائع، كما شرعه الله. ويدخل في هذا، كل من يزعم أنه
يقدر على معارضة القرآن، وأنه في إمكانه أن يأتي بمثله. وأي: ظلم أعظم من
دعوى الفقير العاجز بالذات، الناقص من كل وجه، مشاركةَ القوي الغني، الذي
له الكمال المطلق، من جميع الوجوه، في ذاته وأسمائه وصفاته؟"

ولما
ذم الظالمين، ذكر ما أعد لهم من العقوبة في حال الاحتضار، ويوم القيامة
فقال: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ْ} أي:
شدائده وأهواله الفظيعة، وكُرَبه الشنيعة –لرأيت أمرا هائلا، وحالة لا يقدر
الواصف أن يصفها.

{ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ْ} إلى
أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب والعذاب، يقولون لهم عند منازعة أرواحهم
وقلقها، وتعصيها للخروج من الأبدان: { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ْ} أي: العذاب الشديد، الذي يهينكم ويذلكم
والجزاء من جنس العمل، فإن هذا العذاب { بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ْ} من كذبكم عليه، وردكم للحق، الذي جاءت به
الرسل. { وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ْ} أي: تَرَفَّعون عن
الانقياد لها، والاستسلام لأحكامها. وفي هذا دليل على عذاب البرزخ ونعيمه،
فإن هذا الخطاب، والعذاب الموجه إليهم، إنما هو عند الاحتضار وقبيل الموت
وبعده.

وفيه دليل، على أن الروح جسم، يدخل ويخرج، ويخاطب، ويساكن
الجسد، ويفارقه، فهذه حالهم في البرزخ.

وأما يوم القيامة، فإنهم إذا
وردوها، وردوها مفلسين فرادى بلا أهل ولا مال، ولا أولاد ولا جنود، ولا
أنصار، كما خلقهم الله أول مرة، عارين من كل شيء.

فإن الأشياء، إنما
تتمول وتحصل بعد ذلك، بأسبابها، التي هي أسبابها، وفي ذلك اليوم تنقطع
جميع الأمور، التي كانت مع العبد في الدنيا، سوى العمل الصالح والعمل
السيء، الذي هو مادة الدار الآخرة، الذي تنشأ عنه، ويكون حسنها وقبحها،
وسرورها وغمومها، وعذابها ونعيمها، بحسب الأعمال. فهي التي تنفع أو تضر،
وتسوء أو تسر، وما سواها من الأهل والولد، والمال والأنصار، فعواري خارجية،
وأوصاف زائلة، وأحوال حائلة، ولهذا قال تعالى:

{ وَلَقَدْ
جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ
مَا خَوَّلْنَاكُمْ ْ} أي: أعطيناكم، وأنعمنا به عليكم { وَرَاءَ
ظُهُورِكُمْ ْ} لا يغنون عنكم شيئا { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ْ}

فإن المشركين
يشركون بالله، ويعبدون معه الملائكة، والأنبياء، والصالحين، وغيرهم، وهم
كلهم لله، ولكنهم يجعلون لهذه المخلوقات نصيبا من أنفسهم، وشركة في
عبادتهم، وهذا زعم منهم وظلم، فإن الجميع عبيد لله، والله مالكهم، والمستحق
لعبادتهم. فشركهم في العبادة، وصرفها لبعض العبيد، تنزيل لهم منزلة الخالق
المالك، فيوبخون يوم القيامة ويقال لهم هذه المقالة.

{ وَمَا نَرَى
مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ْ} أي: تقطعت الوصل والأسباب بينكم وبين
شركائكم، من الشفاعة وغيرها فلم تنفع ولم تُجْد شيئا. { وَضَلَّ عَنْكُمْ
مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ْ} من الربح، والأمن والسعادة، والنجاة، التي
زينها لكم الشيطان، وحسنها في قلوبكم، فنطقت بها ألسنتكم. واغتررتم بهذا
الزعم الباطل، الذي لا حقيقة له، حين تبين لكم نقيض ما كنتم تزعمون، وظهر
أنكم الخاسرون لأنفسكم وأهليكم وأموالكم.

{ 95 - 98 } { إِنَّ
اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا
فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَفْقَهُونَ }

يخبر تعالى عن كماله، وعظمة سلطانه، وقوة اقتداره،
وسعة رحمته، وعموم كرمه، وشدة عنايته بخلقه، فقال: { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ
الْحَبِّ } شامل لسائر الحبوب، التى يباشر الناس زرعها، والتي لا
يباشرونها، كالحبوب التي يبثها الله في البراري والقفار، فيفلق الحبوب عن
الزروع والنوابت، على اختلاف أنواعها، وأشكالها، ومنافعها، ويفلق النوى عن
الأشجار، من النخيل والفواكه، وغير ذلك. فينتفع الخلق، من الآدميين
والأنعام، والدواب.ويرتعون فيما فلق الله من الحب والنوى، ويقتاتون،
وينتفعون بجميع أنواع المنافع التي جعلها الله في ذلك.ويريهم الله من بره
وإحسانه ما يبهر العقول، ويذهل الفحول، ويريهم من بدائع صنعته، وكمال
حكمته، ما به يعرفونه ويوحدونه، ويعلمون أنه هو الحق، وأن عبادة ما سواه
باطلة.

{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } كما يخرج من المني
حيوانا، ومن البيضة فرخا، ومن الحب والنوى زرعا وشجرا.

{ وَمُخْرِجُ
الْمَيِّتِ } وهو الذي لا نمو فيه، أو لا روح { مِنَ الْحَيِّ } كما يخرج
من الأشجار والزروع النوى والحب، ويخرج من الطائر بيضا ونحو ذلك.

{
ذَلِكُمْ } الذي فعل ما فعل، وانفرد بخلق هذه الأشياء وتدبيرها { اللَّهُ }
رَبُّكُمْ أي: الذي له الألوهية والعبادة على خلقه أجمعين، وهو الذي ربى
جميع العالمين بنعمه، وغذاهم بكرمه. { فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي: فأنى
تصرفون، وتصدون عن عبادة من هذا شأنه، إلى عبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا
ضرا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا؟"

ولما ذكر تعالى مادة خلق
الأقوات، ذكر منته بتهيئة المساكن، وخلقه كل ما يحتاج إليه العباد، من
الضياء والظلمة، وما يترتب على ذلك من أنواع المنافع والمصالح فقال: {
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ } أي: كما أنه فالق الحب والنوى، كذلك هو فالق ظلمة
الليل الداجي، الشامل لما على وجه الأرض، بضياء الصبح الذي يفلقه شيئا
فشيئا، حتى تذهب ظلمة الليل كلها، ويخلفها الضياء والنور العام، الذي يتصرف
به الخلق في مصالحهم، ومعايشهم، ومنافع دينهم ودنياهم.

ولما كان
الخلق محتاجين إلى السكون والاستقرار والراحة، التي لا تتم بوجود النهار
والنور { جَعَلَ } الله { اللَّيْلَ سَكَنًا } يسكن فيه الآدميون إلى دورهم
ومنامهم، والأنعام إلى مأواها، والطيور إلى أوكارها، فتأخذ نصيبها من
الراحة، ثم يزيل الله ذلك بالضياء، وهكذا أبدا إلى يوم القيامة { و } جعل
تعالى { الشمس وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } بهما تعرف الأزمنة والأوقات،
فتنضبط بذلك أوقات العبادات، وآجال المعاملات، ويعرف بها مدة ما مضى من
الأوقات التي لولا وجود الشمس والقمر، وتناوبهما واختلافهما - لما عرف ذلك
عامة الناس، واشتركوا في علمه، بل كان لا يعرفه إلا أفراد من الناس، بعد
الاجتهاد، وبذلك يفوت من المصالح الضرورية ما يفوت.

{ ذَلِكَ }
التقدير المذكور { تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } الذي من عزته انقادت
له هذه المخلوقات العظيمة، فجرت مذللة مسخرة بأمره، بحيث لا تتعدى ما حده
الله لها، ولا تتقدم عنه ولا تتأخر { الْعَلِيمُ } الذي أحاط علمه،
بالظواهر والبواطن، والأوائل والأواخر.

ومن الأدلة العقلية على
إحاطة علمه، تسخير هذه المخلوقات العظيمة، على تقدير، ونظام بديع، تحيُّرُ
العقول في حسنه وكماله، وموافقته للمصالح والحكم.

{ وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ } حين تشتبه عليكم المسالك، ويتحير في سيره السالك، فجعل الله
النجوم هداية للخلق إلى السبل، التي يحتاجون إلى سلوكها لمصالحهم،
وتجاراتهم، وأسفارهم.

منها: نجوم لا تزال ترى، ولا تسير عن محلها،
ومنها: ما هو مستمر السير، يعرف سيرَه أهل المعرفة بذلك، ويعرفون به الجهات
والأوقات.

ودلت هذه الآية ونحوها، على مشروعية تعلم سير الكواكب
ومحالّها الذي يسمى علم التسيير، فإنه لا تتم الهداية ولا تمكن إلا بذلك.

{
قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ } أي بيناها، ووضحناها، وميزنا كل جنس ونوع
منها عن الآخر، بحيث صارت آيات الله بادية ظاهرة { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
أي: لأهل العلم والمعرفة، فإنهم الذين يوجه إليهم الخطاب، ويطلب منهم
الجواب، بخلاف أهل الجهل والجفاء، المعرضين عن آيات الله، وعن العلم الذي
جاءت به الرسل، فإن البيان لا يفيدهم شيئا، والتفصيل لا يزيل عنهم ملتبسا،
والإيضاح لا يكشف لهم مشكلا.

{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وهو آدم عليه السلام. أنشأ الله منه هذا العنصر الآدمي؛
الذي قد ملأ الأرض ولم يزل في زيادة ونمو، الذي قد تفاوت في أخلاقه وخلقه،
وأوصافه تفاوتا لا يمكن ضبطه، ولا يدرك وصفه، وجعل الله لهم مستقرا، أي
منتهى ينتهون إليه، وغاية يساقون إليها، وهي دار القرار، التي لا مستقر
وراءها، ولا نهاية فوقها، فهذه الدار، هي التي خلق الخلق لسكناها، وأوجدوا
في الدنيا ليسعوا في أسبابها، التي تنشأ عليها وتعمر بها، وأودعهم الله في
أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم في دار الدنيا، ثم في البرزخ، كل ذلك، على
وجه الوديعة، التي لا تستقر ولا تثبت، بل ينتقل منها حتى يوصل إلى الدار
التي هي المستقر، وأما هذه الدار، فإنها مستودع وممر { قَدْ فَصَّلْنَا
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } عن الله آياته، ويفهمون عنه حججه،
وبيناته.


{ 99 } { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ
خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ
طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ
إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ }

وهذا من أعظم مننه العظيمة، التي يضطر إليها الخلق،
من الآدميين وغيرهم، وهو أنه أنزل من السماء ماء متتابعا وقت حاجة الناس
إليه، فأنبت الله به كل شيء، مما يأكل الناس والأنعام، فرتع الخلق بفضل
الله، وانبسطوا برزقه، وفرحوا بإحسانه، وزال عنهم الجدب واليأس والقحط،
ففرحت القلوب، وأسفرت الوجوه، وحصل للعباد من رحمة الرحمن الرحيم، ما به
يتمتعون وبه يرتعون، مما يوجب لهم، أن يبذلوا جهدهم في شكر من أسدى النعم،
وعبادته والإنابة إليه، والمحبة له.

ولما ذكر عموم ما ينبت بالماء،
من أنواع الأشجار والنبات، ذكر الزرع والنخل، لكثرة نفعهما وكونهما قوتا
لأكثر الناس فقال: { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ } أي:
من ذلك النبات الخضر، { حَبًّا مُتَرَاكِبًا } بعضه فوق بعض، من بر، وشعير،
وذرة، وأرز، وغير ذلك، من أصناف الزروع، وفي وصفه بأنه متراكب، إشارة إلى
أن حبوبه متعددة، وجميعها تستمد من مادة واحدة، وهي لا تختلط، بل هي متفرقة
الحبوب، مجتمعة الأصول، وإشارة أيضا إلى كثرتها، وشمول ريعها وغلتها،
ليبقى أصل البذر، ويبقى بقية كثيرة للأكل والادخار.

{ وَمِنَ
النَّخْلِ } أخرج الله { مِنْ طَلْعِهَا } وهو الكفرى، والوعاء قبل ظهور
القنو منه، فيخرج من ذلك الوعاء { قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } أي: قريبة سهلة
التناول، متدلية على من أرادها، بحيث لا يعسر التناول من النخل وإن طالت،
فإنه يوجد فيها كرب ومراقي، يسهل صعودها.

{ و } أخرج تعالى بالماء {
جنات مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ } فهذه من الأشجار
الكثيرة النفع، العظيمة الوقع، فلذلك خصصها الله بالذكر بعد أن عم جميع
الأشجار والنوابت.

وقوله { مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ }
يحتمل أن يرجع إلى الرمان والزيتون، أي: مشتبها في شجره وورقه، غير متشابه
في ثمره.

ويحتمل أن يرجع ذلك، إلى سائر الأشجار والفواكه، وأن بعضها
مشتبه، يشبه بعضه بعضا، ويتقارب في بعض أوصافه، وبعضها لا مشابهة بينه
وبين غيره، والكل ينتفع به العباد، ويتفكهون، ويقتاتون، ويعتبرون، ولهذا
أمر تعالى بالاعتبار به، فقال: { انْظُرُوا } نظر فكر واعتبار { إِلَى
ثَمَرِهِ } أي: الأشجار كلها، خصوصا: النخل { إذا أثمر }

{
وَيَنْعِهِ } أي: انظروا إليه، وقت إطلاعه، ووقت نضجه وإيناعه، فإن في ذلك
عبرا وآيات، يستدل بها على رحمة الله، وسعة إحسانه وجوده، وكمال اقتداره
وعنايته بعباده.

ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر وليس كل من تفكر،
أدرك المعنى المقصود، ولهذا قيد تعالى الانتفاع بالآيات بالمؤمنين فقال: {
إِنَّ فِي ذَلِكَم لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فإن المؤمنين يحملهم ما
معهم من الإيمان، على العمل بمقتضياته ولوازمه، التي منها التفكر في آيات
الله، والاستنتاج منها ما يراد منها، وما تدل عليه، عقلا، وفطرة، وشرعا.


{
100 - 104 } { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ
وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ
لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *

ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ
وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا
عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }

يخبر تعالى: أنه مع إحسانه لعباده وتعرفه
إليهم، بآياته البينات، وحججه الواضحات -أن المشركين به، من قريش وغيرهم،
جعلوا له شركاء، يدعونهم، ويعبدونهم، من الجن والملائكة، الذين هم خلق من
خلق الله، ليس فيهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، فجعلوها شركاء لمن له
الخلق والأمر، وهو المنعم بسائر أصناف النعم، الدافع لجميع النقم، وكذلك
"خرق المشركون" أي: ائتفكوا، وافتروا من تلقاء أنفسهم لله، بنين وبنات بغير
علم منهم، ومن أظلم ممن قال على الله بلا علم، وافترى عليه أشنع النقص،
الذي يجب تنزيه الله عنه؟!!.

ولهذا نزه نفسه عما افتراه عليه
المشركون فقال: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } فإنه تعالى،
الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، وآفة وعيب.

{ بَدِيعُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي: خالقهما، ومتقن صنعتهما، على غير مثال
سبق، بأحسن خلق، ونظام وبهاء، لا تقترح عقول أولي الألباب مثله، وليس له في
خلقهما مشارك.

{ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
صَاحِبَةٌ } أي: كيف يكون لله الولد، وهو الإله السيد الصمد، الذي لا صاحبة
له أي: لا زوجة له، وهو الغني عن مخلوقاته، وكلها فقيرة إليه، مضطرة في
جميع أحوالها إليه، والولد لا بد أن يكون من جنس والده؛ والله خالق كل شيء
وليس شيء من المخلوقات مشابها لله بوجه من الوجوه.

ولما ذكر عموم
خلقه للأشياء، ذكر إحاطة علمه بها فقال: { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
وفي ذكر العلم بعد الخلق، إشارة إلى الدليل العقلي إلى ثبوت علمه، وهو هذه
المخلوقات، وما اشتملت عليه من النظام التام، والخلق الباهر، فإن في ذلك
دلالة على سعة علم الخالق، وكمال حكمته، كما قال تعالى: { أَلَا يَعْلَمُ
مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } وكما قال تعالى: { وَهُوَ
الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } ذلكم الذي خلق ما خلق، وقدر ما قدر. { اللَّهُ
رَبُّكُمْ }أي: المألوه المعبود، الذي يستحق نهاية الذل، ونهاية الحب،
الرب، الذي ربى جميع الخلق بالنعم، وصرف عنهم صنوف النقم. { لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ } أي: إذا استقر وثبت، أنه
الله الذي لا إله إلا هو، فاصرفوا له جميع أنواع العبادة، وأخلصوها لله،
واقصدوا بها وجهه. فإن هذا هو المقصود من الخلق، الذي خلقوا لأجله { وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }

{ وَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي: جميع الأشياء، تحت وكالة الله وتدبيره،
خلقا، وتدبيرا، وتصريفا.

ومن المعلوم، أن الأمر المتصرف فيه يكون
استقامته وتمامه، وكمال انتظامه، بحسب حال الوكيل عليه. ووكالته تعالى على
الأشياء، ليست من جنس وكالة الخلق، فإن وكالتهم، وكالة نيابة، والوكيل فيها
تابع لموكله.

وأما الباري، تبارك وتعالى، فوكالته من نفسه لنفسه،
متضمنة لكمال العلم، وحسن التدبير والإحسان فيه، والعدل، فلا يمكن لأحد أن
يستدرك على الله، ولا يرى في خلقه خللا ولا فطورا، ولا في تدبيره نقصا
وعيبا.

ومن وكالته: أنه تعالى، توكل ببيان دينه، وحفظه عن المزيلات
والمغيرات، وأنه تولى حفظ المؤمنين وعصمتهم عما يزيل إيمانهم ودينهم.

{
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } لعظمته، وجلاله وكماله، أي: لا تحيط به
الأبصار، وإن كانت تراه، وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم، فنفي الإدراك لا
ينفي الرؤية، بل يثبتها بالمفهوم. فإنه إذا نفى الإدراك، الذي هو أخص أوصاف
الرؤية، دل على أن الرؤية ثابتة.

فإنه لو أراد نفي الرؤية، لقال
"لا تراه الأبصار" ونحو ذلك، فعلم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة،
الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة، بل فيها ما يدل على نقيض قولهم.

{
وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } أي: هو الذي أحاط علمه، بالظواهر
والبواطن، وسمعه بجميع الأصوات الظاهرة، والخفية، وبصره بجميع المبصرات،
صغارها، وكبارها، ولهذا قال: { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } الذي لطف
علمه وخبرته، ودق حتى أدرك السرائر والخفايا، والخبايا والبواطن.

ومن
لطفه، أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه، ويوصلها إليه بالطرق التي لا يشعر
بها العبد، ولا يسعى فيها، ويوصله إلى السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي،
من حيث لا يحتسب، حتى أنه يقدر عليه الأمور، التي يكرهها العبد، ويتألم
منها، ويدعو الله أن يزيلها، لعلمه أن دينه أصلح، وأن كماله متوقف عليها،
فسبحان اللطيف لما يشاء، الرحيم بالمؤمنين.

{ قَدْ جَاءَكُمْ
بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ
فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } لما بين تعالى من الآيات
البينات، والأدلة الواضحات، الدالة على الحق في جميع المطالب والمقاصد، نبه
العباد عليها، وأخبر أن هدايتهم وضدها لأنفسهم، فقال: { قَدْ جَاءَكُمْ
بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ } أي: آيات تبين الحق، وتجعله للقلب بمنزلة الشمس
للأبصار، لما اشتملت عليه من فصاحة اللفظ، وبيانه، ووضوحه، ومطابقته
للمعاني الجليلة، والحقائق الجميلة، لأنها صادرة من الرب، الذي ربى خلقه،
بصنوف نعمه الظاهرة والباطنة، التي من أفضلها وأجلها، تبيين الآيات، وتوضيح
المشكلات.

{ فَمَنْ أَبْصَرَ } بتلك الآيات، مواقع العبرة، وعمل
بمقتضاها { فَلِنَفْسِهِ } فإن الله هو الغني الحميد.

{ وَمَنْ
عَمِيَ } بأن بُصِّر فلم يتبصر، وزُجِر فلم ينزجر، وبين له الحق، فما انقاد
له ولا تواضع، فإنما عماه مضرته عليه.

{ وَمَا أَنَا } أي الرسول {
عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أحفظ أعمالكم وأرقبها على الدوام إنما عليَّ
البلاغ المبين وقد أديته، وبلغت ما أنزل الله إليَّ، فهذه وظيفتي، وما عدا
ذلك فلست موظفا فيه


{ 108 } { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ
كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ
مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

ينهى
الله المؤمنين عن أمر كان جائزا، بل مشروعا في الأصل، وهو سب آلهة
المشركين، التي اتخذت أوثانا وآلهة مع الله، التي يتقرب إلى الله بإهانتها
وسبها.

ولكن لما كان هذا السب طريقا إلى سب المشركين لرب العالمين،
الذي يجب تنزيه جنابه العظيم عن كل عيب، وآفة، وسب، وقدح -نهى الله عن سب
آلهة المشركين، لأنهم يحمون لدينهم، ويتعصبون له. لأن كل أمة، زين الله لهم
عملهم، فرأوه حسنا، وذبوا عنه، ودافعوا بكل طريق، حتى إنهم، ليسبون الله
رب العالمين، الذي رسخت عظمته في قلوب الأبرار والفجار، إذا سب المسلمون
آلهتهم.

ولكن الخلق كلهم، مرجعهم ومآلهم، إلى الله يوم القيامة،
يعرضون عليه، وتعرض أعمالهم، فينبئهم بما كانوا يعملون، من خير وشر.

وفي
هذه الآية الكريمة، دليل للقاعدة الشرعية وهو أن الوسائل تعتبر بالأمور
التي توصل إليها، وأن وسائل المحرم، ولو كانت جائزة تكون محرمة، إذا كانت
تفضي إلى الشر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 5:24 pm

{
109 - 111 } { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ
جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ
اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ *
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ
أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }

أي:
وأقسم المشركون المكذبون للرسول محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999. { بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي:
قسما اجتهدوا فيه وأكدوه. { لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ } تدل على صدق محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 { لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا } وهذا
الكلام الذي صدر منهم، لم يكن قصدهم فيه الرشاد، وإنما قصدهم دفع الاعتراض
عليهم، ورد ما جاء به الرسول قطعا، فإن الله أيد رسوله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، بالآيات البينات، والأدلة الواضحات، التي
-عند الالتفات لها- لا تبقي أدنى شبهة ولا إشكال في صحة ما جاء به، فطلبهم
-بعد ذلك- للآيات من باب التعنت، الذي لا يلزم إجابته، بل قد يكون المنع من
إجابتهم أصلح لهم، فإن الله جرت سنته في عباده، أن المقترحين للآيات على
رسلهم، إذا جاءتهم، فلم يؤمنوا بها -أنه يعاجلهم بالعقوبة، ولهذا قال: {
قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ } أي: هو الذي يرسلها إذا شاء،
ويمنعها إذا شاء، ليس لي من الأمر شيء، فطلبكم مني الآيات ظلم، وطلب لما لا
أملك، وإنما توجهون إلي توضيح ما جئتكم به، وتصديقه، وقد حصل، ومع ذلك،
فليس معلوما، أنهم إذا جاءتهم الآيات يؤمنون ويصدقون، بل الغالب ممن هذه
حاله، أنه لا يؤمن، ولهذا قال: { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا
جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ }

{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ
فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي: ونعاقبهم، إذا لم يؤمنوا أول مرة
يأتيهم فيها الداعي، وتقوم عليهم الحجة، بتقليب القلوب، والحيلولة بينهم
وبين الإيمان، وعدم التوفيق لسلوك الصراط المستقيم.

وهذا من عدل
الله، وحكمته بعباده، فإنهم الذين جنوا على أنفسهم، وفتح لهم الباب فلم
يدخلوا، وبين لهم الطريق فلم يسلكوا، فبعد ذلك إذا حرموا التوفيق، كان
مناسبا لأحوالهم.

وكذلك تعليقهم الإيمان بإرادتهم، ومشيئتهم وحدهم،
وعدم الاعتماد على الله من أكبر الغلط، فإنهم لو جاءتهم الآيات العظيمة، من
تنزيل الملائكة إليهم، يشهدون للرسول بالرسالة، وتكليم الموتى وبعثهم بعد
موتهم، وحشر كل شيء إليهم حتى يكلمهم { قُبُلًا } ومشاهدة، ومباشرة، بصدق
ما جاء به الرسول ما حصل منهم الإيمان، إذا لم يشأ الله إيمانهم، ولكن
أكثرهم يجهلون. فلذلك رتبوا إيمانهم، على مجرد إتيان الآيات، وإنما العقل
والعلم، أن يكون العبد مقصوده اتباع الحق، ويطلبه بالطرق التي بينها الله،
ويعمل بذلك، ويستعين ربه في اتباعه، ولا يتكل على نفسه وحوله وقوته، ولا
يطلب من الآيات الاقتراحية ما لا فائدة فيه.


{ 112 ، 113 } {
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ *
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ }

يقول
تعالى -مسليا لرسوله محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999- وكما جعلنا لك أعداء يردون دعوتك،
ويحاربونك، ويحسدونك، فهذه سنتنا، أن نجعل لكل نبي نرسله إلى الخلق أعداء،
من شياطين الإنس والجن، يقومون بضد ما جاءت به الرسل.

{ يُوحِي
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } أي: يزين بعضهم
لبعض الأمر الذي يدعون إليه من الباطل، ويزخرفون له العبارات حتى يجعلوه في
أحسن صورة، ليغتر به السفهاء، وينقاد له الأغبياء، الذين لا يفهمون
الحقائق، ولا يفقهون المعاني، بل تعجبهم الألفاظ المزخرفة، والعبارات
المموهة، فيعتقدون الحق باطلا والباطل حقا، ولهذا قال تعالى: { وَلِتَصْغَى
إِلَيْهِ } أي: ولتميل إلى ذلك الكلام المزخرف { أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } لأن عدم إيمانهم باليوم الآخر وعدم عقولهم
النافعة، يحملهم على ذلك، { وَلِيَرْضَوْهُ } بعد أن يصغوا إليه، فيصغون
إليه أولا، فإذا مالوا إليه ورأوا تلك العبارات المستحسنة، رضوه، وزين في
قلوبهم، وصار عقيدة راسخة، وصفة لازمة، ثم ينتج من ذلك، أن يقترفوا من
الأعمال والأقوال ما هم مقترفون، أي: يأتون من الكذب بالقول والفعل، ما هو
من لوازم تلك العقائد القبيحة، فهذه حال المغترين بشياطين الإنس والجن،
المستجيبين لدعوتهم، وأما أهل الإيمان بالآخرة، وأولو العقول الوافية
والألباب الرزينة، فإنهم لا يغترون بتلك العبارات، ولا تخلبهم تلك
التمويهات، بل همتهم مصروفة إلى معرفة الحقائق، فينظرون إلى المعاني التي
يدعو إليها الدعاة، فإن كانت حقا قبلوها، وانقادوا لها، ولو كسيت عبارات
ردية، وألفاظا غير وافية، وإن كانت باطلا ردوها على من قالها، كائنا من
كان، ولو ألبست من العبارات المستحسنة، ما هو أرق من الحرير.

ومن
حكمة الله تعالى، في جعله للأنبياء أعداء، وللباطل أنصارا قائمين بالدعوة
إليه، أن يحصل لعباده الابتلاء والامتحان، ليتميز الصادق من الكاذب،
والعاقل من الجاهل، والبصير من الأعمى.

ومن حكمته أن في ذلك بيانا
للحق، وتوضيحا له، فإن الحق يستنير ويتضح إذا قام الباطل يصارعه ويقاومه.
فإنه -حينئذ- يتبين من أدلة الحق، وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته، ومن
فساد الباطل وبطلانه، ما هو من أكبر المطالب، التي يتنافس فيها المتنافسون.


{
114 ، 115 } { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا
وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }

أي:
قل يا أيها الرسول { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } أحاكم إليه،
وأتقيد بأوامره ونواهيه. فإن غير الله محكوم عليه لا حاكم. وكل تدبير وحكم
للمخلوق فإنه مشتمل على النقص، والعيب، والجور، وإنما الذي يجب أن يتخذ
حاكما، فهو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر.

{ الَّذِي
أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا } أي: موضَّحا فيه الحلال
والحرام، والأحكام الشرعية، وأصول الدين وفروعه، الذي لا بيان فوق بيانه،
ولا برهان أجلى من برهانه، ولا أحسن منه حكما ولا أقوم قيلا، لأن أحكامه
مشتملة على الحكمة والرحمة.

وأهل الكتب السابقة، من اليهود
والنصارى، يعترفون بذلك { ويَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِّ } ولهذا، تواطأت الإخبارات { فَلَا } تشُكَّنَّ في ذلك ولا {
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }

ثم وصف تفصيلها فقال: { وَتَمَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } أي: صدقا في الأخبار، وعدلا في
الأمر والنهي. فلا أصدق من أخبار الله التي أودعها هذا الكتاب العزيز، ولا
أعدل من أوامره ونواهيه { لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } [حيث حفظها
وأحكمها بأعلى أنواع الصدق، وبغاية الحق، فلا يمكن تغييرها، ولا اقتراح
أحسن منها]

{ وَهُوَ السَّمِيعُ } لسائر الأصوات، باختلاف اللغات
على تفنن الحاجات. { الْعَلِيمُ } الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن،
والماضي والمستقبل.


{ 116 ، 117 } { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ
مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }

يقول
تعالى، لنبيه محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، محذرا عن طاعة أكثر الناس: { وَإِنْ
تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } فإن
أكثرهم قد انحرفوا في أديانهم وأعمالهم، وعلومهم. فأديانهم فاسدة،
وأعمالهم تبع لأهوائهم، وعلومهم ليس فيها تحقيق، ولا إيصال لسواء الطريق.

بل
غايتهم أنهم يتبعون الظن، الذي لا يغني من الحق شيئا، ويتخرصون في القول
على الله ما لا يعلمون، ومن كان بهذه المثابة، فحرى أن يحذِّر الله منه
عبادَه، ويصف لهم أحوالهم؛ لأن هذا –وإن كان خطابا للنبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999- فإن أمته أسوة له في سائر الأحكام، التي
ليست من خصائصه.

والله تعالى أصدق قيلا، وأصدق حديثا، و { هُوَ
أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ } وأعلم بمن يهتدي. ويهدي. فيجب
عليكم -أيها المؤمنون- أن تتبعوا نصائحه وأوامره ونواهيه لأنه أعلم
بمصالحكم، وأرحم بكم من أنفسكم.

ودلت هذه الآية، على أنه لا يستدل
على الحق، بكثرة أهله، ولا يدل قلة السالكين لأمر من الأمور أن يكون غير
حق، بل الواقع بخلاف ذلك، فإن أهل الحق هم الأقلون عددا، الأعظمون -عند
الله- قدرا وأجرا، بل الواجب أن يستدل على الحق والباطل، بالطرق الموصلة
إليه.


{ 118 ، 119 } { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ * وَمَا لَكُمْ أَلَّا
تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ
مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ
كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ }

يأمر تعالى عباده المؤمنين، بمقتضى
الإيمان، وأنهم إن كانوا مؤمنين، فليأكلوا مما ذكر اسم الله عليه من بهيمة
الأنعام، وغيرها من الحيوانات المحللة، ويعتقدوا حلها، ولا يفعلوا كما يفعل
أهل الجاهلية من تحريم كثير من الحلال، ابتداعا من عند أنفسهم، وإضلالا من
شياطينهم، فذكر الله أن علامة المؤمن مخالفة أهل الجاهلية، في هذه العادة
الذميمة، المتضمنة لتغيير شرع الله، وأنه، أي شيء يمنعهم من أكل ما ذكر اسم
الله عليه، وقد فصل الله لعباده ما حرم عليهم، وبينه، ووضحه؟ فلم يبق فيه
إشكال ولا شبهة، توجب أن يمتنع من أكل بعض الحلال، خوفا من الوقوع في
الحرام، ودلت الآية الكريمة، على أن الأصل في الأشياء والأطعمة الإباحة،
وأنه إذا لم يرد الشرع بتحريم شيء منها، فإنه باق على الإباحة، فما سكت
الله عنه فهو حلال، لأن الحرام قد فصله الله، فما لم يفصله الله فليس
بحرام.

ومع ذلك، فالحرام الذي قد فصله الله وأوضحه، قد أباحه عند
الضرورة والمخمصة، كما قال تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } إلى أن قال: { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي
مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

ثم
حذر عن كثير من الناس، فقال: { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ
بِأَهْوَائِهِمْ } أي: بمجرد ما تهوى أنفسهم { بِغَيْرِ عِلْمٍ } ولا حجة.
فليحذر العبد من أمثال هؤلاء، وعلامتُهم -كما وصفهم الله لعباده- أن دعوتهم
غير مبنية على برهان، ولا لهم حجة شرعية، وإنما يوجد لهم شبه بحسب أهوائهم
الفاسدة، وآرائهم القاصرة، فهؤلاء معتدون على شرع الله وعلى عباد الله،
والله لا يحب المعتدين، بخلاف الهادين المهتدين، فإنهم يدعون إلى الحق
والهدى، ويؤيدون دعوتهم بالحجج العقلية والنقلية، ولا يتبعون في دعوتهم إلا
رضا ربهم والقرب منه.



{ 120 } { وَذَرُوا ظَاهِرَ
الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ
بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ }
المراد بالإثم: جميع المعاصي، التي تؤثم
العبد، أي: توقعه في الإثم، والحرج، من الأشياء المتعلقة بحقوق الله،
وحقوق عباده. فنهى الله عباده، عن اقتراف الإثم الظاهر والباطن، أي: السر
والعلانية، المتعلقة بالبدن والجوارح، والمتعلقة بالقلب، ولا يتم للعبد،
ترك المعاصي الظاهرة والباطنة، إلا بعد معرفتها، والبحث عنها، فيكون البحث
عنها ومعرفة معاصي القلب والبدن، والعلمُ بذلك واجبا متعينا على المكلف.

وكثير
من الناس، تخفى عليه كثير من المعاصي، خصوصا معاصي القلب، كالكبر والعجب
والرياء، ونحو ذلك، حتى إنه يكون به كثير منها، وهو لا يحس به ولا يشعر،
وهذا من الإعراض عن العلم، وعدم البصيرة.

ثم أخبر تعالى، أن الذين
يكسبون الإثم الظاهر والباطن، سيجزون على حسب كسبهم، وعلى قدر ذنوبهم،
قلَّت أو كثرت، وهذا الجزاء يكون في الآخرة، وقد يكون في الدنيا، يعاقب
العبد، فيخفف عنه بذلك من سيئاته.


{ 121 } { وَلَا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ
الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }

ويدخل تحت هذا المنهي
عنه، ما ذكر عليه اسم غير الله كالذي يذبح للأصنام، وآلهتهم، فإن هذا مما
أهل لغير الله به، المحرم بالنص عليه خصوصا.

ويدخل في ذلك، متروك
التسمية، مما ذبح لله، كالضحايا، والهدايا، أو للحم والأكل، إذا كان الذابح
متعمدا ترك التسمية، عند كثير من العلماء.

ويخرج من هذا العموم،
الناسي بالنصوص الأخر، الدالة على رفع الحرج عنه، ويدخل في هذه الآية، ما
مات بغير ذكاة من الميتات، فإنها مما لم يذكر اسم الله عليه.

ونص
الله عليها بخصوصها، في قوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } ولعلها
سبب نزول الآية، لقوله { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى
أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } بغير علم.

فإن المشركين -حين
سمعوا تحريم الله ورسوله الميتةَ، وتحليله للمذكاة، وكانوا يستحلون أكل
الميتة- قالوا -معاندة لله ورسوله، ومجادلة بغير حجة ولا برهان- أتأكلون ما
قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؟ يعنون بذلك: الميتة.

وهذا رأي
فاسد، لا يستند على حجة ولا دليل بل يستند إلى آرائهم الفاسدة التي لو كان
الحق تبعا لها لفسدت السماوات والأرض، ومن فيهن.

فتبا لمن قدم هذه
العقول على شرع الله وأحكامه، الموافقة للمصالح العامة والمنافع الخاصة.
ولا يستغرب هذا منهم، فإن هذه الآراء وأشباهها، صادرة عن وحي أوليائهم من
الشياطين، الذين يريدون أن يضلوا الخلق عن دينهم، ويدعوهم ليكونوا من أصحاب
السعير.

{ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } في شركهم وتحليلهم الحرام،
وتحريمهم الحلال { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } لأنكم اتخذتموهم أولياء من
دون الله، ووافقتموهم على ما به فارقوا المسلمين، فلذلك كان طريقكم،
طريقهم.

ودلت هذه الآية الكريمة على أن ما يقع في القلوب من
الإلهامات والكشوف، التي يكثر وقوعها عند الصوفية ونحوهم، لا تدل –بمجردها
على أنها حق، ولا تصدق حتى تعرض على كتاب الله وسنة رسوله.

فإن شهدا
لها بالقبول قبلت، وإن ناقضتهما ردت، وإن لم يعلم شيء من ذلك، توقف فيها
ولم تصدق ولم تكذب، لأن الوحي والإلهام، يكون الرحمن ويكون من الشيطان، فلا
بد من التمييز بينهما والفرقان، وبعدم التفريق بين الأمرين، حصل من الغلط
والضلال، ما لا يحصيه إلا الله.

{ 122 - 124 } { أَوَمَنْ كَانَ
مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا
كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا
وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا
جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا
أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ
سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ
بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ }

يقول تعالى: { أَوَمَنْ كَانَ } من قبل
هداية الله له { مَيْتًا } في ظلمات الكفر، والجهل، والمعاصي، {
فَأَحْيَيْنَاهُ } بنور العلم والإيمان والطاعة، فصار يمشي بين الناس في
النور، متبصرا في أموره، مهتديا لسبيله، عارفا للخير مؤثرا له، مجتهدا في
تنفيذه في نفسه وغيره، عارفا بالشر مبغضا له، مجتهدا في تركه وإزالته عن
نفسه وعن غيره. أفيستوي هذا بمن هو في الظلمات، ظلمات الجهل والغي، والكفر
والمعاصي.

{ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } قد التبست عليه الطرق،
وأظلمت عليه المسالك، فحضره الهم والغم والحزن والشقاء. فنبه تعالى العقول
بما تدركه وتعرفه، أنه لا يستوي هذا ولا هذا كما لا يستوي الليل والنهار،
والضياء والظلمة، والأحياء والأموات.

فكأنه قيل: فكيف يؤثر من له
أدنى مسكة من عقل، أن يكون بهذه الحالة، وأن يبقى في الظلمات متحيرا: فأجاب
بأنه { زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فلم يزل الشيطان
يحسن لهم أعمالهم، ويزينها في قلوبهم، حتى استحسنوها ورأوها حقا. وصار ذلك
عقيدة في قلوبهم، وصفة راسخة ملازمة لهم، فلذلك رضوا بما هم عليه من الشر
والقبائح. وهؤلاء الذين في الظلمات يعمهون، وفي باطلهم يترددون، غير
متساوين.

فمنهم: القادة، والرؤساء، والمتبوعون، ومنهم: التابعون
المرءوسون، والأولون، منهم الذين فازوا بأشقى الأحوال، ولهذا قال:

{
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا } أي:
الرؤساء الذين قد كبر جرمهم، واشتد طغيانهم { لِيَمْكُرُوا فِيهَا }
بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان، ومحاربة الرسل وأتباعهم، بالقول
والفعل، وإنما مكرهم وكيدهم يعود على أنفسهم، لأنهم يمكرون، ويمكر الله
والله خير الماكرين.

وكذلك يجعل الله كبار أئمة الهدى وأفاضلهم،
يناضلون هؤلاء المجرمين، ويردون عليهم أقوالهم ويجاهدونهم في سبيل الله،
ويسلكون بذلك السبل الموصلة إلى ذلك، ويعينهم الله ويسدد رأيهم، ويثبت
أقدامهم، ويداول الأيام بينهم وبين أعدائهم، حتى يدول الأمر في عاقبته
بنصرهم وظهورهم، والعاقبة للمتقين.

وإنما ثبت أكابر المجرمين على
باطلهم، وقاموا برد الحق الذي جاءت به الرسل، حسدا منهم وبغيا، فقالوا: {
لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } من
النبوة والرسالة. وفي هذا اعتراض منهم على الله، وعجب بأنفسهم، وتكبر على
الحق الذي أنزله على أيدي رسله، وتحجر على فضل الله وإحسانه.

فرد
الله عليهم اعتراضهم الفاسد، وأخبر أنهم لا يصلحون للخير، ولا فيهم ما يوجب
أن يكونوا من عباد الله الصالحين، فضلا أن يكونوا من النبيين والمرسلين،
فقال: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } فيمن علمه يصلح
لها، ويقوم بأعبائها، وهو متصف بكل خلق جميل، ومتبرئ من كل خلق دنيء، أعطاه
الله ما تقتضيه حكمته أصلا وتبعا، ومن لم يكن كذلك، لم يضع أفضل مواهبه،
عند من لا يستأهله، ولا يزكو عنده.

وفي هذه الآية، دليل على كمال
حكمة الله تعالى، لأنه، وإن كان تعالى رحيما واسع الجود، كثير الإحسان،
فإنه حكيم لا يضع جوده إلا عند أهله، ثم توعد المجرمين فقال: { سَيُصِيبُ
الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ } أي: إهانة وذل، كما تكبروا
على الحق، أذلهم الله. { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ }
أي: بسبب مكرهم، لا ظلما منه تعالى.

{ 125 } { فَمَنْ يُرِدِ
اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ
أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ
فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ }

يقول تعالى -مبينا لعباده علامة سعادة العبد وهدايته،
وعلامة شقاوته وضلاله-: إن من انشرح صدره للإسلام، أي: اتسع وانفسح،
فاستنار بنور الإيمان، وحيي بضوء اليقين، فاطمأنت بذلك نفسه، وأحب الخير،
وطوعت له نفسه فعله، متلذذا به غير مستثقل، فإن هذا علامة على أن الله قد
هداه، ومَنَّ عليه بالتوفيق، وسلوك أقوم الطريق.

وأن علامة من يرد
الله أن يضله، أن يجعل صدره ضيقا حرجا. أي: في غاية الضيق عن الإيمان
والعلم واليقين، قد انغمس قلبه في الشبهات والشهوات، فلا يصل إليه خير، لا
ينشرح قلبه لفعل الخير كأنه من ضيقه وشدته يكاد يصعد في السماء، أي: كأنه
يكلف الصعود إلى السماء، الذي لا حيلة له فيه.

وهذا سببه، عدم
إيمانهم، هو الذي أوجب أن يجعل الله الرجس عليهم، لأنهم سدوا على أنفسهم
باب الرحمة والإحسان، وهذا ميزان لا يعول، وطريق لا يتغير، فإن من أعطى
واتقى، وصدق بالحسنى، يسره الله لليسرى، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى،
فسييسره للعسرى.


{ 126 ، 127 } { وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ
مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ
دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ }

أي: معتدلا، موصلا إلى الله، وإلى دار كرامته، قد
بينت أحكامه، وفصلت شرائعه، وميز الخير من الشر. ولكن هذا التفصيل والبيان،
ليس لكل أحد، إنما هو { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } فإنهم الذين علموا،
فانتفعوا بعلمهم، وأعد الله لهم الجزاء الجزيل، والأجر الجميل، فلهذا قال: {
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ } وسميت الجنة دار السلام،
لسلامتها من كل عيب وآفة وكدر، وهم وغم، وغير ذلك من المنغصات، ويلزم من
ذلك، أن يكون نعيمها في غاية الكمال، ونهاية التمام، بحيث لا يقدر على وصفه
الواصفون، ولا يتمنى فوقه المتمنون، من نعيم الروح والقلب والبدن، ولهم
فيها، ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون.

{ وَهُوَ
وَلِيُّهُمْ } الذي يتولى تدبيرهم وتربيتهم، ولطف بهم في جميع أمورهم،
وأعانهم على طاعته، ويسر لهم كل سبب موصل إلى محبته، وإنما تولاهم، بسبب
أعمالهم الصالحة، ومقدماتهم التي قصدوا بها رضا مولاهم، بخلاف من أعرض عن
مولاه، واتبع هواه، فإنه سلط عليه الشيطان فتولاه، فأفسد عليه دينه ودنياه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 5:26 pm

{
128 - 135 } { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ
اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ
رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي
أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا
شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ
الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ
آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا
عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ
رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ * وَلِكُلٍّ
دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ *
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ
ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ * إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ * قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي
عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } يقول تعالى { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
جَمِيعًا } أي: جميع الثقلين، من الإنس والجن، من ضل منهم، ومن أضل غيره،
فيقول موبخا للجن الذين أضلوا الإنس، وزينوا لهم الشر، وأزُّوهم إلى
المعاصي: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ }
أي: من إضلالهم، وصدهم عن سبيل الله، فكيف أقدمتم على محارمي، وتجرأتم على
معاندة رسلي؟ وقمتم محاربين لله، ساعين في صد عباد الله عن سبيله إلى سبيل
الجحيم؟ فاليوم حقت عليكم لعنتي، ووجبت لكم نقمتي وسنزيدكم من العذاب بحسب
كفركم، وإضلالكم لغيركم. وليس لكم عذر به تعتذرون، ولا ملجأ إليه تلجأون،
ولا شافع يشفع ولا دعاء يسمع، فلا تسأل حينئذ عما يحل بهم من النكال،
والخزي والوبال، ولهذا لم يذكر الله لهم اعتذارا، وأما أولياؤهم من الإنس،
فأبدوا عذرا غير مقبول فقالوا: { رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ }
أي: تمتع كل من الجِنّي والإنسي بصاحبه، وانتفع به. فالجنّي يستمتع بطاعة
الإنسي له وعبادته، وتعظيمه، واستعاذته به. والإنسي يستمتع بنيل أغراضه،
وبلوغه بسبب خدمة الجِنّي له بعض شهواته، فإن الإنسي يعبد الجِنّي، فيخدمه
الجِنّي، ويحصل له منه بعض الحوائج الدنيوية، أي: حصل منا من الذنوب ما
حصل، ولا يمكن رد ذلك، { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا }
أي: وقد وصلنا المحل الذي نجازي فيه بالأعمال، فافعل بنا الآن ما تشاء،
واحكم فينا بما تريد، فقد انقطعت حجتنا ولم يبق لنا عذر، والأمر أمرك،
والحكم حكمك. وكأن في هذا الكلام منهم نوع تضرع وترقق، ولكن في غير أوانه.
ولهذا حكم فيهم بحكمه العادل، الذي لا جور فيه، فقال: { النَّارُ
مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا } ولما كان هذا الحكم من مقتضى حكمته وعلمه،
ختم الآية بقوله: { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } فكما أن علمه وسع
الأشياء كلها وعمّها، فحكمته الغائية شملت الأشياء وعمتها ووسعتها. {
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ } أي: وكما ولَّيْنَا الجن المردة وسلطناهم على إضلال أوليائهم
من الإنس وعقدنا بينهم عقد الموالاة والموافقة، بسبب كسبهم وسعيهم بذلك.
كذلك من سنتنا أن نولي كل ظالم ظالما مثله، يؤزه إلى الشر ويحثه عليه،
ويزهده في الخير وينفره عنه، وذلك من عقوبات الله العظيمة الشنيع أثرها،
البليغ خطرها. والذنب ذنب الظالم، فهو الذي أدخل الضرر على نفسه، وعلى نفسه
جنى { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } ومن ذلك، أن العباد إذا كثر
ظلمهم وفسادهم، ومنْعهم الحقوق الواجبة، ولَّى عليهم ظلمة، يسومونهم سوء
العذاب، ويأخذون منهم بالظلم والجور أضعاف ما منعوا من حقوق الله، وحقوق
عباده، على وجه غير مأجورين فيه ولا محتسبين. كما أن العباد إذا صلحوا
واستقاموا، أصلح الله رعاتهم، وجعلهم أئمة عدل وإنصاف، لا ولاة ظلم
واعتساف. ثم وبخ الله جميع من أعرض عن الحق ورده، من الجن والإنس، وبين
خطأهم، فاعترفوا بذلك، فقال: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } الواضحات
البينات، التي فيها تفاصيل الأمر والنهي، والخير والشر، والوعد والوعيد. {
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } ويعلمونكم أن النجاة فيه،
والفوز إنما هو بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وأن الشقاء والخسران في
تضييع ذلك، فأقروا بذلك واعترفوا، فـ { قالوا } بلى { شَهِدْنَا عَلَى
أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } بزينتها وزخرفها،
ونعيمها فاطمأنوا بها ورضوا، وألهتهم عن الآخرة، { وَشَهِدُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } فقامت عليهم حجة الله، وعلم
حينئذ كل أحد، حتى هم بأنفسهم عدل الله فيهم، فقال لهم: حاكما عليهم
بالعذاب الأليم: { ادْخُلُوا فِي } جملة { أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ } صنعوا كصنيعكم، واستمتعوا بخلاقهم
كما استمعتم، وخاضوا بالباطل كما خضتم، إنهم كانوا خاسرين، أي: الأولون من
هؤلاء والآخرون، وأي خسران أعظم من خسران جنات النعيم، وحرمان جوار أكرم
الأكرمين؟! ولكنهم وإن اشتركوا في الخسران، فإنهم يتفاوتون في مقداره
تفاوتا عظيما. { وَلِكُلٍّ } منهم { دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } بحسب
أعمالهم، لا يجعل قليل الشر منهم ككثيره، ولا التابع كالمتبوع، ولا المرءوس
كالرئيس، كما أن أهل الثواب والجنة وإن اشتركوا في الربح والفلاح ودخول
الجنة، فإن بينهم من الفرق ما لا يعلمه إلا الله، مع أنهم كلهم، قد رضوا
بما آتاهم مولاهم، وقنعوا بما حباهم. فنسأله تعالى أن يجعلنا من أهل
الفردوس الأعلى، التي أعدها الله للمقربين من عباده، والمصطفين من خلقه،
وأهل الصفوة من أهل وداده. { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }
فيجازي كلا بحسب علمه، وبما يعلمه من مقصده، وإنما أمر الله العباد
بالأعمال الصالحة، ونهاهم عن الأعمال السيئة، رحمة بهم، وقصدا لمصالحهم.
وإلا فهو الغني بذاته، عن جميع مخلوقاته، فلا تنفعه طاعة الطائعين، كما لا
تضره معصية العاصين. { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } بالإهلاك {
وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ
ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } فإذا عرفتم بأنكم لا بد أن تنتقلوا من هذه
الدار، كما انتقل غيركم، وترحلون منها وتخلونها لمن بعدكم، كما رحل عنها من
قبلكم وخلوها لكم، فلم اتخذتموها قرارا؟ وتوطنتم بها ونسيتم، أنها دار ممر
لا دار مقر. وأن أمامكم دارًا، هي الدار التي جمعت كل نعيم وسلمت من كل
آفة ونقص؟ وهي الدار التي يسعى إليها الأولون والآخرون، ويرتحل نحوها
السابقون واللاحقون، التي إذا وصلوها، فثَمَّ الخلود الدائم، والإقامة
اللازمة، والغاية التي لا غاية وراءها، والمطلوب الذي ينتهي إليه كل مطلوب،
والمرغوب الذي يضمحل دونه كل مرغوب، هنالك والله، ما تشتهيه الأنفس، وتلذ
الأعين، ويتنافس فيه المتنافسون، من لذة الأرواح، وكثرة الأفراح، ونعيم
الأبدان والقلوب، والقرب من علام الغيوب، فلله همة تعلقت بتلك الكرامات،
وإرادة سمت إلى أعلى الدرجات" وما أبخس حظ من رضي بالدون، وأدنى همة من
اختار صفقة المغبون" ولا يستبعد المعرض الغافل، سرعة الوصول إلى هذه الدار.
فـ { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } لله،
فارين من عقابه، فإن نواصيكم تحت قبضته، وأنتم تحت تدبيره وتصرفه. { قُلْ }
يا أيها الرسول لقومك إذا دعوتهم إلى الله، وبينت لهم ما لهم وما عليهم من
حقوقه، فامتنعوا من الانقياد لأمره، واتبعوا أهواءهم، واستمروا على شركهم:
{ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } أي: على حالتكم التي أنتم
عليها، ورضيتموها لأنفسكم. { إِنِّي عَامِلٌ } على أمر الله، ومتبع لمراضي
الله. { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ } أنا
أو أنتم، وهذا من الإنصاف بموضع عظيم، حيث بيَّن الأعمال وعامليها، وجعل
الجزاء مقرونا بنظر البصير، ضاربا فيه صفحا عن التصريح الذي يغني عنه
التلويح. وقد علم أن العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة للمتقين، وأن
المؤمنين لهم عقبى الدار، وأن كل معرض عما جاءت به الرسل، عاقبته سوء وشر،
ولهذا قال: { إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } فكل ظالم، وإن تمتع في
الدنيا بما تمتع به، فنهايته [فيه] الاضمحلال والتلف "إن الله ليملي
للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته" { 136 - 140 } { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا
ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ
بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا
يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى
شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ
وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ
فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ *وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ
لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ
ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا
مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ
عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ
سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ
قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا
رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِينَ } يخبر تعالى، عمَّا عليه المشركون المكذبون للنبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، من سفاهة العقل، وخفة الأحلام، والجهل
البليغ، وعدَّد تبارك وتعالى شيئا من خرافاتهم، لينبه بذلك على ضلالهم
والحذر منهم، وأن معارضة أمثال هؤلاء السفهاء للحق الذي جاء به الرسول، لا
تقدح فيه أصلا، فإنهم لا أهلية لهم في مقابلة الحق، فذكر من ذلك أنهم {
جعلوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا }
ولشركائهم من ذلك نصيبا، والحال أن الله تعالى هو الذي ذرأه للعباد، وأوجده
رزقا، فجمعوا بين محذورين محظورين، بل ثلاثة محاذير، منَّتهم على الله، في
جعلهم له نصيبا، مع اعتقادهم أن ذلك منهم تبرع، وإشراك الشركاء الذين لم
يرزقوهم، ولم يوجدوا لهم شيئا في ذلك، وحكمهم الجائر في أن ما كان لله لم
يبالوا به، ولم يهتموا، ولو كان واصلا إلى الشركاء، وما كان لشركائهم
اعتنوا به واحتفظوا به ولم يصل إلى الله منه شيء، وذلك أنهم إذا حصل لهم
-من زروعهم وثمارهم وأنعامهم، التي أوجدها الله لهم- شيء، جعلوه قسمين:
قسمًا قالوا: هذا لله بقولهم وزعمهم، وإلا فالله لا يقبل إلا ما كان خالصا
لوجهه، ولا يقبل عمل مَن أشرك به. وقسمًا جعلوه حصة شركائهم من الأوثان
والأنداد. فإن وصل شيء مما جعلوه لله، واختلط بما جعلوه لغيره، لم يبالوا
بذلك، وقالوا: الله غني عنه، فلا يردونه، وإن وصل شيء مما جعلوه لآلهتهم
إلى ما جعلوه لله، ردوه إلى محله، وقالوا: إنها فقيرة، لا بد من رد نصيبها.
فهل أسوأ من هذا الحكم. وأظلم؟" حيث جعلوا ما للمخلوق، يجتهد فيه وينصح
ويحفظ، أكثر مما يفعل بحق الله. ويحتمل أن تأويل الآية الكريمة، ما ثبت في
الصحيح عن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 أنه قال عن الله تعالى أنه قال: "أنا أغنى
الشركاء عن الشرك، من أشرك معي شيئا تركته وشركه". وأن معنى الآية أن ما
جعلوه وتقربوا به لأوثانهم، فهو تقرب خالص لغير الله، ليس لله منه شيء، وما
جعلوه لله -على زعمهم- فإنه لا يصل إليه لكونه شركًا، بل يكون حظ الشركاء
والأنداد، لأن الله غني عنه، لا يقبل العمل الذي أُشرِك به معه أحد من
الخلق. ومن سفه المشركين وضلالهم، أنه زيَّن لكثير من المشركين شركاؤهم
-أي: رؤساؤهم وشياطينهم- قتل أولادهم، وهو: الوأد، الذين يدفنون أولادهم
الذكور خشية الافتقار، والإناث خشية العار. وكل هذا من خدع الشياطين، الذين
يريدون أن يُرْدُوهم بالهلاك، ويلبسوا عليهم دينهم، فيفعلون الأفعال التي
في غاية القبح، ولا يزال شركاؤهم يزينونها لهم، حتى تكون عندهم من الأمور
الحسنة والخصال المستحسنة، ولو شاء الله أن يمنعهم ويحول بينهم وبين هذه
الأفعال، ويمنع أولادهم عن قتل الأبوين لهم، ما فعلوه، ولكن اقتضت حكمته
التخلية بينهم وبين أفعالهم، استدراجا منه لهم، وإمهالا لهم، وعدم مبالاة
بما هم عليه، ولهذا قال: { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } أي: دعهم مع
كذبهم وافترائهم، ولا تحزن عليهم، فإنهم لن يضروا الله شيئا. ومن أنواع
سفاهتهم أن الأنعام التي أحلها الله لهم عموما، وجعلها رزقا ورحمة، يتمتعون
بها وينتفعون، قد اخترعوا فيها بِدعًا وأقوالا من تلقاء أنفسهم، فعندهم
اصطلاح في بعض الأنعام [والحرث] أنهم يقولون فيها: { هَذِهِ أَنْعَامٌ
وَحَرْثٌ حِجْرٌ } أي: محرم { لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ } أي:
لا يجوز أن يطعمه أحد، إلا من أردنا أن يطعمه، أو وصفناه بوصف -من عندهم-.
وكل هذا بزعمهم لا مستند لهم ولا حجة إلا أهويتهم، وآراؤهم الفاسدة. وأنعام
ليست محرمة من كل وجه، بل يحرمون ظهورها، أي: بالركوب والحمل عليها،
ويحمون ظهرها، ويسمونها الحام، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها، بل يذكرون
اسم أصنامهم وما كانوا يعبدون من دون الله عليها، وينسبون تلك الأفعال إلى
الله، وهم كذبة فُجَّار في ذلك. { سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ } على الله، من إحلال الشرك، وتحريم الحلال من الأكل،
والمنافع. ومن آرائهم السخيفة أنهم يجعلون بعض الأنعام، ويعينونها –محرما
ما في بطنها على الإناث دون الذكور، فيقولون: { مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ
الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا } أي: حلال لهم، لا يشاركهم فيها
النساء، { وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } أي: نسائنا، هذا إذا ولد حيا،
وإن يكن ما [في] بطنها يولد ميتا، فهم فيه شركاء، أي: فهو حلال للذكور
والإناث. { سَيَجْزِيهِمْ } الله { وَصْفَهُمْ } حين وصفوا ما أحله الله
بأنه حرام، ووصفوا الحرام بالحلال، فناقضوا شرع الله وخالفوه، ونسبوا ذلك
إلى الله. { إِنَّهُ حَكِيمٌ } حيث أمهل لهم، ومكنهم مما هم فيه من الضلال.
{ عَلِيمٌ } بهم، لا تخفى عليه خافية، وهو تعالى يعلم بهم وبما قالوه عليه
وافتروه، وهو يعافيهم ويرزقهم جل جلاله. ثم بين خسرانهم وسفاهة عقولهم
فقال: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ
عِلْمٍ } أي: خسروا دينهم وأولادهم وعقولهم، وصار وصْفُهم -بعد العقول
الرزينة- السفه المردي، والضلال. { وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ }
أي: ما جعله رحمة لهم، وساقه رزقا لهم. فردوا كرامة ربهم، ولم يكتفوا بذلك،
بل وصفوها بأنها حرام، وهي من أَحَلِّ الحلال. وكل هذا { افْتِرَاءً عَلَى
اللَّهِ } أي: كذبا يكذب به كل معاند كَفَّار. { قَدْ ضَلُّوا وَمَا
كَانُوا مُهْتَدِينَ } أي: قد ضلوا ضلالا بعيدا، ولم يكونوا مهتدين في شيء
من أمورهم. { 141 } { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ
وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا
مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا
تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } لما ذكر تعالى تصرف
المشركين في كثير مما أحله الله لهم من الحروث والأنعام، ذكر تبارك وتعالى
نعمته عليهم بذلك، ووظيفتهم اللازمة عليهم في الحروث والأنعام فقال: {
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ } أي: بساتين، فيها أنواع الأشجار
المتنوعة، والنباتات المختلفة. { مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } أي:
بعض تلك الجنات، مجعول لها عرش، تنتشر عليه الأشجار، ويعاونها في النهوض
عن الأرض. وبعضها خال من العروش، تنبت على ساق، أو تنفرش في الأرض، وفي هذا
تنبيه على كثرة منافعها، وخيراتها، وأنه تعالى، علم العباد كيف يعرشونها،
وينمونها. { وَ } أنشأ تعالى { النخل وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ }
أي: كله في محل واحد، ويشرب من ماء واحد، ويفضل الله بعضه على بعض في
الأكل. وخص تعالى النخل والزرع على اختلاف أنواعه لكثرة منافعها، ولكونها
هي القوت لأكثر الخلق. { وَ } أنشأ تعالى { الزيتون وَالرُّمَّانَ
مُتَشَابِهًا } في شجره { وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } في ثمره وطعمه. كأنه قيل:
لأي شيء أنشأ الله هذه الجنات، وما عطف عليها؟ فأخبر أنه أنشأها لمنافع
العباد فقال: { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ } أي: النخل والزرع { إِذَا أَثْمَرَ
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } أي: أعطوا حق الزرع، وهو الزكاة ذات
الأنصباء المقدرة في الشرع، أمرهم أن يعطوها يوم حصادها، وذلك لأن حصاد
الزرع بمنزلة حولان الحول، لأنه الوقت الذي تتشوف إليه نفوس الفقراء، ويسهل
حينئذ إخراجه على أهل الزرع، ويكون الأمر فيها ظاهرا لمن أخرجها، حتى
يتميز المخرج ممن لا يخرج. وقوله: { وَلَا تُسْرِفُوا } يعم النهي عن
الإسراف في الأكل، وهو مجاوزة الحد والعادة، وأن يأكل صاحب الزرع أكلا يضر
بالزكاة، والإسراف في إخراج حق الزرع بحيث يخرج فوق الواجب عليه، ويضر نفسه
أو عائلته أو غرماءه، فكل هذا من الإسراف الذي نهى الله عنه، الذي لا يحبه
الله بل يبغضه ويمقت عليه. وفي هذه الآية دليل على وجوب الزكاة في الثمار،
وأنه لا حول لها، بل حولها حصادها في الزروع، وجذاذ النخيل، وأنه لا تتكرر
فها الزكاة، لو مكثت عند العبد أحوالا كثيرة، إذا كانت لغير التجارة، لأن
الله لم يأمر بالإخراج منه إلا وقت حصاده. وأنه لو أصابها آفة قبل ذلك بغير
تفريط من صاحب الزرع والثمر، أنه لا يضمنها، وأنه يجوز الأكل من النخل
والزرع قبل إخراج الزكاة منه، وأنه لا يحسب ذلك من الزكاة، بل يزكي المال
الذي يبقى بعده. وقد كان النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، يبعث خارصا، يخرص للناس ثمارهم، ويأمره أن
يدع لأهلها الثلث، أو الربع، بحسب ما يعتريها من الأكل وغيره، من أهلها،
وغيرهم. { 142 - 144 } { وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ
الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ
نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الْإِبِلِ
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ
الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ
عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي: { و } خلق
وأنشأ { من الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا } أي: بعضها تحملون عليه
وتركبونه، وبعضها لا تصلح للحمل والركوب عليها لصغرها كالفصلان ونحوها، وهي
الفرش، فهي من جهة الحمل والركوب، تنقسم إلى هذين القسمين. وأما من جهة
الأكل وأنواع الانتفاع، فإنها كلها تؤكل وينتفع بها. ولهذا قال: { كُلُوا
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي:
طرقه وأعماله التي من جملتها أن تحرموا بعض ما رزقكم الله. { إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } فلا يأمركم إلا بما فيه مضرتكم وشقاؤكم الأبدي.
وهذه الأنعام التي امتن الله بها على عباده، وجعلها كلها حلالا طيبا، فصلها
بأنها: { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ } ذكر وأنثى {
وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } كذلك، فهذه أربعة، كلها داخلة فيما أحل الله،
لا فرق بين شيء منها، فقل لهؤلاء المتكلفين، الذين يحرمون منها شيئا دون
شيء، أو يحرمون بعضها على الإناث دون الذكور، ملزما لهم بعدم وجود الفرق
بين ما أباحوا منها وحرموا: { آلذَّكَرَيْنِ } من الضأن والمعز { حَرَّمَ }
الله، فلستم تقولون بذلك وتطردونه، { أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ } حرم الله من
الضأن والمعز، فليس هذا قولكم، لا تحريم الذكور الخلص، ولا الإناث الخلص من
الصنفين. بقي إذا كان الرحم مشتملا على ذكر وأنثى، أو على مجهول فقال: {
أَمْ } تحرمون { ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ } أي:
أنثى الضأن وأنثى المعز، من غير فرق بين ذكر وأنثى، فلستم تقولون أيضا بهذا
القول. فإذا كنتم لا تقولون بأحد هذه الأقوال الثلاثة، التي حصرت الأقسام
الممكنة في ذلك، فإلى أي شيء تذهبون؟. { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في قولكم ودعواكم، ومن المعلوم أنهم لا يمكنهم أن
يقولوا قولا سائغا في العقل، إلا واحدا من هذه الأمور الثلاثة. وهم لا
يقولون بشيء منها. إنما يقولون: إن بعض الأنعام التي يصطلحون عليها
اصطلاحات من عند أنفسهم، حرام على الإناث دون الذكور، أو محرمة في وقت من
الأوقات، أو نحو ذلك من الأقوال، التي يعلم علما لا شك فيه أن مصدرها من
الجهل المركب، والعقول المختلة المنحرفة، والآراء الفاسدة، وأن الله، ما
أنزل –بما قالوه- من سلطان، ولا لهم عليه حجة ولا برهان. ثم ذكر في الإبل
والبقر مثل ذلك. فلما بين بطلان قولهم وفساده، قال لهم قولًا لا حيلة لهم
في الخروج من تبعته، إلا في اتباع شرع الله. { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ
إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ } أي: لم يبق عليكم إلا دعوى، لا سبيل لكم إلى
صدقها وصحتها. وهي أن تقولوا: إن الله وصَّانا بذلك، وأوحى إلينا كما أوحى
إلى رسله، بل أوحى إلينا وحيا مخالفا لما دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب،
وهذا افتراء لا يجهله أحد، ولهذا قال: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي: مع كذبه
وافترائه على الله، قصده بذلك إضلال عباد الله عن سبيل الله، بغير بينة منه
ولا برهان، ولا عقل ولا نقل. { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ } الذين لا إرادة لهم في غير الظلم والجور، والافتراء على
الله. { 145 ، 146 } { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا
عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا
مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ
رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي
ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا
إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ
بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } لما
ذكر تعالى ذم المشركين على ما حرموا من الحلال ونسبوه إلى الله، وأبطل
قولهم. أمر تعالى رسوله أن يبين للناس ما حرمه الله عليهم، ليعلموا أن ما
عدا ذلك حلال، مَنْ نسب تحريمه إلى الله فهو كاذب مبطل، لأن التحريم لا
يكون إلا من عند الله على لسان رسوله، وقد قال لرسوله: { قُلْ لَا أَجِدُ
فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ } أي: محرما أكله، بقطع
النظر عن تحريم الانتفاع بغير الأكل وعدمه. { إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً
} والميتة: ما مات بغير ذكاة شرعية، فإن ذلك لا يحل. كما قال تعالى: {
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } {
أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } وهو الدم الذي يخرج من الذبيحة عند ذكاتها، فإنه
الدم الذي يضر احتباسه في البدن، فإذا خرج من البدن زال الضرر بأكل اللحم،
ومفهوم هذا اللفظ، أن الدم الذي يبقى في اللحم والعروق بعد الذبح، أنه حلال
طاهر. { أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } أي: فإن هذه الأشياء
الثلاثة، رجس، أي: خبث نجس مضر، حرمه الله لطفا بكم، ونزاهة لكم عن مقاربة
الخبائث. { أَوْ } إلا أن يكون { فسقا أهل لغير الله به } أي: إلا أن تكون
الذبيحة مذبوحة لغير الله، من الأوثان والآلهة التي يعبدها المشركون، فإن
هذا من الفسق الذي هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته، أي: ومع هذا، فهذه
الأشياء المحرمات، من اضطر إليها، أي: حملته الحاجة والضرورة إلى أكل شيء
منها، بأن لم يكن عنده شيء وخاف على نفسه التلف. { غَيْرَ بَاغٍ ولا عاد }
أي: { غَيْرَ بَاغٍ } أي: مريدٍ لأكلها من غير اضطرار وَلَا متعد، أي:
متجاوز للحد، بأن يأكل زيادة عن حاجته. { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فَإِنَّ
رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: فالله قد سامح من كان بهذه الحال. واختلف
العلماء رحمهم الله في هذا الحصر المذكور في هذه الآية، مع أن ثَمَّ محرمات
لم تذكر فيها، كالسباع وكل ذي مخلب من الطير ونحو ذلك، فقال بعضهم: إن هذه
الآية نازلة قبل تحريم ما زاد على ما ذكر فيها، فلا ينافي هذا الحصر
المذكور فيها التحريم المتأخر بعد ذلك؛ لأنه لم يجده فيما أوحي إليه في ذلك
الوقت، وقال بعضهم: إن هذه الآية مشتملة على سائر المحرمات، بعضها صريحا،
وبعضها يؤخذ من المعنى وعموم العلة. فإن قوله تعالى في تعليل الميتة والدم
ولحم الخنزير، أو الأخير منها فقط: { فَإِنَّهُ رِجْسٌ } وصف شامل لكل
محرم، فإن المحرمات كلها رجس وخبث، وهي من الخبائث المستقذرة التي حرمها
الله على عباده، صيانة لهم، وتكرمة عن مباشرة الخبيث الرجس. ويؤخذ تفاصيل
الرجس المحرم من السُنَّة، فإنها تفسر القرآن، وتبين المقصود منه، فإذا كان
الله تعالى لم يحرم من المطاعم إلا ما ذكر، والتحريم لا يكون مصدره، إلا
شرع الله -دل ذلك على أن المشركين، الذين حرموا ما رزقهم الله مفترون على
الله، متقولون عليه ما لم يقل. وفي الآية احتمال قوي، لولا أن الله ذكر
فيها الخنزير، وهو: أن السياق في نقض أقوال المشركين المتقدمة، في تحريمهم
لما أحله الله وخوضهم بذلك، بحسب ما سولت لهم أنفسهم، وذلك في بهيمة
الأنعام خاصة، وليس منها محرم إلا ما ذكر في الآية: الميتة منها، وما أهل
لغير الله به، وما سوى ذلك فحلال. ولعل مناسبة ذكر الخنزير هنا على هذا
الاحتمال، أن بعض الجهال قد يدخله في بهيمة الأنعام، وأنه نوع من أنواع
الغنم، كما قد يتوهمه جهلة النصارى وأشباههم، فينمونها كما ينمون المواشي،
ويستحلونها، ولا يفرقون بينها وبين الأنعام، فهذا المحرم على هذه الأمة كله
من باب التنزيه لهم والصيانة. وأما ما حرم على أهل الكتاب، فبعضه طيب
ولكنه حرم عليهم عقوبة لهم، ولهذا قال: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا
حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } وذلك كالإبل، وما أشبهها { وَ } حرمنا
عليهم. { وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ } بعض أجزائها، وهو: { شُحُومَهُمَا
} وليس المحرم جميع الشحوم منها، بل شحم الألية والثرب، ولهذا استثنى
الشحم الحلال من ذلك فقال: { إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ
الْحَوَايَا } أي: الشحم المخالط للأمعاء { أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } {
ذَلِكَ } التحريم على اليهود { جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ } أي: ظلمهم
وتعديهم في حقوق الله وحقوق عباده، فحرم الله عليهم هذه الأشياء عقوبة لهم
ونكالا. { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } في كل ما نقول ونفعل ونحكم به، ومن أصدق
من الله حديثا، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 5:27 pm

{
147 } { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا
يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } أي: فإن كذبك هؤلاء
المشركون، فاستمر على دعوتهم، بالترغيب والترهيب، وأخبرهم بأن الله { ذُو
رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } أي: عامة شاملة [لجميع] للمخلوقات كلها، فسارعوا إلى
رحمته بأسبابها، التي رأسها وأسها ومادتها، تصديق محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 فيما جاء به.

{ وَلَا يُرَدُّ
بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } أي: الذين كثر إجرامهم
وذنوبهم.فاحذروا الجرائم الموصلة لبأس الله، التي أعظمها ورأسها تكذيب محمد
تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999.


{ 148 ، 149 } {
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا
آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ
فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ
إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ
لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } هذا إخبار من الله أن المشركين سيحتجون على
شركهم وتحريمهم ما أحل الله، بالقضاء والقدر، ويجعلون مشيئة الله الشاملة
لكل شيء من الخير والشر حجة لهم في دفع اللوم عنهم.

وقد قالوا ما
أخبر الله أنهم سيقولونه، كما قال في الآية الأخرى: { وَقَالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ }
الآية.

فأخبر تعالى أن هذة الحجة، لم تزل الأمم المكذبة تدفع بها
عنهم دعوة الرسل، ويحتجون بها، فلم تجد فيهم شيئا ولم تنفعهم، فلم يزل هذا
دأبهم حتى أهكلهم الله، وأذاقهم بأسه.

فلو كانت حجة صحيحة، لدفعت
عنهم العقاب، ولما أحل الله بهم العذاب، لأنه لا يحل بأسه إلا بمن استحقه،
فعلم أنها حجة فاسدة، وشبهة كاسدة، من عدة أوجه:

منها: ما ذكر الله
من أنها لو كانت صحيحة، لم تحل بهم العقوبة.

ومنها: أن الحجة، لا بد
أن تكون حجة مستندة إلى العلم والبرهان، فأما إذا كانت مستندة إلى مجرد
الظن والخرص، الذي لا يغني من الحق شيئا، فإنها باطلة، ولهذا قال: { قُلْ
هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } فلو كان لهم علم - وهم
خصوم ألداء- لأخرجوه، فلما لم يخرجوه علم أنه لا علم عندهم. { إِنْ
تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ } ومَنْ
بنى حججه على الخرص والظن، فهو مبطل خاسر، فكيف إذا بناها على البغي
والعناد والشر والفساد؟

ومنها: أن الحجة لله البالغة، التي لم تبق
لأحد عذرا، التي اتفقت عليها الأنبياء والمرسلون، والكتب الإلهية، والآثار
النبوية، والعقول الصحيحة، والفطر المستقيمة، والأخلاق القويمة، فعلم بذلك
أن كل ما خالف هذه الأدلة القاطعة باطل، لأن نقيض الحق، لا يكون إلا باطلا.

ومنها:
أن الله تعالى أعطى كل مخلوق، قدرة، وإرادة، يتمكن بها من فعل ما كلف به،
فلا أوجب الله على أحد ما لا يقدر على فعله، ولا حرم على أحد ما لا يتمكن
من تركه، فالاحتجاج بعد هذا بالقضاء والقدر، ظلم محض وعناد صرف.

ومنها:
أن الله تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم، بل جعل أفعالهم تبعا
لاختيارهم، فإن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا كفوا. وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا
من كابر، وأنكر المحسوسات، فإن كل أحد يفرق بين الحركة الاختيارية والحركة
القسرية، وإن كان الجميع داخلا في مشيئة الله، ومندرجا تحت إرادته.

ومنها:
أن المحتجين على المعاصي بالقضاء والقدر يتناقضون في ذلك. فإنهم لا يمكنهم
أن يطردوا ذلك، بل لو أساء إليهم مسيء بضرب أو أخذ مال أو نحو ذلك، واحتج
بالقضاء والقدر لما قبلوا منه هذا الاحتجاج، ولغضبوا من ذلك أشد الغضب.

فيا
عجبا كيف يحتجون به على معاصي الله ومساخطه. ولا يرضون من أحد أن يحتج به
في مقابلة مساخطهم؟"

ومنها: أن احتجاجهم بالقضاء والقدر ليس مقصودا،
ويعلمون أنه ليس بحجة، وإنما المقصود منه دفع الحق، ويرون أن الحق بمنزلة
الصائل، فهم يدفعونه بكل ما يخطر ببالهم من الكلام وإن كانوا يعتقدونه خطأ


{
150 } { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ
حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي: قل لمن حرَّم ما أحل
الله، ونسب ذلك إلى الله: أحْضِروا شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا،
فإذا قيل لهم هذا الكلام، فهم بين أمرين:

إما: أن لا يحضروا أحدا
يشهد بهذا، فتكون دعواهم إذًا باطلة، خلية من الشهود والبرهان.

وإما:
أن يحضروا أحدا يشهد لهم بذلك، ولا يمكن أن يشهد بهذا إلا كل أفاك أثيم
غير مقبول الشهادة، وليس هذا من الأمور التي يصح أن يشهد بها العدول؛ ولهذا
قال تعالى –ناهيا نبيه، وأتباعه عن هذه الشهادة-: { فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا
تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ } أي: يسوون به غيره من الأنداد والأوثان.

فإذا كانوا
كافرين باليوم الآخر غير موحدين لله، كانت أهويتهم مناسبة لعقيدتهم، وكانت
دائرة بين الشرك والتكذيب بالحق، فحري بهوى هذا شأنه، أن ينهى الله خيار
خلقه عن اتباعه، وعن الشهادة مع أربابه، وعلم حينئذ أن تحريمهم لما أحل
الله صادر عن تلك الأهواء المضلة.

{ 151 - 153 } { قُلْ تَعَالَوْا
أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ
إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ
مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ }

يقول تعالى لنبيه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999: { قُلْ } لهؤلاء الذين حرموا ما أحل الله.
{ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } تحريما عاما
شاملا لكل أحد، محتويا على سائر المحرمات، من المآكل والمشارب والأقوال
والأفعال. { أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } أي: لا قليلا ولا كثيرا.

وحقيقة
الشرك بالله: أن يعبد المخلوق كما يعبد الله، أو يعظم كما يعظم الله، أو
يصرف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية، وإذا ترك العبد الشرك كله صار
موحدا، مخلصا لله في جميع أحواله، فهذا حق الله على عباده، أن يعبدوه ولا
يشركوا به شيئا.

ثم بدأ بآكد الحقوق بعد حقه فقال: {
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } من الأقوال الكريمة الحسنة، والأفعال
الجميلة المستحسنة، فكل قول وفعل يحصل به منفعة للوالدين أو سرور لهما، فإن
ذلك من الإحسان، وإذا وجد الإحسان انتفى العقوق.

{ وَلَا
تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ } من ذكور وإناث { مِنْ إِمْلَاقٍ } أي: بسبب
الفقر وضيقكم من رزقهم، كما كان ذلك موجودا في الجاهلية القاسية الظالمة،
وإذا كانوا منهيين عن قتلهم في هذه الحال، وهم أولادهم، فنهيهم عن قتلهم
لغير موجب، أو قتل أولاد غيرهم، من باب أولى وأحرى.

{ نَحْنُ
نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } أي: قد تكفلنا برزق الجميع، فلستم الذين
ترزقون أولادكم، بل ولا أنفسكم، فليس عليكم منهم ضيق. { وَلَا تَقْرَبُوا
الْفَوَاحِشَ } وهي: الذنوب العظام المستفحشة، { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
بَطَنَ } أي: لا تقربوا الظاهر منها والخفي، أو المتعلق منها بالظاهر،
والمتعلق بالقلب والباطن.

والنهي عن قربان الفواحش أبلغ من النهي عن
مجرد فعلها، فإنه يتناول النهي عن مقدماتها ووسائلها الموصلة إليها.

{
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ } وهي: النفس
المسلمة، من ذكر وأنثى، صغير وكبير، بر وفاجر، والكافرة التي قد عصمت
بالعهد والميثاق. { إِلَّا بِالْحَقِّ } كالزاني المحصن، والنفس بالنفس،
والتارك لدينه المفارق للجماعة.

{ ذَلِكُمْ } المذكور { وَصَّاكُمْ
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } عن الله وصيته، ثم تحفظونها، ثم تراعونها
وتقومون بها. ودلت الآية على أنه بحسب عقل العبد يكون قيامه بما أمر الله
به.

{ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ } بأكل، أو معاوضة على وجه
المحاباة لأنفسكم، أو أخذ من غير سبب. { إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }
أي: إلا بالحال التي تصلح بها أموالهم، وينتفعون بها. فدل هذا على أنه لا
يجوز قربانها، والتصرف بها على وجه يضر اليتامى، أو على وجه لا مضرة فيه
ولا مصلحة، { حَتَّى يَبْلُغَ } اليتيم { أَشُدَّه } أي: حتى يبلغ ويرشد،
ويعرف التصرف، فإذا بلغ أشده، أُعطي حينئذ مالُه، وتصرف فيه على نظره.

وفي
هذا دلالة على أن اليتيم -قبل بلوغ الأشُد- محجور عليه، وأن وليه يتصرف في
ماله بالأحظ، وأن هذا الحجر ينتهي ببلوغ الأشُد.

{ وَأَوْفُوا
الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } أي: بالعدل والوفاء التام، فإذا
اجتهدتم في ذلك، فـ { لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } أي: بقدر
ما تسعه، ولا تضيق عنه. فمَن حرَص على الإيفاء في الكيل والوزن، ثم حصل منه
تقصير لم يفرط فيه، ولم يعلمه، فإن الله عفو غفور .

وبهذه الآية
ونحوها استدل الأصوليون، بأن الله لا يكلف أحدا ما لا يطيق، وعلى أن من
اتقى الله فيما أمر، وفعل ما يمكنه من ذلك، فلا حرج عليه فيما سوى ذلك.

{
وَإِذَا قُلْتُمْ } قولا تحكمون به بين الناس، وتفصلون بينهم الخطاب،
وتتكلمون به على المقالات والأحوال { فَاعْدِلُوا } في قولكم، بمراعاة
الصدق فيمن تحبون ومن تكرهون، والإنصاف، وعدم كتمان ما يلزم بيانه، فإن
الميل على من تكره بالكلام فيه أو في مقالته من الظلم المحرم.

بل
إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع، فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه،
وأن يبين ما فيها من الحق والباطل، ويعتبر قربها من الحق وبُعدها منه.

وذكر
الفقهاء أن القاضي يجب عليه العدل بين الخصمين، في لحظه ولفظه. {
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } وهذا يشمل العهد الذي عاهده عليه العباد من
القيام بحقوقه والوفاء بها، ومن العهد الذي يقع التعاقد به بين الخلق.
فالجميع يجب الوفاء به، ويحرم نقضه والإخلال به.

{ ذَلِكُمْ }
الأحكام المذكورة { وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ما بينه
لكم من الأحكام، وتقومون بوصية الله لكم حق القيام، وتعرفون ما فيها، من
الحكم والأحكام.

ولما بين كثيرا من الأوامر الكبار، والشرائع
المهمة، أشار إليها وإلى ما هو أعم منها فقال: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيمًا } أي: هذه الأحكام وما أشبهها، مما بينه الله في كتابه، ووضحه
لعباده، صراط الله الموصل إليه، وإلى دار كرامته، المعتدل السهل المختصر.

{
فَاتَّبِعُوهُ } لتنالوا الفوز والفلاح، وتدركوا الآمال والأفراح. { وَلَا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } أي: الطرق المخالفة لهذا الطريق { فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } أي: تضلكم عنه وتفرقكم يمينا وشمالا، فإذا ضللتم
عن الصراط المستقيم، فليس ثم إلا طرق توصل إلى الجحيم.

{ ذَلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فإنكم إذا قمتم بما بينه الله
لكم علما وعملا صرتم من المتقين، وعباد الله المفلحين، ووحد الصراط وأضافه
إليه لأنه سبيل واحد موصل إليه، والله هو المعين للسالكين على سلوكه.


{
154 - 157 } { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي
أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ
بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ
مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَنْ
تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ
قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا
لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ
فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي
الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا
يَصْدِفُونَ }

{ ثُمَّ } في هذا الموضع، ليس المراد منها الترتيب
الزماني، فإن زمن موسى عليه السلام، متقدم على تلاوة الرسول محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 هذا الكتاب، وإنما المراد الترتيب
الإخباري. فأخبر أنه آتى { مُوسَى الْكِتَابَ } وهو التوراة { تَمَامًا }
لنعمته، وكمالا لإحسانه. { عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } من أُمة موسى، فإن
الله أنعم على المحسنين منهم بنِعَم لا تحصى. من جملتها وتمامها إنزال
التوراة عليهم. فتمت عليهم نعمة الله، ووجب عليهم القيام بشكرها.

{
وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ } يحتاجون إلى تفصيله، من الحلال والحرام،
والأمر والنهي، والعقائد ونحوها. { وَهُدًى وَرَحْمَةً } أي: يهديهم إلى
الخير، ويعرفهم بالشر، في الأصول والفروع. { وَرَحْمَةٌ } يحصل به لهم
السعادة والرحمة والخير الكثير. { لَعَلَّهُمْ } بسبب إنزالنا الكتاب
والبينات عليهم { بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } فإنه اشتمل من الأدلة
القاطعة على البعث والجزاء بالأعمال، ما يوجب لهم الإيمان بلقاء ربهم
والاستعداد له.

{ وَهَذَا } القرآن العظيم، والذكر الحكيم. {
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } أي: فيه الخير الكثير والعلم الغزير،
وهو الذي تستمد منه سائر العلوم، وتستخرج منه البركات، فما من خير إلا وقد
دعا إليه ورغب فيه، وذكر الحكم والمصالح التي تحث عليه، وما من شر إلا وقد
نهى عنه وحذر منه، وذكر الأسباب المنفرة عن فعله وعواقبها الوخيمة {
فَاتَّبِعُوهُ } فيما يأمر به وينهى، وابنوا أصول دينكم وفروعه عليه {
وَاتَّقُوا } الله تعالى أن تخالفوا له أمرا { لَعَلَّكُمْ } إن اتبعتموه {
تُرْحَمُونَ } فأكبر سبب لنيل رحمة الله اتباع هذا الكتاب، علما وعملا.

{
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ
قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } أي: أنزلنا
إليكم هذا الكتاب المبارك قطعا لحجتكم، وخشية أن تقولوا إنما أنزل الكتاب
على طائفتين من قبلنا، أي: اليهود والنصارى.

{ وَإِنْ كُنَّا عَنْ
دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } أي: تقولون لَمْ تنزل علينا كتابا، والكتب
التي أنزلتها على الطائفتين ليس لنا بها علم ولا معرفة، فأنزلنا إليكم
كتابا، لم ينزل من السماء كتاب أجمع ولا أوضح ولا أبين منه.

{ أَوْ
تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى
مِنْهُمْ } أي: إما أن تعتذروا بعدم وصول أصل الهداية إليكم، وإما أن
تعتذروا، بـ[عدم] كمالها وتمامها، فحصل لكم بكتابكم أصل الهداية وكمالها،
ولهذا قال: { فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } وهذا اسم جنس،
يدخل فيه كل ما يبين الحق { وَهُدًى } من الضلالة { وَرَحْمَةٌ } أي: سعادة
لكم في دينكم ودنياكم، فهذا يوجب لكم الانقياد لأحكامه والإيمان بأخباره،
وأن من لم يرفع به رأسا وكذب به، فإنه أظلم الظالمين، ولهذا قال: { فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } أي: أعرض
ونأى بجانبه.

{ سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا
سُوءَ الْعَذَابِ } أي: العذاب الذي يسوء صاحبه ويشق عليه. { بِمَا كَانُوا
يَصْدِفُونَ } لأنفسهم ولغيرهم، جزاء لهم على عملهم السيء { وَمَا رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }

وفي هذه الآيات دليل على أن علم القرآن
أجل العلوم وأبركها وأوسعها، وأنه به تحصل الهداية إلى الصراط المستقيم،
هداية تامة لا يحتاج معها إلى تخرص المتكلمين، ولا إلى أفكار المتفلسفين،
ولا لغير ذلك من علوم الأولين والآخرين.

وأن المعروف أنه لم ينزل
جنس الكتاب إلا على الطائفتين، [من] اليهود والنصارى، فهم أهل الكتاب عند
الإطلاق، لا يدخل فيهم سائر الطوائف، لا المجوس ولا غيرهم.

وفيه: ما
كان عليه الجاهلية قبل نزول القرآن، من الجهل العظيم وعدم العلم بما عند
أهل الكتاب، الذين عندهم مادة العلم، وغفلتهم عن دراسة كتبهم.

{ 158
} { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي
بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ
آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ
انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ }

يقول تعالى: هل ينظر هؤلاء
الذين استمر ظلمهم وعنادهم، { إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ } مقدمات العذاب،
ومقدمات الآخرة بأن تأتيهم { الْمَلَائِكَةِ } لقبض أرواحهم، فإنهم إذا
وصلوا إلى تلك الحال، لم ينفعهم الإيمان ولا صالح الأعمال. { أَوْ يَأْتِيَ

رَبُّكَ
} لفصل القضاء بين العباد، ومجازاة المحسنين والمسيئين. { أَوْ يَأْتِيَ
بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } الدالة على قرب الساعة.

{ يَوْمَ يَأْتِي
بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } الخارقة للعادة، التي يعلم بها أن الساعة قد دنت،
وأن القيامة قد اقتربت. { لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ
آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } أي: إذا وجد
بعض آيات الله لم ينفع الكافر إيمانه أن آمن، ولا المؤمنَ المقصر أن يزداد
خيرُه بعد ذلك، بل ينفعه ما كان معه من الإيمان قبل ذلك، وما كان له من
الخير المرجوِّ قبل أن يأتي بعض الآيات.

والحكمة في هذا ظاهرة، فإنه
إنما كان الإيمان ينفع إذا كان إيمانا بالغيب، وكان اختيارا من العبد،
فأما إذا وجدت الآيات صار الأمر شهادة، ولم يبق للإيمان فائدة، لأنه يشبه
الإيمان الضروري، كإيمان الغريق والحريق ونحوهما، ممن إذا رأى الموت، أقلع
عما هو فيه كما قال تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ }

وقد تكاثرت الأحاديث الصحيحة
عن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 أن المراد ببعض آيات الله، طلوع الشمس من
مغربها، وأن الناس إذا رأوها، آمنوا، فلم ينفعهم إيمانهم، ويُغلق حينئذ
بابُ التوبة.

ولما كان هذا وعيدا للمكذبين بالرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، منتظرا، وهم ينتظرون بالنبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 وأتباعه قوارع الدهر ومصائب الأمور، قال: {
قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ } فستعلمون أينا أحق بالأمن.

وفي
هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الأفعال الاختيارية لله
تعالى، كالاستواء والنزول، والإتيان لله تبارك وتعالى، من غير تشبيه له
بصفات المخلوقين.

وفي الكتاب والسنة من هذا شيء كثير، وفيه أن من
جملة أشراط الساعة طلوع الشمس من مغربها. وأن الله تعالى حكيم قد جرت عادته
وسنته، أن الإيمان إنما ينفع إذا كان اختياريا لا اضطراريا، كما تقدم.

وأن
الإنسان يكتسب الخير بإيمانه. فالطاعة والبر والتقوى إنما تنفع وتنمو إذا
كان مع العبد الإيمان. فإذا خلا القلب من الإيمان لم ينفعه شيء من ذلك.


{
159 ، 160 } { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا
لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ
فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى
إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }

يتوعد تعالى الذين فرقوا
دينهم، أي: شتتوه وتفرقوا فيه، وكلٌّ أخذ لنفسه نصيبا من الأسماء التي لا
تفيد الإنسان في دينه شيئا، كاليهودية والنصرانية والمجوسية. أو لا يكمل
بها إيمانه، بأن يأخذ من الشريعة شيئا ويجعله دينه، ويدع مثله، أو ما هو
أولى منه، كما هو حال أهل الفرقة من أهل البدع والضلال والمفرقين للأُمة.

ودلت
الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التفرق
والاختلاف في أهل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية.

وأمره
أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم فقال: { لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } أي لست
منهم وليسوا منك، لأنهم خالفوك وعاندوك. { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى
اللَّهِ } يردون إليه فيجازيهم بأعمالهم { ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ }

ثم ذكر صفة الجزاء فقال: { مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ } القولية والفعلية، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله أو
حق خلقه { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } هذا أقل ما يكون من التضعيف.

{
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا } وهذا من
تمام عدله تعالى وإحسانه، وأنه لا يظلم مثقال ذرة، ولهذا قال: { وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ }


{ 161 - 165 } { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ
وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ
اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ
إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ
بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ
رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }

يأمر
تعالى نبيه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، أن يقول ويعلن بما هو عليه من الهداية إلى
الصراط المستقيم: الدين المعتدل المتضمن للعقائد النافعة، والأعمال
الصالحة، والأمر بكل حسن، والنهي عن كل قبيح، الذي عليه الأنبياء
والمرسلون، خصوصا إمام الحنفاء، ووالد من بعث من بعد موته من الأنبياء،
خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو الدين الحنيف المائل عن كل
دين غير مستقيم، من أديان أهل الانحراف، كاليهود والنصارى والمشركين.

وهذا
عموم، ثم خصص من ذلك أشرف العبادات فقال: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي
} أي: ذبحي، وذلك لشرف هاتين العبادتين وفضلهما، ودلالتهما على محبة الله
تعالى، وإخلاص الدين له، والتقرب إليه بالقلب واللسان، والجوارح وبالذبح
الذي هو بذل ما تحبه النفس من المال، لما هو أحب إليها وهو الله تعالى.

ومن
أخلص في صلاته ونسكه، استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله. وقوله: {
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } أي: ما آتيه في حياتي، وما يجريه الله عليَّ، وما
يقدر عليَّ في مماتي، الجميع { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { لَا
شَرِيكَ لَهُ } في العبادة، كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير، وليس
هذا الإخلاص لله ابتداعا مني، وبدعا أتيته من تلقاء نفسي، بل { بِذَلِكَ
أُمِرْتُ } أمرا حتما، لا أخرج من التبعة إلا بامتثاله { وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ } من هذه الأمة.

{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ } من
المخلوقين { أَبْغِي رَبًّا } أي: يحسن ذلك ويليق بي، أن أتخذ غيره، مربيا
ومدبرا والله رب كل شيء، فالخلق كلهم داخلون تحت ربوبيته، منقادون لأمره؟".

فتعين
علي وعلى غيري، أن يتخذ الله ربا، ويرضى به، وألا يتعلق بأحد من المربوبين
الفقراء العاجزين.

ثم رغب ورهب بذكر الجزاء فقال: { وَلَا تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ } من خير وشر { إِلَّا عَلَيْهَا } كما قال تعالى: { مَنْ
عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا }

{ وَلَا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } بل كل عليه وزر نفسه، وإن كان أحد قد
تسبب في ضلال غيره ووزره، فإن عليه وزر التسبب من غير أن ينقص من وزر
المباشر شيء.

{ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ } يوم القيامة {
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من خير وشر،
ويجازيكم على ذلك، أوفى الجزاء.

{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ
خَلَائِفَ الْأَرْضِ } أي: يخلف بعضكم بعضا، واستخلفكم الله في الأرض،
وسخَّر لكم جميع ما فيها، وابتلاكم، لينظر كيف تعملون.

{ وَرَفَعَ
بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } في القوة والعافية، والرزق والخَلْق
والخُلُق. { لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ } فتفاوتت أعمالكم. { إِنَّ
رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ } لمن عصاه وكذّب بآياته { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ } لمن آمن به وعمل صالحا، وتاب من الموبقات.

آخر تفسير
سورة الأنعام، فلله الحمد والثناء وصلى الله وسلم على نبينا محمد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 5:28 pm

تفسير
سورة الأعراف

مكية

{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ
حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ *
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا
إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ
وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ
وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ }

يقول تعالى لرسوله محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 مبينا له عظمة القرآن: { كِتَابٌ أُنْزِلَ
إِلَيْكَ } أي: كتاب جليل حوى كل ما يحتاج إليه العباد، وجميع المطالب
الإلهية، والمقاصد الشرعية، محكما مفصلا { فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ
حَرَجٌ مِنْهُ } أي: ضيق وشك واشتباه، بل لتعلم أنه تنزيل من حكيم حميد {
لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } وأنه أصدق الكلام فلينشرح له صدرك،
ولتطمئن به نفسك، ولتصدع بأوامره ونواهيه، ولا تخش لائما ومعارضا.

{
لِتُنْذِرَ بِهِ } الخلق، فتعظهم وتذكرهم، فتقوم الحجة على المعاندين.

{
و } ليكون { َذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } كما قال تعالى: { وَذَكِّرْ
فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } يتذكرون به الصراط المستقيم،
وأعماله الظاهرة والباطنة، وما يحول بين العبد، وبين سلوكه.

ثم
خاطب اللّه العباد، وألفتهم إلى الكتاب فقال: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } أي: الكتاب الذي أريد إنزاله لأجلكم، وهو: {
مِنْ رَبِّكُمْ } الذي يريد أن يتم تربيته لكم، فأنزل عليكم هذا الكتاب
الذي، إن اتبعتموه، كملت تربيتكم، وتمت عليكم النعمة، وهديتم لأحسن الأعمال
والأخلاق ومعاليها { وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أي:
تتولونهم، وتتبعون أهواءهم، وتتركون لأجلها الحق.

{ قَلِيلًا مَا
تَذَكَّرُونَ } فلو تذكرتم وعرفتم المصلحة، لما آثرتم الضار على النافع،
والعدو على الوليِّ.

ثم حذرهم عقوباته للأمم الذين كذبوا ما جاءتهم
به رسلهم، لئلا يشابهوهم فقال: { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا
فَجَاءَهَا بَأْسُنَا } أي: عذابنا الشديد { بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ
} أي: في حين غفلتهم، وعلى غرتهم غافلون، لم يخطر الهلاك على قلوبهم. فحين
جاءهم العذاب لم يدفعوه عن أنفسهم، ولا أغنت عنهم آلهتهم التي كانوا
يرجونهم، ولا أنكروا ما كانوا يفعلونه من الظلم والمعاصي.

{ فَمَا
كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا
كُنَّا ظَالِمِينَ } كما قال تعالى: { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ
كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا
أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لَا تَرْكُضُوا
وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ
تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ }

وقوله:
{ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } أي: لنسألن الأمم
الذين أرسل اللّه إليهم المرسلين، عما أجابوا به رسلهم، { وَيَوْمَ
يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } الآيات.

{
وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } عن تبليغهم لرسالات ربهم، وعما أجابتهم
به أممهم.

{ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ } أي: على الخلق كلهم ما
عملوا { بِعِلْمٍ } منه تعالى لأعمالهم { وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } في وقت
من الأوقات، كما قال تعالى: { أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ } وقال تعالى: {
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ
الْخَلْقِ غَافِلِينَ }

{ 8 - 9 } { وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ
الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ }

ثم ذكر الجزاء على
الأعمال، فقال: { وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا
يَظْلِمُونَ } أي: والوزن يوم القيامة يكون بالعدل والقسط، الذي لا جور فيه
ولا ظلم بوجه.

{ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } بأن رجحت كفة
حسناته على سيئاته { فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي: الناجون من
المكروه، المدركون للمحبوب، الذين حصل لهم الربح العظيم، والسعادة الدائمة.

{
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } بأن رجحت سيئاته، وصار الحكم لها، {
فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } إذ فاتهم النعيم المقيم،
وحصل لهم العذاب الأليم { بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ } فلم
ينقادوا لها كما يجب عليهم ذلك.

{ 10 } { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ
فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا
تَشْكُرُونَ }

يقول تعالى ممتنا على عباده بذكر المسكن والمعيشة: {
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ } أي: هيأناها لكم، بحيث تتمكنون من
البناء عليها وحرثها، ووجوه الانتفاع بها { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا
مَعَايِشَ } مما يخرج من الأشجار والنبات، ومعادن الأرض، وأنواع الصنائع
والتجارات، فإنه هو الذي هيأها، وسخر أسبابها.

{ قَلِيلًا مَا
تَشْكُرُونَ } اللّه، الذي أنعم عليكم بأصناف النعم، وصرف عنكم النقم.

{
11 - 15 } { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ
يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ
أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ
مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ
تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ
أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
}

يقول تعالى مخاطبا لبني آدم: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ } بخلق
أصلكم ومادتكم التي منها خرجتم: أبيكم آدم عليه السلام { ثُمَّ
صَوَّرْنَاكُمْ } في أحسن صورة، وأحسن تقويم، وعلمه الله تعالى ما به تكمل
صورته الباطنة، أسماء كل شيء.

ثم أمر الملائكة الكرام أن يسجدوا
لآدم، إكراما واحتراما، وإظهارا لفضله، فامتثلوا أمر ربهم، { فَسَجَدُوا }
كلهم أجمعون { إِلَّا إِبْلِيسَ } أبى أن يسجد له، تكبرا عليه وإعجابا
بنفسه.

فوبخه اللّه على ذلك وقال: { مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ }
لما خلقت بيديَّ، أي: شرفته وفضلته بهذه الفضيلة، التي لم تكن لغيره،
فعصيت أمري وتهاونت بي؟

{ قَالَ } إبليس معارضا لربه: { أَنَا
خَيْرٌ مِنْهُ } ثم برهن على هذه الدعوى الباطلة بقوله: { خَلَقْتَنِي مِنْ
نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ }

وموجب هذا أن المخلوق من نار أفضل
من المخلوق من طين لعلو النار على الطين وصعودها، وهذا القياس من أفسد
الأقيسة، فإنه باطل من عدة أوجه:

منها: أنه في مقابلة أمر اللّه له
بالسجود، والقياس إذا عارض النص، فإنه قياس باطل، لأن المقصود بالقياس، أن
يكون الحكم الذي لم يأت فيه نص، يقارب الأمور المنصوص عليها، ويكون تابعا
لها.

فأما قياس يعارضها، ويلزم من اعتباره إلغاءُ النصوص، فهذا
القياس من أشنع الأقيسة.

ومنها: أن قوله: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ }
بمجردها كافية لنقص إبليس الخبيث. فإنه برهن على نقصه بإعجابه بنفسه
وتكبره، والقول على اللّه بلا علم. وأي نقص أعظم من هذا؟"

ومنها:
أنه كذب في تفضيل مادة النار على مادة الطين والتراب، فإن مادة الطين فيها
الخشوع والسكون والرزانة، ومنها تظهر بركات الأرض من الأشجار وأنواع
النبات، على اختلاف أجناسه وأنواعه، وأما النار ففيها الخفة والطيش
والإحراق.

ولهذا لما جرى من إبليس ما جرى، انحط من مرتبته العالية
إلى أسفل السافلين.

فقال اللّه له: { فَاهْبِطْ مِنْهَا } أي: من
الجنة { فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا } لأنها دار الطيبين
الطاهرين، فلا تليق بأخبث خلق اللّه وأشرهم.

{ فَاخْرُجْ إِنَّكَ
مِنَ الصَّاغِرِينَ } أي: المهانين الأذلين، جزاء على كبره وعجبه بالإهانة
والذل.

فلما أعلن عدو اللّه بعداوة اللّه، وعداوة آدم وذريته، سأل
اللّهَ النَّظِرَةَ والإمهال إلى يوم البعث، ليتمكن من إغواء ما يقدر عليه
من بني آدم.

ولما كانت حكمة اللّه مقتضية لابتلاء العباد واختبارهم،
ليتبين الصادق من الكاذب، ومن يطيعه ومن يطيع عدوه، أجابه لما سأل، فقال: {
إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ }

{ 16 - 17 } { قَالَ فَبِمَا
أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ
لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }

أي:
قال إبليس - لما أبلس وأيس من رحمة اللّه - { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ } أي: للخلق { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي: لألزمن
الصراط ولأسعى غاية جهدي على صد الناس عنه وعدم سلوكهم إياه.

{
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أي: من جميع الجهات والجوانب، ومن كل
طريق يتمكن فيه من إدراك بعض مقصوده فيهم.

ولما علم الخبيث أنهم
ضعفاء قد تغلب الغفلة على كثير منهم، وكان جازما ببذل مجهوده على إغوائهم،
ظن وصدق ظنه فقال: { وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } فإن القيام
بالشكر من سلوك الصراط المستقيم، وهو يريد صدهم عنه، وعدم قيامهم به، قال
تعالى: { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ
}

وإنما نبهنا اللّه على ما قال وعزم على فعله، لنأخذ منه حذرنا
ونستعد لعدونا، ونحترز منه بعلمنا، بالطريق التي يأتي منها، ومداخله التي
ينفذ منها، فله تعالى علينا بذلك، أكمل نعمة.

{ 18 } { قَالَ
اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ }

أي: قال اللّه
لإبليس لما قال ما قال: { اخْرُجْ مِنْهَا } خروج صغار واحتقار، لا خروج
إكرام بل { مَذْءُومًا } أي: مذموما { مَدْحُورًا } مبعدا عن اللّه وعن
رحمته وعن كل خير.

{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ } منك وممن تبعك منهم {
أَجْمَعِينَ } وهذا قسم منه تعالى، أن النار دار العصاة، لا بد أن يملأها
من إبليس وأتباعه من الجن والإنس.

ثم حذر آدم شره وفتنته فقال:
{
19 - 23 } { وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا
مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ
الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا
وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا
عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا
مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ *
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا
سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ
وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

أي: أمر اللّه تعالى آدم وزوجته
حواء، التي أنعم اللّه بها عليه ليسكن إليها، أن يأكلا من الجنة حيث شاءا
ويتمتعا فيها بما أرادا، إلا أنه عين لهما شجرة، ونهاهما عن أكلها، واللّه
أعلم ما هي، وليس في تعيينها فائدة لنا. وحرم عليهما أكلها، بدليل قوله: {
فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ }

فلم يزالا ممتثلين لأمر اللّه، حتى
تغلغل إليهما عدوهما إبليس بمكره، فوسوس لهما وسوسة خدعهما بها، وموه
عليهما وقال: { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا
أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ } أي: من جنس الملائكة { أَوْ تَكُونَا مِنَ
الْخَالِدِينَ } كما قال في الآية الأخرى: { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ
الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى }

ومع قوله هذا أقسم لهما باللّه {
إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } أي: من جملة الناصحين حيث قلت لكما
ما قلت، فاغترا بذلك، وغلبت الشهوة في تلك الحال على العقل.

{
فَدَلَّاهُمَا } أي: نزَّلهما عن رتبتهما العالية، التي هي البعد عن الذنوب
والمعاصي إلى التلوث بأوضارها، فأقدما على أكلها.

{ فَلَمَّا
ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } أي: ظهرت عورة كل منهما
بعد ما كانت مستورة، فصار للعري الباطن من التقوى في هذه الحال أثر في
اللباس الظاهر، حتى انخلع فظهرت عوراتهما، ولما ظهرت عوراتهما خَجِلا
وجَعَلا يخصفان على عوراتهما من أوراق شجر الجنة، ليستترا بذلك.

{
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا } وهما بتلك الحال موبخا ومعاتبا: { أَلَمْ
أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ
الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ } فلم اقترفتما المنهي، وأطعتما
عدوَّكُما؟

فحينئذ، من اللّه عليهما بالتوبة وقبولها، فاعترفا
بالذنب، وسألا من اللّه مغفرته فقالا: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
} أي: قد فعلنا الذنب، الذي نهيتنا عنه، وضربنا بأنفسنا باقتراف الذنب،
وقد فعلنا سبب الخسار إن لم تغفر لنا، بمحو أثر الذنب وعقوبته، وترحمنا
بقبول التوبة والمعافاة من أمثال هذه الخطايا.

فغفر اللّه لهما ذلك {
وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ
وَهَدَى }

هذا وإبليس مستمر على طغيانه، غير مقلع عن عصيانه، فمن
أشبه آدم بالاعتراف وسؤال المغفرة والندم والإقلاع - إذا صدرت منه الذنوب -
اجتباه ربه وهداه.

ومن أشبه إبليس - إذا صدر منه الذنب، لا يزال
يزداد من المعاصي - فإنه لا يزداد من اللّه إلا بعدا.

{ 25 - 26 } {
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَا
بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ
وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }

أي: لما أهبط اللّه آدم وزوجته
وذريتهما إلى الأرض، أخبرهما بحال إقامتهم فيها، وأنه جعل لهم فيها حياة
يتلوها الموت، مشحونة بالامتحان والابتلاء، وأنهم لا يزالون فيها، يرسل
إليهم رسله، وينزل عليهم كتبه، حتى يأتيهم الموت، فيدفنون فيها، ثم إذا
استكملوا بعثهم اللّه وأخرجهم منها إلى الدار التي هي الدار حقيقة، التي هي
دار المقامة.

ثم امتن عليهم بما يسر لهم من اللباس الضروري،
واللباس الذي المقصود منه الجمال، وهكذا سائر الأشياء، كالطعام والشراب
والمراكب، والمناكح ونحوها، قد يسر اللّه للعباد ضروريها، ومكمل ذلك، و[بين
لهم] أن هذا ليس مقصودا بالذات، وإنما أنزله اللّه ليكون معونة لهم على
عبادته وطاعته، ولهذا قال: { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } من
اللباس الحسي، فإن لباس التقوى يستمر مع العبد، ولا يبلى ولا يبيد، وهو
جمال القلب والروح.

وأما اللباس الظاهري، فغايته أن يستر العورة
الظاهرة، في وقت من الأوقات، أو يكون جمالا للإنسان، وليس وراء ذلك منه
نفع.

وأيضا، فبتقدير عدم هذا اللباس، تنكشف عورته الظاهرة، التي لا
يضره كشفها، مع الضرورة، وأما بتقدير عدم لباس التقوى، فإنها تنكشف عورته
الباطنة، وينال الخزي والفضيحة.

وقوله: { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ
اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي: ذلك المذكور لكم من اللباس، مما
تذكرون به ما ينفعكم ويضركم وتشبهون باللباس الظاهر على الباطن.

{
27 } { يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ
أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا
لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ
حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ }

يقول تعالى، محذرا لبني آدم أن يفعل
بهم الشيطان كما فعل بأبيهم: { يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطَانُ } بأن يزين لكم العصيان، ويدعوكم إليه، ويرغبكم فيه، فتنقادون
له { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ } وأنزلهما من المحل
العالي إلى أنزل منه، فأنتم يريد أن يفعل بكم كذلك، ولا يألو جهده عنكم،
حتى يفتنكم، إن استطاع، فعليكم أن تجعلوا الحذر منه في بالكم، وأن تلبسوا
لَأْمَةَ الحرب بينكم وبيْنه، وأن لا تغفُلوا عن المواضع التي يدخل منها
إليكم.

فـ { إِنَّهُ } يراقبكم على الدوام، و { يَرَاكُمْ هُوَ
وَقَبِيلُهُ } من شياطين الجن { مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا
جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } فعدم
الإيمان هو الموجب لعقد الولاية بين الإنسان والشيطان.

{ إِنَّهُ
لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ
وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ }

{ 28 - 30 } { وَإِذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ
أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ
أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي
بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى
وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا
الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
مُهْتَدُونَ }

يقول تعالى مبينا لقبح حال المشركين الذين يفعلون
الذنوب، وينسبون أن الله أمرهم بها. { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } وهي:
كل ما يستفحش ويستقبح، ومن ذلك طوافهم بالبيت عراة { قَالُوا وَجَدْنَا
عَلَيْهَا آبَاءَنَا } وصدقوا في هذا. { وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا }
وكذبوا في هذا، ولهذا رد اللّه عليهم هذه النسبة فقال: { قُلْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } أي: لا يليق بكماله وحكمته أن يأمر
عباده بتعاطي الفواحش لا هذا الذي يفعله المشركون ولا غيره { أَتَقُولُونَ
عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وأي: افتراء أعظم من هذا"

ثم
ذكر ما يأمر به، فقال: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } أي: بالعدل في
العبادات والمعاملات، لا بالظلم والجور. { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ
كُلِّ مَسْجِدٍ } أي: توجهوا للّه، واجتهدوا في تكميل العبادات، خصوصا {
الصلاة } أقيموها، ظاهرا وباطنا، ونقوها من كل نقص ومفسد. { وَادْعُوهُ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي: قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له.
والدعاء يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة، أي: لا تراءوا ولا تقصدوا من
الأغراض في دعائكم سوى عبودية اللّه ورضاه.

{ كَمَا بَدَأَكُمْ }
أول مرة { تَعُودُونَ } للبعث، فالقادر على بدء خلقكم، قادر على إعادته، بل
الإعادة، أهون من البداءة.

{ فَرِيقًا } منكم { هَدَى } اللّه، أي:
وفقهم للهداية، ويسر لهم أسبابها، وصرف عنهم موانعها. { وَفَرِيقًا حَقَّ
عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ } أي: وجبت عليهم الضلالة بما تسببوا لأنفسهم
وعملوا بأسباب الغواية.

فـ { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } { وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ
وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً } فحين
انسلخوا من ولاية الرحمن، واستحبوا ولاية الشيطان، حصل لهم النصيب الوافر
من الخذلان، ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران. { وَهم يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } لأنهم انقلبت عليهم الحقائق، فظنوا الباطل حقا
والحق باطلا، وفي هذه الآيات دليل على أن الأوامر والنواهي تابعة للحكمة
والمصلحة، حيث ذكر تعالى أنه لا يتصور أن يأمر بما تستفحشه وتنكره العقول،
وأنه لا يأمر إلا بالعدل والإخلاص، وفيه دليل على أن الهداية بفضل اللّه
ومَنِّه، وأن الضلالة بخذلانه للعبد، إذا تولى - بجهله وظلمه - الشيطانَ،
وتسبب لنفسه بالضلال، وأن من حسب أنه مهتدٍ وهو ضالٌّ، أنه لا عذر له، لأنه
متمكن من الهدى، وإنما أتاه حسبانه من ظلمه بترك الطريق الموصل إلى الهدى.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 5:30 pm

{
31 } { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }

يقول
تعالى - بعد ما أنزل على بني آدم لباسا يواري سوءاتهم وريشا: { يَا بَنِي
آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } أي: استروا عوراتكم عند
الصلاة كلها، فرضها ونفلها، فإن سترها زينة للبدن، كما أن كشفها يدع البدن
قبيحا مشوها.

ويحتمل أن المراد بالزينة هنا ما فوق ذلك من اللباس
النظيف الحسن، ففي هذا الأمر بستر العورة في الصلاة، وباستعمال التجميل
فيها ونظافة السترة من الأدناس والأنجاس.

ثم قال: { وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا } أي: مما رزقكم اللّه من الطيبات { وَلَا تُسْرِفُوا } في
ذلك، والإسراف إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي والشره في المأكولات
الذي يضر بالجسم، وإما أن يكون بزيادة الترفه والتنوق في المآكل والمشارب
واللباس، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام.

{ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ } فإن السرف يبغضه اللّه، ويضر بدن الإنسان ومعيشته، حتى
إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات، ففي هذه الآية
الكريمة الأمر بتناول الأكل والشرب، والنهي عن تركهما، وعن الإسراف فيهما.

{
32 - 33 } { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ
لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }

يقول
تعالى منكرا على من تعنت، وحرم ما أحل اللّه من الطيبات { قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } من أنواع اللباس
على اختلاف أصنافه، والطيبات من الرزق، من مأكل ومشرب بجميع أنواعه، أي:
مَن هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم اللّه بها على العباد، ومن ذا الذي
يضيق عليهم ما وسَّعه اللّه؟".

وهذا التوسيع من اللّه لعباده
بالطيبات، جعله لهم ليستعينوا به على عبادته، فلم يبحه إلا لعباده
المؤمنين، ولهذا قال: { قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي: لا تبعة عليهم فيها.

ومفهوم
الآية أن من لم يؤمن باللّه، بل استعان بها على معاصيه، فإنها غير خالصة
له ولا مباحة، بل يعاقب عليها وعلى التنعم بها، ويُسأل عن النعيم يوم
القيامة.

{ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ } أي: نوضحها ونبينها {
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } لأنهم الذين ينتفعون بما فصله اللّه من الآيات،
ويعلمون أنها من عند اللّه، فيعقلونها ويفهمونها.

ثم ذكر المحرمات
التي حرمها اللّه في كل شريعة من الشرائع فقال: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } أي: الذنوب الكبار التي تستفحش وتستقبح لشناعتها
وقبحها، وذلك كالزنا واللواط ونحوهما.

وقوله: { مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَمَا بَطَنَ } أي: الفواحش التي تتعلق بحركات البدن، والتي تتعلق بحركات
القلوب، كالكبر والعجب والرياء والنفاق، ونحو ذلك، { وَالْإِثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي: الذنوب التي تؤثم وتوجب العقوبة في
حقوق اللّه، والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فدخل في هذا
الذنوبُ المتعلقةُ بحق اللّه، والمتعلقةُ بحق العباد.

{ وَأَنْ
تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } أي: حجة، بل
أنزل الحجة والبرهان على التوحيد. والشركُ هو أن يشرك مع اللّه في عبادته
أحد من الخلق، وربما دخل في هذا الشرك الأصغر كالرياء والحلف بغير اللّه،
ونحو ذلك.

{ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه، فكل هذه قد حرمها اللّه، ونهى العباد عن
تعاطيها، لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة، ولما فيها من الظلم والتجري
على اللّه، والاستطالة على عباد اللّه، وتغيير دين اللّه وشرعه.

{
34 } { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ }

أي: وقد أخرج
اللّه بني آدم إلى الأرض، وأسكنهم فيها، وجعل لهم أجلا مسمى لا تتقدم أمة
من الأمم على وقتها المسمى، ولا تتأخر، لا الأمم المجتمعة ولا أفرادها.

{
35 - 36 } { يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ }

لما أخرج اللّه بني آدم من الجنة، ابتلاهم بإرسال
الرسل وإنزال الكتب عليهم يقصون عليهم آيات اللّه ويبينون لهم أحكامه، ثم
ذكر فضل من استجاب لهم، وخسار من لم يستجب لهم فقال: { فَمَنِ اتَّقَى } ما
حرم اللّه، من الشرك والكبائر والصغائر، { وَأَصْلَحَ } أعماله الظاهرة
والباطنة { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من الشر الذي قد يخافه غيرهم { وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما مضى، وإذا انتفى الخوف والحزن حصل الأمن التام،
والسعادة، والفلاح الأبدي.

{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا } أي: لا آمنت بها قلوبهم، ولا انقادت لها
جوارحهم، { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } كما
استهانوا بآياته، ولازموا التكذيب بها، أهينوا بالعذاب الدائم الملازم.

{
37 } { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ
كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ
حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا
كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ }

أي: لا أحد أظلم
{ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ْ} بنسبة الشريك له، أو النقص
له، أو التقول عليه ما لم يقل، { أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ْ} الواضحة
المبينة للحق المبين، الهادية إلى الصراط المستقيم، فهؤلاء وإن تمتعوا
بالدنيا، ونالهم نصيبهم مما كان مكتوبا لهم في اللوح المحفوظ، فليس ذلك
بمغن عنهم شيئا، يتمتعون قليلا، ثم يعذبون طويلا، { حَتَّى إِذَا
جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ْ} أي: الملائكة الموكلون بقبض
أرواحهم واستيفاء آجالهم.

{ قَالُوا ْ} لهم في تلك الحالة توبيخا
وعتابا { أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ْ} من الأصنام
والأوثان، فقد جاء وقت الحاجة إن كان فيها منفعة لكم أو دفع مضرة. {
قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا ْ} أي: اضمحلوا وبطلوا، وليسوا مغنين عنا من عذاب
اللّه من شيء.

{ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا
كَافِرِينَ ْ} مستحقين للعذاب المهين الدائم.

فقالت لهم الملائكة {
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ ْ} أي: في جملة أمم { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ْ} أي: مضوا على ما مضيتم عليه من الكفر
والاستكبار، فاستحق الجميع الخزي والبوار، كلما دخلت أمة من الأمم العاتية
النار { لَعَنَتْ أُخْتَهَا ْ} كما قال تعالى: { ويَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ْ} { حَتَّى
إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا ْ} أي: اجتمع في النار جميع أهلها، من
الأولين والآخرين، والقادة والرؤساء والمقلدين الأتباع.

{ قَالَتْ
أُخْرَاهُمْ ْ} أي: متأخروهم، المتبعون للرؤساء { لِأُولَاهُمْ ْ} أي:
لرؤسائهم، شاكين إلى اللّه إضلالهم إياهم: { رَبَّنَا هَؤُلَاءِ
أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ ْ} أي: عذبهم عذابا
مضاعفا لأنهم أضلونا، وزينوا لنا الأعمال الخبيثة.

{ قَالَ ْ} اللّه
{ لِكُلٍّ ْ} منكم { ضِعْفٌ ْ} ونصيب من العذاب.


{ 39 ْ} {
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُم ْ}

أي: الرؤساء، قالوا لأتباعهم:
{ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ْ} أي: قد اشتركنا جميعا في
الغي والضلال، وفي فعل أسباب العذاب، فأي: فضل لكم علينا؟ { فَذُوقُوا
الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ْ} ولكنه من المعلوم أن عذاب
الرؤساء وأئمة الضلال أبلغ وأشنع من عذاب الأتباع، كما أن نعيم أئمة الهدى
ورؤسائه أعظم من ثواب الأتباع، قال تعالى: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا
كَانُوا يُفْسِدُونَ ْ} فهذه الآيات ونحوها، دلت على أن سائر أنواع
المكذبين بآيات اللّه، مخلدون في العذاب، مشتركون فيه وفي أصله، وإن كانوا
متفاوتين في مقداره، بحسب أعمالهم وعنادهم وظلمهم وافترائهم، وأن مودتهم
التي كانت بينهم في الدنيا تنقلب يوم القيامة عداوة وملاعنة.

{ 40 -
41 ْ} { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا
لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ْ}

يخبر تعالى عن عقاب من كذب
بآياته فلم يؤمن بها، مع أنها آيات بينات، واستكبر عنها فلم يَنْقَد
لأحكامها، بل كذب وتولى، أنهم آيسون من كل خير، فلا تفتح أبواب السماء
لأرواحهم إذا ماتوا وصعدت تريد العروج إلى اللّه، فتستأذن فلا يؤذن لها،
كما لم تصعد في الدنيا إلى الإيمان باللّه ومعرفته ومحبته كذلك لا تصعد بعد
الموت، فإن الجزاء من جنس العمل.

ومفهوم الآية أن أرواح المؤمنين
المنقادين لأمر اللّه المصدقين بآياته، تفتح لها أبواب السماء حتى تعرج إلى
اللّه، وتصل إلى حيث أراد اللّه من العالم العلوي، وتبتهج بالقرب من ربها
والحظوة برضوانه.

وقوله عن أهل النار { وَلَا يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ ْ} وهو البعير المعروف { فِي سَمِّ
الْخِيَاطِ ْ} أي: حتى يدخل البعير الذي هو من أكبر الحيوانات جسما، في خرق
الإبرة، الذي هو من أضيق الأشياء، وهذا من باب تعليق الشيء بالمحال، أي:
فكما أنه محال دخول الجمل في سم الخياط، فكذلك المكذبون بآيات اللّه محال
دخولهم الجنة، قال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ْ} وقال هنا {
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ْ} أي: الذين كثر إجرامهم واشتد
طغيانهم.

{ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ ْ} أي: فراش من تحتهم {
وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ْ} أي: ظلل من العذاب، تغشاهم.

{
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ْ} لأنفسهم، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام
للعبيد.


{ 42 - 43 ْ} { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ
مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ
هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا
أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ}

لما
ذكر الله تعالى عقاب العاصين الظالمين، ذكر ثواب المطيعين فقال: {
وَالَّذِينَ آمَنُوا ْ} بقلوبهم { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ْ} بجوارحهم،
فجمعوا بين الإيمان والعمل، بين الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، بين فعل
الواجبات وترك المحرمات، ولما كان قوله: { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ْ}
لفظا عاما يشمل جميع الصالحات الواجبة والمستحبة، وقد يكون بعضها غير مقدور
للعبد، قال تعالى: { لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ْ} أي:
بمقدار ما تسعه طاقتها، ولا يعسر على قدرتها، فعليها في هذه الحال أن تتقي
اللّه بحسب استطاعتها، وإذا عجزت عن بعض الواجبات التي يقدر عليها غيرها
سقطت عنها كما قال تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا ْ} { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ْ} { مَا
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ْ} { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ ْ} فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة.

{
أُولَئِكَ ْ} أي: المتصفون بالإيمان والعمل الصالح { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ْ} أي: لا يحولون عنها ولا يبغون بها بدلا، لأنهم
يرون فيها من أنواع اللذات وأصناف المشتهيات ما تقف عنده الغايات، ولا يطلب
أعلى منه.

{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ْ} وهذا
من كرمه وإحسانه على أهل الجنة، أن الغل الذي كان موجودا في قلوبهم،
والتنافس الذي بينهم، أن اللّه يقلعه ويزيله حتى يكونوا إخوانا متحابين،
وأخلاء متصافين.

قال تعالى: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ
غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ْ} ويخلق اللّه لهم من
الكرامة ما به يحصل لكل واحد منهم الغبطة والسرور، ويرى أنه لا فوق ما هو
فيه من النعيم نعيم. فبهذا يأمنون من التحاسد والتباغض، لأنه قد فقدت
أسبابه.

وقوله: { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ْ} أي:
يفجرونها تفجيرا، حيث شاءوا، وأين أرادوا، إن شاءوا في خلال القصور، أو في
تلك الغرف العاليات، أو في رياض الجنات، من تحت تلك الحدائق الزاهرات.

أنهار
تجري في غير أخدود، وخيرات ليس لها حد محدود { و ْ} لهذا لما رأوا ما أنعم
اللّه عليهم وأكرمهم به { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا
لِهَذَا ْ} بأن من علينا وأوحى إلى قلوبنا، فآمنت به، وانقادت للأعمال
الموصلة إلى هذه الدار، وحفظ اللّه علينا إيماننا وأعمالنا، حتى أوصلنا بها
إلى هذه الدار، فنعم الرب الكريم، الذي ابتدأنا بالنعم، وأسدى من النعم
الظاهرة والباطنة ما لا يحصيه المحصون، ولا يعده العادون، { وَمَا كُنَّا
لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ْ} أي: ليس في نفوسنا قابلية
للهدى، لولا أنه تعالى منَّ بهدايته واتباع رسله.

{ لَقَدْ جَاءَتْ
رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ْ} أي: حين كانوا يتمتعون بالنعيم الذي أخبرت
به الرسل، وصار حق يقين لهم بعد أن كان علم يقين [لهم]، قالوا لقد تحققنا،
ورأينا ما وعدتنا به الرسل، وأن جميع ما جاءوا به حق اليقين، لا مرية فيه
ولا إشكال، { وَنُودُوا ْ} تهنئة لهم، وإكراما، وتحية واحتراما، { أَنْ
تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا ْ} أي: كنتم الوارثين لها، وصارت
إقطاعا لكم، إذ كان إقطاع الكفار النار، أورثتموها { بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ ْ}

قال بعض السلف: أهل الجنة نجوا من النار بعفو اللّه،
وأدخلوا الجنة برحمة اللّه، واقتسموا المنازل وورثوها بالأعمال الصالحة
وهي من رحمته، بل من أعلى أنواع رحمته.

{ 44 - 45 } { وَنَادَى
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا
وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا
قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ }

يقول
تعالى لما ذكر استقرار كل من الفريقين في الدارين، ووجدوا ما أخبرت به
الرسل ونطقت به الكتب من الثواب والعقاب: أن أهل الجنة نادوا أصحاب النار
بأن قالوا: { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا } حين
وعدنا على الإيمان والعمل الصالح الجنة فأدخلناها وأرانا ما وصفه لنا {
فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ } على الكفر والمعاصي { حَقًّا
قالوا نعم } قد وجدناه حقا، فبين للخلق كلهم، بيانا لا شك فيه، صدق وعد
اللّه، ومن أصدق من اللّه قيلا، وذهبت عنهم الشكوك والشبه، وصار الأمر حق
اليقين، وفرح المؤمنون بوعد اللّه واغتبطوا، وأيس الكفار من الخير، وأقروا
على أنفسهم بأنهم مستحقون للعذاب.

{ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ
} أي: بين أهل النار وأهل الجنة، بأن قال: { أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ } أي:
بُعْدُه وإقصاؤه عن كل خير { عَلَى الظَّالِمِينَ } إذ فتح اللّه لهم أبواب
رحمته، فصدفوا أنفسهم عنها ظلما، وصدوا عن سبيل اللّه بأنفسهم، وصدوا
غيرهم، فضلوا وأضلوا.

واللّه تعالى يريد أن تكون مستقيمة، ويعتدل
سير السالكين إليه، { و } هؤلاء يريدونها { عِوَجًا } منحرفة صادة عن سواء
السبيل، { وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ } وهذا الذي أوجب لهم الانحراف
عن الصراط، والإقبال على شهوات النفوس المحرمة، عدم إيمانهم بالبعث، وعدم
خوفهم من العقاب ورجائهم للثواب، ومفهوم هذا النداء أن رحمة اللّه على
المؤمنين، وبرَّه شامل لهم، وإحسانَه متواتر عليهم.


{ 46 - 49 }
{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا
بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ
لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ
تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا
يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا
يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ
عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ }

أي: وبين أصحاب الجنة
وأصحاب النار حجاب يقال له: { الأَعْرَاف } لا من الجنة ولا من النار، يشرف
على الدارين، وينظر مِنْ عليه حالُ الفريقين، وعلى هذا الحجاب رجال يعرفون
كلا من أهل الجنة والنار بسيماهم، أي: علاماتهم، التي بها يعرفون ويميزون،
فإذا نظروا إلى أهل الجنة نَادَوْهم { أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } أي:
يحيونهم ويسلمون عليهم، وهم - إلى الآن - لم يدخلوا الجنة، ولكنهم يطمعون
في دخولها، ولم يجعل اللّه الطمع في قلوبهم إلا لما يريد بهم من كرامته.

{
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ } ورأوا
منظرا شنيعا، وهَوْلًا فظيعا { قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فأهل الجنة [إذا رآهم أهل الأعراف] يطمعون أن
يكونوا معهم في الجنة، ويحيونهم ويسلمون عليهم، وعند انصراف أبصارهم بغير
اختيارهم لأهل النار، يستجيرون بالله من حالهم هذا على وجه العموم.

ثم
ذكر الخصوص بعد العموم فقال: { وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا
يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } وهم من أهل النار، وقد كانوا في الدنيا لهم
أبهة وشرف، وأموال وأولاد، فقال لهم أصحاب الأعراف، حين رأوهم منفردين في
العذاب، بلا ناصر ولا مغيث: { مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ } في
الدنيا، الذي تستدفعون به المكاره، وتتوسلون به إلى مطالبكم في الدنيا،
فاليوم اضمحل، ولا أغني عنكم شيئا، وكذلك، أي شيء نفعكم استكباركم على الحق
وعلى من جاء به وعلى من اتبعه.

ثم أشاروا لهم إلى أناس من أهل
الجنة كانوا في الدنيا فقراء ضعفاء يستهزئ بهم أهل النار، فقالوا لأهل
النار: { أَهَؤُلَاءِ } الذين أدخلهم اللّه الجنة { الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ
لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } احتقارا لهم وازدراء وإعجابا
بأنفسكم، قد حنثتم في أيمانكم، وبدا لكم من اللّه ما لم يكن لكم في حساب، {
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ } بما كنتم تعملون، أي: قيل لهؤلاء الضعفاء إكراما
واحتراما: ادخلوا الجنة بأعمالكم الصالحة { لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ } فيما
يستقبل من المكاره { وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } على ما مضى، بل آمنون
مطمئنون فرحون بكل خير.

وهذا كقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا
بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } إلى أن قال { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ
الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } واختلف أهل
العلم والمفسرون، من هم أصحاب الأعراف، وما أعمالهم؟

والصحيح من
ذلك، أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فلا رجحت سيئاتهم فدخلوا النار، ولا
رجحت حسناتهم فدخلوا الجنة، فصاروا في الأعراف ما شاء اللّه، ثم إن اللّه
تعالى يدخلهم برحمته الجنة، فإن رحمته تسبق وتغلب غضبه، ورحمته وسعت كل
شيء.

{ 50 - 53 } { وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ
الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ *
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ
يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ
جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ
يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ
رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا
لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }

أي:
ينادي أصحاب النار أصحاب الجنة، حين يبلغ منهم العذاب كل مبلغ، وحين يمسهم
الجوع المفرط والظمأ الموجع، يستغيثون بهم، فيقولون: { أَفِيضُوا
عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } من الطعام،
فأجابهم أهل الجنة بقولهم: { إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا } أي: ماء الجنة
وطعامها { عَلَى الْكَافِرِينَ } وذلك جزاء لهم على كفرهم بآيات اللّه،
واتخاذهم دينهم الذي أمروا أن يستقيموا عليه، ووعدوا بالجزاء الجزيل عليه.

{
لَهْوًا وَلَعِبًا } أي: لهت قلوبهم وأعرضت عنه، ولعبوا واتخذوه سخريا، أو
أنهم جعلوا بدل دينهم اللهو واللعب، واستعاضوا بذلك عن الدين القيم.

{
وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } بزينتها وزخرفها وكثرة دعاتها،
فاطمأنوا إليها ورضوا بها وفرحوا، وأعرضوا عن الآخرة ونسوها.

{
فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ } أي: نتركهم في العذاب { كَمَا نَسُوا لِقَاءَ
يَوْمِهِمْ هَذَا } فكأنهم لم يخلقوا إلا للدنيا، وليس أمامهم عرض ولا
جزاء.

{ وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } والحال أن جحودهم
هذا، لا عن قصور في آيات اللّه وبيناته.

بل قد { جِئْنَاهُمْ
بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ } أي: بينا فيه جميع المطالب التي يحتاج إليها
الخلق { عَلَى عِلْمٍ } من اللّه بأحوال العباد في كل زمان ومكان، وما يصلح
لهم وما لا يصلح، ليس تفصيله تفصيل غير عالم بالأمور، فتجهله بعض الأحوال،
فيحكم حكما غير مناسب، بل تفصيل من أحاط علمه بكل شيء، ووسعت رحمته كل
شيء.

{ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي: تحصل للمؤمنين
بهذا الكتاب الهداية من الضلال، وبيان الحق والباطل، والغيّ والرشد، ويحصل
أيضا لهم به الرحمة، وهي: الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، فينتفى عنهم
بذلك الضلال والشقاء.

وهؤلاء الذين حق عليهم العذاب، لم يؤمنوا بهذا
الكتاب العظيم، ولا انقادوا لأوامره ونواهيه، فلم يبق فيهم حيلة إلا
استحقاقهم أن يحل بهم ما أخبر به القرآن.

ولهذا قال: { هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ } أي: وقوع ما أخبر به كما قال يوسف عليه
السلام حين وقعت رؤياه: { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ }

{
يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ }
متندمين متأسفين على ما مضى منهم، متشفعين في مغفرة ذنوبهم. مقرين بما
أخبرت به الرسل: { قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا
مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ } إلى الدنيا { فَنَعْمَلَ
غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } وقد فات الوقت عن الرجوع إلى الدنيا. {
فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }

وسؤالهم الرجوع إلى
الدنيا، ليعملوا غير عملهم كذب منهم، مقصودهم به، دفع ما حل بهم، قال
تعالى: { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ }

{ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } حين فوتوها الأرباح،
وسلكوا بها سبيل الهلاك، وليس ذلك كخسران الأموال والأثاث أو الأولاد،
إنما هذا خسران لا جبران لمصابه، { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ } في الدنيا مما تمنيهم أنفسهم به، ويعدهم به الشيطان، قدموا
على ما لم يكن لهم في حساب، وتبين لهم باطلهم وضلالهم، وصدق ما جاءتهم به
الرسل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 5:32 pm

{ 54 } { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي
اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }

يقول تعالى مبينا أنه الرب
المعبود وحده لا شريك له: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } وما فيهما على عظمهما وسعتهما، وإحكامهما،
وإتقانهما، وبديع خلقهما.

{ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أولها يوم
الأحد، وآخرها يوم الجمعة، فلما قضاهما وأودع فيهما من أمره ما أودع {
اسْتَوَى } تبارك وتعالى { عَلَى الْعَرْشِ } العظيم الذي يسع السماوات
والأرض وما فيهما وما بينهما، استوى استواء يليق بجلاله وعظمته وسلطانه،
فاستوى على العرش، واحتوى على الملك، ودبر الممالك، وأجرى عليهم أحكامه
الكونية، وأحكامه الدينية، ولهذا قال: { يُغْشِي اللَّيْلَ } المظلم {
النَّهَارَ } المضيء، فيظلم ما على وجه الأرض، ويسكن الآدميون، وتأوى
المخلوقات إلى مساكنها، ويستريحون من التعب، والذهاب والإياب الذي حصل لهم
في النهار.

{ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } كلما جاء الليل ذهب النهار،
وكلما جاء النهار ذهب الليل، وهكذا أبدا على الدوام، حتى يطوي اللّه هذا
العالم، وينتقل العباد إلى دار غير هذه الدار.

{ وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } أي: بتسخيره وتدبيره،
الدال على ما له من أوصاف الكمال، فخلْقُها وعظَمُها دالٌّ على كمال قدرته،
وما فيها من الإحكام والانتظام والإتقان دال على كمال حكمته، وما فيها من
المنافع والمصالح الضرورية وما دونها دال على سعة رحمته وذلك دال على سعة
علمه، وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له.

{ أَلَا لَهُ
الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } أي: له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها
وسفليها، أعيانها وأوصافها وأفعالها والأمر المتضمن للشرائع والنبوات،
فالخلق: يتضمن أحكامه الكونية القدرية، والأمر: يتضمن أحكامه الدينية
الشرعية، وثم أحكام الجزاء، وذلك يكون في دار البقاء، { تَبَارَكَ اللَّهُ }
أي: عظم وتعالى وكثر خيره وإحسانه، فتبارك في نفسه لعظمة أوصافه وكمالها،
وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل والبر الكثير، فكل بركة في الكون، فمن
آثار رحمته، ولهذا قال: فـ { تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }

ولما
ذكر من عظمته وجلاله ما يدل ذوي الألباب على أنه وحده، المعبود المقصود في
الحوائج كلها أمر بما يترتب على ذلك، فقال: { ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا
فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ
رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }


{ 55 - 56 } {
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا
وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ }

الدعاء يدخل فيه دعاء المسألة، ودعاء العبادة،
فأمر بدعائه { تَضَرُّعًا } أي: إلحاحا في المسألة، ودُءُوبا في العبادة، {
وَخُفْيَةً } أي: لا جهرا وعلانية، يخاف منه الرياء، بل خفية وإخلاصا للّه
تعالى.

{ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي: المتجاوزين
للحد في كل الأمور، ومن الاعتداء كون العبد يسأل اللّه مسائل لا تصلح له،
أو يتنطع في السؤال، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء، فكل هذا داخل في
الاعتداء المنهي عنه.

{ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ } بعمل
المعاصي { بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } بالطاعات، فإن المعاصي تفسد الأخلاق
والأعمال والأرزاق، كما قال تعالى: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } كما أن الطاعات تصلح بها
الأخلاق، والأعمال، والأرزاق، وأحوال الدنيا والآخرة.

{ وَادْعُوهُ
خَوْفًا وَطَمَعًا } أي: خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه، طمعا في قبولها،
وخوفا من ردها، لا دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه، ونزل نفسه فوق
منزلته، أو دعاء من هو غافل لاَهٍ.

وحاصل ما ذكر اللّه من آداب
الدعاء: الإخلاص فيه للّه وحده، لأن ذلك يتضمنه الخفية، وإخفاؤه وإسراره،
وأن يكون القلب خائفا طامعا لا غافلا، ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة،
وهذا من إحسان الدعاء، فإن الإحسان في كل عبادة بذل الجهد فيها، وأداؤها
كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، ولهذا قال: { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ
قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } في عبادة اللّه، المحسنين إلى عباد اللّه،
فكلما كان العبد أكثر إحسانا، كان أقرب إلى رحمة ربه، وكان ربه قريبا منه
برحمته، وفي هذا من الحث على الإحسان ما لا يخفى.


{ 57 - 58 } {
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ
حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ
كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا
يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَشْكُرُونَ }

يبين تعالى أثرا من آثار قدرته، ونفحة من نفحات رحمته
فقال: { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ
رَحْمَتِهِ } أي: الرياح المبشرات بالغيث، التي تثيره بإذن اللّه من الأرض،
فيستبشر الخلق برحمة اللّه، وترتاح لها قلوبهم قبل نزوله.

{ حَتَّى
إِذَا أَقَلَّتْ } الرياح { سَحَابًا ثِقَالًا } قد أثاره بعضها، وألفه
ريح أخرى، وألحقه ريح أخرى { سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ } قد كادت تهلك
حيواناته، وكاد أهله أن ييأسوا من رحمة اللّه، { فَأَنْزَلْنَا بِهِ } أي:
بذلك البلد الميت { الْمَاءُ } الغزير من ذلك السحاب وسخر اللّه له ريحا
تدره وتفرقه بإذن اللّه.

{ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ } فأصبحوا مستبشرين برحمة اللّه، راتعين بخير اللّه، وقوله: {
كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي: كما أحيينا
الأرض بعد موتها بالنبات، كذلك نخرج الموتى من قبورهم، بعد ما كانوا رفاتا
متمزقين، وهذا استدلال واضح، فإنه لا فرق بين الأمرين، فمنكر البعث
استبعادا له - مع أنه يرى ما هو نظيره - من باب العناد، وإنكار المحسوسات.

وفي
هذا الحث على التذكر والتفكر في آلاء اللّه والنظر إليها بعين الاعتبار
والاستدلال، لا بعين الغفلة والإهمال.

ثم ذكر تفاوت الأراضي، التي
ينزل عليها المطر، فقال: { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } أي: طيب التربة
والمادة، إذا نزل عليه مطر { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ } الذي هو مستعد له {
بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي: بإرادة اللّه ومشيئته، فليست الأسباب مستقلة بوجود
الأشياء، حتى يأذن اللّه بذلك.

{ وَالَّذِي خَبُثَ } من الأراضي {
لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا } أي: إلا نباتا خاسا لا نفع فيه ولا بركة.

{
كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } أي: ننوعها ونبينها
ونضرب فيها الأمثال ونسوقها لقوم يشكرون اللّه بالاعتراف بنعمه، والإقرار
بها، وصرفها في مرضاة اللّه، فهم الذين ينتفعون بما فصل اللّه في كتابه من
الأحكام والمطالب الإلهية، لأنهم يرونها من أكبر النعم الواصلة إليهم من
ربهم، فيتلقونها مفتقرين إليها فرحين بها، فيتدبرونها ويتأملونها، فيبين
لهم من معانيها بحسب استعدادهم، وهذا مثال للقلوب حين ينزل عليها الوحي
الذي هو مادة الحياة، كما أن الغيث مادة الحيا، فإن القلوب الطيبة حين
يجيئها الوحي، تقبله وتعلمه وتنبت بحسب طيب أصلها، وحسن عنصرها.

وأما
القلوب الخبيثة التي لا خير فيها، فإذا جاءها الوحي لم يجد محلا قابلا، بل
يجدها غافلة معرضة، أو معارضة، فيكون كالمطر الذي يمر على السباخ والرمال
والصخور، فلا يؤثر فيها شيئا، وهذا كقوله تعالى: { أَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ
زَبَدًا رَابِيًا } الآيات.


{ 59 - 64 } { لَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ }

إلى آخر القصة لما ذكر تعالى من أدلة
توحيده جملة صالحة، أيد ذلك بذكر ما جرى للأنبياء الداعين إلى توحيده مع
أممهم المنكرين لذلك، وكيف أيد اللّه أهل التوحيد، وأهلك من عاندهم ولم
يَنْقَدْ لهم، وكيف اتفقت دعوة المرسلين على دين واحد ومعتقد واحد، فقال عن
نوح - أول المرسلين -: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ }
يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده، حين كانوا يعبدون الأوثان { فَقَالَ } لهم: {
يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ } أي: وحده { مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ } لأنه الخالق الرازق المدبِّر لجميع الأمور، وما سواه مخلوق
مدبَّر، ليس له من الأمر شيء، ثم خوفهم إن لم يطيعوه عذاب اللّه، فقال: {
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وهذا من نصحه عليه
الصلاة والسلام وشفقته عليهم، حيث خاف عليهم العذاب الأبدي، والشقاء
السرمدي، كإخوانه من المرسلين الذين يشفقون على الخلق أعظم من شفقة آبائهم
وأمهاتهم، فلما قال لهم هذه المقالة، ردوا عليه أقبح رد.

{ قَالَ
الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ } أي: الرؤساء الأغنياء المتبوعون الذين قد جرت
العادة باستكبارهم على الحق، وعدم انقيادهم للرسل، { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ } فلم يكفهم - قبحهم اللّه - أنهم لم ينقادوا له، بل
استكبروا عن الانقياد له، وقدحوا فيه أعظم قدح، ونسبوه إلى الضلال، ولم
يكتفوا بمجرد الضلال حتى جعلوه ضلالا مبينا واضحا لكل أحد.

وهذا من
أعظم أنواع المكابرة، التي لا تروج على أضعف الناس عقلا، وإنما هذا الوصف
منطبق على قوم نوح، الذين جاءوا إلى أصنام قد صوروها ونحتوها بأيديهم، من
الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عنهم شيئا، فنزلوها منزلة فاطر
السماوات، وصرفوا لها ما أمكنهم من أنواع القربات، فلولا أن لهم أذهانا
تقوم بها حجة اللّه عليهم لحكم عليهم بأن المجانين أهدى منهم، بل هم أهدى
منهم وأعقل، فرد نوح عليهم ردا لطيفا، وترقق لهم لعلهم ينقادون له فقال: {
يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ }

{ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي
ضَلَالَةٌ } أي: لست ضالا في مسألة من المسائل بوجه من الوجوه، وإنما أنا
هاد مهتد، بل هدايته عليه الصلاة والسلام من جنس هداية إخوانه، أولي العزم
من المرسلين، أعلى أنواع الهدايات وأكملها وأتمها، وهي هداية الرسالة
التامة الكاملة، ولهذا قال: { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
} أي: ربي وربكم ورب جميع الخلق، الذي ربى جميع الخلق بأنواع التربية،
الذي من أعظم تربيته أن أرسل إلى عباده رسلا تأمرهم بالأعمال الصالحة
والأخلاق الفاضلة والعقائد الحسنة وتنهاهم عن أضدادها، ولهذا قال:

{
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ } أي: وظيفتي تبليغكم،
ببيان توحيده وأوامره ونواهيه، على وجه النصيحة لكم والشفقة عليكم، {
وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فالذي يتعين أن تطيعوني
وتنقادوا لأمري إن كنتم تعلمون.

{ أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ
ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ } أي: كيف تعجبون من حالة لا
ينبغي العجب منها، وهو أن جاءكم التذكير والموعظة والنصيحة، على يد رجل
منكم، تعرفون حقيقته وصدقه وحاله؟" فهذه الحال من عناية اللّه بكم وبره
وإحسانه الذي يتلقى بالقبول والشكر، وقوله: { لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا
وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي: لينذركم العذاب الأليم، وتفعلوا الأسباب
المنجية من استعمال تقوى اللّه ظاهرا وباطنا، وبذلك تحصل عليهم وتنزل رحمة
اللّه الواسعة.

فلم يفد فيهم، ولا نجح { فَكَذَّبُوهُ
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ } أي: السفينة التي أمر
اللّه نوحا عليه الصلاة والسلام بصنعتها، وأوحى إليه أن يحمل من كل صنف من
الحيوانات، زوجين اثنين وأهله ومن آمن معه، فحملهم فيها ونجاهم اللّه بها.

{
وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا
عَمِينَ } عن الهدى، أبصروا الحق، وأراهم اللّه - على يد نوح - من الآيات
البينات، ما بهم يؤمن أولوا الألباب، فسخروا منه، واستهزءوا به وكفروا.

{
65 - 72 } { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } إلى آخر القصة

أي: {
و } أرسلنا { إِلَى عَادٍ } الأولى، الذين كانوا في أرض اليمن { أَخَاهُمْ
} في النسب { هُودًا } عليه السلام، يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك
والطغيان في الأرض.

فـ { قَالَ } لهم: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ } سخطه
وعذابه، إن أقمتم على ما أنتم عليه، فلم يستجيبوا ولا انقادوا.

فـ {
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } رادين لدعوته، قادحين
في رأيه: { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ } أي: ما نراك إلا سفيها غير رشيد، ويغلب على ظننا أنك من
جملة الكاذبين، وقد انقلبت عليهم الحقيقة، واستحكم عماهم حيث رموا نبيهم
عليه السلام بما هم متصفون به، وهو أبعد الناس عنه، فإنهم السفهاء حقا
الكاذبون.

وأي سفه أعظم ممن قابل أحق الحق بالرد والإنكار، وتكبر عن
الانقياد للمرشدين والنصحاء، وانقاد قلبه وقالبه لكل شيطان مريد، ووضع
العبادة في غير موضعها، فعبد من لا يغني عنه شيئا من الأشجار والأحجار؟"

وأي:
كذب أبلغ من كذب من نسب هذه الأمور إلى اللّه تعالى؟"

{ قَالَ يَا
قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ } بوجه من الوجوه، بل هو الرسول المرشد
الرشيد، { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ
رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ }

فالواجب عليكم
أن تتلقوا ذلك بالقبول والانقياد وطاعة رب العباد.



{ أَوَ
عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ
لِيُنْذِرَكُمْ } أي: كيف تعجبون من أمر لا يتعجب منه، وهو أن اللّه أرسل
إليكم رجلا منكم تعرفون أمره، يذكركم بما فيه مصالحكم، ويحثكم على ما فيه
النفع لكم، فتعجبتم من ذلك تعجب المنكرين.

{ وَاذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } أي: واحمدوا ربكم
واشكروه، إذ مكن لكم في الأرض، وجعلكم تخلفون الأمم الهالكة الذين كذبوا
الرسل، فأهلكهم اللّه وأبقاكم، لينظر كيف تعملون، واحذروا أن تقيموا على
التكذيب كما أقاموا، فيصيبكم ما أصابهم، { و } اذكروا نعمة اللّه عليكم
التي خصكم بها، وهي أن { زَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً } في القوة وكبر
الأجسام، وشدة البطش، { فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ } أي: نعمه الواسعة،
وأياديه المتكررة { لَعَلَّكُمْ } إذا ذكرتموها بشكرها وأداء حقها {
تُفْلِحُونَ } أي: تفوزون بالمطلوب، وتنجون من المرهوب، فوعظهم وذكرهم،
وأمرهم بالتوحيد، وذكر لهم وصف نفسه، وأنه ناصح أمين، وحذرهم أن يأخذهم
اللّه كما أخذ من قبلهم، وذكرهم نعم اللّه عليهم وإدرار الأرزاق إليهم، فلم
ينقادوا ولا استجابوا.

فـ { قَالُوا } متعجبين من دعوته، ومخبرين
له أنهم من المحال أن يطيعوه: { أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ
وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } قبحهم اللّه، جعلوا الأمر الذي هو
أوجب الواجبات وأكمل الأمور، من الأمور التي لا يعارضون بها ما وجدوا عليه
آباءهم، فقدموا ما عليه الآباء الضالون من الشرك وعبادة الأصنام، على ما
دعت إليه الرسل من توحيد اللّه وحده لا شريك له، وكذبوا نبيهم، وقالوا: {
فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } وهذا استفتاح
منهم على أنفسهم.

فقَالَ لهم هود عليه السلام: { قَدْ وَقَعَ
عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } أي: لا بد من وقوعه، فإنه قد
انعقدت أسبابه، وحان وقت الهلاك.

{ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ } أي: كيف تجادلون على أمور، لا
حقائق لها، وعلى أصنام سميتوها آلهة، وهي لا شيء من الآلهة فيها، ولا مثقال
ذرة و { مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } فإنها لو كانت صحيحة
لأنزل اللّه بها سلطانا، فعدم إنزاله له دليل على بطلانها، فإنه ما من
مطلوب ومقصود - وخصوصا الأمور الكبار - إلا وقد بين اللّه فيها من الحجج،
ما يدل عليها، ومن السلطان، ما لا تخفى معه.

{ فَانْتَظِرُوا } ما
يقع بكم من العقاب، الذي وعدتكم به { إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ
الْمُنْتَظِرِينَ } وفرق بين الانتظارين، انتظار من يخشى وقوع العقاب، ومن
يرجو من اللّه النصر والثواب، ولهذا فتح اللّه بين الفريقين فقال:

{
فَأَنْجَيْنَاهُ } أي: هودا { وَالَّذِينَ } آمنوا { مَعَهُ بِرَحْمَةٍ
مِنَّا } فإنه الذي هداهم للإيمان، وجعل إيمانهم سببا ينالون به رحمته
فأنجاهم برحمته، { وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا }
أي: استأصلناهم بالعذاب الشديد الذي لم يبق منهم أحدا، وسلط اللّه عليهم
الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، فأهلكوا فأصبحوا
لا يرى إلا مساكنهم، فانظر كيف كان عاقبة المنذرين الذين أقيمت عليهم
الحجج، فلم ينقادوا لها، وأمروا بالإيمان فلم يؤمنوا فكان عاقبتهم الهلاك،
والخزي والفضيحة.

{ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا
بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ }

وقال هنا { وَقَطَعْنَا دَابِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ } بوجه من
الوجوه، بل وصفهم التكذيب والعناد، ونعتهم الكبر والفساد.

{ 73 - 79
} { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا } إلى آخر قصتهم .

أي { و }
أرسلنا { إِلَى ثَمُودَ } القبيلة المعروفة الذين كانوا يسكنون الحجر وما
حوله، من أرض الحجاز وجزيرة العرب، أرسل اللّه إليهم { أَخَاهُمْ صَالِحًا }
نبيا يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد، وينهاهم عن الشرك والتنديد، فـ { قَالَ
يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } دعوته
عليه الصلاة والسلام من جنس دعوة إخوانه من المرسلين، الأمر بعبادة اللّه،
وبيان أنه ليس للعباد إله غير اللّه، { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ } أي: خارق من خوارق العادات، التي لا تكون إلا آية سماوية لا
يقدر الناس عليها، ثم فسرها بقوله: { هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً }
أي: هذه ناقة شريفة فاضلة لإضافتها إلى اللّه تعالى إضافة تشريف، لكم فيها
آية عظيمة. وقد ذكر وجه الآية في قوله: { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ
يَوْمٍ مَعْلُومٍ }

وكان عندهم بئر كبيرة، وهي المعروفة ببئر
الناقة، يتناوبونها هم والناقة، للناقة يوم تشربها ويشربون اللبن من ضرعها،
ولهم يوم يردونها، وتصدر الناقة عنهم.

وقال لهم نبيهم صالح عليه
السلام { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ } فلا عليكم من مئونتها
شيء، { وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ } أي: بعقر أو غيره، { فَيَأْخُذَكُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ }

{ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ } في
الأرض تتمتعون بها وتدركون مطالبكم { مِنْ بَعْدِ عَادٍ } الذين أهلكهم
اللّه، وجعلكم خلفاء من بعدهم، { وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ } أي: مكن
لكم فيها، وسهل لكم الأسباب الموصلة إلى ما تريدون وتبتغون { تَتَّخِذُونَ
مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا } أي: من الأراضي السهلة التي ليست بجبال، تتخذون
فيها القصور العالية والأبنية الحصينة، { وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ
بُيُوتًا } كما هو مشاهد إلى الآن من أعمالهم التي في الجبال، من المساكن
والحجر ونحوها، وهي باقية ما بقيت الجبال، { فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ }
أي: نعمه، وما خولكم من الفضل والرزق والقوة، { وَلَا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أي: لا تخربوا الأرض بالفساد والمعاصي، فإن
المعاصي تدع الديار العامرة بلاقع، وقد أخلت ديارهم منهم، وأبقت مساكنهم
موحشة بعدهم.

{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ
قَوْمِهِ } أي: الرؤساء والأشراف الذين تكبروا عن الحق، { لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا } ولما كان المستضعفون ليسوا كلهم مؤمنين، قالوا { لِمَنْ
آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ } أي:
أهو صادق أم كاذب؟.

فقال المستضعفون: { إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ
مُؤْمِنُونَ } من توحيد اللّه والخبر عنه وأمره ونهيه.

{ قَالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ }
حملهم الكبر أن لا ينقادوا للحق الذي انقاد له الضعفاء.

{
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ } التي توعدهم إن مسوها بسوء أن يصيبهم عذاب أليم، {
وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } أي: قسوا عنه، واستكبروا عن أمره الذي
من عتا عنه أذاقه العذاب الشديد. لا جرم أحل اللّه بهم من النكال ما لم يحل
بغيرهم { وَقَالُوا } مع هذه الأفعال متجرئين على اللّه، معجزين له، غير
مبالين بما فعلوا، بل مفتخرين بها: { يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا
} إن كنت من الصادقين من العذاب فقال: { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ
ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ }

{
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } على
ركبهم، قد أبادهم اللّه، وقطع دابرهم.

{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ } صالح
عليه السلام حين أحل اللّه بهم العذاب، { وَقَالَ } مخاطبا لهم توبيخا
وعتابا بعدما أهلكهم اللّه: { يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ
رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } أي: جميع ما أرسلني اللّه به إليكم، قد أبلغتكم
به وحرصت على هدايتكم، واجتهدت في سلوككم الصراط المستقيم والدين القويم. {
وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } بل رددتم قول النصحاء، وأطعتم كل
شيطان رجيم.

واعلم أن كثيرا من المفسرين يذكرون في هذه القصة أن
الناقة قد خرجت من صخرة صماء ملساء اقترحوها على صالح وأنها تمخضت تمخض
الحامل فخرجت الناقة وهم ينظرون وأن لها فصيلا حين عقروها رغى ثلاث رغيات
وانفلق له الجبل ودخل فيه وأن صالحا عليه السلام قال لهم: آية نزول العذاب
بكم، أن تصبحوا في اليوم الأول من الأيام الثلاثة ووجوهكم مصفرة، واليوم
الثاني: محمرة، والثالث: مسودة، فكان كما قال.

وكل هذا من
الإسرائيليات التي لا ينبغي نقلها في تفسير كتاب اللّه، وليس في القرآن ما
يدل على شيء منها بوجه من الوجوه، بل لو كانت صحيحة لذكرها اللّه تعالى،
لأن فيها من العجائب والعبر والآيات ما لا يهمله تعالى ويدع ذكره، حتى يأتي
من طريق من لا يوثق بنقله، بل القرآن يكذب بعض هذه المذكورات، فإن صالحا
قال لهم: { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } أي: تنعموا
وتلذذوا بهذا الوقت القصير جدا، فإنه ليس لكم من المتاع واللذة سوى هذا،
وأي لذة وتمتع لمن وعدهم نبيهم وقوع العذاب، وذكر لهم وقوع مقدماته، فوقعت
يوما فيوما، على وجه يعمهم ويشملهم [احمرار وجوههم، واصفرارها واسودادها من
العذاب]

هل هذا إلا مناقض للقرآن، ومضاد له؟". فالقرآن فيه الكفاية
والهداية عن ما سواه.

نعم لو صح شيء عن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وسلم مما لا يناقض كتاب اللّه، فعلى الرأس والعين، وهو مما أمر القرآن
باتباعه { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا } وقد تقدم أنه لا يجوز تفسير كتاب اللّه بالأخبار
الإسرائيلية، ولو على تجويز الرواية عنهم بالأمور التي لا يجزم بكذبها، فإن
معاني كتاب اللّه يقينية، وتلك أمور لا تصدق ولا تكذب، فلا يمكن اتفاقهما.


{
80 - 84 } { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا
سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } إلى آخر القصة .

أي:
{ و ْ} اذكر عبدنا { لُوطًا ْ} عليه الصلاة والسلام، إذ أرسلناه إلى قومه
يأمرهم بعبادة اللّه وحده، وينهاهم عن الفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من
العالمين، فقال: { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ْ} أي: الخصلة التي بلغت - في
العظم والشناعة - إلى أن استغرقت أنواع الفحش، { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ
أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ْ} فكونها فاحشة من أشنع الأشياء، وكونهم
ابتدعوها وابتكروها، وسنوها لمن بعدهم، من أشنع ما يكون أيضا.

ثم
بينها بقوله: { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ
النِّسَاءِ ْ} أي: كيف تذرون النساء اللاتي خلقهن اللّه لكم، وفيهن
المستمتع الموافق للشهوة والفطرة، وتقبلون على أدبار الرجال، التي هي غاية
ما يكون في الشناعة والخبث، ومحل تخرج منه الأنتان والأخباث، التي يستحيي
من ذكرها فضلا عن ملامستها وقربها، { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ْ}
أي: متجاوزون لما حده اللّه متجرئون على محارمه.

{ وَمَا كَانَ
جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ
إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ْ} أي: يتنزهون عن فعل الفاحشة. { وَمَا
نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
ْ} .



{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ
كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ْ} أي: الباقين المعذبين، أمره اللّه أن يسري
بأهله ليلا، فإن العذاب مصبح قومه فسرى بهم، إلا امرأته أصابها ما أصابهم.

{
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا ْ} أي: حجارة حارة شديدة، من سجيل، وجعل
اللّه عاليها سافلها، { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ
ْ} الهلاك والخزي الدائم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 5:39 pm

{
85 - 87 ْ} { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ْ} ... إلى آخر القصة

أي:
{ و ْ} أرسلنا إلى القبيلة المعروفة بمدين { أَخَاهُمْ ْ} في النسب {
شُعَيْبًا ْ} يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، ويأمرهم بإيفاء
المكيال والميزان، وأن لا يبخسوا الناس أشياءهم، وأن لا يعثوا في الأرض
مفسدين، بالإكثار من عمل المعاصي، ولهذا قال: { وَلَا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ ْ} فإن ترك المعاصي امتثالا لأمر اللّه وتقربا إليه خير، وأنفع
للعبد من ارتكابها الموجب لسخط الجبار، وعذاب النار.

{ وَلَا
تَقْعُدُوا ْ} للناس { بِكُلِّ صِرَاطٍ ْ} أي: طريق من الطرق التي يكثر
سلوكها، تحذرون الناس منها { و ْ} { تُوعَدُونَ ْ} من سلكها { وَتَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ْ} من أراد الاهتداء به { وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ْ}
أي: تبغون سبيل اللّه تكون معوجة، وتميلونها اتباعا لأهوائكم، وقد كان
الواجب عليكم وعلى غيركم الاحترام والتعظيم للسبيل التي نصبها اللّه لعباده
ليسلكوها إلى مرضاته ودار كرامته، ورحمهم بها أعظم رحمة، وتصدون لنصرتها
والدعوة إليها والذب عنها، لا أن تكونوا أنتم قطاع طريقها، الصادين الناس
عنها، فإن هذا كفر لنعمة اللّه ومحادة للّه، وجعل أقوم الطرق وأعدلها
مائلة، وتشنعون على من سلكها.

{ وَاذْكُرُوا ْ} نعمة اللّه عليكم {
إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ْ} أي: نماكم بما أنعم عليكم من
الزوجات والنسل، والصحة، وأنه ما ابتلاكم بوباء أو أمراض من الأمراض
المقللة لكم، ولا سلط عليكم عدوا يجتاحكم ولا فرقكم في الأرض، بل أنعم
عليكم باجتماعكم، وإدرار الأرزاق وكثرة النسل.

{ وَانْظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ْ} فإنكم لا تجدون في جموعهم إلا الشتات،
ولا في ربوعهم إلا الوحشة والانبتات ولم يورثوا ذكرا حسنا، بل أتبعوا في
هذه الدنيا لعنة، ويوم القيامة أشد خزيا وفضيحة.

{ وَإِنْ كَانَ
طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ
يُؤْمِنُوا ْ} وهم الجمهور منهم. { فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ
بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ْ} فينصر المحق، ويوقع العقوبة على
المبطل.

{ 88 - 93 ْ} { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ ْ} وهم الأشراف والكبراء منهم الذين اتبعوا أهواءهم ولهوا
بلذاتهم، فلما أتاهم الحق ورأوه غير موافق لأهوائهم الرديئة، ردوه
واستكبروا عنه، فقالوا لنبيهم شعيب ومن معه من المؤمنين المستضعفين: {
لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا
أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ْ} استعملوا قوتهم السبعية، في مقابلة
الحق، ولم يراعوا دينا ولا ذمة ولا حقا، وإنما راعوا واتبعوا آهواءهم
وعقولهم السفيهة التي دلتهم على هذا القول الفاسد، فقالوا: إما أن ترجع أنت
ومن معك إلى ديننا أو لنخرجنكم من قريتنا.

فـ { شعيب ْ} عليه
الصلاة والسلام كان يدعوهم طامعا في إيمانهم، والآن لم يسلم من شرهم، حتى
توعدوه إن لم يتابعهم - بالجلاء عن وطنه، الذي هو ومن معه أحق به منهم.

فـ
{ قَالَ ْ} لهم شعيب عليه الصلاة والسلام متعجبا من قولهم: { أَوَ لَوْ
كُنَّا كَارِهِينَ ْ} أي: أنتابعكم على دينكم وملتكم الباطلة، ولو كنا
كارهين لها لعلمنا ببطلانها، فإنما يدعى إليها من له نوع رغبة فيها، أما من
يعلن بالنهي عنها، والتشنيع على من اتبعها فكيف يدعى إليها؟"

{
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ
بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ْ} أي: اشهدوا علينا أننا إن عدنا
إليها بعد ما نجانا اللّه منها وأنقذنا من شرها، أننا كاذبون مفترون على
اللّه الكذب، فإننا نعلم أنه لا أعظم افتراء ممن جعل للّه شريكا، وهو
الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يتخذ ولدا ولا صاحبة، ولا شريكا في
الملك.

{ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا ْ} أي: يمتنع على
مثلنا أن نعود فيها، فإن هذا من المحال، فآيسهم عليه الصلاة والسلام من
كونه يوافقهم من وجوه متعددة، من جهة أنهم كارهون لها مبغضون لما هم عليه
من الشرك. ومن جهة أنه جعل ما هم عليه كذبا، وأشهدهم أنه إن اتبعهم ومن معه
فإنهم كاذبون.

ومنها: اعترافهم بمنة اللّه عليهم إذ أنقذهم اللّه
منها.

ومنها: أن عودهم فيها - بعد ما هداهم اللّه - من المحالات،
بالنظر إلى حالتهم الراهنة، وما في قلوبهم من تعظيم اللّه تعالى والاعتراف
له بالعبودية، وأنه الإله وحده الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك
له، وأن آلهة المشركين أبطل الباطل، وأمحل المحال.

وحيث إن اللّه
منَّ عليهم بعقول يعرفون بها الحق والباطل، والهدى والضلال.

وأما من
حيث النظر إلى مشيئة اللّه وإرادته النافذة في خلقه، التي لا خروج لأحد
عنها، ولو تواترت الأسباب وتوافقت القوى، فإنهم لا يحكمون على أنفسهم أنهم
سيفعلون شيئا أو يتركونه، ولهذا استثنى { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ
فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ْ} أي: فلا يمكننا ولا
غيرنا، الخروج عن مشيئته التابعة لعلمه وحكمته، وقد { وَسِعَ رَبُّنَا
كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ْ} فيعلم ما يصلح للعباد وما يدبرهم عليه. { عَلَى
اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ْ} أي: اعتمدنا أنه سيثبتنا على الصراط المستقيم، وأن
يعصمنا من جميع طرق الجحيم، فإن من توكل على اللّه، كفاه، ويسر له أمر
دينه ودنياه.

{ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ ْ} أي: انصر المظلوم، وصاحب الحق، على الظالم المعاند للحق {
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ْ} وفتحه تعالى لعباده نوعان: فتح العلم،
بتبيين الحق من الباطل، والهدى من الضلال، ومن هو من المستقيمين على
الصراط، ممن هو منحرف عنه.

والنوع الثاني: فتحه بالجزاء وإيقاع
العقوبة على الظالمين، والنجاة والإكرام للصالحين، فسألوا اللّه أن يفتح
بينهم وبين قومهم بالحق والعدل، وأن يريهم من آياته وعبره ما يكون فاصلا
بين الفريقين.

{ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
قَوْمِهِ ْ} محذرين عن اتباع شعيب، { لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا
إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ْ} هذا ما سولت لهم أنفسهم أن الخسارة
والشقاء في اتباع الرشد والهدى، ولم يدروا أن الخسارة كل الخسارة في لزوم
ما هم عليه من الضلال والإضلال، وقد علموا ذلك حين وقع بهم النكال.

{
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ْ} أي: الزلزلة الشديدة { فَأَصْبَحُوا فِي
دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ْ} أي: صرعى ميتين هامدين.

قال تعالى ناعيا
حالهم { الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ْ}
أي: كأنهم ما أقاموا في ديارهم، وكأنهم ما تمتعوا في عرصاتها، ولا تفيئوا
في ظلالها، ولا غنوا في مسارح أنهارها، ولا أكلوا من ثمار أشجارها، حين
فاجأهم العذاب، فنقلهم من مورد اللهو واللعب واللذات، إلى مستقر الحزن
والشقاء والعقاب والدركات ولهذا قال: { الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا
كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ْ} أي: الخسار محصور فيهم، لأنهم خسروا دينهم
وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين، لا من قالوا لهم:
{ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ْ}

فحين
هلكوا تولى عنهم نبيهم شعيب عليه الصلاة والسلام { وَقَالَ ْ} معاتبا
وموبخا ومخاطبا بعد موتهم: { يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ
رَبِّي ْ} أي: أوصلتها إليكم، وبينتها حتى بلغت منكم أقصى ما يمكن أن تصل
إليه، وخالطت أفئدتكم { وَنَصَحْتُ لَكُمْ ْ} فلم تقبلوا نصحي، ولا انقدتم
لإرشادي، بل فسقتم وطغيتم.

{ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ
ْ} أي: فكيف أحزن على قوم لا خير فيهم، أتاهم الخير فردوه ولم يقبلوه ولا
يليق بهم إلا الشر، فهؤلاء غير حقيقين أن يحزن عليهم، بل يفرح بإهلاكهم
ومحقهم. فعياذا بك اللهم من الخزي والفضيحة، وأي: شقاء وعقوبة أبلغ من أن
يصلوا إلى حالة يتبرأ منهم أنصح الخلق لهم؟".

{ 94 - 95 ْ} { وَمَا
أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا
بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ
بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا
قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ْ}

يقول تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ ْ} يدعوهم إلى عبادة اللّه، وينهاهم عن ما هم فيه من
الشر، فلم ينقادوا له: إلا ابتلاهم الله { بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ
ْ} أي: بالفقر والمرض وأنواع البلايا { لَعَلَّهُمْ ْ} إذا أصابتهم، أخضعت
نفوسهم فتضرعوا إلى الله واستكانوا للحق.

{ ثُمَّ ْ} إذا لم يفد
فيهم، واستمر استكبارهم، وازداد طغيانهم.

{ بَدَّلْنَا مَكَانَ
السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ْ} فَأدَرَّ عليهم الأرزاق، وعافى أبدانهم، ورفع
عنهم البلاء { حَتَّى عَفَوْا ْ} أي: كثروا، وكثرت أرزاقهم وانبسطوا في
نعمة اللّه وفضله، ونسوا ما مر عليهم من البلاء. { وَقَالُوا قَدْ مَسَّ
آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ْ} أي: هذه عادة جارية لم تزل موجودة
في الأولين واللاحقين، تارة يكونون في سراء وتارة في ضراء، وتارة في فرح،
ومرة في ترح، على حسب تقلبات الزمان وتداول الأيام، وحسبوا أنها ليست
للموعظة والتذكير، ولا للاستدراج والنكير حتى إذا اغتبطوا، وفرحوا بما
أوتوا، وكانت الدنيا، أسر ما كانت إليهم، أخذناهم بالعذاب { بَغْتَةً
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ْ} أي: لا يخطر لهم الهلاك على بال، وظنوا أنهم
قادرون على ما آتاهم اللّه، وأنهم غير زائلين ولا منتقلين عنه.

{ 96
- 99 ْ} { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا
فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى
أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ
أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ *
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا
الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ْ}

لما ذكر تعالى أن المكذبين للرسل يبتلون
بالضراء موعظة وإنذارا، وبالسراء استدراجا ومكرا، ذكر أن أهل القرى، لو
آمنوا بقلوبهم إيمانا صادقا صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى اللّه تعالى
ظاهرا وباطنا بترك جميع ما حرم اللّه، لفتح عليهم بركات السماء والأرض،
فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش
بهائمهم، في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كد ولا نصب،
ولكنهم لم يؤمنوا ويتقوا { فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ْ}
بالعقوبات والبلايا ونزع البركات، وكثرة الآفات، وهي بعض جزاء أعمالهم،
وإلا فلو آخذهم بجميع ما كسبوا، ما ترك عليها من دابة. { ظَهَرَ الْفَسَادُ
فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ
بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ْ}

{ أَفَأَمِنَ
أَهْلُ الْقُرَى ْ} أي: المكذبة، بقرينة السياق { أَنْ يَأْتِيَهُمْ
بَأْسُنَا ْ} أي: عذابنا الشديد { بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ْ} أي: في
غفلتهم، وغرتهم وراحتهم.

{ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ْ} أي: أي شيء يؤمنهم من
ذلك، وهم قد فعلوا أسبابه، وارتكبوا من الجرائم العظيمة، ما يوجب بعضه
الهلاك؟!

{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ْ} حيث يستدرجهم من حيث لا
يعلمون، ويملي لهم، إن كيده متين، { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا
الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ْ} فإن من أمن من عذاب اللّه، فهو لم يصدق بالجزاء
على الأعمال، ولا آمن بالرسل حقيقة الإيمان.

وهذه الآية الكريمة
فيها من التخويف البليغ، على أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمنا على ما معه
من الإيمان.

بل لا يزال خائفا وجلا أن يبتلى ببلية تسلب ما معه من
الإيمان، وأن لا يزال داعيا بقوله: { يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ْ}
وأن يعمل ويسعى، في كل سبب يخلصه من الشر، عند وقوع الفتن، فإن العبد - ولو
بلغت به الحال ما بلغت - فليس على يقين من السلامة.


{ 100 -
102 ْ} { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ
أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ
مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا
كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ
اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ
مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ْ}

يقول
تعالى منبها للأمم الغابرين بعد هلاك الأمم الغابرين { أَوَ لَمْ يَهْدِ
لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ
أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ْ} أي: أو لم يتبين ويتضح للأمم الذين ورثوا
الأرض، بعد إهلاك من قبلهم بذنوبهم، ثم عملوا كأعمال أولئك المهلكين؟.

أو
لم يهتدوا أن اللّه، لو شاء لأصابهم بذنوبهم، فإن هذه سنته في الأولين
والآخرين.

وقوله: { وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا
يَسْمَعُونَ ْ} أي: إذا نبههم اللّه فلم ينتبهوا، وذكرهم فلم يتذكروا،
وهداهم بالآيات والعبر فلم يهتدوا، فإن اللّه تعالى يعاقبهم ويطبع على
قلوبهم، فيعلوها الران والدنس، حتى يختم عليها، فلا يدخلها حق، ولا يصل
إليها خير، ولا يسمعون ما ينفعهم، وإنما يسمعون ما به تقوم الحجة عليهم.

{
تِلْكَ الْقُرَى ْ} الذين تقدم ذكرهم { نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ
أَنْبَائِهَا ْ} ما يحصل به عبرة للمعتبرين، وازدجار للظالمين، وموعظة
للمتقين.

{ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ْ} أي:
ولقد جاءت هؤلاء المكذبين رسلهم تدعوهم إلى ما فيه سعادتهم، وأيدهم اللّه
بالمعجزات الظاهرة، والبينات المبينات للحق بيانا كاملا، ولكنهم لم يفدهم
هذا، ولا أغنى عنهم شيئا، { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا
مِنْ قَبْلُ ْ} أي: بسبب تكذيبهم وردهم الحق أول مرة، ما كان ليهديهم
للإيمان، جزاء لهم على ردهم الحق، كما قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ْ} { كَذَلِكَ
يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ْ} عقوبة منه. وما ظلمهم
اللّه ولكنهم ظلموا أنفسهم.

{ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ
عَهْدٍ ْ} أي: وما وجدنا لأكثر الأمم الذين أرسل اللّه إليهم الرسل من عهد،
أي: من ثبات والتزام لوصية اللّه التي أوصى بها جميع العالمين، ولا
انقادوا لأوامره التي ساقها إليهم على ألسنة رسله.

{ وَإِنْ
وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ْ} أي: خارجين عن طاعة اللّه، متبعين
لأهوائهم بغير هدى من اللّه، فاللّه تعالى امتحن العباد بإرسال الرسل
وإنزال الكتب، وأمرهم باتباع عهده وهداه، فلم يمتثل لأمره إلا القليل من
الناس، الذين سبقت لهم من اللّه، سابقة السعادة.

وأما أكثر الخلق
فأعرضوا عن الهدى، واستكبروا عما جاءت به الرسل، فأحل اللّه بهم من عقوباته
المتنوعة ما أحل.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 5:41 pm

-103171 ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ
وَمَلَئِهِ... .
إلى آخر قصته .
أي: ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل
موسى الكليم، الإمام العظيم، والرسول الكريم، إلى قوم عتاة جبابرة، وهم
فرعون وملؤه، من أشرافهم وكبرائهم، فأراهم من آيات اللّه العظيمة ما لم
يشاهد له نظير فَظَلَمُوا بِهَا بأن لم ينقادوا لحقها الذي من لم ينقد له
فهو ظالم، بل استكبروا عنها. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ كيف أهلكهم اللّه، وأتبعهم الذم واللعنة في الدنيا ويوم
القيامة، بئس الرفد المرفود، وهذا مجمل فصله بقوله:
وَقَالَ مُوسَى حين
جاء إلى فرعون يدعوه إلى الإيمان.
يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ
رَبِّ الْعَالَمِينَ أي: إني رسول من مرسل عظيم، وهو رب العالمين، الشامل
للعالم العلوي والسفلي، مربي جميع خلقه بأنواع التدابير الإلهية، التي من
جملتها أنه لا يتركهم سدى، بل يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، وهو الذي
لا يقدر أحد أن يتجرأ عليه، ويدعي أنه أرسله ولم يرسله.
فإذا كان هذا
شأنه، وأنا قد اختارني واصطفاني لرسالته، فحقيق علي أن لا أكذب عليه، ولا
أقول عليه إلا الحق. فإني لو قلت غير ذلك لعاجلني بالعقوبة، وأخذني أخذ
عزيز مقتدر.
فهذا موجب لأن ينقادوا له ويتبعوه، خصوصا وقد جاءهم ببينة
من اللّه واضحة على صحة ما جاء به من الحق، فوجب عليهم أن يعملوا بمقصود
رسالته، ولها مقصودان عظيمان. إيمانهم به، واتباعهم له، وإرسال بني إسرائيل
الشعب الذي فضله اللّه على العالمين، أولاد الأنبياء، وسلسلة يعقوب عليه
السلام، الذي موسى عليه الصلاة والسلام واحد منهم.
فقال له فرعون: إِنْ
كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ .
فَأَلْقَى
موسى عَصَاهُ في الأرض فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ أي: حية ظاهرة
تسعى، وهم يشاهدونها.
وَنـزعَ يَدَهُ من جيبه فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ
لِلنَّاظِرِينَ من غير سوء، فهاتان آيتان كبيرتان دالتان على صحة ما جاء به
موسى وصدقه، وأنه رسول رب العالمين، ولكن الذين لا يؤمنون لو جاءتهم كل
آية لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
فلهذا قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ
فِرْعَوْنَ حين بهرهم ما رأوا من الآيات، ولم يؤمنوا، وطلبوا لها
التأويلات الفاسدة: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ أي: ماهر في سحره.
ثم
خوفوا ضعفاء الأحلام وسفهاء العقول، بأنه يُرِيدُ موسى بفعله هذا أَنْ
يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي: يريد أن يجليكم عن أوطانكم فَمَاذَا
تَأْمُرُونَ أي: إنهم تشاوروا فيما بينهم ما يفعلون بموسى، وما يندفع به
ضرره بزعمهم عنهم، فإن ما جاء به إن لم يقابل بما يبطله ويدحضه، وإلا دخل
في عقول أكثر الناس.
فحينئذ انعقد رأيهم إلى أن قالوا لفرعون: أَرْجِهْ
وَأَخَاهُ أي: احبسهما وأمهلهما، وابعث في المدائن أناسا يحشرون أهل
المملكة ويأتون بكل سحار عليم، أي: يجيئون بالسحرة المهرة، ليقابلوا ما جاء
به موسى، فقالوا: يا موسى اجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت
مكانا سوى.
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ
النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى .
وقال
هنا: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ طالبين منه الجزاء إن غلبوا فـ
قَالُوا إِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ؟
فـ
قَالَ فرعون: نَعَمْ لكم أجر وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ فوعدهم
الأجر والتقريب، وعلو المنـزلة عنده، ليجتهدوا ويبذلوا وسعهم وطاقتهم في
مغالبة موسى.
فلما حضروا مع موسى بحضرة الخلق العظيم قَالُوا على وجه
التألي وعدم المبالاة بما جاء به موسى: يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ما
معك وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ .
فـ قَالَ موسى:
أَلْقُوا لأجل أن يرى الناس ما معهم وما مع موسى.
فَلَمَّا أَلْقَوْا
حبالهم وعصيهم، إذا هي من سحرهم كأنها حيات تسعى، فـ سَحَرُوا أَعْيُنَ
النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ لم يوجد له نظير
من السحر.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَأَلْقَاهَا
فَإِذَا هِيَ حية تسعى، فـ تَلْقَفُ جميع مَا يَأْفِكُونَ أي: يكذبون به
ويموهون.
فَوَقَعَ الْحَقُّ أي: تبين وظهر، واستعلن في ذلك المجمع،
وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ أي: في ذلك
المقام وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ أي: حقيرين قد اضمحل باطلهم، وتلاشى
سحرهم، ولم يحصل لهم المقصود الذي ظنوا حصوله.
وأعظم من تبين له الحق
العظيم أهل الصنف والسحر، الذين يعرفون من أنواع السحر وجزئياته، ما لا
يعرفه غيرهم، فعرفوا أن هذه آية عظيمة من آيات اللّه لا يدان لأحد بها.
وَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ
مُوسَى وَهَارُونَ
أي: وصدقنا بما بعث به موسى من الآيات البينات.
فقال
له فرعون: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ .
فَأَلْقَى موسى عَصَاهُ في الأرض فَإِذَا هِيَ
ثُعْبَانٌ مُبِينٌ أي: حية ظاهرة تسعى، وهم يشاهدونها.
وَنـزعَ يَدَهُ
من جيبه فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ من غير سوء، فهاتان آيتان
كبيرتان دالتان على صحة ما جاء به موسى وصدقه، وأنه رسول رب العالمين، ولكن
الذين لا يؤمنون لو جاءتهم كل آية لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
فلهذا
قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ حين بهرهم ما رأوا من الآيات، ولم
يؤمنوا، وطلبوا لها التأويلات الفاسدة: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ أي:
ماهر في سحره.
ثم خوفوا ضعفاء الأحلام وسفهاء العقول، بأنه يُرِيدُ موسى
بفعله هذا أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي: يريد أن يجليكم عن
أوطانكم فَمَاذَا تَأْمُرُونَ أي: إنهم تشاوروا فيما بينهم ما يفعلون
بموسى، وما يندفع به ضرره بزعمهم عنهم، فإن ما جاء به إن لم يقابل بما
يبطله ويدحضه، وإلا دخل في عقول أكثر الناس.
فحينئذ انعقد رأيهم إلى أن
قالوا لفرعون: أَرْجِهْ وَأَخَاهُ أي: احبسهما وأمهلهما، وابعث في المدائن
أناسا يحشرون أهل المملكة ويأتون بكل سحار عليم، أي: يجيئون بالسحرة
المهرة، ليقابلوا ما جاء به موسى، فقالوا: يا موسى اجعل بيننا وبينك موعدا
لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى.
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ
وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ
ثُمَّ أَتَى .
وقال هنا: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ طالبين منه
الجزاء إن غلبوا فـ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ
الْغَالِبِينَ ؟
فـ قَالَ فرعون: نَعَمْ لكم أجر وَإِنَّكُمْ لَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ فوعدهم الأجر والتقريب، وعلو المنـزلة عنده، ليجتهدوا
ويبذلوا وسعهم وطاقتهم في مغالبة موسى.
فلما حضروا مع موسى بحضرة الخلق
العظيم قَالُوا على وجه التألي وعدم المبالاة بما جاء به موسى: يَا مُوسَى
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ما معك وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ .
فـ
قَالَ موسى: أَلْقُوا لأجل أن يرى الناس ما معهم وما مع موسى.
فَلَمَّا
أَلْقَوْا حبالهم وعصيهم، إذا هي من سحرهم كأنها حيات تسعى، فـ سَحَرُوا
أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ لم يوجد
له نظير من السحر.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حية تسعى، فـ تَلْقَفُ جميع مَا يَأْفِكُونَ أي:
يكذبون به ويموهون.
فَوَقَعَ الْحَقُّ أي: تبين وظهر، واستعلن في ذلك
المجمع، وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ أي:
في ذلك المقام وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ أي: حقيرين قد اضمحل باطلهم،
وتلاشى سحرهم، ولم يحصل لهم المقصود الذي ظنوا حصوله.
وأعظم من تبين له
الحق العظيم أهل الصنف والسحر، الذين يعرفون من أنواع السحر وجزئياته، ما
لا يعرفه غيرهم، فعرفوا أن هذه آية عظيمة من آيات اللّه لا يدان لأحد بها.
وَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ
مُوسَى وَهَارُونَ
أي: وصدقنا بما بعث به موسى من الآيات البينات.
فَإِذَا
جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ أي: الخصب وإدرار الرزق قَالُوا لَنَا هَذِهِ أي:
نحن مستحقون لها، فلم يشكروا اللّه عليها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي:
قحط وجدب يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أي: يقولوا: إنما جاءنا
بسبب مجيء موسى، واتباع بني إسرائيل له.
قال اللّه تعالى: أَلا إِنَّمَا
طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي: بقضائه وقدرته، ليس كما قالوا، بل إن
ذنوبهم وكفرهم هو السبب في ذلك، بل أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي: فلذلك
قالوا ما قالوا.
وَقَالُوا مبينين لموسى أنهم لا يزالون، ولا يزولون عن
باطلهم: مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا
نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي: قد تقرر عندنا أنك ساحر، فمهما جئت بآية،
جزمنا أنها سحر، فلا نؤمن لك ولا نصدق، وهذا غاية ما يكون من العناد، أن
يبلغ بالكافرين إلى أن تستوي عندهم الحالات، سواء نـزلت عليهم الآيات أم لم
تنـزل.
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ أي: الماء الكثير الذي
أغرق أشجارهم وزروعهم، وأضر بهم ضررا كثيرا وَالْجَرَادَ فأكل ثمارهم
وزروعهم، ونباتهم وَالْقُمَّلَ قيل: إنه الدباء، أي: صغار الجراد، والظاهر
أنه القمل المعروف وَالضَّفَادِعَ فملأت أوعيتهم، وأقلقتهم، وآذتهم أذية
شديدة وَالدَّمَ إما أن يكون الرعاف، أو كما قال كثير من المفسرين، أن
ماءهم الذي يشربون انقلب دما، فكانوا لا يشربون إلا دما، ولا يطبخون إلا
بدم.
آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ أي: أدلة وبينات على أنهم كانوا كاذبين ظالمين،
وعلى أن ما جاء به موسى، حق وصدق فَاسْتَكْبَرُوا لما رأوا الآيات
وَكَانُوا في سابق أمرهم قَوْمًا مُجْرِمِينَ فلذلك عاقبهم اللّه تعالى،
بأن أبقاهم على الغي والضلال.
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي:
العذاب، يحتمل أن المراد به: الطاعون، كما قاله كثير من المفسرين، ويحتمل
أن يراد به ما تقدم من الآيات: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم،
فإنها رجز وعذاب، وأنهم كلما أصابهم واحد منها قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ
لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ أي: تشفعوا بموسى بما عهد اللّه عنده
من الوحي والشرع، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ
وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وهم في ذلك كذبة، لا قصد لهم
إلا زوال ما حل بهم من العذاب، وظنوا إذا رفع لا يصيبهم غيره.
فَلَمَّا
كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ أي: إلى مدة
قدر اللّه بقاءهم إليها، وليس كشفا مؤبدا، وإنما هو مؤقت، إِذَا هُمْ
يَنْكُثُونَ العهد الذي عاهدوا عليه موسى، ووعدوه بالإيمان به، وإرسال بني
إسرائيل، فلا آمنوا به ولا أرسلوا معه بني إسرائيل، بل استمروا على كفرهم
يعمهون، وعلى تعذيب بني إسرائيل دائبين.
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ أي:
حين جاء الوقت المؤقت لهلاكهم، أمر اللّه موسى أن يسري ببني إسرائيل ليلا
وأخبره أن فرعون سيتبعهم هو وجنوده فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ
حَاشِرِينَ يجمعون الناس ليتبعوا بني إسرائيل، وقالوا لهم: إِنَّ هَؤُلاءِ
لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا
لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءى
الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلا
إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِين * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ
بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ
الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى
وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ .
وقال هنا:
فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ أي: بسبب تكذيبهم بآيات اللّه وإعراضهم عما
دلت عليه من الحق.
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا
يُسْتَضْعَفُونَ في الأرض، أي: بني إسرائيل الذين كانوا خدمة لآل فرعون،
يسومونهم سوء العذاب أورثهم اللّه مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا
والمراد بالأرض هاهنا، أرض مصر، التي كانوا فيها مستضعفين، أذلين، أي:
ملكهم اللّه جميعا، ومكنهم فيها الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا حين
قال لهم موسى: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ
يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ .
وَدَمَّرْنَا
مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من الأبنية الهائلة، والمساكن
المزخرفة وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا
ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .
يَا مُوسَى
إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ أي: اخترتك واجتبيتك وفضلتك وخصصتك
بفضائل عظيمة، ومناقب جليلة، بِرِسَالاتِي التي لا أجعلها، ولا أخص بها إلا
أفضل الخلق.
وَبِكَلامِي إياك من غير واسطة، وهذه فضيلة اختص بها موسى
الكليم، وعرف بها من بين إخوانه من المرسلين، فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ من
النعم، وخذ ما آتيتك من الأمر والنهي بانشراح صدر، وتلقه بالقبول
والانقياد، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لله على ما خصك وفضلك.
وَكَتَبْنَا
لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه العباد مَوْعِظَةً ترغب
النفوس في أفعال الخير، وترهبهم من أفعال الشر، وَتَفْصِيلا لِكُلِّ
شَيْءٍ من الأحكام الشرعية، والعقائد والأخلاق والآداب فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ
أي: بجد واجتهاد على إقامتها، وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا
وهي الأوامر الواجبة والمستحبة، فإنها أحسنها، وفي هذا دليل على أن أوامر
اللّه - في كل شريعة - كاملة عادلة حسنة.
سَأُرِيكُمْ دَارَ
الْفَاسِقِينَ بعد ما أهلكهم اللّه، وأبقى ديارهم عبرة بعدهم، يعتبر بها
المؤمنون الموفقون المتواضعون.
وأما غيرهم، فقال عنهم: سَأَصْرِفُ عَنْ
آيَاتِيَ أي: عن الاعتبار في الآيات الأفقية والنفسية، والفهم لآيات الكتاب
الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: يتكبرون على
عباد اللّه وعلى الحق، وعلى من جاء به، فمن كان بهذه الصفة، حرمه اللّه
خيرا كثيرا وخذله، ولم يفقه من آيات اللّه ما ينتفع به، بل ربما انقلبت
عليه الحقائق، واستحسن القبيح.
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا
يُؤْمِنُوا بِهَا لإعراضهم واعتراضهم، ومحادتهم للّه ورسوله، وَإِنْ
يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أي: الهدى والاستقامة، وهو الصراط الموصل إلى
اللّه، وإلى دار كرامته لا يَتَّخِذُوهُ أي: لا يسلكوه ولا يرغبوا فيه
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ أي: الغواية الموصل لصاحبه إلى دار الشقاء
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا والسبب في انحرافهم هذا الانحراف ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ فردهم لآيات اللّه،
وغفلتهم عما يراد بها واحتقارهم لها - هو الذي أوجب لهم من سلوك طريق الغي،
وترك طريق الرشد ما أوجب.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا العظيمة
الدالة على صحة ما أرسلنا به رسلنا.
وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ لأنها على غير أساس، وقد فقد شرطها وهو الإيمان بآيات اللّه،
والتصديق بجزائه هَلْ يُجْزَوْنَ في بطلان أعمالهم وحصول ضد مقصودهم إِلا
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فإن أعمال من لا يؤمن باليوم الآخر، لا يرجو فيها
ثوابا، وليس لها غاية تنتهي إليه، فلذلك اضمحلت وبطلت.
وَاتَّخَذَ
قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا صاغه السامري
وألقى عليه قبضة من أثر الرسول فصار لَهُ خُوَارٌ وصوت، فعبدوه واتخذوه
إلها.
وقال هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فنسي موسى، وذهب يطلبه،
وهذا من سفههم، وقلة بصيرتهم، كيف اشتبه عليهم رب الأرض والسماوات، بعجل من
أنقص المخلوقات؟"
ولهذا قال مبينا أنه ليس فيه من الصفات الذاتية ولا
الفعلية، ما يوجب أن يكون إلها أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ
أي: وعدم الكلام نقص عظيم، فهم أكمل حالة من هذا الحيوان أو الجماد، الذي
لا يتكلم وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا أي: لا يدلهم طريقا دينيا، ولا يحصل لهم
مصلحة دنيوية، لأن من المتقرر في العقول والفطر، أن اتخاذ إله لا يتكلم
ولا ينفع ولا يضر من أبطل الباطل، وأسمج السفه، ولهذا قال: اتَّخَذُوهُ
وَكَانُوا ظَالِمِينَ حيث وضعوا العبادة في غير موضعها، وأشركوا باللّه ما
لم ينـزل به سلطانا، وفيها دليل على أن من أنكر كلام اللّه، فقد أنكر خصائص
إلهية اللّه تعالى، لأن اللّه ذكر أن عدم الكلام دليل على عدم صلاحية الذي
لا يتكلم للإلهية.
وَلَمَّا رجع موسى إلى قومه، فوجدهم على هذه الحال،
وأخبرهم بضلالهم ندموا و سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي: من الهم والندم على
فعلهم، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا فتنصلوا، إلى اللّه وتضرعوا و
قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا فيدلنا عليه، ويرزقنا عبادته،
ويوفقنا لصالح الأعمال، وَيَغْفِرْ لَنَا ما صدر منا من عبادة العجل
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الذين خسروا الدنيا والآخرة.
وَلَمَّا
رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا أي: ممتلئا غضبا وغيظا
عليهم، لتمام غيرته عليه الصلاة السلام، وكمال نصحه وشفقته، قَالَ
بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أي: بئس الحالة التي خلفتموني بها
من بعد ذهابي عنكم، فإنها حالة تفضي إلى الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي.
أَعَجِلْتُمْ
أَمْرَ رَبِّكُمْ حيث وعدكم بإنـزال الكتاب. فبادرتم - برأيكم الفاسد -
إلى هذه الخصلة القبيحة وَأَلْقَى الألْوَاحَ أي: رماها من الغضب وَأَخَذَ
بِرَأْسِ أَخِيهِ هارون ولحيته يَجُرُّهُ إِلَيْهِ وقال له: مَا مَنَعَكَ
إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أن لا تَتَّبِعَن أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي لك
بقولي: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ
الْمُفْسِدِينَ فـ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا
بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي و قَالَ هنا ابْنَ أُمَّ هذا ترقيق
لأخيه، بذكر الأم وحدها، وإلا فهو شقيقه لأمه وأبيه: إِنَّ الْقَوْمَ
اسْتَضْعَفُونِي أي: احتقروني حين قلت لهم: يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ
بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي
وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي أي: فلا تظن بي تقصيرا فَلا تُشْمِتْ بِيَ
الأعْدَاءَ بنهرك لي، ومسك إياي بسوء، فإن الأعداء حريصون على أن يجدوا
عليَّ عثرة، أو يطلعوا لي على زلة وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ فتعاملني معاملتهم.
فندم موسى عليه السلام على ما استعجل
من صنعه بأخيه قبل أن يعلم براءته، مما ظنه فيه من التقصير.
و قَالَ
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي هارون وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ أي: في
وسطها، واجعل رحمتك تحيط بنا من كل جانب، فإنها حصن حصين، من جميع الشرور،
وثم كل الخير وسرور.
وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي: أرحم بنا من
كل راحم، أرحم بنا من آبائنا، وأمهاتنا وأولادنا وأنفسنا.
قال اللّه
تعالى مبينا حال أهل العجل الذين عبدوه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ أي: إلها سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كما أغضبوا ربهم واستهانوا بأمره.
وَكَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ فكل مفتر على اللّه، كاذب على شرعه، متقول عليه ما
لم يقل، فإن له نصيبا من الغضب من اللّه، والذل في الحياة الدنيا، وقد
نالهم غضب اللّه، حيث أمرهم أن يقتلوا أنفسهم، وأنه لا يرضى اللّه عنهم إلا
بذلك، فقتل بعضهم بعضا، وانجلت المعركة عن كثير من القتلى ثم تاب اللّه
عليهم بعد ذلك.
ولهذا ذكر حكما عاما يدخلون فيه هم وغيرهم، فقال:
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ من شرك وكبائر، وصغائر ثُمَّ تَابُوا
مِنْ بَعْدِهَا بأن ندموا على ما مضى، وأقلعوا عنها، وعزموا على أن لا
يعودوا وَآمنُوا باللّه وبما أوجب اللّه من الإيمان به، ولا يتم الإيمان
إلا بأعمال القلوب، وأعمال الجوارح المترتبة على الإيمان إِنَّ رَبَّكَ
مِنْ بَعْدِهَا أي: بعد هذه الحالة، حالة التوبة من السيئات والرجوع إلى
الطاعات، لَغَفُورٌ يغفر السيئات ويمحوها، ولو كانت قراب الأرض رَحِيمٌ
بقبول التوبة، والتوفيق لأفعال الخير وقبولها.
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ
مُوسَى الْغَضَبُ أي: سكن غضبه، وتراجعت نفسه، وعرف ما هو فيه، اشتغل بأهم
الأشياء عنده، فـ أَخَذَ الألْوَاحَ التي ألقاها، وهي ألواح عظيمة المقدار،
جليلة وَفِي نُسْخَتِهَا أي: مشتملة ومتضمنة هُدًى وَرَحْمَةٌ أي: فيها
الهدى من الضلالة، وبيان الحق من الباطل، وأعمال الخير وأعمال الشر، والهدى
لأحسن الأعمال، والأخلاق، والآداب، ورحمة وسعادة لمن عمل بها، وعلم
أحكامها ومعانيها، ولكن ليس كل أحد يقبل هدى اللّه ورحمته، وإنما يقبل ذلك
وينقاد له، ويتلقاه بالقبول الذين [هم] لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي: يخافون
منه ويخشونه، وأما من لم يخف اللّه ولا المقام بين يديه، فإنه لا يزداد
بها إلا عتوا ونفورا وتقوم عليه حجة اللّه فيها.
و لما تاب بنو إسرائيل
وتراجعوا إلى رشدهم اخْتَارَ مُوسَى منهم سَبْعِينَ رَجُلا من خيارهم،
ليعتذروا لقومهم عند ربهم، ووعدهم اللّه ميقاتا يحضرون فيه، فلما حضروه،
قالوا: يا موسى، أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فتجرأوا على اللّه جراءة كبيرة،
وأساءوا الأدب معه، فـ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فصعقوا وهلكوا.
فلم يزل
موسى عليه الصلاة والسلام، يتضرع إلى اللّه ويتبتل ويقول رَبِّ لَوْ
شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ أن يحضروا ويكونون في حالة يعتذرون فيها
لقومهم، فصاروا هم الظالمين أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ
مِنَّا أي: ضعفاء العقول، سفهاء الأحلام، فتضرع إلى اللّه واعتذر بأن
المتجرئين على اللّه ليس لهم عقول كاملة، تردعهم عما قالوا وفعلوا، وبأنهم
حصل لهم فتنة يخطر بها الإنسان، ويخاف من ذهاب دينه فقال: إِنْ هِيَ إِلا
فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ
وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ
أي: أنت خير من غفر، وأولى من رحم، وأكرم من أعطى وتفضل، فكأن موسى عليه
الصلاة والسلام، قال: المقصود يا رب بالقصد الأول لنا كلنا، هو التزام
طاعتك والإيمان بك، وأن من حضره عقله ورشده، وتم على ما وهبته من التوفيق،
فإنه لم يزل مستقيما، وأما من ضعف عقله، وسفه رأيه، وصرفته الفتنة، فهو
الذي فعل ما فعل، لذينك السببين، ومع هذا فأنت أرحم الراحمين، وخير
الغافرين، فاغفر لنا وارحمنا.
فأجاب اللّه سؤاله، وأحياهم من بعد موتهم،
وغفر لهم ذنوبهم.
وقال موسى في تمام دعائه وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا حَسَنَةً من علم نافع، ورزق واسع، وعمل صالح.
وَفِي
الآخِرَةِ حَسَنَةً :وهي ما أعد اللّه لأوليائه الصالحين من الثواب.
إِنَّا
هُدْنَا إِلَيْكَ أي: رجعنا مقرين بتقصيرنا، منيبين في جميع أمورنا.
قَالَ
اللّه تعالى عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ممن كان شقيا، متعرضا
لأسبابه، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ من العالم العلوي والسفلي،
البر والفاجر، المؤمن والكافر، فلا مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة اللّه،
وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة،
ليست لكل أحد، ولهذا قال عنها: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ
المعاصي، صغارها وكبارها.
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ الواجبة مستحقيها
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ومن تمام الإيمان بآيات اللّه
معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، ومن ذلك اتباع النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 ظاهرا وباطنا، في أصول الدين وفروعه.
الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ احتراز عن سائر الأنبياء،
فإن المقصود بهذا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999.
والسياق في أحوال بني إسرائيل وأن
الإيمان بالنبي محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 شرط في دخولهم في الإيمان، وأن المؤمنين به
المتبعين، هم أهل الرحمة المطلقة، التي كتبها اللّه لهم، ووصفه بالأمي
لأنه من العرب الأمة الأمية، التي لا تقرأ ولا تكتب، وليس عندها قبل القرآن
كتاب.
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنْجِيلِ باسمه وصفته، التي من أعظمها وأجلها، ما يدعو إليه، وينهى
عنه. وأنه يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وهو كل ما عرف حسنه وصلاحه ونفعه.
وَيَنْهَاهُمْ
عَنِ الْمُنْكَرِ وهو: كل ما عرف قبحه في العقول والفطر.
فيأمرهم
بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان
إلى الجار والمملوك، وبذل النفع لسائر الخلق، والصدق، والعفاف، والبر،
والنصيحة، وما أشبه ذلك، وينهى عن الشرك باللّه، وقتل النفوس بغير حق،
والزنا، وشرب ما يسكر العقل، والظلم لسائر الخلق، والكذب، والفجور، ونحو
ذلك.
فأعظم دليل يدل على أنه رسول اللّه، ما دعا إليه وأمر به، ونهى
عنه، وأحله وحرمه، فإنه يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ من المطاعم والمشارب،
والمناكح.
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ من المطاعم والمشارب
والمناكح، والأقوال والأفعال.
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ أي: ومن وصفه أن دينه سهل سمح ميسر، لا إصر
فيه، ولا أغلال، ولا مشقات ولا تكاليف ثقال.
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ
وَعَزَّرُوهُ أي: عظموه وبجلوه وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي
أُنـزلَ مَعَهُ وهو القرآن، الذي يستضاء به في ظلمات الشك والجهالات،
ويقتدى به إذا تعارضت المقالات، أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الظافرون
بخير الدنيا والآخرة، والناجون من شرهما، لأنهم أتوا بأكبر أسباب الفلاح.
وأما
من لم يؤمن بهذا النبي الأمي، ويعزره، وينصره، ولم يتبع النور الذي أنـزل
معه، فأولئك هم الخاسرون.
ولما دعا أهل التوراة من بني إسرائيل، إلى
اتباعه، وكان ربما توهم متوهم، أن الحكم مقصور عليهم، أتى بما يدل على
العموم فقال:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 5:43 pm

قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا أي:
عربيكم، وعجميكم، أهل الكتاب منكم، وغيرهم.
الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يتصرف فيهما بأحكامه الكونية والتدابير السلطانية،
وبأحكامه الشرعية الدينية التي من جملتها: أن أرسل إليكم رسولا عظيما
يدعوكم إلى اللّه وإلى دار كرامته، ويحذركم من كل ما يباعدكم منه، ومن دار
كرامته.
لا إِلَهَ إِلا هُوَ أي: لا معبود بحق، إلا اللّه وحده لا شريك
له، ولا تعرف عبادته إلا من طريق رسله، يُحْيِي وَيُمِيتُ أي: من جملة
تدابيره: الإحياء والإماتة، التي لا يشاركه فيها أحد، الذي جعل الموت جسرا
ومعبرا يعبر منه إلى دار البقاء، التي من آمن بها صدق الرسول محمدا تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 قطعا.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
النَّبِيِّ الأمِّيِّ إيمانا في القلب، متضمنا لأعمال القلوب والجوارح.
الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ أي: آمنوا بهذا الرسول المستقيم
في عقائده وأعماله، وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ في مصالحكم
الدينية والدنيوية، فإنكم إذا لم تتبعوه ضللتم ضلالا بعيدا.
159 وَمِنْ
قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ أي: جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
أي: يهدون به الناس في تعليمهم إياهم وفتواهم لهم، ويعدلون به بينهم في
الحكم بينهم، بقضاياهم، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ
وفي هذا فضيلة لأمة موسى عليه الصلاة والسلام، وأن اللّه تعالى جعل منهم
هداة يهدون بأمره.
وكأن الإتيان بهذه الآية الكريمة فيه نوع احتراز مما
تقدم، فإنه تعالى ذكر فيما تقدم جملة من معايب بني إسرائيل، المنافية
للكمال المناقضة للهداية، فربما توهم متوهم أن هذا يعم جميعهم، فذكر تعالى
أن منهم طائفة مستقيمة هادية مهدية.
160 وَقَطَّعْنَاهُمُ أي: قسمناهم
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا أي: اثنتي عشرة قبيلة متعارفة
متوالفة، كل بني رجل من أولاد يعقوب قبيلة.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى
إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أي: طلبوا منه أن يدعو اللّه تعالى، أن يسقيهم
ماء يشربون منه وتشرب منه مواشيهم، وذلك لأنهم - واللّه أعلم - في محل قليل
الماء.
فأوحى اللّه لموسى إجابة لطلبتهم أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ
الْحَجَرَ يحتمل أنه حجر معين، ويحتمل أنه اسم جنس، يشمل أي حجر كان، فضربه
فَانْبَجَسَتْ أي: انفجرت من ذلك الحجر اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا جارية
سارحة.
قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ أي: قد قسم على كل قبيلة
من تلك القبائل الاثنتي عشرة، وجعل لكل منهم عينا، فعلموها، واطمأنوا،
واستراحوا من التعب والمزاحمة، والمخاصمة، وهذا من تمام نعمة اللّه عليهم.
وَظَلَّلْنَا
عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فكان يسترهم من حر الشمس وَأَنـزلْنَا عَلَيْهِمُ
الْمَنَّ وهو الحلوى، وَالسَّلْوَى وهو لحم طير من أنواع الطيور وألذها،
فجمع اللّه لهم بين الظلال، والشراب، والطعام الطيب، من الحلوى واللحوم،
على وجه الراحة والطمأنينة.
وقيل لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا حين لم يشكروا اللّه، ولم يقوموا بما أوجب
اللّه عليهم.
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث فوتوها كل
خير، وعرضوها للشر والنقمة، وهذا كان مدة لبثهم في التيه.
(161) وَإِذْ
قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ أي: ادخلوها لتكون وطنا لكم
ومسكنا، وهي (إيلياء) وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ أي: قرية كانت
كثيرة الأشجار، غزيرة الثمار، رغيدة العيش، فلذلك أمرهم اللّه أن يأكلوا
منها حيث شاءوا.
وَقُولُوا حين تدخلون الباب: حِطَّةٌ أي: احطط عنا
خطايانا، واعف عنا.
وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا أي: خاضعين لربكم
مستكينين لعزته، شاكرين لنعمته، فأمرهم بالخضوع، وسؤال المغفرة، ووعدهم على
ذلك مغفرة ذنوبهم والثواب العاجل والآجل فقال: نَغْفِرْ لَكُمْ
خَطِيئَاتِكُمْ سَنـزيدُ الْمُحْسِنِينَ من خير الدنيا والآخرة، فلم
يمتثلوا هذا الأمر الإلهي، بل فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي:
عصوا اللّه واستهانوا بأمره قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فقالوا بدل
طلب المغفرة، وقولهم: حِطَّة (حبة في شعيرة)، وإذا بدلوا القول - مع يسره
وسهولته - فتبديلهم للفعل من باب أولى، ولهذا دخلوا وهم يزحفون على
أستاههم.
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ حين خالفوا أمر اللّه وعصوه رِجْزًا
مِنَ السَّمَاءِ أي: عذابا شديدا، إما الطاعون وإما غيره من العقوبات
السماوية.
وما ظلمهم اللّه بعقابه وإنما كان ذلك بِمَا كَانُوا
يَظْلِمُونَ أي: يخرجون من طاعة الله إلى معصيته، من غير ضرورة ألجأتهم ولا
داع دعاهم سوى الخبث والشر الذي كان كامنا في نفوسهم.
163
وَاسْأَلْهُمْ أي: اسأل بني إسرائيل عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ
حَاضِرَةَ الْبَحْرِ أي: على ساحله في حال تعديهم وعقاب اللّه إياهم.
إِذْ
يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ وكان اللّه تعالى قد أمرهم أن يعظموه ويحترموه
ولا يصيدوا فيه صيدا، فابتلاهم اللّه وامتحنهم، فكانت الحيتان تأتيهم
يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا أي: كثيرة طافية على وجه البحر.
وَيَوْمَ لا
يَسْبِتُونَ أي: إذا ذهب يوم السبت لا تَأْتِيهِمْ أي: تذهب في البحر فلا
يرون منها شيئا كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ففسقهم هو
الذي أوجب أن يبتليهم اللّه، وأن تكون لهم هذه المحنة، وإلا فلو لم يفسقوا،
لعافاهم اللّه، ولما عرضهم للبلاء والشر، فتحيلوا على الصيد، فكانوا
يحفرون لها حفرا، وينصبون لها الشباك، فإذا جاء يوم السبت ووقعت في تلك
الحفر والشباك، لم يأخذوها في ذلك اليوم، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها، وكثر
فيهم ذلك، وانقسموا ثلاث فرق:
(164) معظمهم اعتدوا وتجرؤوا، وأعلنوا
بذلك.
وفرقة أعلنت بنهيهم والإنكار عليهم.
وفرقة اكتفت بإنكار أولئك
عليهم، ونهيهم لهم، وقالوا لهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ
مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا كأنهم يقولون: لا فائدة
في وعظ من اقتحم محارم اللّه، ولم يصغ للنصيح، بل استمر على اعتدائه
وطغيانه، فإنه لا بد أن يعاقبهم اللّه، إما بهلاك أو عذاب شديد.
فقال
الواعظون: نعظهم وننهاهم مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي: لنعذر فيهم.
وَلَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ أي: يتركون ما هم فيه من المعصية، فلا نيأس من هدايتهم، فربما
نجع فيهم الوعظ، وأثر فيهم اللوم.
وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر
ليكون معذرة، وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل اللّه أن يهديه، فيعمل
بمقتضى ذلك الأمر، والنهي.
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أي:
تركوا ما ذكروا به، واستمروا على غيهم واعتدائهم.
أَنْجَيْنَا من العذاب
الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وهكذا سنة اللّه في عباده، أن العقوبة
إذا نـزلت نجا منها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
وَأَخَذْنَا
الَّذِينَ ظَلَمُوا وهم الذين اعتدوا في السبت بِعَذَابٍ بَئِيسٍ أي: شديد
بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
وأما الفرقة الأخرى التي قالت للناهين: لِمَ
تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ فاختلف المفسرون في نجاتهم
وهلاكهم، والظاهر أنهم كانوا من الناجين، لأن اللّه خص الهلاك بالظالمين،
وهو لم يذكر أنهم ظالمون.
فدل على أن العقوبة خاصة بالمعتدين في السبت،
ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن
الآخرين، فاكتفوا بإنكار أولئك، ولأنهم أنكروا عليهم بقولهم: لِمَ
تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا فأبدوا من غضبهم عليهم، ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة لفعلهم،
وأن اللّه سيعاقبهم أشد العقوبة.
166 فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا
عَنْهُ أي: قسوا فلم يلينوا، ولا اتعظوا، قُلْنَا لَهُمْ قولا قدريا:
كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فانقلبوا بإذن اللّه قردة، وأبعدهم اللّه من
رحمته، ثم ذكر ضرب الذلة والصغار على من بقي منهم فقال:
167 وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي: أعلم إعلاما صريحا: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ أي: يهينهم،
ويذلهم.
إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ لمن عصاه، حتى إنه يعجل له
العقوبة في الدنيا. وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب إليه وأناب، يغفر
له الذنوب، ويستر عليه العيوب، ويرحمه بأن يتقبل منه الطاعات، ويثيبه عليها
بأنواع المثوبات، وقد فعل اللّه بهم ما أوعدهم به، فلا يزالون في ذل
وإهانة، تحت حكم غيرهم، لا تقوم لهم راية، ولا ينصر لهم عَلَمٌ.
168 -
170 وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرْضِ أُمَمًا أي: فرقناهم ومزقناهم في الأرض
بعد ما كانوا مجتمعين، مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ القائمون بحقوق اللّه، وحقوق
عباده، وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ أي: دون الصلاح، إما مقتصدون، وإما ظالمون
لأنفسهم، وَبَلَوْنَاهُمْ على عادتنا وسنتنا، بِالْحَسَنَاتِ
وَالسَّيِّئَاتِ أي: بالعسر واليسر.
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عما هم
عليه مقيمون من الردى، يراجعون ما خلقوا له من الهدى، فلم يزالوا بين صالح
وطالح ومقتصد، حتى خلف من بعدهم خلف. زاد شرهم وَرِثُوا بعدهم الْكِتَابُ
وصار المرجع فيه إليهم، وصاروا يتصرفون فيه بأهوائهم، وتبذل لهم الأموال،
ليفتوا ويحكموا، بغير الحق، وفشت فيهم الرشوة.
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا
الأدْنَى وَيَقُولُونَ مقرين بأنه ذنب وأنهم ظلمة: سَيُغْفَرُ لَنَا وهذا
قول خال من الحقيقة، فإنه ليس استغفارا وطلبا للمغفرة على الحقيقة.
فلو
كان ذلك لندموا على ما فعلوا، وعزموا على أن لا يعودوا، ولكنهم - إذا أتاهم
عرض آخر، ورشوة أخرى - يأخذوه.
فاشتروا بآيات اللّه ثمنا قليلا
واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، قال اللّه [تعالى] في الإنكار عليهم،
وبيان جراءتهم: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا
يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ فما بالهم يقولون عليه غير الحق
اتباعا لأهوائهم، وميلا مع مطامعهم.
و الحال أنهم قد دَرَسُوا مَا فِيهِ
فليس عليهم فيه إشكال، بل قد أَتَوْا أمرهم متعمدين، وكانوا في أمرهم
مستبصرين، وهذا أعظم للذنب، وأشد للوم، وأشنع للعقوبة، وهذا من نقص عقولهم،
وسفاهة رأيهم، بإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، ولهذا قال: وَالدَّارُ
الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ما حرم اللّه عليهم، من المآكل
التي تصاب، وتؤكل رشوة على الحكم بغير ما أنـزل اللّه، وغير ذلك من أنواع
المحرمات.
أَفَلا تَعْقِلُونَ أي: أفلا يكون لكم عقول توازن بين ما
ينبغي إيثاره، وما ينبغي الإيثار عليه، وما هو أولى بالسعي إليه، والتقديم
له على غيره. فخاصية العقل النظر للعواقب.
وأما من نظر إلى عاجل طفيف
منقطع، يفوت نعيما عظيما باقيا فأنى له العقل والرأي؟
وإنما العقلاء
حقيقة من وصفهم اللّه بقوله وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ أي:
يتمسكون به علما وعملا فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار، التي علمها
أشرف العلوم.
ويعلمون بما فيها من الأوامر التي هي قرة العيون وسرور
القلوب، وأفراح الأرواح، وصلاح الدنيا والآخرة.
ومن أعظم ما يجب التمسك
به من المأمورات، إقامة الصلاة، ظاهرا وباطنا، ولهذا خصها الله بالذكر
لفضلها، وشرفها، وكونها ميزان الإيمان، وإقامتها داعية لإقامة غيرها من
العبادات.
ولما كان عملهم كله إصلاحا، قال تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ
أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم، مصلحين لأنفسهم
ولغيرهم.
وهذه الآية وما أشبهها دلت على أن اللّه بعث رسله عليهم الصلاة
والسلام بالصلاح لا بالفساد، وبالمنافع لا بالمضار، وأنهم بعثوا بصلاح
الدارين، فكل من كان أصلح، كان أقرب إلى اتباعهم.
171 ثم قال تعالى:
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ حين امتنعوا من قبول ما في التوراة.
فألزمهم
اللّه العمل ونتق فوق رءوسهم الجبل، فصار فوقهم كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ
وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ وقيل لهم: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ
بِقُوَّةٍ أي: بجد واجتهاد.
وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ دراسة ومباحثة،
واتصافا بالعمل به لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إذا فعلتم ذلك.
172 -174
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى
شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا
غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ
وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ
الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
.
يقول تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي: أخرج من أصلابهم ذريتهم، وجعلهم يتناسلون
ويتوالدون قرنا بعد قرن.
و حين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم
أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أي: قررهم بإثبات
ربوبيته، بما أودعه في فطرهم من الإقرار، بأنه ربهم وخالقهم ومليكهم.
قالوا:
بلى قد أقررنا بذلك، فإن اللّه تعالى فطر عباده على الدين الحنيف القيم.
فكل
أحد فهو مفطور على ذلك، ولكن الفطرة قد تغير وتبدل بما يطرأ عليها من
العقائد الفاسدة، ولهذا قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أي: إنما امتحناكم حتى
أقررتم بما تقرر عندكم، من أن اللّه تعالى ربكم، خشية أن تنكروا يوم
القيامة، فلا تقروا بشيء من ذلك، وتزعمون أن حجة اللّه ما قامت عليكم، ولا
عندكم بها علم، بل أنتم غافلون عنها لاهون.
فاليوم قد انقطعت حجتكم،
وثبتت الحجة البالغة للّه عليكم.
أو تحتجون أيضا بحجة أخرى، فتقولون:
إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ
بَعْدِهِمْ فحذونا حذوهم، وتبعناهم في باطلهم.
أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا
فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ فقد أودع اللّه في فطركم، ما يدلكم على أن ما مع
آبائكم باطل، وأن الحق ما جاءت به الرسل، وهذا يقاوم ما وجدتم عليه آباءكم،
ويعلو عليه.
نعم قد يعرض للعبد من أقوال آبائه الضالين، ومذاهبهم
الفاسدة ما يظنه هو الحق، وما ذاك إلا لإعراضه، عن حجج اللّه وبيناته،
وآياته الأفقية والنفسية، فإعراضه عن ذلك، وإقباله على ما قاله المبطلون،
ربما صيره بحالة يفضل بها الباطل على الحق، هذا هو الصواب في تفسير هذه
الآيات.
وقد قيل: إن هذا يوم أخذ اللّه الميثاق على ذرية آدم، حين
استخرجهم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم، فشهدوا بذلك، فاحتج عليهم بما أقروا
به في ذلك الوقت على ظلمهم في كفرهم، وعنادهم في الدنيا والآخرة، ولكن ليس
في الآية ما يدل على هذا، ولا له مناسبة، ولا تقتضيه حكمة اللّه تعالى،
والواقع شاهد بذلك.
فإن هذا العهد والميثاق، الذي ذكروا، أنه حين أخرج
اللّه ذرية آدم من ظهره، حين كانوا في عالم كالذر، لا يذكره أحد، ولا يخطر
ببال آدمي، فكيف يحتج اللّه عليهم بأمر ليس عندهم به خبر، ولا له عين ولا
أثر؟" ولهذا لما كان هذا أمرا واضحا جليا، قال تعالى:
وَكَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الآيَاتِ أي: نبينها ونوضحها، وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى ما
أودع اللّه في فطرهم، وإلى ما عاهدوا اللّه عليه، فيرتدعون عن القبائح.
175-178
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ
مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ
شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ
يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ *
سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ
كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ
يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
يقول تعالى لنبيه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي
آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا أي: علمناه كتاب اللّه، فصار العالم الكبير والحبر
النحرير.
فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ أي: انسلخ من
الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات اللّه، فإن العلم بذلك، يصير صاحبه متصفا
بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات،
فترك هذا كتاب اللّه وراء ظهره، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب، وخلعها
كما يخلع اللباس.
فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان، أي: تسلط عليه حين
خرج من الحصن الحصين، وصار إلى أسفل سافلين، فأزه إلى المعاصي أزا.
فَكَانَ
مِنَ الْغَاوِينَ بعد أن كان من الراشدين المرشدين.
وهذا لأن اللّه
تعالى خذله ووكله إلى نفسه، فلهذا قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ
بِهَا بأن نوفقه للعمل بها، فيرتفع في الدنيا والآخرة، فيتحصن من أعدائه.
وَلَكِنَّهُ
فعل ما يقتضي الخذلان، فَأَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ، أي: إلى الشهوات
السفلية، والمقاصد الدنيوية. وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وترك طاعة مولاه،
فَمَثَلُهُ في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها، كَمَثَلِ الْكَلْبِ
إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي: لا يزال
لاهثا في كل حال، وهذا لا يزال حريصا، حرصا قاطعا قلبه، لا يسد فاقته شيء
من الدنيا.
ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
بعد أن ساقها اللّه إليهم، فلم ينقادوا لها، بل كذبوا بها وردوها، لهوانهم
على اللّه، واتباعهم لأهوائهم، بغير هدى من اللّه.
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في ضرب الأمثال، وفي العبر والآيات، فإذا
تفكروا علموا، وإذا علموا عملوا.
سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ أي: ساء وقبح،
مثل من كذب بآيات اللّه، وظلم نفسه بأنواع المعاصي، فإن مثلهم مثل السوء،
وهذا الذي آتاه اللّه آياته، يحتمل أن المراد به شخص معين، قد كان منه ما
ذكره اللّه، فقص اللّه قصته تنبيها للعباد. ويحتمل أن المراد بذلك أنه اسم
جنس، وأنه شامل لكل من آتاه اللّه آياته فانسلخ منها.
وفي هذه الآيات
الترغيب في العمل بالعلم، وأن ذلك رفعة من اللّه لصاحبه، وعصمة من الشيطان،
والترهيب من عدم العمل به، وأنه نـزول إلى أسفل سافلين، وتسليط للشيطان
عليه، وفيه أن اتباع الهوى، وإخلاد العبد إلى الشهوات، يكون سببا للخذلان.
ثم
قال تعالى مبينا أنه المنفرد بالهداية والإضلال: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بأن
يوفقه للخيرات، ويعصمه من المكروهات، ويعلمه ما لم يكن يعلم فَهُوَ
الْمُهْتَدِي حقا لأنه آثر هدايته تعالى، وَمَنْ يُضْلِلِ فيخذله ولا يوفقه
للخير فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ لأنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا
ذلك هو الخسران المبين.
179 وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا
مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا
أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ .
يقول
تعالى مبينا كثرة الغاوين الضالين، المتبعين إبليس اللعين: وَلَقَدْ
ذَرَأْنَا أي: أنشأنا وبثثنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ
صارت البهائم أحسن حالة منهم.
لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا أي:
لا يصل إليها فقه ولا علم، إلا مجرد قيام الحجة.
وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا
يُبْصِرُونَ بِهَا ما ينفعهم، بل فقدوا منفعتها وفائدتها.
وَلَهُمْ
آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا سماعا يصل معناه إلى قلوبهم.
أُولَئِكَ
الذين بهذه الأوصاف القبيحة كَالأنْعَامِ أي: البهائم، التي فقدت العقول،
وهؤلاء آثروا ما يفنى على ما يبقى، فسلبوا خاصية العقل.
بَلْ هُمْ
أَضَلُّ من البهائم، فإن الأنعام مستعملة فيما خلقت له، ولها أذهان، تدرك
بها، مضرتها من منفعتها، فلذلك كانت أحسن حالا منهم.
أُولَئِكَ هُمُ
الْغَافِلُونَ الذين غفلوا عن أنفع الأشياء، غفلوا عن الإيمان باللّه
وطاعته وذكره.
خلقت لهم الأفئدة والأسماع والأبصار، لتكون عونا لهم على
القيام بأوامر اللّه وحقوقه، فاستعانوا بها على ضد هذا المقصود.
فهؤلاء
حقيقون بأن يكونوا ممن ذرأ اللّه لجهنم وخلقهم لها، فخلقهم للنار، وبأعمال
أهلها يعملون.
وأما من استعمل هذه الجوارح في عبادة اللّه، وانصبغ قلبه
بالإيمان باللّه ومحبته، ولم يغفل عن اللّه، فهؤلاء، أهل الجنة، وبأعمال
أهل الجنة يعملون.
180 وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ
بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ .
هذا بيان لعظيم جلاله وسعة أوصافه، بأن له
الأسماء الحسنى، أي: له كل اسم حسن، وضابطه: أنه كل اسم دال على صفة كمال
عظيمة، وبذلك كانت حسنى، فإنها لو دلت على غير صفة، بل كانت علما محضا لم
تكن حسنى، وكذلك لو دلت على صفة ليست بصفة كمال، بل إما صفة نقص أو صفة
منقسمة إلى المدح والقدح، لم تكن حسنى، فكل اسم من أسمائه دال على جميع
الصفة التي اشتق منها، مستغرق لجميع معناها.
وذلك نحو العليم الدال على
أن له علما محيطا عاما لجميع الأشياء، فلا يخرج عن علمه مثقال ذرة في الأرض
ولا في السماء.
و كالرحيم الدال على أن له رحمة عظيمة، واسعة لكل شيء.
و
كالقدير الدال على أن له قدرة عامة، لا يعجزها شيء، ونحو ذلك.
ومن تمام
كونها "حسنى" أنه لا يدعى إلا بها، ولذلك قال: فَادْعُوهُ بِهَا وهذا شامل
لدعاء العبادة، ودعاء المسألة، فيدعى في كل مطلوب بما يناسب ذلك المطلوب،
فيقول الداعي مثلا اللّهم اغفر لي وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم، وتب
عَلَيَّ يا تواب، وارزقني يا رزاق، والطف بي يا لطيف ونحو ذلك.
وقوله:
وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ أي: عقوبة وعذابا على إلحادهم في أسمائه، وحقيقة الإلحاد الميل
بها عما جعلت له، إما بأن يسمى بها من لا يستحقها، كتسمية المشركين بها
لآلهتهم، وإما بنفي معانيها وتحريفها، وأن يجعل لها معنى ما أراده اللّه
ولا رسوله، وإما أن يشبه بها غيرها، فالواجب أن يحذر الإلحاد فيها، ويحذر
الملحدون فيها، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 ( أن للّه تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل
الجنة )
181 .وقوله: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ
وَبِهِ يَعْدِلُونَ .
أي: ومن جملة من خلقنا أمة فاضلة كاملة في نفسها،
مكملة لغيرها، يهدون أنفسهم وغيرهم بالحق، فيعلمون الحق ويعملون به،
ويعلِّمونه، ويدعون إليه وإلى العمل به.
وَبِهِ يَعْدِلُونَ بين الناس
في أحكامهم إذا حكموا في الأموال والدماء والحقوق والمقالات، وغير ذلك،
وهؤلاء هم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وهم الذين أنعم اللّه عليهم بالإيمان
والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهم الصديقون الذين
مرتبتهم تلي مرتبة الرسالة، وهم في أنفسهم مراتب متفاوتة كل بحسب حاله وعلو
منـزلته، فسبحان من يختص برحمته من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم.
182-186
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا
يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ * أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ
مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ
اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ * مَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ .
أي: والذين كذبوا بآيات اللّه الدالة على صحة ما جاء به
محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، من الهدى فردوها ولم يقبلوها.
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ بأن يدر لهم الأرزاق.
وَأُمْلِي
لَهُمْ أي: أُمْهِلُهُم حتى يظنوا أنهم لا يؤخذون ولا يعاقبون، فيزدادون
كفرا وطغيانا، وشرا إلى شرهم، وبذلك تزيد عقوبتهم، ويتضاعف عذابهم، فيضرون
أنفسهم من حيث لا يشعرون، ولهذا قال: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي: قوي بليغ.
أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 مِنْ جِنَّةٍ أي: أَوَ لَمْ يُعْمِلُوا
أفكارهم، وينظروا: هل في صاحبهم الذي يعرفونه ولا يخفى عليهم من حاله شيء،
هل هو مجنون؟ فلينظروا في أخلاقه وهديه، ودله وصفاته، وينظروا في ما دعا
إليه، فلا يجدون فيه من الصفات إلا أكملها، ولا من الأخلاق إلا أتمها، ولا
من العقل والرأي إلا ما فاق به العالمين، ولا يدعو إلا لكل خير، ولا ينهى
إلا عن كل شر.
أفبهذا يا أولي الألباب من جنة؟ أم هو الإمام العظيم
والناصح المبين، والماجد الكريم، والرءوف الرحيم؟
ولهذا قال: إِنْ هُوَ
إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: يدعو الخلق إلى ما ينجيهم من العذاب، ويحصل لهم
الثواب.
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
فإنهم إذا نظروا إليها، وجدوها أدلة دالة على توحيد ربها، وعلى ما له من
صفات الكمال.
و كذلك لينظروا إلى جميع مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ
فإن جميع أجزاء العالم، يدل أعظم دلالة على اللّه وقدرته وحكمته وسعة
رحمته، وإحسانه، ونفوذ مشيئته، وغير ذلك من صفاته العظيمة، الدالة على
تفرده بالخلق والتدبير، الموجبة لأن يكون هو المعبود المحمود، المسبح
الموحد المحبوب.
وقوله: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ
أَجَلُهُمْ أي: لينظروا في خصوص حالهم، وينظروا لأنفسهم قبل أن يقترب
أجلهم، ويفجأهم الموت وهم في غفلة معرضون، فلا يتمكنون حينئذ، من استدراك
الفارط.
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي: إذا لم يؤمنوا بهذا
الكتاب الجليل، فبأي حديث يؤمنون به؟" أبكتب الكذب والضلال؟ أم بحديث كل
مفتر دجال؟ ولكن الضال لا حيلة فيه، ولا سبيل إلى هدايته.
ولهذا قال
تعالى مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي: متحيرين يترددون، لا يخرجون منه ولا يهتدون
إلى حق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 5:50 pm

187
- 188 يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا
عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ
كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ .
قُلْ لا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ
أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ
السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .
يقول
تعالى لرسوله محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999: يَسْأَلُونَكَ أي: المكذبون لك، المتعنتون
عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا أي: متى وقتها الذي تجيء به، ومتى
تحل بالخلق؟
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي أي: إنه تعالى مختص
بعلمها، لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ أي: لا يظهرها لوقتها الذي
قدر أن تقوم فيه إلا هو.
ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أي: خفي
علمها على أهل السماوات والأرض، واشتد أمرها أيضا عليهم، فهم من الساعة
مشفقون.
لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً أي: فجأة من حيث لا تشعرون، لم
يستعدوا لها، ولم يتهيأوا لقيامها.
يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ
عَنْهَا أي: هم حريصون على سؤالك عن الساعة، كأنك مستحف عن السؤال عنها،
ولم يعلموا أنك - لكمال علمك بربك، وما ينفع السؤال عنه - غير مبال بالسؤال
عنها، ولا حريص على ذلك، فلم لا يقتدون بك، ويكفون عن الاستحفاء عن هذا
السؤال الخالي من المصلحة المتعذر علمه، فإنه لا يعلمها نبي مرسل، ولا ملك
مقرب.
وهي من الأمور التي أخفاها الله عن الخلق، لكمال حكمته وسعة علمه.
قُلْ
إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ فلذلك حرصوا على ما لا ينبغي الحرص عليه، وخصوصا مثل حال هؤلاء
الذين يتركون السؤال عن الأهم، ويدعون ما يجب عليهم من العلم، ثم يذهبون
إلى ما لا سبيل لأحد أن يدركه، ولا هم مطالبون بعلمه.
قُلْ لا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا فإني فقير مدبر، لا يأتيني خير إلا من
اللّه، ولا يدفع عني الشر إلا هو، وليس لي من العلم إلا ما علمني اللّه
تعالى.
وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ
وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ أي: لفعلت الأسباب التي أعلم أنها تنتج لي
المصالح والمنافع، ولحذرت من كل ما يفضي إلى سوء ومكروه، لعلمي بالأشياء
قبل كونها، وعلمي بما تفضي إليه.
ولكني - لعدم علمي - قد ينالني ما
ينالني من السوء، وقد يفوتني ما يفوتني من مصالح الدنيا ومنافعها، فهذا أدل
دليل على أني لا علم لي بالغيب.
إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ أنذر العقوبات
الدينية والدنيوية والأخروية، وأبين الأعمال المفضية إلى ذلك، وأحذر منها.
وَبَشِيرٌ
بالثواب العاجل والآجل، ببيان الأعمال الموصلة إليه والترغيب فيها، ولكن
ليس كل أحد يقبل هذه البشارة والنذارة، وإنما ينتفع بذلك ويقبله المؤمنون،
وهذه الآيات الكريمات، مبينة جهل من يقصد النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 ويدعوه لحصول نفع أو دفع ضر.
فإنه ليس
بيده شيء من الأمر، ولا ينفع من لم ينفعه اللّه، ولا يدفع الضر عمن لم
يدفعه اللّه عنه، ولا له من العلم إلا ما علمه اللّه تعالى، وإنما ينفع من
قبل ما أرسل به من البشارة والنذارة، وعمل بذلك، فهذا نفعه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، الذي فاق نفع الآباء والأمهات، والأخلاء
والإخوان بما حث العباد على كل خير، وحذرهم عن كل شر، وبينه لهم غاية
البيان والإيضاح.
189-193 هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا
تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ
دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا
آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لا
يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا
وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا
يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ
صَامِتُونَ .
أي: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ أيها الرجال والنساء،
المنتشرون في الأرض على كثرتكم وتفرقكم. مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وهو آدم أبو
البشر تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999.
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا أي: خلق من
آدم زوجته حواء لأجل أن يسكن إليها لأنها إذا كانت منه حصل بينهما من
المناسبة والموافقة ما يقتضي سكون أحدهما إلى الآخر، فانقاد كل منهما إلى
صاحبه بزمام الشهوة.
فَلَمَّا تَغَشَّاهَا أي: تجللها مجامعا لها قدَّر
الباري أن يوجد من تلك الشهوة وذلك الجماع النسل، [وحينئذ] حَمَلَتْ حَمْلا
خَفِيفًا، وذلك في ابتداء الحمل، لا تحس به الأنثى، ولا يثقلها.
فَلَمَّا
استمرت به و أَثْقَلَتْ به حين كبر في بطنها، فحينئذ صار في قلوبهما
الشفقة على الولد، وعلى خروجه حيا، صحيحا، سالما لا آفة فيه [كذلك] فدعوا
اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا ولدا صَالِحًا أي: صالح الخلقة
تامها، لا نقص فيه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ .
فَلَمَّا
آتَاهُمَا صَالِحًا على وفق ما طلبا، وتمت عليهما النعمة فيه جَعَلا لَهُ
شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا أي: جعلا للّه شركاء في ذلك الولد الذي انفرد
اللّه بإيجاده والنعمة به، وأقرَّ به أعين والديه، فَعَبَّدَاه لغير اللّه.
إما أن يسمياه بعبد غير اللّه كـ "عبد الحارث" و "عبد العزيز" و "عبد
الكعبة" ونحو ذلك، أو يشركا باللّه في العبادة، بعدما منَّ اللّه عليهما
بما منَّ من النعم التي لا يحصيها أحد من العباد.
وهذا انتقال من النوع
إلى الجنس، فإن أول الكلام في آدم وحواء، ثم انتقل إلى الكلام في الجنس،
ولا شك أن هذا موجود في الذرية كثيرا، فلذلك قررهم اللّه على بطلان الشرك،
وأنهم في ذلك ظالمون أشد الظلم، سواء كان الشرك في الأقوال، أم في الأفعال،
فإن الخالق لهم من نفس واحدة، الذي خلق منها زوجها وجعل لهم من أنفسهم
أزواجا، ثم جعل بينهم من المودة والرحمة ما يسكن بعضهم إلى بعض، ويألفه
ويلتذ به، ثم هداهم إلى ما به تحصل الشهوة واللذة والأولاد والنسل.
ثم
أوجد الذرية في بطون الأمهات، وقتا موقوتا، تتشوف إليه نفوسهم، ويدعون
اللّه أن يخرجه سويا صحيحا، فأتم اللّه عليهم النعمة وأنالهم مطلوبهم.
أفلا
يستحق أن يعبدوه، ولا يشركوا به في عبادته أحدا، ويخلصوا له الدين.
ولكن
الأمر جاء على العكس، فأشركوا باللّه من لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ
يُخْلَقُونَ .
وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ أي: لعابديها نَصْرًا وَلا
أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ .
فإذا كانت لا تخلق شيئا، ولا مثقال ذرة، بل
هي مخلوقة، ولا تستطيع أن تدفع المكروه عن من يعبدها، بل ولا عن أنفسها،
فكيف تتخذ مع اللّه آلهة؟ إن هذا إلا أظلم الظلم، وأسفه السفه.
وإن
تدعوا، أيها المشركون هذه الأصنام، التي عبدتم من دون اللّه إِلَى الْهُدَى
لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ
صَامِتُونَ .
فصار الإنسان أحسن حالة منها، لأنها لا تسمع، ولا تبصر،
ولا تهدِي ولا تُهدى، وكل هذا إذا تصوره اللبيب العاقل تصورا مجردا، جزم
ببطلان إلهيتها، وسفاهة من عبدها.
194 - 196 إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ
لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا
أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ
كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ .
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نـزلَ
الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ .
وهذا من نوع التحدي
للمشركين العابدين للأوثان، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ أي: لا فرق بينكم وبينهم، فكلكم عبيد
للّه مملوكون، فإن كنتم كما تزعمون صادقين في أنها تستحق من العبادة شيئا
فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فإن استجابوا لكم وحصلوا مطلوبكم،
وإلا تبين أنكم كاذبون في هذه الدعوى، مفترون على اللّه أعظم الفرية، وهذا
لا يحتاج إلى التبيين فيه، فإنكم إذا نظرتم إليها وجدتم صورتها دالة على
أنه ليس لديها من النفع شيء،فليس لها أرجل تمشي بها، ولا أيد تبطش بها، ولا
أعين تبصر بها، ولا آذان تسمع بها، فهي عادمة لجميع الآلات والقوى
الموجودة في الإنسان.
فإذا كانت لا تجيبكم إذا دعوتموها، وهي عباد
أمثالكم، بل أنتم أكمل منها وأقوى على كثير من الأشياء، فلأي شيء عبدتموها.
قُلِ
ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ أي: اجتمعوا أنتم
وشركاؤكم على إيقاع السوء والمكروه بي، من غير إمهال ولا إنظار فإنكم غير
بالغين لشيء من المكروه بي.
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الذي يتولاني فيجلب
لي المنافع ويدفع عني المضار.
الَّذِي نـزلَ الْكِتَابَ الذي فيه الهدى
والشفاء والنور، وهو من توليته وتربيته لعباده الخاصة الدينية.
وَهُوَ
يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ الذين صلحت نياتهم وأعمالهم وأقوالهم، كما قال
تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ فالمؤمنون الصالحون - لما تولوا ربهم بالإيمان والتقوى، ولم
يتولوا غيره ممن لا ينفع ولا يضر - تولاهم اللّه ولطف بهم وأعانهم على ما
فيه الخير والمصلحة لهم، في دينهم ودنياهم، ودفع عنهم بإيمانهم كل مكروه،
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا .
198,197
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا
أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا
يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ .
وهذا
أيضا في بيان عدم استحقاق هذه الأصنام التي يعبدونها من دون اللّه لشيء من
العبادة، لأنها ليس لها استطاعة ولا اقتدار في نصر أنفسهم، ولا في نصر
عابديها، وليس لها قوة العقل والاستجابة.
فلو دعوتها إلى الهدى لم تهتد،
وهي صور لا حياة فيها، فتراهم ينظرون إليك، وهم لا يبصرون حقيقة، لأنهم
صوروها على صور الحيوانات من الآدميين أو غيرهم، وجعلوا لها أبصارا وأعضاء،
فإذا رأيتها قلت: هذه حية، فإذا تأملتها عرفت أنها جمادات لا حراك بها،
ولا حياة، فبأي رأي اتخذها المشركون آلهة مع اللّه؟ ولأي مصلحة أو نفع
عكفوا عندها وتقربوا لها بأنواع العبادات؟
فإذا عرف هذا، عرف أن
المشركين وآلهتهم التي عبدوها، لو اجتمعوا، وأرادوا أن يكيدوا من تولاه
فاطر الأرض والسماوات، متولي أحوال عباده الصالحين، لم يقدروا على كيده
بمثقال ذرة من الشر، لكمال عجزهم وعجزها، وكمال قوة اللّه واقتداره، وقوة
من احتمى بجلاله وتوكل عليه.
وقيل: إن معنى قوله وَتَرَاهُمْ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أن الضمير يعود إلى المشركين
المكذبين لرسول اللّه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، فتحسبهم ينظرون إليك يا رسول اللّه نظر
اعتبار يتبين به الصادق من الكاذب، ولكنهم لا يبصرون حقيقتك وما يتوسمه
المتوسمون فيك من الجمال والكمال والصدق.
199 خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ .
هذه الآية جامعة لحسن
الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن
يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق،
فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول
وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم، ولا
يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل
الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم.
وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ أي: بكل قول حسن وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد، فاجعل
ما يأتي إلى الناس منك، إما تعليم علم، أو حث على خير، من صلة رحم، أو
بِرِّ والدين، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب، أو معاونة
على بر وتقوى، أو زجر عن قبيح، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية أو دنيوية،
ولما كان لا بد من أذية الجاهل، أمر اللّه تعالى أن يقابل الجاهل بالإعراض
عنه وعدم مقابلته بجهله، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه، ومن حرمك لا
تحرمه، ومن قطعك فَصِلْهُ، ومن ظلمك فاعدل فيه.
وأما ما ينبغي أن يعامل
به العبد شياطين الإنس والجن، فقال تعالى:
200-202 وَإِمَّا
يَنـزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نـزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ
الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ .
أي: أي وقت، وفي أي
حال يَنـزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نـزغٌ أي: تحس منه بوسوسة، وتثبيط عن
الخير، أو حث على الشر، وإيعاز إليه. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي: التجئ
واعتصم باللّه، واحتم بحماه فإنه سَمِيعٌ لما تقول. عَلِيمٌ بنيتك وضعفك،
وقوة التجائك له، فسيحميك من فتنته، ويقيك من وسوسته، كما قال تعالى: قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إلى آخر السورة.
ولما كان العبد لا بد أن يغفل
وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطا ينتظر غرته وغفلته، ذكر تعالى
علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب، ومسه طائف من الشيطان،
فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب - تذكر من أي باب أُتِيَ، ومن أي مدخل دخل
الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب اللّه عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر
واستغفر اللّه تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات
الكثيرة، فرد شيطانه خاسئا حسيرا، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه.
وأما
إخوان الشياطين وأولياؤهم، فإنهم إذا وقعوا في الذنوب، لا يزالون يمدونهم
في الغي ذنبا بعد ذنب، ولا يقصرون عن ذلك، فالشياطين لا تقصر عنهم
بالإغواء، لأنها طمعت فيهم، حين رأتهم سلسي القياد لها، وهم لا يقصرون عن
فعل الشر.
203 وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا
اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي
هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .
أي
لا يزال هؤلاء المكذبون لك في تعنت وعناد، ولو جاءتهم الآيات الدالة على
الهدى والرشاد، فإذا جئتهم بشيء من الآيات الدالة على صدقك لم ينقادوا.
وَإِذَا
لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ من آيات الاقتراح التي يعينونها قَالُوا لَوْلا
اجْتَبَيْتَهَا أي: هلا اخترت الآية، فصارت الآية الفلانية، أو المعجزة
الفلانية كأنك أنت المنـزل للآيات، المدبر لجميع المخلوقات، ولم يعلموا أنه
ليس لك من الأمر شيء، أو أن المعنى: لولا اخترعتها من نفسك.
قُلْ
إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي فأنا عبد متبع مدبَّر،
واللّه تعالى هو الذي ينـزل الآيات ويرسلها على حسب ما اقتضاه حمده،
وطلبتْه حكمته البالغة، فإن أردتم آية لا تضمحل على تعاقب الأوقات، وحجة لا
تبطل في جميع الآنات، فـ هَذَا القرآن العظيم، والذكر الحكيم بَصَائِرُ
مِنْ رَبِّكُمْ يستبصر به في جميع المطالب الإلهية والمقاصد الإنسانية، وهو
الدليل والمدلول فمن تفكر فيه وتدبره، علم أنه تنـزيل من حكيم حميد لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبه قامت الحجة على كل من بلغه،
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون، وإلا فمن آمن، فهو هُدًى له من الضلال
وَرَحْمَةٌ له من الشقاء، فالمؤمن مهتد بالقرآن، متبع له، سعيد في دنياه
وأخراه.
وأما من لم يؤمن به، فإنه ضال شقي، في الدنيا والآخرة.
204
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ .
هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب اللّه يتلى، فإنه مأمور
بالاستماع له والإنصات، والفرق بين الاستماع والإنصات، أن الإنصات في
الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه.
وأما الاستماع له،
فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع، فإن من لازم على هذين
الأمرين حين يتلى كتاب اللّه، فإنه ينال خيرا كثيرا وعلما غزيرا، وإيمانا
مستمرا متجددا، وهدى متزايدا، وبصيرة في دينه، ولهذا رتب اللّه حصول الرحمة
عليهما، فدل ذلك على أن من تُلِيَ عليه الكتاب، فلم يستمع له وينصت، أنه
محروم الحظ من الرحمة، قد فاته خير كثير.
ومن أوكد ما يؤمر به مستمع
القرآن، أن يستمع له وينصت في الصلاة الجهرية إذا قرأ إمامه، فإنه مأمور
بالإنصات، حتى إن أكثر العلماء يقولون: إن اشتغاله بالإنصات، أولى من
قراءته الفاتحة، وغيرها.
205 - 206 وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ
تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ
وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ
رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ
يَسْجُدُونَ .
الذكر للّه تعالى يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون
بهما، وهو أكمل أنواع الذكر وأحواله، فأمر اللّه عبده ورسوله محمدا أصلا
وغيره تبعا، بذكر ربه في نفسه، أي: مخلصا خاليا.
تَضَرُّعًا أي: متضرعا
بلسانك، مكررا لأنواع الذكر، وَخِيفَةً في قلبك بأن تكون خائفا من اللّه،
وَجِلَ القلب منه، خوفا أن يكون عملك غير مقبول، وعلامة الخوف أن يسعى
ويجتهد في تكميل العمل وإصلاحه، والنصح به.
وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ
الْقَوْلِ أي: كن متوسطا، لا تجهر بصلاتك، ولا تخافت بها، وابتغ بين ذلك
سبيلا. بِالْغُدُوِّ أول النهار وَالآصَالِ آخره، وهذان الوقتان لذكر الله
فيهما مزية وفضيلة على غيرهما.
وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ الذين
نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم، فإنهم حرموا خير الدنيا والآخرة، وأعرضوا عمن
كل السعادة والفوز في ذكره وعبوديته، وأقبلوا على من كل الشقاوة والخيبة في
الاشتغال به، وهذه من الآداب التي ينبغي للعبد أن يراعيها حق رعايتها، وهي
الإكثار من ذكر اللّه آناء الليل والنهار، خصوصا طَرَفَيِ النهار، مخلصا
خاشعا متضرعا، متذللا ساكنا، وتواطئا عليه قلبه ولسانه، بأدب ووقار، وإقبال
على الدعاء والذكر، وإحضار له بقلبه وعدم غفلة، فإن اللّه لا يستجيب دعاء
من قلب غافل لاه.
ثم ذكر تعالى أن له عبادا مستديمين لعبادته، ملازمين
لخدمته وهم الملائكة، فلتعلموا أن اللّه لا يريد أن يتكثر بعبادتكم من قلة،
ولا ليتعزز بها من ذلة، وإنما يريد نفع أنفسكم، وأن تربحوا عليه أضعاف
أضعاف ما عملتم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ
إِنَّ الَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ من الملائكة المقربين، وحملة العرش والكروبيين.
لا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ بل يذعنون لها وينقادون لأوامر ربهم
وَيُسَبِّحُونَهُ الليل والنهار لا يفترون.
وَلَهُ وحده لا شريك له
يَسْجُدُونَ فليقتد العباد بهؤلاء الملائكة الكرام، وليداوموا [على] عبادة
الملك العلام.

تم تفسير سورة الأعراف

وللّه الحمد والشكر
والثناء. وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 5:53 pm

تفسير
سورة الأنفال

وهي مدنية

1 - 4 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ
دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ .

الأنفال
هي الغنائم التي ينفلها اللّه لهذه الأمة من أموال الكفار، وكانت هذه
الآيات في هذه السورة قد نـزلت في قصة بدر أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون
من المشركين، .فحصل بين بعض المسلمين فيها نـزاع، فسألوا رسول اللّه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 عنها، فأنـزل اللّه يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الأنْفَال كيف تقسم وعلى من تقسم؟

قُلْ لهم: الأنفال لله ورسوله
يضعانها حيث شاءا، فلا اعتراض لكم على حكم اللّه ورسوله،. بل عليكم إذا حكم
اللّه ورسوله أن ترضوا بحكمهما، وتسلموا الأمر لهما،. وذلك داخل في قوله
فَاتَّقُوا اللَّهَ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه..

وَأَصْلِحُوا
ذَاتَ بَيْنِكُمْ أي: أصلحوا ما بينكم من التشاحن والتقاطع والتدابر،
بالتوادد والتحاب والتواصل..فبذلك تجتمع كلمتكم، ويزول ما يحصل - بسبب
التقاطع -من التخاصم، والتشاجر والتنازع.

ويدخل في إصلاح ذات البين
تحسين الخلق لهم، والعفو عن المسيئين منهم فإنه بذلك يزول كثير مما يكون في
القلوب من البغضاء والتدابر،.والأمر الجامع لذلك كله قوله: وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يدعو إلى طاعة
اللّه ورسوله،.كما أن من لم يطع اللّه ورسوله فليس بمؤمن.

ومن نقصت
طاعته للّه ورسوله، فذلك لنقص إيمانه،ولما كان الإيمان قسمين: إيمانا كاملا
يترتب عليه المدح والثناء، والفوز التام، وإيمانا دون ذلك ذكر الإيمان
الكامل فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الألف واللام للاستغراق لشرائع
الإيمان.

الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي:
خافت ورهبت، فأوجبت لهم خشية اللّه تعالى الانكفاف عن المحارم، فإن خوف
اللّه تعالى أكبر علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب.

وَإِذَا
تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ووجه ذلك أنهم يلقون
له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم،.لأن التدبر من
أعمال القلوب، ولأنه لا بد أن يبين لهم معنى كانوا يجهلونه، أو يتذكرون ما
كانوا نسوه،أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير، واشتياقا إلى كرامة ربهم،أو
وجلا من العقوبات، وازدجارا عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان.

وَعَلَى
رَبِّهِمْ وحده لا شريك له يَتَوَكَّلُونَ أي: يعتمدون في قلوبهم على ربهم
في جلب مصالحهم ودفع مضارهم الدينية والدنيوية، ويثقون بأن اللّه تعالى
سيفعل ذلك.

والتوكل هو الحامل للأعمال كلها، فلا توجد ولا تكمل إلا
به.

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ من فرائض ونوافل، بأعمالها
الظاهرة والباطنة، كحضور القلب فيها، الذي هو روح الصلاة ولبها،. وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ النفقات الواجبة، كالزكوات، والكفارات، والنفقة
على الزوجات والأقارب، وما ملكت أيمانهم،.والمستحبة كالصدقة في جميع طرق
الخير.

أُولَئِكَ الذين اتصفوا بتلك الصفات هُمُ الْمُؤْمِنُونَ
حَقًّا لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان، بين الأعمال الباطنة والأعمال
الظاهرة، بين العلم والعمل، بين أداء حقوق اللّه وحقوق عباده. وقدم تعالى
أعمال القلوب، لأنها أصل لأعمال الجوارح وأفضل منها،.وفيها دليل على أن
الإيمان، يزيد وينقص، فيزيد بفعل الطاعة وينقص بضدها.

وأنه ينبغي
للعبد أن يتعاهد إيمانه وينميه،.وأن أولى ما يحصل به ذلك تدبر كتاب اللّه
تعالى والتأمل لمعانيه.ثم ذكر ثواب المؤمنين حقا فقال: لَهُمْ دَرَجَاتٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: عالية بحسب علو أعمالهم. وَمَغْفِرَةٌ لذنوبهم
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو ما أعد اللّه لهم في دار كرامته، مما لا عين رأت، ولا
أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ودل هذا على أن من يصل إلى درجتهم
في الإيمان - وإن دخل الجنة - فلن ينال ما نالوا من كرامة اللّه التامة.

5
- 8 كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا
تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ *
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ
وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ
الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُجْرِمُونَ .

قدم تعالى - أمام هذه الغزوة الكبرى المباركة -
الصفات التي على المؤمنين أن يقوموا بها، لأن من قام بها استقامت أحواله
وصلحت أعماله، التي من أكبرها الجهاد في سبيله. فكما أن إيمانهم هو الإيمان
الحقيقي، وجزاءهم هو الحق الذي وعدهم اللّه به،.كذلك أخرج اللّه رسوله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 من بيته إلى لقاء المشركين في بدر
بالحق الذي يحبه اللّه تعالى، وقد قدره وقضاه.

وإن كان المؤمنون لم
يخطر ببالهم في ذلك الخروج أنه يكون بينهم وبين عدوهم قتال.

فحين
تبين لهم أن ذلك واقع، جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 في ذلك، ويكرهون لقاء عدوهم، كأنما يساقون
إلى الموت وهم ينظرون.

والحال أن هذا لا ينبغي منهم، خصوصا بعد ما
تبين لهم أن خروجهم بالحق، ومما أمر اللّه به ورضيه،. فبهذه الحال ليس
للجدال محل [فيها] لأن الجدال محله وفائدته عند اشتباه الحق والتباس
الأمر،. فأما إذا وضح وبان، فليس إلا الانقياد والإذعان.

هذا وكثير
من المؤمنين لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء، ولا كرهوا لقاء عدوهم،.وكذلك
الذين عاتبهم اللّه، انقادوا للجهاد أشد الانقياد، وثبتهم اللّه، وقيض لهم
من الأسباب ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها.

وكان أصل
خروجهم يتعرضون لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام، قافلة
كبيرة،.فلما سمعوا برجوعها من الشام، ندب النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 الناس،.فخرج معه ثلاثمائة، وبضعة عشر رجلا
معهم سبعون بعيرا، يعتقبون عليها، ويحملون عليها متاعهم،.فسمعت بخبرهم
قريش، فخرجوا لمنع عيرهم، في عَدَدٍ كثير وعُدَّةٍ وافرة من السلاح والخيل
والرجال، يبلغ عددهم قريبا من الألف.

فوعد اللّه المؤمنين إحدى
الطائفتين، إما أن يظفروا بالعير، أو بالنفير،.فأحبوا العير لقلة ذات يد
المسلمين، ولأنها غير ذات شوكة،.ولكن اللّه تعالى أحب لهم وأراد أمرا أعلى
مما أحبوا.

أراد أن يظفروا بالنفير الذي خرج فيه كبراء المشركين
وصناديدهم،. وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ فينصر
أهله وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ أي: يستأصل أهل الباطل، ويُرِيَ
عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم.

لِيُحِقَّ الْحَقَّ
بما يظهر من الشواهد والبراهين على صحته وصدقه،. وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ بما
يقيم من الأدلة والشواهد على بطلانه وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ فلا
يبالي اللّه بهم.

9 - 14 إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ
فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ
مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ
قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنـزلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ

عَنْكُمْ
رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ
الأقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ
فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ
بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ
يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ .

أي:
اذكروا نعمة اللّه عليكم، لما قارب التقاؤكم بعدوكم، استغثتم بربكم،
وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم فَاسْتَجَابَ لَكُمْ وأغاثكم بعدة أمور:.

منها:
أن اللّه أمدكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أي: يردف بعضهم
بعضا.

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ أي: إنـزال الملائكة إِلا بُشْرَى أي:
لتستبشر بذلك نفوسكم، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وإلا فالنصر بيد
اللّه، ليس بكثرة عَدَدٍ ولا عُدَدٍ.. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يغالبه
مغالب، بل هو القهار، الذي يخذل من بلغوا من الكثرة وقوة العدد والآلات ما
بلغوا. حَكِيمٌ حيث قدر الأمور بأسبابها، ووضع الأشياء مواضعها.

ومن
نصره واستجابته لدعائكم أن أنـزل عليكم نعاسا يُغَشِّيكُمُ [أي] فيذهب ما
في قلوبكم من الخوف والوجل، ويكون أَمَنَةً لكم وعلامة على النصر
والطمأنينة.

ومن ذلك: أنه أنـزل عليكم من السماء مطرا ليطهركم به من
الحدث والخبث، وليطهركم به من وساوس الشيطان ورجزه.

وَلِيَرْبِطَ
عَلَى قُلُوبِكُمْ أي: يثبتها فإن ثبات القلب، أصل ثبات البدن، وَيُثَبِّتَ
بِهِ الأقْدَامَ فإن الأرض كانت سهلة دهسة فلما نـزل عليها المطر تلبدت،
وثبتت به الأقدام.

ومن ذلك أن اللّه أوحى إلى الملائكة أَنِّي
مَعَكُمْ بالعون والنصر والتأييد، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي: ألقوا
في قلوبهم، وألهموهم الجراءة على عدوهم، ورغبوهم في الجهاد وفضله.

سَأُلْقِي
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الذي هو أعظم جند لكم عليهم،فإن
اللّه إذا ثبت المؤمنين وألقى الرعب في قلوب الكافرين، لم يقدر الكافرون
على الثبات لهم ومنحهم اللّه أكتافهم.

فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الأعْنَاقِ أي: على الرقاب وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ أي: مفصل.

وهذا
خطاب، إما للملائكة الذين أوحى الله إليهم أن يثبتوا الذين آمنوا فيكون في
ذلك دليل أنهم باشروا القتال يوم بدر،أو للمؤمنين يشجعهم اللّه، ويعلمهم
كيف يقتلون المشركين، وأنهم لا يرحمونهم،وذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله أي:
حاربوهما وبارزوهما بالعداوة.

وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ومن عقابه تسليط أوليائه على أعدائه
وتقتيلهم.

ذَلِكُمْ العذاب المذكور فَذُوقُوهُ أيها المشاققون للّه
ورسوله عذابا معجلا. وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ .

وفي
هذه القصة من آيات اللّه العظيمة ما يدل على أن ما جاء به محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 رسول اللّه حقا.

منها: أن اللّه
وعدهم وعدا، فأنجزهموه.

ومنها: ما قال اللّه تعالى: قَدْ كَانَ
لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ
الآية.

ومنها: إجابة دعوة اللّه للمؤمنين لما استغاثوه بما ذكره من
الأسباب،وفيها الاعتناء العظيم بحال عباده المؤمنين، وتقييض الأسباب التي
بها ثبت إيمانهم، وثبتت أقدامهم، وزال عنهم المكروه والوساوس الشيطانية.

ومنها:
أن من لطف اللّه بعبده أن يسهل عليه طاعته، وييسرها بأسباب داخلية
وخارجية.

15 - 16 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ * وَمَنْ
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ
مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ .

يأمر اللّه تعالى عباده المؤمنين
بالشجاعة الإيمانية، والقوة في أمره، والسعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب
والأبدان،ونهاهم عن الفرار إذا التقى الزحفان، فقال: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا أي: في صف
القتال، وتزاحف الرجال، واقتراب بعضهم من بعض، فَلا تُوَلُّوهُمُ
الأدْبَارَ بل اثبتوا لقتالهم، واصبروا على جلادهم، فإن في ذلك نصرة لدين
اللّه، وقوة لقلوب المؤمنين، وإرهابا للكافرين.

وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى
فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ أي: رجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ أي: مقره
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ .

وهذا يدل على أن الفرار من الزحف
من غير عذر من أكبر الكبائر، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة وكما نص هنا
على وعيده بهذا الوعيد الشديد.

ومفهوم الآية: أن المتحرف للقتال،
وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى، ليكون أمكن له في القتال، وأنكى لعدوه،
فإنه لا بأس بذلك، لأنه لم يول دبره فارا، وإنما ولى دبره ليستعلي على
عدوه، أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته، أو ليخدعه بذلك، أو غير ذلك من مقاصد
المحاربين، وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار، فإن ذلك
جائز،فإن كانت الفئة في العسكر، فالأمر في هذا واضح،وإن كانت الفئة في غير
محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين والتجائهم إلى بلد من بلدان
المسلمين أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين، فقد ورد من آثار الصحابة ما
يدل على أن هذا جائز،ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون أن الانهزام أحمد
عاقبة، وأبقى عليهم.

أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم،
فيبعد - في هذه الحال -أن تكون من الأحوال المرخص فيها، لأنه - على هذا -
لا يتصور الفرار المنهي عنه،وهذه الآية مطلقة، وسيأتي في آخر السورة
تقييدها بالعدد.

17 - 19 فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ
قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى
وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ * إِنْ
تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ
فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ .

يقول
تعالى - لما انهزم المشركون يوم بدر، وقتلهم المسلمون - فَلَمْ
تَقْتُلُوهُمْ بحولكم وقوتكم وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ حيث أعانكم على
ذلك بما تقدم ذكره.

وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
رَمَى وذلك أن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 وقت القتال دخل العريش وجعل يدعو اللّه،
ويناشده في نصرته،ثم خرج منه، فأخذ حفنة من تراب، فرماها في وجوه المشركين،
فأوصلها اللّه إلى وجوههم،فما بقي منهم واحد إلا وقد أصاب وجهه وفمه
وعينيه منها،فحينئذ انكسر حدهم، وفتر زندهم، وبان فيهم الفشل والضعف،
فانهزموا.

يقول تعالى لنبيه: لست بقوتك - حين رميت التراب - أوصلته
إلى أعينهم، وإنما أوصلناه إليهم بقوتنا واقتدارنا. وَلِيُبْلِيَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا أي: إن اللّه تعالى قادر على انتصار
المؤمنين من الكافرين، من دون مباشرة قتال،ولكن اللّه أراد أن يمتحن
المؤمنين، ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات، وأرفع المقامات، ويعطيهم أجرا
حسنا وثوابا جزيلا.

إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع تعالى ما
أسر به العبد وما أعلن، ويعلم ما في قلبه من النيات الصالحة وضدها،فيقدر
على العباد أقدارا موافقة لعلمه وحكمته ومصلحة عباده، ويجزي كلا بحسب نيته
وعمله.

(18) ذَلِكُمْ النصر من اللّه لكم وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ
كَيْدِ الْكَافِرِينَ أي: مضعف كل مكر وكيد يكيدون به الإسلام وأهله، وجاعل
مكرهم محيقا بهم.

(19) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا أيها المشركون، أي:
تطلبوا من اللّه أن يوقع بأسه وعذابه على المعتدين الظالمين.

فَقَدْ
جَاءَكُمُ الْفَتْحُ حين أوقع اللّه بكم من عقابه، ما كان نكالا لكم وعبرة
للمتقين وَإِنْ تَنْتَهُوا عن الاستفتاح فَهُوَ خَيْرٌ لأنه ربما أمهلتم،
ولم يعجل لكم النقمة. وإن تعودوا إلى الاستفتاح وقتال حزب الله المؤمنين
نَعُدْ في نصرهم عليكم.

وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ أي:
أعوانكم وأنصاركم، الذين تحاربون وتقاتلون، معتمدين عليهم، شَيئا وأن الله
مع الْمؤمنين.

ومن كان اللّه معه فهو المنصور وإن كان ضعيفا قليلا
عدده، وهذه المعية التي أخبر اللّه أنه يؤيد بها المؤمنين، تكون بحسب ما
قاموا به من أعمال الإيمان.

فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض
الأوقات، فليس ذلك إلا تفريطا من المؤمنين وعدم قيام بواجب الإيمان
ومقتضاه، وإلا فلو قاموا بما أمر اللّه به من كل وجه، لما انهزم لهم راية
[انهزاما مستقرا] ولا أديل عليهم عدوهم أبدا.

20 - 21 يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ
وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا
وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ .

لما أخبر تعالى أنه مع المؤمنين، أمرهم أن
يقوموا بمقتضى الإيمان الذي يدركون به معيته، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بامتثال أمرهما واجتناب نهيهما.

وَلا
تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: عن هذا الأمر الذي هو طاعة اللّه، وطاعة رسوله.
وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ما يتلى عليكم من كتاب اللّه، وأوامره، ووصاياه،
ونصائحه،فتوليكم في هذه الحال من أقبح الأحوال.

وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي: لا تكتفوا بمجرد
الدعوى الخالية التي لا حقيقة لها، فإنها حالة لا يرضاها اللّه ولا
رسوله،فليس الإيمان بالتمني والتحلي، ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته
الأعمال.

22 - 23 إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ
الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ
خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ
.

يقول تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ من لم تفد
فيهم الآيات والنذر،وهم الصُّمُّ عن استماع الحق الْبُكْمُ عن النطق به.
الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ما ينفعهم، ويؤثرونه على ما يضرهم،فهؤلاء شر عند
اللّه من جميع الدواب، لأن اللّه أعطاهم أسماعا وأبصارا وأفئدة، ليستعملوها
في طاعة اللّه، فاستعملوها في معاصيه وعدموا - بذلك - الخير الكثير،فإنهم
كانوا بصدد أن يكونوا من خيار البرية.

فأبوا هذا الطريق، واختاروا
لأنفسهم أن يكونوا من شر البرية،والسمع الذي نفاه اللّه عنهم، سمع المعنى
المؤثر في القلب،وأما سمع الحجة، فقد قامت حجة اللّه تعالى عليهم بما سمعوه
من آياته،وإنما لم يسمعهم السماع النافع، لأنه لم يعلم فيهم خيرا يصلحون
به لسماع آياته.

وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا
لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ على الفرض والتقدير لَتَوَلَّوْا عن
الطاعة وَهُمْ مُعْرِضُونَ لا التفات لهم إلى الحق بوجه من الوجوه،وهذا
دليل على أن اللّه تعالى لا يمنع الإيمان والخير، إلا لمن لا خير فيه، الذي
لا يزكو لديه ولا يثمر عنده. .وله الحمد تعالى والحكمة في هذا.

24 -
25 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا
فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ .

يأمر تعالى عباده المؤمنين بما
يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة للّه وللرسول، أي: الانقياد لما أمرا به
والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه
والنهي عنه.

وقوله: إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وصف ملازم
لكل ما دعا اللّه ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلب
والروح بعبودية اللّه تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام.

ثم
حذر عن عدم الاستجابة للّه وللرسول فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فإياكم أن تردوا أمر اللّه أول ما
يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن اللّه
يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء.

فليكثر
العبد من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، اصرف
قلبي إلى طاعتك.

وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي: تجمعون ليوم لا
ريب فيه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بعصيانه.

وَاتَّقُوا
فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً بل تصيب فاعل
الظلم وغيره،وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته تعم الفاعل
وغيره،وتقوى هذه الفتنة بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا
يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن.

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ لمن تعرض لمساخطه، وجانب رضاه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 5:55 pm

https://123sh.yoo7.com/t4848p51-topic#28151وَاذْكُرُوا
إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ
يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .

يقول
تعالى ممتنا على عباده في نصرهم بعد الذلة، وتكثيرهم بعد القلة، وإغنائهم
بعد العيلة.

وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي
الأرْضِ أي: مقهورون تحت حكم غيركم تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ
النَّاسُ أي: يأخذونكم.

فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فجعل لكم بلدا تأوون إليه، وانتصر من
أعدائكم على أيديكم، وغنمتم من أموالهم ما كنتم به أغنياء.

لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ اللّه على منته العظيمة وإحسانه التام، بأن تعبدوه ولا تشركوا
به شيئا.

27 - 28 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا
اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ
اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ .

يأمر تعالى عباده المؤمنين أن
يؤدوا ما ائتمنهم اللّه عليه من أوامره ونواهيه، فإن الأمانة قد عرضها
اللّه على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها
الإنسان إنه كان ظلوما جهولافمن أدى الأمانة استحق من اللّه الثواب الجزيل،
ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل، وصار خائنا للّه وللرسول
ولأمانته، منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات، وأقبح الشيات، وهي
الخيانة مفوتا لها أكمل الصفات وأتمها، وهي الأمانة.

ولما كان العبد
ممتحنا بأمواله وأولاده، فربما حمله محبة ذلك على تقديم هوى نفسه على أداء
أمانته، أخبر اللّه تعالى أن الأموال والأولاد فتنة يبتلي اللّه بهما
عباده، وأنها عارية ستؤدى لمن أعطاها، وترد لمن استودعها وَأَنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
فإن كان لكم عقل ورَأْيٌ، فآثروا فضله العظيم
على لذة صغيرة فانية مضمحلة، فالعاقل يوازن بين الأشياء، ويؤثر أولاها
بالإيثار، وأحقها بالتقديم.

29 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .

امتثال
العبد لتقوى ربه عنوان السعادة، وعلامة الفلاح، وقد رتب اللّه على التقوى
من خير الدنيا والآخرة شيئا كثيرا،فذكر هنا أن من اتقى اللّه حصل له أربعة
أشياء، كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها:

الأول: الفرقان: وهو
العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال، والحق والباطل،
والحلال والحرام، وأهل السعادة من أهل الشقاوة.

الثاني والثالث:
تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب،وكل واحد منهما داخل في الآخر عند الإطلاق
وعند الاجتماع يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر، ومغفرة الذنوب بتكفير
الكبائر.

الرابع: الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن اتقاه وآثر رضاه
على هوى نفسه. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
30 وَإِذْ يَمْكُرُ
بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ .

أي:
و أذكر أيها الرسول، ما منَّ اللّه به عليك. إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا حين تشاور المشركون في دار الندوة فيما يصنعون بالنبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، إما أن يثبتوه عندهم بالحبس ويوثقوه.

وإما
أن يقتلوه فيستريحوا - بزعمهم - من شره.

وإما أن يخرجوه ويجلوه من
ديارهم.

فكلُّ أبدى من هذه الآراء رأيا رآه،فاتفق رأيهم على رأي:
رآه شريرهم أبو جهل لعنه اللّه،وهو أن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش
فتى ويعطوه سيفا صارما، ويقتله الجميع قتلة رجل واحد، ليتفرق دمه في
القبائل.فيرضى بنو هاشم [ثَمَّ] بديته، فلا يقدرون على مقاومة سائر قريش،
فترصدوا للنبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 في الليل ليوقعوا به إذا قام من فراشه.

فجاءه
الوحي من السماء، وخرج عليهم، فذرَّ على رءوسهم التراب وخرج، وأعمى اللّه
أبصارهم عنه، حتى إذا استبطؤوه جاءهم آت وقال: خيبكم اللّه، قد خرج محمد
وذَرَّ على رءوسكم التراب.

فنفض كل منهم التراب عن رأسه، ومنع اللّه
رسوله منهم، وأذن له في الهجرة إلى المدينة،فهاجر إليها، وأيده اللّه
بأصحابه المهاجرين والأنصار،ولم يزل أمره يعلو حتى دخل مكة عنوة، وقهر
أهلها،فأذعنوا له وصاروا تحت حكمه، بعد أن خرج مستخفيا منهم، خائفا على
نفسه.

فسبحان اللطيف بعبده الذي لا يغالبه مغالب.

31 - 34
وقوله: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ
نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ *
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا
كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ *
وَمَا لَهُمْ
أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ .

يقول تعالى في بيان عناد
المكذبين للرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا
الدالة على صدق ما جاء به الرسول.

قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ
نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ
وهذا من عنادهم وظلمهم،وإلا فقد تحداهم اللّه أن يأتوا بسورة من مثله،
ويدعوا من استطاعوا من دون اللّه، فلم يقدروا على ذلك، وتبين عجزهم.

فهذا
القول الصادر من هذا القائل مجرد دعوى، كذبه الواقع،وقد علم أنه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا رحل ليدرس
من أخبار الأولين، فأتى بهذا الكتاب الجليل الذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه، تنـزيل من حكيم حميد.

وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ
إِنْ كَانَ هَذَا الذي يدعو إليه محمد هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ قالوه على وجه الجزم منهم بباطلهم، والجهل بما ينبغي من الخطاب.

فلو
أنهم إذ أقاموا على باطلهم من الشبه والتمويهات ما أوجب لهم أن يكونوا على
بصيرة ويقين منه، قالوا لمن ناظرهم وادعى أن الحق معه: إن كان هذا هو الحق
من عندك فاهدنا له، لكان أولى لهم وأستر لظلمهم.

فمنذ قالوا:
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية، علم بمجرد
قولهم أنهم السفهاء الأغبياء، الجهلة الظالمون،فلو عاجلهم اللّه بالعقاب
لما أبقى منهم باقية، ولكنه تعالى دفع عنهم العذاب بسبب وجود الرسول بين
أظهرهم، فقال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
فوجوده تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 بين أظهرهم أمنة لهم من العذاب.

وكانوا
مع قولهم هذه المقالة التي يظهرونها على رءوس الأشهاد، يدرون بقبحها،
فكانوا يخافون من وقوعها فيهم، فيستغفرون اللّه [تعالى فلهذا] قال تعالى:
وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
فهذا مانع
يمنع من وقوع العذاب بهم، بعد ما انعقدت أسبابه ثم قال: وَمَا لَهُمْ أَلا
يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي: أي شيء يمنعهم من عذاب اللّه، وقد فعلوا ما يوجب
ذلك، وهو صد الناس عن المسجد الحرام، خصوصا صدهم النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 وأصحابه، الذين هم أولى به منهم، ولهذا
قال: وَمَا كَانُوا أي: المشركون أَوْلِيَاءَهُ يحتمل أن الضمير يعود إلى
اللّه، أي: أولياء اللّه.ويحتمل أن يعود إلى المسجد الحرام، أي: وما كانوا
أولى به من غيرهم. إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وهم الذين آمنوا
باللّه ورسوله، وأفردوا اللّه بالتوحيد والعبادة، وأخلصوا له الدين.
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ فلذلك ادَّعَوْا لأنفسهم أمرا غيرهم
أولى به.

35 وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ .

يعني
أن اللّه تعالى إنما جعل بيته الحرام ليقام فيه دينه، وتخلص له فيه
العبادة،فالمؤمنون هم الذين قاموا بهذا الأمر،وأما هؤلاء المشركون الذين
يصدون عنه، فما كان صلاتهم فيه التي هي أكبر أنواع العبادات إِلا مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً أي: صفيرا وتصفيقا، فعل الجهلة الأغبياء، الذين ليس في قلوبهم
تعظيم لربهم، ولا معرفة بحقوقه، ولا احترام لأفضل البقاع وأشرفها،فإذا
كانت هذه صلاتهم فيه، فكيف ببقية العبادات؟".

فبأي: شيء كانوا أولى
بهذا البيت من المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو
معرضون، إلى آخر ما وصفهم اللّه به من الصفات الحميدة، والأفعال السديدة.

لا
جرم أورثهم اللّه بيته الحرام، ومكنهم منه،وقال لهم بعد ما مكن لهم فيه
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وقال هنا
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
36 - 37 إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ
يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ
اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى
بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ .

يقول تعالى مبينا لعداوة المشركين وكيدهم ومكرهم،
ومبارزتهم للّه ولرسوله، وسعيهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته، وأن وبال
مكرهم سيعود عليهم، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فقال: إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي:
ليبطلوا الحق وينصروا الباطل، ويبطل توحيد الرحمن، ويقوم دين عبادة
الأوثان.

فَسَيُنْفِقُونَهَا أي: فسيصدرون هذه النفقة، وتخف عليهم
لتمسكهم بالباطل، وشدة بغضهم للحق، ولكنها ستكون عليهم حسرة، أي: ندامة
وخزيا وذلا ويغلبون فتذهب أموالهم وما أملوا، ويعذبون في الآخرة أشد
العذاب. ولهذا قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ أي:
يجمعون إليها، ليذوقوا عذابها، وذلك لأنها دار الخبث والخبثاء، واللّه
تعالى يريد أن يميز الخبيث من الطيب، ويجعل كل واحدة على حدة، وفي دار
تخصه،فيجعل الخبيث بعضه على بعض، من الأعمال والأموال والأشخاص.
فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران
المبين.

38 - 40 قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا
يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ
الأوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ .

هذا من لطفه
تعالى بعباده لا يمنعه كفر العباد ولا استمرارهم في العناد، من أن يدعوهم
إلى طريق الرشاد والهدى، وينهاهم عما يهلكهم من أسباب الغي والردى، فقال:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا عن كفرهم وذلك بالإسلام للّه
وحده لا شريك له.

يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ منهم من الجرائم
وَإِنْ يَعُودُوا إلى كفرهم وعنادهم فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ
بإهلاك الأمم المكذبة، فلينتظروا ما حل بالمعاندين، فسوف يأتيهم أنباء ما
كانوا به يستهزئون،فهذا خطابه للمكذبين ، وأما خطابه للمؤمنين عندما أمرهم
بمعاملة الكافرين، فقال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي:
شرك وصد عن سبيل اللّه، ويذعنوا لأحكام الإسلام، وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ فهذا المقصود من القتال والجهاد لأعداء الدين، أن يدفع
شرهم عن الدين، وأن يذب عن دين اللّه الذي خلق الخلق له، حتى يكون هو
العالي على سائر الأديان.

فَإِنِ انْتَهَوْا عن ما هم عليه من الظلم
فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا تخفى عليه منهم خافية.

وَإِنْ
تَوَلَّوْا عن الطاعة وأوضعوا في الإضاعة فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى الذي يتولى عباده المؤمنين، ويوصل إليهم
مصالحهم، وييسر لهم منافعهم الدينية والدنيوية. وَنِعْمَ النَّصِيرُ الذي
ينصرهم، فيدفع عنهم كيد الفجار، وتكالب الأشرار.

ومن كان اللّه
مولاه وناصره فلا خوف عليه، ومن كان اللّه عليه فلا عِزَّ له ولا قائمة له.

{
41 - 42 ْ} { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنْتُمْ
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ
أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ
وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ
اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ْ}

يقول تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ْ} أي: أخذتم من مال الكفار قهرا بحق، قليلا كان أو
كثيرا. { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ْ} أي: وباقيه لكم أيها الغانمون، لأنه
أضاف الغنيمة إليهم، وأخرج منها خمسها.فدل على أن الباقي لهم، يقسم على ما
قسمه رسول اللّه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999: للراجل سهم، وللفارس سهمان لفرسه، وسهم
له.

وأما هذا الخمس، فيقسم خمسة أسهم، سهم للّه ولرسوله، يصرف في
مصالح المسلمين العامة، من غير تعيين لمصلحة، لأن اللّه جعله له ولرسوله،
واللّه ورسوله غنيان عنه، فعلم أنه لعباد اللّه.فإذا لم يعين اللّه له
مصرفا، دل على أن مصرفه للمصالح العامة.

والخمس الثاني: لذي القربى،
وهم قرابة النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 من بني هاشم وبني المطلب.وأضافه اللّه إلى
القرابة دليلا على أن العلة فيه مجرد القرابة، فيستوي فيه غنيهم وفقيرهم،
ذكرهم وأنثاهم.

والخمس الثالث لليتامى، وهم الذين فقدت آباؤهم وهم
صغار، جعل اللّه لهم خمس الخمس رحمة بهم، حيث كانوا عاجزين عن القيام
بمصالحهم، وقد فقد من يقوم بمصالحهم.

والخمس الرابع للمساكين، أي:
المحتاجين الفقراء من صغار وكبار، ذكور وإناث.

والخمس الخامس لابن
السبيل، وهو الغريب المنقطع به في غير بلده، [وبعض المفسرين يقول إن خمس
الغنيمة لا يخرج عن هذه الأصناف ولا يلزم أن يكونوا فيه على السواء بل ذلك
تبع للمصلحة وهذا هو الأولى] وجعل اللّه أداء الخمس على وجهه شرطا للإيمان
فقال: { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى
عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ ْ} وهو يوم { بدر ْ} الذي فرق اللّه به بين
الحق والباطل. وأظهر الحق وأبطل الباطل.

{ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ ْ} جمع المسلمين، وجمع الكافرين،أي: إن كان إيمانكم باللّه،
وبالحق الذي أنزله اللّه على رسوله يوم الفرقان، الذي حصل فيه من الآيات
والبراهين، ما دل على أن ما جاء به هو الحق. { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ ْ} لا يغالبه أحد إلا غلبه.

{ إِذْ أَنْتُمْ
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا ْ} أي: بعدوة الوادي القريبة من المدينة، وهم
بعدوته أي: جانبه البعيدة من المدينة، فقد جمعكم واد واحد.

{
وَالرَّكْبُ ْ} الذي خرجتم لطلبه، وأراد اللّه غيره { أَسْفَلَ مِنْكُمْ ْ}
مما يلي ساحل البحر.

{ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ ْ} أنتم وإياهم على
هذا الوصف وبهذه الحال { لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ْ} أي: لا بد من
تقدم أو تأخر أو اختيار منزل، أو غير ذلك، مما يعرض لكم أو لهم، يصدفكم عن
ميعادكم

{ وَلَكِنْ ْ} اللّه جمعكم على هذه الحال { لِيَقْضِيَ
اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ْ} أي: مقدرا في الأزل، لا بد من وقوعه.

{
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ْ} أي: ليكون حجة وبينة للمعاند،
فيختار الكفر على بصيرة وجزم ببطلانه، فلا يبقى له عذر عند اللّه.

{
وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ْ} أي: يزداد المؤمن بصيرة ويقينا،
بما أرى اللّه الطائفتين من أدلة الحق وبراهينه، ما هو تذكرة لأولي
الألباب.

{ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ْ} سميع لجميع
الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، عليم بالظواهر والضمائر
والسرائر، والغيب والشهادة.


{ 43 - 44 ْ} { إِذْ يُرِيكَهُمُ
اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ
وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ
فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ
اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ْ}

وكان
اللّه قد أرى رسوله المشركين في الرؤيا عددا قليلا، فبشر بذلك أصحابه،
فاطمأنت قلوبهم وتثبتت أفئدتهم.

ولو أراكهم الله إياهم كَثِيرًا
فأخبرت بذلك أصحابك { لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ْ}
فمنكم من يرى الإقدام على قتالهم، ومنكم من لا يرى ذلك فوقع من الاختلاف
والتنازع ما يوجب الفشل.

{ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ْ} فلطف بكم {
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ْ} أي: بما فيها من ثبات وجزع، وصدق
وكذب،فعلم اللّه من قلوبكم ما صار سببا للطفه وإحسانه بكم وصدق رؤيا رسوله ،
فأرى اللّه المؤمنين عدوهم قليلا في أعينهم، ويقللكم - يا معشر المؤمنين -
في أعينهم،فكل من الطائفتين ترى الأخرى قليلة، لتقدم كل منهما على الأخرى.

{
لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ْ} من نصر المؤمنين وخذلان
الكافرين وقتل قادتهم ورؤساء الضلال منهم، ولم يبق منهم أحد له اسم يذكر،
فيتيسر بعد ذلك انقيادهم إذا دعوا إلى الإسلام، فصار أيضا لطفا بالباقين،
الذين مَنَّ اللّه عليهم بالإسلام.

{ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ ْ} أي: جميع أمور الخلائق ترجع إلى اللّه، فيميز الخبيث من
الطيب، ويحكم في الخلائق بحكمه العادل، الذي لا جور فيه ولا ظلم.


{
45 - 49 ْ} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً
فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ *
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ
النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ
مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا
غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا
تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ
مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ
شَدِيدُ الْعِقَابِ * إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ْ}

يقول تعالى: { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً ْ} أي: طائفة من الكفار
تقاتلكم.

{ فَاثْبُتُوا ْ} لقتالها، واستعملوا الصبر وحبس النفس
على هذه الطاعة الكبيرة، التي عاقبتها العز والنصر.

واستعينوا على
ذلك بالإكثار من ذكر اللّه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ْ} أي: تدركون ما
تطلبون من الانتصار على أعدائكم،فالصبر والثبات والإكثار من ذكر اللّه من
أكبر الأسباب للنصر.

{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ْ} في
استعمال ما أمرا به، والمشي خلف ذلك في جميع الأحوال.

{ وَلَا
تَنَازَعُوا ْ} تنازعا يوجب تشتت القلوب وتفرقها، { فَتَفْشَلُوا ْ} أي:
تجبنوا { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ْ} أي: تنحل عزائمكم، وتفرق قوتكم، ويرفع ما
وعدتم به من النصر على طاعة اللّه ورسوله.

{ وَاصْبِرُوا ْ} نفوسكم
على طاعة اللّه { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ْ} بالعون والنصر
والتأييد، واخشعوا لربكم واخضعوا له.

{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ ْ} أي: هذا مقصدهم الذي خرجوا إليه، وهذا الذي أبرزهم من
ديارهم لقصد الأشر والبطر في الأرض، وليراهم الناس ويفخروا لديهم.

والمقصود
الأعظم أنهم خرجوا ليصدوا عن سبيل اللّه من أراد سلوكه، { وَاللَّهُ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ْ} فلذلك أخبركم بمقاصدهم، وحذركم أن تشبهوا بهم،
فإنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة.

فليكن قصدكم في خروجكم وجه
اللّه تعالى وإعلاء دين اللّه، والصد عن الطرق الموصلة إلى سخط اللّه
وعقابه، وجذب الناس إلى سبيل اللّه القويم الموصل لجنات النعيم.

{
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ْ} حسَّنها في قلوبهم
وخدعهم. { وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ْ} فإنكم في
عَدَدٍ وعُدَدٍ وهيئة لا يقاومكم فيها محمد ومن معه.

{ وَإِنِّي
جَارٌ لَكُمْ ْ} من أن يأتيكم أحد ممن تخشون غائلته، لأن إبليس قد تبدَّى
لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكانوا يخافون من بني مدلج
لعداوة كانت بينهم.

فقال لهم الشيطان: أنا جار لكم، فاطمأنت نفوسهم
وأتوا على حرد قادرين.

{ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ ْ}
المسلمون والكافرون، فرأى الشيطان جبريل عليه السلام يزع الملائكة خاف خوفا
شديدا و { نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ ْ} أي: ولى مدبرا. { وَقَالَ ْ} لمن
خدعهم وغرهم: { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ ْ}
أي: أرى الملائكة الذين لا يدان لأحد بقتالهم.

{ إِنِّي أَخَافُ
اللَّهَ ْ} أي: أخاف أن يعاجلني بالعقوبة في الدنيا { وَاللَّهُ شَدِيدُ
الْعِقَابِ ْ}

ومن المحتمل أن يكون الشيطان، قد سول لهم، ووسوس في
صدورهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس، وأنه جار لهم،فلما أوردهم مواردهم،
نكص عنهم، وتبرأ منهم، كما قال تعالى: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ
لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ
إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا
أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِينَ ْ}

{ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ْ} أي: شك وشبهة، من ضعفاء الإيمان، للمؤمنين حين
أقدموا - مع قِلَّتهم - على قتال المشركين مع كثرتهم.

{ غَرَّ
هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ْ} أي: أوردهم الدين الذي هم عليه هذه الموارد التي لا
يدان لهم بها، ولا استطاعة لهم بها،يقولونه احتقارا لهم واستخفافا
لعقولهم، وهم - واللّه - الأخِفَّاءُ عقولا، الضعفاء أحلاما.

فإن
الإيمان يوجب لصاحبه الإقدام على الأمور الهائلة التي لا يقدم عليها الجيوش
العظام،فإن المؤمن المتوكل على اللّه، الذي يعلم أنه ما من حول ولا قوة
ولا استطاعة لأحد إلا باللّه تعالى،وأن الخلق لو اجتمعوا كلهم على نفع شخص
بمثقال ذرة لم ينفعوه،ولو اجتمعوا على أن يضروه لم يضروه إلا بشيء قد كتبه
اللّه عليه، وعلم أنه على الحق، وأن اللّه تعالى حكيم رحيم في كل ما قدره
وقضاه، فإنه لا يبالي بما أقدم عليه من قوة وكثرة، وكان واثقا بربه، مطمئن
القلب لا فزعا ولا جبانا، .ولهذا قال { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ْ} لا يغالب قوته قوة. { حَكِيمٌ ْ} فيما قضاه
وأجراه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 5:56 pm

{
50 - 52 ْ} { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ
الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ}

يقول تعالى: ولو ترى
الذين كفروا بآيات اللّه حين توفاهم الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم وقد
اشتد بهم القلق وعظم كربهم، و { الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبَارَهُمْ ْ} يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم، ونفوسهم متمنعة مستعصية على
الخروج، لعلمها ما أمامها من العذاب الأليم.

ولهذا قال: {
وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق أي: العذاب الشديد المحرق، ذلك العذاب حصل
لكم، غير ظلم ولا جور من ربكم، وإنما هو بما قدمت أيديكم من المعاصي التي
أثرت لكم ما أثرت، وهذه سنة اللّه في الأولين والآخرين، فإن دأب هؤلاء
المكذبين أي: سنتهم وما أجرى اللّه عليهم من الهلاك بذنوبهم.

ْ}
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ { من الأمم المكذبة.
ْ} كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ { بالعقاب ْ}
بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ { لا يعجزه أحد
يريد أخذه ْ} مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا

{
53 - 54 ْ} { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً
أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ
وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ْ}

{
ذَلِكَ ْ} العذاب الذي أوقعه اللّه بالأمم المكذبين وأزال عنهم ما هم فيه
من النعم والنعيم، بسبب ذنوبهم وتغييرهم ما بأنفسهم،فإن الله لم يك مغيرا
نعمة أنعمها على قوم من نعم الدين والدنيا، بل يبقيها ويزيدهم منها، إن
ازدادوا له شكرا. { حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ْ} من الطاعة
إلى المعصية فيكفروا نعمة اللّه ويبدلوها كفرا، فيسلبهم إياها ويغيرها
عليهم كما غيروا ما بأنفسهم.

وللّه الحكمة في ذلك والعدل والإحسان
إلى عباده، حيث لم يعاقبهم إلا بظلمهم، وحيث جذب قلوب أوليائه إليه، بما
يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره.

{ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ ْ} يسمع جميع ما نطق به الناطقون، سواء من أسر القول ومن جهر
به،ويعلم ما تنطوي عليه الضمائر، وتخفيه السرائر، فيجري على عباده من
الأقدار ما اقتضاه علمه وجرت به مشيئته.

{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ
ْ} أي: فرعون وقومه { وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ ْ} حين جاءتهم { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ْ} كل بحسب
جرمه.

{ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ ْ} من المهلكين
المعذبين { كَانُوا ظَالِمِينَ ْ} لأنفسهم، ساعين في هلاكها، لم يظلمهم
اللّه، ولا أخذهم بغير جرم اقترفوه،فليحذر المخاطبون أن يشابهوهم في الظلم،
فيحل اللّه بهم من عقابه ما أحل بأولئك الفاسقين.

{ 55 - 57 ْ} {
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ
فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي
الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ْ}

هؤلاء
الذين جمعوا هذه الخصال الثلاث: الكفر، وعدم الإيمان، والخيانة، بحيث لا
يثبتون على عهد عاهدوه ولا قول قالوه، هم شر الدواب عند الله فهم شر من
الحمير والكلاب وغيرها، لأن الخير معدوم منهم، والشر متوقع فيهم ، فإذهاب
هؤلاء ومحقهم هو المتعين، لئلا يسري داؤهم لغيرهم، ولهذا قال: { فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ ْ} أي: تجدنهم في حال المحاربة، بحيث لا
يكون لهم عهد وميثاق.

{ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ْ} أي:
نكل بهم غيرهم، وأوقع بهم من العقوبة ما يصيرون [به] عبرة لمن بعدهم {
لَعَلَّهُمْ ْ} أي من خلفهم { يَذْكُرُونَ ْ} صنيعهم، لئلا يصيبهم ما
أصابهم،وهذه من فوائد العقوبات والحدود المرتبة على المعاصي، أنها سبب
لازدجار من لم يعمل المعاصي، بل وزجرا لمن عملها أن لا يعاودها.

ودل
تقييد هذه العقوبة في الحرب أن الكافر - ولو كان كثير الخيانة سريع الغدر -
أنه إذا أُعْطِيَ عهدا لا يجوز خيانته وعقوبته.


{ 58 ْ} {
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى
سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ْ}

أي: وإذا كان
بينك وبين قوم عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة،بأن ظهر من قرائن
أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة.

{
فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ ْ} عهدهم، أي: ارمه عليهم، وأخبرهم أنه لا عهد بينك
وبينهم. { عَلَى سَوَاءٍ ْ} أي: حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك، ولا يحل لك أن
تغدرهم، أو تسعى في شيء مما منعه موجب العهد، حتى تخبرهم بذلك.

{
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ْ} بل يبغضهم أشد البغض،فلا بد من
أمر بيِّنٍ يبرئكم من الخيانة.

ودلت الآية على أنه إذا وجدت
الخيانة المحققة منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم، لأنه لم يخف منهم، بل
علم ذلك، ولعدم الفائدة ولقوله: { عَلَى سَوَاءٍ ْ} وهنا قد كان معلوما عند
الجميع غدرهم.

ودل مفهومها أيضا أنه إذا لم يُخَفْ منهم خيانة، بأن
لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء
إلى أن تتم مدته.

{ 59 ْ} { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ْ}

أي: لا يحسب الكافرون بربهم
المكذبون بآياته، أنهم سبقوا اللّه وفاتوه، فإنهم لا يعجزونه، واللّه لهم
بالمرصاد.

وله تعالى الحكمة البالغة في إمهالهم وعدم معاجلتهم
بالعقوبة، التي من جملتها ابتلاء عباده المؤمنين وامتحانهم، وتزودهم من
طاعته ومراضيه، ما يصلون به المنازل العالية، واتصافهم بأخلاق وصفات لم
يكونوا بغيره بالغيها، فلهذا قال لعباده المؤمنين:


{ 60 ْ} {
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ
دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا
مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا
تُظْلَمُونَ ْ}

أي { وَأَعِدُّوا ْ} لأعدائكم الكفار الساعين في
هلاككم وإبطال دينكم. { مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ْ} أي: كل ما
تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين
على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة
والآلات من المدافع والرشاشات، والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب
البرية والبحرية، والحصون والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأْي:
والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتَعَلُّم
الرَّمْيِ، والشجاعة والتدبير.

ولهذا قال النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999: { ألا إن القوة الرَّمْيُ ْ} ومن ذلك:
الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال،ولهذا قال تعالى: { وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ْ} وهذه
العلة موجودة فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحكم يدور مع
علته.

فإذا كان شيء موجود أكثر إرهابا منها، كالسيارات البرية
والهوائية، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد، كانت مأمورا
بالاستعداد بها، والسعي لتحصيلها،حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلُّم
الصناعة، وجب ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب

وقوله: {
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْْ} ممن تعلمون أنهم
أعداؤكم. ْ{ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ} ممن
سيقاتلونكم بعد هذا الوقت الذي يخاطبهم الله به ْ{ اللَّهُ يَعْلَمُهُم}ْ
فلذلك أمرهم بالاستعداد لهم،ومن أعظم ما يعين على قتالهم بذلك النفقات
المالية في جهاد الكفار.

ولهذا قال تعالى مرغبا في ذلك: {وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّه}ِ قليلا كان أو كثيرا ْ
{يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أجره يوم القيامة مضاعفا أضعافا كثيرة، حتى إن النفقة
في سبيل اللّه، تضاعف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.{ْ وَأَنْتُمْ لَا
تُظْلَمُونَ} أي: لا تنقصون من أجرها وثوابها شيئا.


{ 61 - 64
ْ} { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ
يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ
وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا
فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ
اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ْ}

يقول
تعالى: { وَإِنْ جَنَحُوا ْ} أي: الكفار المحاربون، أي: مالوا {
لِلسَّلْمِ ْ} أي: الصلح وترك القتال.

{ فَاجْنَحْ لَهَا
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ْ} أي: أجبهم إلى ما طلبوا متوكلا على ربك، فإن
في ذلك فوائد كثيرة.

منها: أن طلب العافية مطلوب كل وقت، فإذا كانوا
هم المبتدئين في ذلك، كان أولى لإجابتهم.

ومنها: أن في ذلك إجماما
لقواكم، واستعدادا منكم لقتالهم في وقت آخر، إن احتيج لذلك.

ومنها:
أنكم إذا أصلحتم وأمن بعضكم بعضا، وتمكن كل من معرفة ما عليه الآخر، فإن
الإسلام يعلو ولا يعلى عليه،.فكل من له عقل وبصيرة إذا كان معه إنصاف فلا
بد أن يؤثره على غيره من الأديان، لحسنه في أوامره ونواهيه، وحسنه في
معاملته للخلق والعدل فيهم، وأنه لا جور فيه ولا ظلم بوجه، فحينئذ يكثر
الراغبون فيه والمتبعون له،.فصار هذا السلم عونا للمسلمين على
الكافرين،.ولا يخاف من السلم إلا خصلة واحدة، وهي أن يكون الكفار قصدهم
بذلك خدع المسلمين، وانتهاز الفرصة فيهم،.فأخبرهم اللّه أنه حسبهم وكافيهم
خداعهم، وأن ذلك يعود عليهم ضرره، فقال: { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ
يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ْ} أي: كافيك ما يؤذيك، وهو القائم
بمصالحك ومهماتك، فقد سبق [لك] من كفايته لك ونصره ما يطمئن به قلبك.

فلـ
{ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ْ} أي: أعانك
بمعونة سماوية، وهو النصر منه الذي لا يقاومه شيء، ومعونة بالمؤمنين بأن
قيضهم لنصرك.

{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ْ} فاجتمعوا وائتلفوا،
وازدادت قوتهم بسبب اجتماعهم، ولم يكن هذا بسعي أحد، ولا بقوة غير قوة
اللّه،فلو أنفقت ما في الأرض جميعا من ذهب وفضة وغيرهما لتأليفهم بعد تلك
النفرة والفرقة الشديدة { مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ْ} لأنه لا
يقدر على تقليب القلوب إلا اللّه تعالى.

{ وَلَكِنَّ اللَّهَ
أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ْ} ومن عزته أن ألف بين
قلوبهم، وجمعها بعد الفرقة كما قال تعالى: { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ
مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ْ}

ثم قال تعالى: { يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ْ} أي: كافيك { وَمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ْ} أي: وكافي أتباعك من المؤمنين،.وهذا وعد من اللّه
لعباده المؤمنين المتبعين لرسوله، بالكفاية والنصرة على الأعداء.

فإذا
أتوا بالسبب الذي هو الإيمان والاتباع، فلابد أن يكفيهم ما أهمهم من أمور
الدين والدنيا، وإنما تتخلف الكفاية بتخلف شرطها.


{ 65 - 66 ْ} {
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ
وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا
أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ْ}

يقول
تعالى لنبيه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ْ} أي: حثهم وأنهضهم إليه بكل ما يقوي
عزائمهم وينشط هممهم، من الترغيب في الجهاد ومقارعة الأعداء، والترهيب من
ضد ذلك، وذكر فضائل الشجاعة والصبر، وما يترتب على ذلك من خير في الدنيا
والآخرة، وذكر مضار الجبن، وأنه من الأخلاق الرذيلة المنقصة للدين
والمروءة، وأن الشجاعة بالمؤمنين أولى من غيرهم { إِنْ تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ
اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ْ}

{ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ْ} أيها
المؤمنون { عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ْ} يكون
الواحد بنسبة عشرة من الكفار،.وذلك بأن الكفار { قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ْ}
أي: لا علم عندهم بما أعد اللّه للمجاهدين في سبيله، فهم يقاتلون لأجل
العلو في الأرض والفساد فيها،.وأنتم تفقهون المقصود من القتال، أنه لإعلاء
كلمة اللّه وإظهار دينه، والذب عن كتاب اللّه، وحصول الفوز الأكبر عند
اللّه،.وهذه كلها دواع للشجاعة والصبر والإقدام على القتال.

ثم إن
هذا الحكم خففه اللّه على العباد فقال: { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ
وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ْ} فلذلك اقتضت رحمته وحكمته التخفيف،. {
فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ
مَعَ الصَّابِرِينَ ْ} بعونه وتأييده.

وهذه الآيات صورتها صورة
الإخبار عن المؤمنين، بأنهم إذا بلغوا هذا المقدار المعين يغلبون ذلك
المقدار المعين في مقابلته من الكفار، وأن اللّه يمتن عليهم بما جعل فيهم
من الشجاعة الإيمانية.

ولكن معناها وحقيقتها الأمر وأن اللّه أمر
المؤمنين - في أول الأمر - أن الواحد لا يجوز له أن يفر من العشرة، والعشرة
من المائة، والمائة من الألف.

ثم إن اللّه خفف ذلك، فصار لا يجوز
فرار المسلمين من مثليهم من الكفار، فإن زادوا على مثليهم جاز لهم الفرار،
ولكن يرد على هذا أمران:.

أحدهما: أنها بصورة الخبر، والأصل في
الخبر أن يكون على بابه، وأن المقصود بذلك الامتنان والإخبار بالواقع..

والثاني:
تقييد ذلك العدد أن يكونوا صابرين بأن يكونوا متدربين على الصبر.

ومفهوم
هذا أنهم إذا لم يكونوا صابرين، فإنه يجوز لهم الفرار، ولو أقل من مثليهم
[إذا غلب على ظنهم الضرر] كما تقتضيه الحكمة الإلهية.

ويجاب عن
الأول بأن قوله: { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ْ} إلى آخرها، دليل على
أن هذا أمر لازم وأمر محتم، ثم إن اللّه خففه إلى ذلك العدد،. فهذا ظاهر
في أنه أمر، وإن كان في صيغة الخبر..

وقد يقال: إن في إتيانه بلفظ
الخبر، نكتة بديعة لا توجد فيه إذا كان بلفظ الأمر،.وهي تقوية قلوب
المؤمنين، والبشارة بأنهم سيغلبون الكافرين..

ويجاب عن الثاني: أن
المقصود بتقييد ذلك بالصابرين، أنه حث على الصبر، وأنه ينبغي منكم أن
تفعلوا الأسباب الموجبة لذلك[فإذا فعلوها صارت الأسباب الإيمانية والأسباب
المادية مبشرة بحصول ما أخبر اللّه به من النصر لهذا العدد القليل]


{
67 -69 ْ} { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى
يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ
سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ ْ}

هذه معاتبة من اللّه لرسوله وللمؤمنين يوم { بدر ْ} إذ
أسروا المشركين وأبقوهم لأجل الفداء،. وكان رأي: أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب في هذه الحال، قتلهم واستئصالهم.

فقال تعالى: { مَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىَ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ْ}
أي: ما ينبغي ولا يليق به إذا قاتل الكفار الذين يريدون أن يطفئوا نور
اللّه ويسعوا لإخماد دينه، وأن لا يبقى على وجه الأرض من يعبد اللّه، أن
يتسرع إلى أسرهم وإبقائهم لأجل الفداء الذي يحصل منهم، وهو عرض قليل
بالنسبة إلى المصلحة المقتضية لإبادتهم وإبطال شرهم،.فما دام لهم شر وصولة،
فالأوفق أن لا يؤسروا..

فإذا أثخنوا، وبطل شرهم، واضمحل أمرهم،
فحينئذ لا بأس بأخذ الأسرى منهم وإبقائهم.

يقول تعالى: { تُرِيدُونَ
ْ} بأخذكم الفداء وإبقائهم { عَرَضَ الدُّنْيَا ْ} أي: لا لمصلحة تعود إلى
دينكم.

{ وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ْ} بإعزاز دينه، ونصر
أوليائه، وجعل كلمتهم عالية فوق غيرهم، فيأمركم بما يوصل إلى ذلك.

{
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ْ} أي: كامل العزة، ولو شاء أن ينتصر من الكفار
من دون قتال لفعل، لكنه حكيم، يبتلي بعضكم ببعض.

{ لَوْلَا كِتَابٌ
مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ْ} به القضاء والقدر، أنه قد أحل لكم الغنائم، وأن
اللّه رفع عنكم - أيها الأمة - العذاب { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ ْ} وفي الحديث: { لو نزل عذاب يوم بدر، ما نجا منه إلا عمر
ْ}

{ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ْ} وهذا من
لطفه تعالى بهذه الأمة، أن أحل لها الغنائم ولم يحلها لأمة قبلها.

{
وَاتَّقُوا اللَّهَ ْ} في جميع أموركم ولازموها، شكرا لنعم اللّه عليكم،. {
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ْ} يغفر لمن تاب إليه جميع الذنوب،.ويغفر لمن لم
يشرك به شيئا جميع المعاصي.

{ رَحِيمٌ ْ} بكم، حيث أباح لكم الغنائم
وجعلها حلالا طيبا.

{ 70 - 71 ْ} { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ
لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي
قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ
خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ ْ}

وهذه نزلت في أسارى يوم بدر، وكان في جملتهم العباس عم
رسول اللّه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999،فلما طلب منه الفداء، ادَّعى أنه مسلم قبل
ذلك، فلم يسقطوا عنه الفداء،فأنزل اللّه تعالى جبرا لخاطره ومن كان على مثل
حاله.

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ
الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ
خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ْ} أي: من المال، بأن ييسر لكم من فضله،
خيرا وأكثر مما أخذ منكم.

{ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ْ} ذنوبكم، ويدخلكم
الجنة وقد أنجز اللّه وعده للعباس وغيره، فحصل له - بعد ذلك - من المال شيء
كثير،حتى إنه مرة لما قدم على النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 مال كثير، أتاه العباس فأمره أن يأخذ منه
بثوبه ما يطيق حمله، فأخذ منه ما كاد أن يعجز عن حمله.

{ وَإِنْ
يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ ْ} في السعي لحربك ومنابذتك، { فَقَدْ خَانُوا
اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ْ} فليحذروا خيانتك، فإنه تعالى
قادر عليهم وهم تحت قبضته، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ} أي: عليم بكل
شيء، حكيم يضع الأشياء مواضعها، ومن علمه وحكمته أن شرع لكم هذه الأحكام
الجليلة الجميلة، وأن تكفل بكفايتكم شأن الأسرى وشرهم إن أرادوا خيانة.


{
72 ْ} { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا
أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا
وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا
عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ْ}

هذا عقد موالاة ومحبة، عقدها اللّه بين
المهاجرين الذين آمنوا وهاجروا في سبيل اللّه، وتركوا أوطانهم للّه لأجل
الجهاد في سبيل اللّه،وبين الأنصار الذين آووا رسول اللّه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 وأصحابه وأعانوهم في ديارهم وأموالهم
وأنفسهم،فهؤلاء بعضهم أولياء بعض، لكمال إيمانهم وتمام اتصال بعضهم ببعض.

{
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ْ} فإنهم قطعوا ولايتكم بانفصالهم عنكم في
وقت شدة الحاجة إلى الرجال،فلما لم يهاجروا لم يكن لهم من ولاية المؤمنين
شيء.لكنهم { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ ْ} أي: لأجل قتال من
قاتلهم لأجل دينهم { فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ْ} والقتال معهم،وأما من
قاتلوهم لغير ذلك من المقاصد فليس عليكم نصرهم.

وقوله تعالى: {
إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ْ} أي: عهد بترك
القتال، فإنهم إذا أراد المؤمنون المتميزون الذين لم يهاجروا قتالهم، فلا
تعينوهم عليهم، لأجل ما بينكم وبينهم من الميثاق.

{ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ْ} يعلم ما أنتم عليه من الأحوال، فيشرع لكم من
الأحكام ما يليق بكم.


{ 73 ْ} { وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي
الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ْ}

لما عقد الولاية بين المؤمنين، أخبر
أن الكفار حيث جمعهم الكفر فبعضهم أولياء لبعض فلا يواليهم إلا كافر
مثلهم.

وقوله: { إِلَّا تَفْعَلُوهُ ْ} أي: موالاة المؤمنين ومعاداة
الكافرين، بأن واليتموهم كلهم أو عاديتموهم كلهم، أو واليتم الكافرين
وعاديتم المؤمنين.

{ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ
كَبِيرٌ ْ} فإنه يحصل بذلك من الشر ما لا ينحصر من اختلاط الحق بالباطل،
والمؤمن بالكافر، وعدم كثير من العبادات الكبار، كالجهاد والهجرة، وغير ذلك
من مقاصد الشرع والدين التي تفوت إذا لم يتخذ المؤمنون وحدهم أولياء بعضهم
لبعض.


{ 74 - 75 ْ} { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ *
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ
فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ْ}

الآيات
السابقات في ذكر عقد الموالاة بين المؤمنين من المهاجرين والأنصار.

وهذه
الآيات في بيان مدحهم وثوابهم، فقال: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ
ْ} أي: المؤمنون من المهاجرين والأنصار { هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ْ}
لأنهم صدقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة والنصرة والموالاة بعضهم لبعض،
وجهادهم لأعدائهم من الكفار والمنافقين.

{ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ْ} من
اللّه تمحى بها سيئاتهم، وتضمحل بها زلاتهم، { و ْ} لهم { رِزْقٌ كَرِيمٌ
ْ} أي: خير كثير من الرب الكريم في جنات النعيم.

وربما حصل لهم من
الثواب المعجل ما تقر به أعينهم، وتطمئن به قلوبهم ، وكذلك من جاء بعد
هؤلاء المهاجرين والأنصار، ممن اتبعهم بإحسان فآمن وهاجر وجاهد في سبيل
اللّه. { فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ْ} لهم ما لكم وعليهم ما عليكم

فهذه
الموالاة الإيمانية - وقد كانت في أول الإسلام - لها وقع كبير وشأن عظيم،
حتى إن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 آخى بين المهاجرين والأنصارأخوة خاصة، غير
الأخوة الإيمانية العامة، وحتى كانوا يتوارثون بها، فأنزل اللّه { وَأُولُو
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ْ} فلا
يرثه إلا أقاربه من العصبات وأصحاب الفروض،فإن لم يكونوا، فأقرب قراباته من
ذوي الأرحام، كما دل عليه عموم هذه الآية الكريمة،وقوله: { فِي كِتَابِ
اللَّهِ ْ} أي: في حكمه وشرعه.

{ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ ْ} ومنه ما يعلمه من أحوالكم التي يجري من شرائعه الدينية عليكم ما
يناسبها.

تم تفسير سورة الأنفال وللّه الحمد.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 6:04 pm

تفسير
سورة التوبة

ويقال: سورة براءة ،

وهي مدنية

{ 1 - 2
ْ} { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي
الْكَافِرِينَ ْ}

أي: هذه براءة من اللّه ومن رسوله إلى جميع
المشركين المعاهدين، أن لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض على اختيارهم،
آمنين من المؤمنين، وبعد الأربعة الأشهر فلا عهد لهم، ولا ميثاق.

وهذا
لمن كان له عهد مطلق غير مقدر، أو مقدر بأربعة أشهر فأقل، أما من كان له
عهد مقدر بزيادة على أربعة أشهر، فإن الله يتعين أن يتمم له عهده إذا لم
يخف منه خيانة، ولم يبدأ بنقض العهد.

ثم أنذر المعاهدين في مدة
عهدهم، أنهم وإن كانوا آمنين، فإنهم لن يعجزوا اللّه ولن يفوتوه، وأنه من
استمر منهم على شركه فإنه لا بد أن يخزيه، فكان هذا مما يجلبهم إلى الدخول
في الإسلام، إلا من عاند وأصر ولم يبال بوعيد اللّه له.


{ 3 ْ} {
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ
الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ
تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ْ}

هذا ما وعد اللّه به المؤمنين، من نصر دينه
وإعلاء كلمته، وخذلان أعدائهم من المشركين الذين أخرجوا الرسول ومن معه من
مكة، من بيت اللّه الحرام، وأجلوهم، مما لهم التسلط عليه من أرض الحجاز.

نصر
اللّه رسوله والمؤمنين حتى افتتح مكة، وأذل المشركين، وصار للمؤمنين الحكم
والغلبة على تلك الديار.

فأمر النبي مؤذنه أن يؤذن يوم الحج
الأكبر، وهو يوم النحر، وقت اجتماع الناس مسلمهم وكافرهم، من جميع جزيرة
العرب، أن يؤذن بأن اللّه بريء ورسوله من المشركين، فليس لهم عنده عهد
وميثاق، فأينما وجدوا قتلوا، وقيل لهم: لا تقربوا المسجد الحرام بعد عامكم
هذا، وكان ذلك سنة تسع من الهجرة.

وحج بالناس أبو بكر الصديق رضي
اللّه عنه، وأذن ببراءة -يوم النحر- ابن عم رسول اللّه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.

ثم
رغب تعالى المشركين بالتوبة، ورهبهم من الاستمرار على الشرك فقال: { فَإِنْ
تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ْ}

أي: فائتيه، بل أنتم في
قبضته، قادر أن يسلط عليكم عباده المؤمنين. { وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ْ} أي: مؤلم مفظع في الدنيا بالقتل والأسر، والجلاء،
وفي الآخرة، بالنار، وبئس القرار.


{ 4 ْ} { إِلَّا الَّذِينَ
عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ
يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى
مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ْ}

أي هذه البراءة
التامة المطلقة من جميع المشركين. { إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ ْ} واستمروا على عهدهم، ولم يجر منهم ما يوجب النقض، فلا
نقصوكم شيئا، ولا عاونوا عليكم أحدا، فهؤلاء أتموا لهم عهدهم إلى مدتهم،
قَلَّتْ، أو كثرت، لأن الإسلام لا يأمر بالخيانة وإنما يأمر بالوفاء.

{
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ْ} الذين أدوا ما أمروا به، واتقوا
الشرك والخيانة، وغير ذلك من المعاصي.


{ 5 ْ} { فَإِذَا
انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ
مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ}

يقول تعالى
{ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ْ} أي: التي حرم فيها قتال
المشركين المعاهدين، وهي أشهر التسيير الأربعة، وتمام المدة لمن له مدة
أكثر منها، فقد برئت منهم الذمة.

{ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ْ} في أي مكان وزمان، { وَخُذُوهُمْ ْ} أسرى {
وَاحْصُرُوهُمْ ْ} أي: ضيقوا عليهم، فلا تدعوهم يتوسعون في بلاد اللّه
وأرضه، التي جعلها [الله] معبدا لعباده.

فهؤلاء ليسوا أهلا لسكناها،
ولا يستحقون منها شبرا، لأن الأرض أرض اللّه، وهم أعداؤه المنابذون له
ولرسله، المحاربون الذين يريدون أن يخلو الأرض من دينه، ويأبى اللّه إلا أن
يتم نوره ولو كره الكافرون.

{ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ
ْ} أي: كل ثنية وموضع يمرون عليه، ورابطوا في جهادهم وابذلوا غاية مجهودكم
في ذلك، ولا تزالوا على هذا الأمر حتى يتوبوا من شركهم.

ولهذا قال: {
فَإِنْ تَابُوا ْ} من شركهم { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ْ} أي: أدوها
بحقوقها { وَآتُوا الزَّكَاةَ ْ} لمستحقيها { فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ْ} أي:
اتركوهم، وليكونوا مثلكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم.

{ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ} يغفر الشرك فما دونه، للتائبين، ويرحمهم
بتوفيقهم للتوبة، ثم قبولها منهم.

وفي هذه الآية، دليل على أن من
امتنع من أداء الصلاة أو الزكاة، فإنه يقاتل حتى يؤديهما، كما استدل بذلك
أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه.


{ 6 ْ} { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ
ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ْ}

لما
كان ما تقدم من قوله { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ
وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ْ} أمرا عاما في جميع
الأحوال، وفي كل الأشخاص منهم، ذكر تعالى، أن المصلحة إذا اقتضت تقريب
بعضهم جاز، بل وجب ذلك فقال: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجَارَكَ ْ} أي: طلب منك أن تجيره، وتمنعه من الضرر، لأجل أن يسمع كلام
اللّه، وينظر حالة الإسلام.

{ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ
اللَّهِ ْ} ثم إن أسلم، فذاك، وإلا فأبلغه مأمنه، أي: المحل الذي يأمن فيه،
والسبب في ذلك أن الكفار قوم لا يعلمون، فربما كان استمرارهم على كفرهم
لجهل منهم، إذا زال اختاروا عليه الإسلام، فلذلك أمر اللّه رسوله، وأمته
أسوته في الأحكام، أن يجيروا من طلب أن يسمع كلام اللّه.

وفي هذا
حجة صريحة لمذهب أهل السنة والجماعة، القائلين بأن القرآن كلام اللّه غير
مخلوق، لأنه تعالى هو المتكلم به، وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى
موصوفها، وبطلان مذهب المعتزلة ومن أخذ بقولهم: أن القرآن مخلوق.

وكم
من الأدلة الدالة على بطلان هذا القول، ليس هذا محل ذكرها.

{ 7 ْ} {
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا
اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَّقِينَ ْ}

هذا بيان للحكمة الموجبة لأن يتبرأ اللّه ورسوله
من المشركين، فقال: { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ
اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ْ} هل قاموا بواجب الإيمان، أم تركوا رسول
اللّه والمؤمنين من أذيتهم؟ أما حاربوا الحق ونصروا الباطل؟

أما
سعوا في الأرض فسادا؟ فيحق عليهم أن يتبرأ اللّه منهم، وأن لا يكون لهم عهد
عنده ولا عند رسوله.

{ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ ْ} من
المشركين { عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ْ} فإن لهم في العهد وخصوصا في
هذا المكان الفاضل حرمة، أوجب أن يراعوا فيها.

{ فَمَا اسْتَقَامُوا
لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ْ}
ولهذا قال:


{ 8 - 11 ْ} { كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ
لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ
بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ *
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ
إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ
إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ْ}

أي: { كَيْفَ ْ}
يكون للمشركين عند اللّه عهد وميثاق { و ْ} الحال أنهم { وَإِنْ يَظْهَرُوا
عَلَيْكُمْ ْ} بالقدرة والسلطة، لا يرحموكم، و { لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ
إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ْ} أي: لا ذمة ولا قرابة، ولا يخافون اللّه فيكم، بل
يسومونكم سوء العذاب، فهذه حالكم معهم لو ظهروا.

ولا يغرنكم منهم ما
يعاملونكم به وقت الخوف منكم، فإنهم { يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ
وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ ْ} الميل والمحبة لكم، بل هم الأعداء حقا، المبغضون
لكم صدقا، { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ْ} لا ديانة لهم ولا مروءة.

{
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ْ} أي: اختاروا الحظ العاجل
الخسيس في الدنيا. على الإيمان باللّه ورسوله، والانقياد لآيات اللّه.

{
فَصَدُّوا ْ} بأنفسهم، وصدوا غيرهم { عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً
ْ} أي: لأجل عداوتهم للإيمان { إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ْ} أي: لأجل عداوتهم
للإيمان وأهله.

فالوصف الذي جعلهم يعادونكم لأجله ويبغضونكم، هو
الإيمان، فذبوا عن دينكم، وانصروه واتخذوا من عاداه لكم عدوا ومن نصره لكم
وليا، واجعلوا الحكم يدور معه وجودا وعدما، لا تجعلوا الولاية والعداوة،
طبيعية تميلون بهما، حيثما مال الهوى، وتتبعون فيهما النفس الأمارة بالسوء،
ولهذا: { فَإِنْ تَابُوا ْ} عن شركهم، ورجعوا إلى الإيمان { وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ْ} وتناسوا
تلك العداوة إذ كانوا مشركين لتكونوا عباد اللّه المخلصين، وبهذا يكون
العبد عبدا حقيقة. لما بين من أحكامه العظيمة ما بين، ووضح منها ما وضح،
أحكاما وحِكَمًا، وحُكْمًا، وحكمة قال: { وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ ْ} أي:
نوضحها ونميزها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ْ} فإليهم سياق الكلام، وبهم تعرف
الآيات والأحكام، وبهم عرف دين الإسلام وشرائع الدين.

اللهم اجعلنا
من القوم الذين يعلمون، ويعملون بما يعلمون، برحمتك وجودك وكرمك [وإحسانك
يا رب العالمين].


{ 12 - 15 ْ} { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ
مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ
الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا
تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ
الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ
أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ
يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ
عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ
قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ ْ}

يقول تعالى بعدما ذكر أن المعاهدين من المشركين إن
استقاموا على عهدهم فاستقيموا لهم على الوفاء: { وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ ْ} أي: نقضوها وحلوها، فقاتلوكم أو
أعانوا على قتالكم، أو نقصوكم، { وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ْ} أي: عابوه،
وسخروا منه.

ويدخل في هذا جميع أنواع الطعن الموجهة إلى الدين، أو
إلى القرآن، { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ْ} أي: القادة فيه، الرؤساء
الطاعنين في دين الرحمن، الناصرين لدين الشيطان، وخصهم بالذكر لعظم
جنايتهم، ولأن غيرهم تبع لهم، وليدل على أن من طعن في الدين وتصدى للرد
عليه، فإنه من أئمة الكفر.

{ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ ْ} أي:
لا عهود ولا مواثيق يلازمون على الوفاء بها، بل لا يزالون خائنين، ناكثين
للعهد، لا يوثق منهم.

{ لَعَلَّهُمْ ْ} في قتالكم إياهم {
يَنْتَهُونَ ْ} عن الطعن في دينكم، وربما دخلوا فيه، ثم حث على قتالهم،
وهيج المؤمنين بذكر الأوصاف، التي صدرت من هؤلاء الأعداء، والتي هم موصوفون
بها، المقتضية لقتالهم فقال: { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا
أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ْ} الذي يجب احترامه
وتوقيره وتعظيمه؟ وهم هموا أن يجلوه ويخرجوه من وطنه وسعوا في ذلك ما
أمكنهم، { وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ْ} حيث نقضوا العهد وأعانوا
عليكم، وذلك حيث عاونت قريش -وهم معاهدون- بني بكر حلفاءهم على خزاعة حلفاء
رسول اللّه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، وقاتلوا معهم كما هو مذكور مبسوط في
السيرة.

{ أَتَخْشَوْنَهُمْ ْ} في ترك قتالهم { فَاللَّهُ أَحَقُّ
أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ْ} فإنه أمركم بقتالهم، وأكد
ذلك عليكم غاية التأكيد.

فإن كنتم مؤمنين فامتثلوا لأمر اللّه، ولا
تخشوهم فتتركوا أمر اللّه، ثم أمر بقتالهم وذكر ما يترتب على قتالهم من
الفوائد، وكل هذا حث وإنهاض للمؤمنين على قتالهم، فقال: { قَاتِلُوهُمْ
يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ْ} بالقتل { وَيُخْزِهِمْ ْ} إذا
نصركم اللّه عليهم، وهم الأعداء الذين يطلب خزيهم ويحرص عليه، {
وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ْ} هذا وعد من اللّه وبشارة قد أنجزها.

{
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ْ}
فإن في قلوبهم من الحنق والغيظ عليهم ما يكون قتالهم وقتلهم شفاء لما في
قلوب المؤمنين من الغم والهم، إذ يرون هؤلاء الأعداء محاربين للّه ولرسوله،
ساعين في إطفاء نور اللّه، وزوالا للغيظ الذي في قلوبهم، وهذا يدل على
محبة اللّه لعباده المؤمنين، واعتنائه بأحوالهم، حتى إنه جعل -من جملة
المقاصد الشرعية- شفاء ما في صدورهم وذهاب غيظهم.

ثم قال: {
وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ْ} من هؤلاء المحاربين، بأن يوفقهم
للدخول في الإسلام، ويزينه في قلوبهم، ويُكَرِّهَ إليهم الكفر والفسوق
والعصيان.

{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ} يضع الأشياء مواضعها،
ويعلم من يصلح للإيمان فيهديه، ومن لا يصلح، فيبقيه في غيه وطغيانه.


{
16 ْ} { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ
الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا
رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ ْ}

يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد ما أمرهم بالجهاد: {
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا ْ} من دون ابتلاء وامتحان، وأمر بما يبين
به الصادق والكاذب.

{ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ
جَاهَدُوا مِنْكُمْ ْ} أي: علما يظهر مما في القوة إلى الخارج، ليترتب عليه
الثواب والعقاب، فيعلم الذين يجاهدون في سبيله: لإعلاء كلمته { وَلَمْ
يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ
وَلِيجَةً ْ} أي: وليا من الكافرين، بل يتخذون اللّه ورسوله والمؤمنين
أولياء.

فشرع اللّه الجهاد ليحصل به هذا المقصود الأعظم، وهو أن
يتميز الصادقون الذين لا يتحيزون إلا لدين اللّه، من الكاذبين الذين يزعمون
الإيمان وهم يتخذون الولائج والأولياء من دون اللّه ولا رسوله ولا
المؤمنين.

{ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ْ} أي: يعلم ما
يصير منكم ويصدر، فيبتليكم بما يظهر به حقيقة ما أنتم عليه، ويجازيكم على
أعمالكم خيرها وشرها.

{ 17 - 18 ْ} { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ
أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ
خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ
يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ ْ}

يقول تعالى: { مَا كَانَ ْ} أي: ما ينبغي ولا
يليق { لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ ْ} بالعبادة،
والصلاة، وغيرها من أنواع الطاعات، والحال أنهم شاهدون ومقرون على أنفسهم
بالكفر بشهادة حالهم وفطرهم، وعلم كثير منهم أنهم على الكفر والباطل.

فإذا
كانوا { شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ْ} وعدم الإيمان، الذي
هو شرط لقبول الأعمال، فكيف يزعمون أنهم عُمَّارُ مساجد اللّه، والأصل
منهم مفقود، والأعمال منهم باطلة؟".

ولهذا قال: { أُولَئِكَ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ْ} أي: بطلت وضلت { وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ
ْ}

ثم ذكر من هم عمار مساجد اللّه فقال: { إِنَّمَا يَعْمُرُ
مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ
الصَّلَاةَ ْ} الواجبة والمستحبة، بالقيام بالظاهر منها والباطن.

{
وَآتَى الزَّكَاةَ ْ} لأهلها { وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ْ} أي قصر
خشيته على ربه، فكف عما حرم اللّه، ولم يقصر بحقوق اللّه الواجبة.

فوصفهم
بالإيمان النافع، وبالقيام بالأعمال الصالحة التي أُمُّها الصلاة والزكاة،
وبخشية اللّه التي هي أصل كل خير، فهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة
وأهلها، الذين هم أهلها.

{ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ ْ} و { عسى ْ} من اللّه واجبة. وأما من لم يؤمن باللّه ولا
باليوم الآخر، ولا عنده خشية للّه، فهذا ليس من عمار مساجد اللّه، ولا من
أهلها الذين هم أهلها، وإن زعم ذلك وادعاه.


{ 19 - 22 ْ} {
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ
مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }

لما اختلف
بعض المسلمين، أو بعض المسلمين وبعض المشركين، في تفضيل عمارة المسجد
الحرام، بالبناء والصلاة والعبادة فيه وسقاية الحاج، على الإيمان باللّه
والجهاد في سبيله، أخبر اللّه تعالى بالتفاوت بينهما، فقال: { أَجَعَلْتُمْ
سِقَايَةَ الْحَاجِّ } أي: سقيهم الماء من زمزم كما هو المعروف إذا أطلق
هذا الاسم، أنه المراد { وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا
يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ }

فالجهاد والإيمان باللّه أفضل من
سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بدرجات كثيرة، لأن الإيمان أصل الدين،
وبه تقبل الأعمال، وتزكو الخصال.

وأما الجهاد في سبيل اللّه فهو
ذروة سنام الدين، الذي به يحفظ الدين الإسلامي ويتسع، وينصر الحق ويخذل
الباطل.

وأما عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج، فهي وإن كانت
أعمالا صالحة، فهي متوقفة على الإيمان، وليس فيها من المصالح ما في الإيمان
والجهاد، فلذلك قال: { لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي: الذين وصفهم الظلم، الذين لا يصلحون
لقبول شيء من الخير، بل لا يليق بهم إلا الشر.

ثم صرح بالفضل فقال:
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِهِمْ } بالنفقة في الجهاد وتجهيز الغزاة { وَأَنْفُسِهِمْ }
بالخروج بالنفس { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَائِزُونَ } أي: لا يفوز بالمطلوب ولا ينجو من المرهوب، إلا من اتصف
بصفاتهم، وتخلق بأخلاقهم.

{ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ } جودا منه،
وكرما وبرا بهم، واعتناء ومحبة لهم، { بِرَحْمَةٍ مِنْهُ } أزال بها عنهم
الشرور، وأوصل إليهم [بها] كل خير. { وَرِضْوَانٍ } منه تعالى عليهم، الذي
هو أكبر نعيم الجنة وأجله، فيحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدا.

{
وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } من كل ما اشتهته الأنفس، وتلذ
الأعين، مما لا يعلم وصفه ومقداره إلا اللّه تعالى، الذي منه أن اللّه أعد
للمجاهدين في سبيله مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض،
ولو اجتمع الخلق في درجة واحدة منها لوسعتهم.

{ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا } لا ينتقلون عنها، ولا يبغون عنها حِوَلًا، { إِنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لا تستغرب كثرته على فضل اللّه، ولا يتعجب من
عظمه وحسنه على من يقول للشيء كن فيكون.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 6:06 pm

{
23 - 24 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ
وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى
الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
* قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ
وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا
وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ
إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ
فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }

يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا } اعملوا بمقتضى الإيمان، بأن توالوا من قام به، وتعادوا من لم يقم
به.

و { لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ } الذين هم
أقرب الناس إليكم، وغيرهم من باب أولى وأحرى، فلا تتخذوهم { أَوْلِيَاءَ
إِنِ اسْتَحَبُّوا } أي: اختاروا على وجه الرضا والمحبة { الْكُفْرَ عَلَى
الْإِيمَانِ }

{ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ } لأنهم تجرؤوا على معاصي اللّه، واتخذوا أعداء اللّه
أولياء، وأصل الولاية: المحبة والنصرة، وذلك أن اتخاذهم أولياء، موجب
لتقديم طاعتهم على طاعة اللّه، ومحبتهم على محبة اللّه ورسوله.

ولهذا
ذكر السبب الموجب لذلك، وهو أن محبة اللّه ورسوله، يتعين تقديمهما على
محبة كل شيء، وجعل جميع الأشياء تابعة لهما فقال: { قُلْ إِنْ كَانَ
آبَاؤُكُمْ } ومثلهم الأمهات { وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ } في النسب
والعشرة { وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } أي: قراباتكم عموما {
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا } أي: اكتسبتموها وتعبتم في تحصيلها، خصها
بالذكر، لأنها أرغب عند أهلها، وصاحبها أشد حرصا عليها ممن تأتيه الأموال
من غير تعب ولا كَدّ.

{ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } أي:
رخصها ونقصها، وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات،
من الأثمان، والأواني، والأسلحة، والأمتعة، والحبوب، والحروث، والأنعام،
وغير ذلك.

{ وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا } من حسنها وزخرفتها
وموافقتها لأهوائكم، فإن كانت هذه الأشياء { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } فأنتم فسقة ظلمة.

{
فَتَرَبَّصُوا } أي: انتظروا ما يحل بكم من العقاب { حَتَّى يَأْتِيَ
اللَّهُ بِأَمْرِهِ } الذي لا مرد له.

{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي: الخارجين عن طاعة اللّه، المقدمين على محبة
اللّه شيئا من المذكورات.

وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب
محبة اللّه ورسوله، وعلى تقديمها على محبة كل شيء، وعلى الوعيد الشديد
والمقت الأكيد، على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من اللّه ورسوله،
وجهاد في سبيله.

وعلامة ذلك، أنه إذا عرض عليه أمران، أحدهما يحبه
اللّه ورسوله، وليس لنفسه فيها هوى، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه، ولكنه
يُفَوِّتُ عليه محبوبًا للّه ورسوله، أو ينقصه، فإنه إن قدم ما تهواه نفسه،
على ما يحبه اللّه، دل ذلك على أنه ظالم، تارك لما يجب عليه.

{ 25 -
27 } { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا
وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

يمتن
تعالى على عباده المؤمنين، بنصره إياهم في مواطن كثيرة من مواطن اللقاء،
ومواضع الحروب والهيجاء، حتى في يوم { حنين } الذي اشتدت عليهم فيه الأزمة،
ورأوا من التخاذل والفرار، ما ضاقت عليهم به الأرض على رحبها وسعتها.

وذلك
أن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 لما فتح مكة، سمع أن هوازن اجتمعوا لحربه،
فسار إليهم تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 في أصحابه الذين فتحوا مكة، وممن أسلم من
الطلقاء أهل مكة، فكانوا اثني عشر ألفا، والمشركون أربعة آلاف، فأعجب بعض
المسلمين بكثرتهم، وقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة.

فلما التقوا
هم وهوازن، حملوا على المسلمين حملة واحدة، فانهزموا لا يلوي أحد على أحد،
ولم يبق مع رسول اللّه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، إلا نحو مائة رجل، ثبتوا معه، وجعلوا
يقاتلون المشركين، وجعل النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، يركض بغلته نحو المشركين ويقول: { أنا
النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب }

ولما رأى من المسلمين ما رأى،
أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي في الأنصار وبقية المسلمين، وكان رفيع
الصوت، فناداهم: يا أصحاب السمرة، يا أهل سورة البقرة.

فلما سمعوا
صوته، عطفوا عطفة رجل واحد، فاجتلدوا مع المشركين، فهزم اللّه المشركين،
هزيمة شنيعة، واستولوا على معسكرهم ونسائهم وأموالهم.

وذلك قوله
تعالى { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ } وهو اسم للمكان الذي كانت فيه الوقعة بين مكة والطائف.

{
إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا } أي:
لم تفدكم شيئا، قليلا ولا كثيرا { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ } بما
أصابكم من الهم والغم حين انهزمتم { بِمَا رَحُبَتْ } أي: على رحبها
وسعتها، { ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } أي: منهزمين.

{ ثُمَّ
أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
والسكينة ما يجعله اللّه في القلوب وقت القلاقل والزلازل والمفظعات، مما
يثبتها، ويسكنها ويجعلها مطمئنة، وهي من نعم اللّه العظيمة على العباد.

{
وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } وهم الملائكة، أنزلهم اللّه معونة
للمسلمين يوم حنين، يثبتونهم، ويبشرونهم بالنصر.

{ وَعَذَّبَ
الَّذِينَ كَفَرُوا } بالهزيمة والقتل، واستيلاء المسلمين على نسائهم
وأولادهم وأموالهم.

{ وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } يعذبهم
اللّه في الدنيا، ثم يردهم في الآخرة إلى عذاب غليظ.

{ ثُمَّ
يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } فتاب اللّه على
كثير ممن كانت الوقعة عليهم، وأتوا إلى النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 مسلمين تائبين، فرد عليهم نساءهم،
وأولادهم.

{ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: ذو مغفرة واسعة، ورحمة
عامة، يعفو عن الذنوب العظيمة للتائبين، ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة والطاعة،
والصفح عن جرائمهم، وقبول توباتهم، فلا ييأسنَّ أحد من مغفرته ورحمته، ولو
فعل من الذنوب والإجرام ما فعل.

{ 28 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ
يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ }

يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ } باللّه الذين عبدوا معه غيره { نَجَسٌ } أي: خبثاء في
عقائدهم وأعمالهم، وأي نجاسة أبلغ ممن كان يعبد مع اللّه آلهة لا تنفع ولا
تضر، ولا تغني عنه شيئا؟".

وأعمالهم ما بين محاربة للّه، وصد عن
سبيل اللّه ونصر للباطل، ورد للحق، وعمل بالفساد في الأرض لا في الصلاح،
فعليكم أن تطهروا أشرف البيوت وأطهرها عنهم.

{ فَلَا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } وهو سنة تسع من الهجرة،
حين حج بالناس أبو بكر الصديق، وبعث النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 ابن عمه عليا، أن يؤذن يوم الحج الأكبر بـ {
براءة } فنادى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

وليس
المراد هنا، نجاسة البدن، فإن الكافر كغيره طاهر البدن، بدليل أن اللّه
تعالى أباح وطء الكتابية ومباشرتها، ولم يأمر بغسل ما أصاب منها.

والمسلمون
ما زالوا يباشرون أبدان الكفار، ولم ينقل عنهم أنهم تقذروا منها،
تَقَذُّرَهْم من النجاسات، وإنما المراد كما تقدم نجاستهم المعنوية،
بالشرك، فكما أن التوحيد والإيمان، طهارة، فالشرك نجاسة.

وقوله: {
وَإِنْ خِفْتُمْ } أيها المسلمون { عَيْلَةً } أي: فقرا وحاجة، من منع
المشركين من قربان المسجد الحرام، بأن تنقطع الأسباب التي بينكم وبينهم من
الأمور الدنيوية، { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فليس
الرزق مقصورا على باب واحد، ومحل واحد، بل لا ينغلق باب إلا وفتح غيره
أبواب كثيرة، فإن فضل اللّه واسع، وجوده عظيم، خصوصا لمن ترك شيئا لوجهه
الكريم، فإن اللّه أكرم الأكرمين.

وقد أنجز اللّه وعده، فإن اللّه
قد أغنى المسلمين من فضله، وبسط لهم من الأرزاق ما كانوا به من أكبر
الأغنياء والملوك.

وقوله: { إِنْ شَاءَ } تعليق للإغناء بالمشيئة،
لأن الغنى في الدنيا، ليس من لوازم الإيمان، ولا يدل على محبة اللّه، فلهذا
علقه اللّه بالمشيئة.

فإن اللّه يعطي الدنيا، من يحب، ومن لا يحب،
ولا يعطي الإيمان والدين، إلا من يحب.

{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ } أي: علمه

واسع، يعلم من يليق به الغنى، ومن لا يليق، ويضع
الأشياء مواضعها وينزلها منازلها.

وتدل الآية الكريمة، وهي قوله {
فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } أن
المشركين بعد ما كانوا، هم الملوك والرؤساء بالبيت، ثم صار بعد الفتح الحكم
لرسول اللّه والمؤمنين، مع إقامتهم في البيت، ومكة المكرمة، ثم نزلت هذه
الآية.

ولما مات النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 أمر أن يجلوا من الحجاز، فلا يبقى فيها
دينان، وكل هذا لأجل بُعْدِ كل كافر عن المسجد الحرام، فيدخل في قوله {
فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }

{
29 } { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }

هذه الآية أمر
بقتال الكفار من اليهود والنصارى من { الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } إيمانا صحيحا يصدقونه بأفعالهم وأعمالهم.
ولا يحرمون ما حرم الله، فلا يتبعون شرعه في تحريم المحرمات، { وَلَا
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } أي: لا يدينون بالدين الصحيح، وإن زعموا أنهم
على دين، فإنه دين غير الحق، لأنه إما بين دين مبدل، وهو الذي لم يشرعه
اللّه أصلا، وإما دين منسوخ قد شرعه اللّه، ثم غيره بشريعة محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، فيبقى التمسك به بعد النسخ غير جائز.

فأمره
بقتال هؤلاء وحث على ذلك، لأنهم يدعون إلى ما هم عليه، ويحصل الضرر الكثير
منهم للناس، بسبب أنهم أهل كتاب.

وغيَّى ذلك القتال { حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } أي: المال الذي يكون جزاء لترك المسلمين قتالهم،
وإقامتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم، بين أظهر المسلمين، يؤخذ منهم كل عام،
كلٌّ على حسب حاله، من غني وفقير ومتوسط، كما فعل ذلك أمير المؤمنين عمر
بن الخطاب وغيره، من أمراء المؤمنين.

وقوله: { عَنْ يَدٍ } أي: حتى
يبذلوها في حال ذلهم، وعدم اقتدارهم، ويعطونها بأيديهم، فلا يرسلون بها
خادما ولا غيره، بل لا تقبل إلا من أيديهم، { وَهُمْ صَاغِرُونَ }

فإذا
كانوا بهذه الحال، وسألوا المسلمين أن يقروهم بالجزية، وهم تحت أحكام
المسلمين وقهرهم، وحال الأمن من شرهم وفتنتهم، واستسلموا للشروط التي
أجراها عليهم المسلمون مما ينفي عزهم وتكبرهم، ويوجب ذلهم وصغارهم، وجب على
الإمام أو نائبه أن يعقدها لهم.

وإلا بأن لم يفوا، ولم يعطوا
الجزية عن يد وهم صاغرون، لم يجز إقرارهم بالجزية، بل يقاتلون حتى يسلموا.

واستدل
بهذه الآية الجمهور الذين يقولون: لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، لأن
اللّه لم يذكر أخذ الجزية إلا منهم.

وأما غيرهم فلم يذكر إلا قتالهم
حتى يسلموا، وألحق بأهل الكتاب في أخد الجزية وإقرارهم في ديار المسلمين،
المجوس، فإن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، أخذ الجزية من مجوس هجر، ثم أخذها أمير
المؤمنين عمر من الفرس المجوس.

وقيل: إن الجزية تؤخذ من سائر الكفار
من أهل الكتاب وغيرهم، لأن هذه الآية نزلت بعد الفراغ من قتال العرب
المشركين، والشروع في قتال أهل الكتاب ونحوهم، فيكون هذا القيد إخبارا
بالواقع، لا مفهوما له.

ويدل على هذا أن المجوس أخذت منهم الجزية
وليسوا أهل كتاب، ولأنه قد تواتر عن المسلمين من الصحابة ومن بعدهم أنهم
يدعون من يقاتلونهم إلى إحدى ثلاث: إما الإسلام، أو أداء الجزية، أو السيف،
من غير فرق بين كِتَابِيٍّ وغيره.

{ 30 - 33 } { وَقَالَتِ
الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ
اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا
وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى
اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }

لما أمر
تعالى بقتال أهل الكتاب، ذكر من أقوالهم الخبيثة، ما يهيج المؤمنين الذين
يغارون لربهم ولدينه على قتالهم، والاجتهاد وبذل الوسع فيه فقال: {
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } وهذه المقالة وإن لم تكن
مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم، فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث
والشر ما أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة التي تجرأوا فيها على اللّه،
وتنقصوا عظمته وجلاله.

وقد قيل: إن سبب ادعائهم في { عزير } أنه ابن
اللّه، أنه لما سلط الله الملوك على بني إسرائيل، ومزقوهم كل ممزق، وقتلوا
حَمَلَةَ التوراة، وجدوا

عزيرا بعد ذلك حافظا لها أو لأكثرها،
فأملاها عليهم من حفظه، واستنسخوها، فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة.

{
وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ } عيسى ابن مريم { ابْنُ اللَّهِ } قال
اللّه تعالى { ذَلِكَ } القول الذي قالوه { قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ }
لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا.

ومن كان لا يبالي بما يقول، لا
يستغرب عليه أي قول يقوله، فإنه لا دين ولا عقل، يحجزه، عما يريد من
الكلام.

ولهذا قال: { يُضَاهِئُونَ } أي: يشابهون في قولهم هذا {
قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } أي: قول المشركين الذين يقولون: {
الملائكة بنات اللّه } تشابهت قلوبهم، فتشابهت أقوالهم في البطلان.

{
قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي: كيف يصرفون على الحق، الصرف
الواضح المبين، إلى القول الباطل المبين.

وهذا -وإن كان يستغرب على
أمة كبيرة كثيرة، أن تتفق على قول- يدل على بطلانه أدنى تفكر وتسليط للعقل
عليه، فإن لذلك سببا وهو أنهم: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ } وهم علماؤهم {
وَرُهْبَانَهُمْ } أي: العُبَّاد المتجردين للعبادة.

{ أَرْبَابًا
مِنْ دُونِ اللَّهِ } يُحِلُّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه، ويحرمون لهم ما
أحل اللّه فيحرمونه، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل
فيتبعونهم عليها.

وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبادهم ويعظمونهم،
ويتخذون قبورهم أوثانا تعبد من دون اللّه، وتقصد بالذبائح، والدعاء
والاستغاثة.

{ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } اتخذوه إلها من دون
اللّه، والحال أنهم خالفوا في ذلك أمر اللّه لهم على ألسنة رسله فما {
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }
فيخلصون له العبادة والطاعة، ويخصونه بالمحبة والدعاء، فنبذوا أمر اللّه
وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا.

{ سُبْحَانَهُ } وتعالى { عَمَّا
يُشْرِكُونَ } أي: تنزه وتقدس، وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم، فإنهم
ينتقصونه في ذلك، ويصفونه بما لا يليق بجلاله، واللّه تعالى العالي في
أوصافه وأفعاله عن كل ما نسب إليه، مما ينافي كماله المقدس.

فلما
تبين أنه لا حجة لهم على ما قالوه، ولا برهان لما أصَّلوه، وإنما هو مجرد
قول قالوه وافتراء افتروه أخبر أنهم { يُرِيدُونَ } بهذا { أَنْ يُطْفِئُوا
نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ }

ونور اللّه: دينه الذي أرسل به
الرسل، وأنزل به الكتب، وسماه اللّه نورا، لأنه يستنار به في ظلمات الجهل
والأديان الباطلة، فإنه علم بالحق، وعمل بالحق، وما عداه فإنه بضده، فهؤلاء
اليهود والنصارى ومن ضاهوه من المشركين، يريدون أن يطفئوا نور اللّه بمجرد
أقوالهم، التي ليس عليها دليل أصلا.

{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا
أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ } لأنه النور الباهر، الذي لا يمكن لجميع الخلق لو
اجتمعوا على إطفائه أن يطفئوه، والذي أنزله جميع نواصي العباد بيده، وقد
تكفل بحفظه من كل من يريده بسوء، ولهذا قال: { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا
أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } وسعوا ما أمكنهم في
رده وإبطاله، فإن سعيهم لا يضر الحق شيئا.

ثم بين تعالى هذا النور
الذي قد تكفل بإتمامه وحفظه فقال: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى } الذي هو العلم النافع { وَدِينِ الْحَقِّ } الذي هو العمل
الصالح فكان ما بعث اللّه به محمدا تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 مشتملا على بيان الحق من الباطل في أسماء
اللّه وأوصافه وأفعاله، وفي أحكامه وأخباره، والأمر بكل مصلحة نافعة
للقلوب، والأرواح والأبدان من إخلاص الدين للّه وحده، ومحبة اللّه وعبادته،
والأمر بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، والأعمال الصالحة والآداب النافعة،
والنهي عن كل ما يضاد ذلك ويناقضه من الأخلاق والأعمال السيئة المضرة
للقلوب والأبدان والدنيا والآخرة.

فأرسله اللّه بالهدى ودين الحق {
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } أي:
ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، والسيف والسنان، وإن كره
المشركون ذلك، وبغوا له الغوائل، ومكروا مكرهم، فإن المكر السيئ لا يضر إلا
صاحبه، فوعد اللّه لا بد أن ينجزه، وما ضمنه لابد أن يقوم به.


{
34 - 35 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ
الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ
بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ
جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا
مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ }

هذا
تحذير من اللّه تعالى لعباده المؤمنين عن كثير من الأحبار والرهبان، أي:
العلماء والعباد الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، أي: بغير حق، ويصدون عن
سبيل اللّه، فإنهم إذا كانت لهم رواتب من أموال الناس، أو بذل الناس لهم
من أموالهم فإنه لأجل علمهم وعبادتهم، ولأجل هداهم وهدايتهم، وهؤلاء
يأخذونها ويصدون الناس عن سبيل اللّه، فيكون أخذهم لها على هذا الوجه سحتا
وظلما، فإن الناس ما بذلوا لهم من أموالهم إلا ليدلوهم إلى الطريق
المستقيم.

ومن أخذهم لأموال الناس بغير حق، أن يعطوهم ليفتوهم أو
يحكموا لهم بغير ما أنزل اللّه، فهؤلاء الأحبار والرهبان، ليحذر منهم هاتان
الحالتان: أخذهم لأموال الناس بغير حق، وصدهم الناس عن سبيل اللّه.

{
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } أي: يمسكونها { وَلَا
يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي: طرق الخير الموصلة إلى اللّه،
وهذا هو الكنز المحرم، أن يمسكها عن النفقة الواجبة، كأن يمنع منها الزكاة
أو النفقات الواجبة للزوجات، أو الأقارب، أو النفقة في سبيل اللّه إذا
وجبت.

{ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ثم فسره بقوله:

{
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا } أي: على أموالهم، { فِي نَارِ جَهَنَّمَ }
فيحمى كل دينار أو درهم على حدته.

{ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ
وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } في يوم القيامة كلما بردت أعيدت في يوم كان
مقداره خمسين ألف سنة، ويقال لهم توبيخا ولوما: { هَذَا مَا كَنَزْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } فما ظلمكم ولكنكم
ظلمتم أنفسكم وعذبتموها بهذا الكنز.

وذكر اللّه في هاتين الآيتين،
انحراف الإنسان في ماله، وذلك بأحد أمرين:

إما أن ينفقه في الباطل
الذي لا يجدي عليه نفعا، بل لا يناله منه إلا الضرر المحض، وذلك كإخراج
الأموال في المعاصي والشهوات التي لا تعين على طاعة اللّه، وإخراجها للصد
عن سبيل اللّه.

وإما أن يمسك ماله عن إخراجه في الواجبات، و { النهي
عن الشيء، أمر بضده }


{ 36 } وقوله: { إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ
يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }

يقول تعالى { إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ } أي: في قضائه وقدره. { اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا }
وهي هذه الشهور المعروفة { فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي في حكمه القدري، {
يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } وأجرى ليلها ونهارها، وقدر
أوقاتها فقسمها على هذه الشهور الاثني عشر [شهرا].

{ مِنْهَا
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } وهي: رجب الفرد، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم،
وسميت حرما لزيادة حرمتها، وتحريم القتال فيها.

{ فَلَا تَظْلِمُوا
فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } يحتمل أن الضمير يعود إلى الاثنى عشر شهرا، وأن
اللّه تعالى بين أنه جعلها مقادير للعباد، وأن تعمر بطاعته، ويشكر اللّه
تعالى على مِنَّتِهِ بها، وتقييضها لمصالح العباد، فلتحذروا من ظلم أنفسكم
فيها.

ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحرم، وأن هذا نهي لهم عن
الظلم فيها، خصوصا مع النهي عن الظلم كل وقت، لزيادة تحريمها، وكون الظلم
فيها أشد منه في غيرها.

ومن ذلك النهي عن القتال فيها، على قول من
قال: إن القتال في الأشهر الحرام لم ينسخ تحريمه عملا بالنصوص العامة في
تحريم القتال فيها.

ومنهم من قال: إن تحريم القتال فيها منسوخ، أخذا
بعموم نحو قوله تعالى: { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } أي: قاتلوا جميع أنواع المشركين والكافرين برب
العالمين.

ولا تخصوا أحدا منهم بالقتال دون أحد، بل اجعلوهم كلهم
لكم أعداء كما كانوا هم معكم كذلك، قد اتخذوا أهل الإيمان أعداء لهم، لا
يألونهم من الشر شيئا.

ويحتمل أن { كَافَّةً } حال من الواو فيكون
معنى هذا: وقاتلوا جميعكم المشركين، فيكون فيها وجوب النفير على جميع
المؤمنين.

وقد نسخت على هذا الاحتمال بقوله: { وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } الآية. { وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } بعونه ونصره وتأييده، فلتحرصوا على استعمال
تقوى اللّه في سركم وعلنكم والقيام بطاعته، خصوصا عند قتال الكفار، فإنه في
هذه الحال، ربما ترك المؤمن العمل بالتقوى في معاملة الكفار الأعداء
المحاربين.



{ 37 } { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي
الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا
وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }

النسيء: هو ما كان
أهل الجاهلية يستعملونه في الأشهر الحرم، وكان من جملة بدعهم الباطلة،
أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال، في بعض أوقات الأشهر الحرم، رأوا -بآرائهم
الفاسدة- أن يحافظوا على عدة الأشهر الحرم، التي حرم اللّه القتال فيها،
وأن يؤخروا بعض الأشهر الحرم، أو يقدموه، ويجعلوا مكانه من أشهر الحل ما
أرادوا، فإذا جعلوه مكانه أحلوا القتال فيه، وجعلوا الشهر الحلال حراما،
فهذا -كما أخبر اللّه عنهم- أنه زيادة في كفرهم وضلالهم، لما فيه من
المحاذير.

منها: أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، وجعلوه بمنزلة شرع
اللّه ودينه، واللّه ورسوله بريئان منه.

ومنها: أنهم قلبوا الدين،
فجعلوا الحلال حراما، والحرام حلالا.

ومنها: أنهم مَوَّهوا على
اللّه بزعمهم وعلى عباده، ولبسوا عليهم دينهم، واستعملوا الخداع والحيلة في
دين اللّه.

ومنها: أن العوائد المخالفة للشرع مع الاستمرار عليها،
يزول قبحها عن النفوس، وربما ظن أنها عوائد حسنة، فحصل من الغلط والضلال ما
حصل، ولهذا قال: { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا
وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } أي:
ليوافقوها في العدد، فيحلوا ما حرم اللّه.

{ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ
أَعْمَالِهِمْ } أي: زينت لهم الشياطين الأعمال السيئة، فرأوها حسنة، بسبب
العقيدة المزينة في قلوبهم.

{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ } أي: الذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم، فلو جاءتهم كل
آية، لم يؤمنوا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 6:11 pm

{
38 - 39 } قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا
قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ
أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا
يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا
تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

اعلم أن
كثيرا من هذه السورة الكريمة، نزلت في غزوة تبوك، إذ ندب النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 المسلمين إلى غزو الروم، وكان الوقت حارا،
والزاد قليلا، والمعيشة عسرة، فحصل من بعض المسلمين من التثاقل ما أوجب أن
يعاتبهم اللّه تعالى عليه ويستنهضهم، فقال تعالى:

{ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا } ألا تعملون بمقتضى الإيمان، وداعي اليقين من المبادرة
لأمر اللّه، والمسارعة إلى رضاه، وجهاد أعدائه والنصرة لدينكم، فـ { مَا
لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ
إِلَى الْأَرْضِ } أي: تكاسلتم، وملتم إلى الأرض والدعة والسكون فيها.

{
أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ } أي: ما حالكم إلا
حال من رضي بالدنيا وسعى لها ولم يبال بالآخرة، فكأنه ما آمن بها.

{
فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } التي مالت بكم، وقدمتموها على
الآخرة { إِلَّا قَلِيلٌ } أفليس قد جعل اللّه لكم عقولا تَزِنُون بها
الأمور، وأيها أحق بالإيثار؟.

أفليست الدنيا -من أولها إلى آخرها-
لا نسبة لها في الآخرة. فما مقدار عمر الإنسان القصير جدا من الدنيا حتى
يجعله الغاية التي لا غاية وراءها، فيجعل سعيه وكده وهمه وإرادته لا يتعدى
حياته الدنيا القصيرة المملوءة بالأكدار، المشحونة بالأخطار.

فبأي
رَأْيٍ رأيتم إيثارها على الدار الآخرة الجامعة لكل نعيم، التي فيها ما
تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون، فواللّه ما آثر الدنيا على
الآخرة من وقر الإيمان في قلبه، ولا من جزل رأيه، ولا من عُدَّ من أولي
الألباب، ثم توعدهم على عدم النفير فقال:

{ إِلَّا تَنْفِرُوا
يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } في الدنيا والآخرة، فإن عدم النفير في
حال الاستنفار من كبائر الذنوب الموجبة لأشد العقاب، لما فيها من المضار
الشديدة، فإن المتخلف، قد عصى اللّه تعالى وارتكب لنهيه، ولم يساعد على نصر
دين اللّه، ولا ذب عن كتاب اللّه وشرعه، ولا أعان إخوانه المسلمين على
عدوهم الذي يريد أن يستأصلهم ويمحق دينهم، وربما اقتدى به غيره من ضعفاء
الإيمان، بل ربما فَتَّ في أعضاد من قاموا بجهاد أعداء اللّه، فحقيق بمن
هذا حاله أن يتوعده اللّه بالوعيد الشديد، فقال: { إِلَّا تَنْفِرُوا
يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } ثم
لا يكونوا أمثالكم { وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا } فإنه تعالى متكفل بنصر
دينه وإعلاء كلمته، فسواء امتثلتم لأمر اللّه، أو ألقيتموه، وراءكم ظهريا.

{
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لا يعجزه شيء أراده، ولا يغالبه
أحد.

{ 40 } { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ
أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ
إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

أي: إلا تنصروا رسوله محمدا
تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، فاللّه غني عنكم، لا تضرونه شيئا،
فقد نصره في أقل ما يكون وأذلة { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } من
مكة لما هموا بقتله، وسعوا في ذلك، وحرصوا أشد الحرص، فألجؤوه إلى أن
يخرج.

{ ثَانِيَ اثْنَيْنِ } أي: هو وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه.
{ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } أي: لما هربا من مكة، لجآ إلى غار ثور في
أسفل مكة، فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب.

فهما في تلك الحالة الحرجة
الشديدة المشقة، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما، فأنزل
اللّه عليهما من نصره ما لا يخطر على البال.

{ إِذْ يَقُولُ } النبي
تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 { لِصَاحِبِهِ } أبي بكر لما حزن
واشتد قلقه، { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } بعونه ونصره وتأييده.

{
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي: الثبات والطمأنينة،
والسكون المثبتة للفؤاد، ولهذا لما قلق صاحبه سكنه وقال { لا تحزن إن اللّه
معنا }

{ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } وهي الملائكة
الكرام، الذين جعلهم اللّه حرسا له، { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ
كَفَرُوا السُّفْلَى } أي: الساقطة المخذولة، فإن الذين كفروا قد كانوا على
حرد قادرين، في ظنهم على قتل الرسول تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، وأخذه، حنقين عليه، فعملوا غاية مجهودهم
في ذلك، فخذلهم اللّه ولم يتم لهم مقصودهم، بل ولا أدركوا شيئا منه.

ونصر
اللّه رسوله بدفعه عنه، وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع، فإن النصر
على قسمين: نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم بأن يتم اللّه لهم ما طلبوا،
وقصدوا، ويستولوا على عدوهم ويظهروا عليهم.

والثاني نصر المستضعف
الذي طمع فيه عدوه القادر، فنصر اللّه إياه، أن يرد عنه عدوه، ويدافع عنه،
ولعل هذا النصر أنفع النصرين، ونصر اللّه رسوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني
اثنين من هذا النوع.

وقوله { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا }
أي كلماته القدرية وكلماته الدينية، هي العالية على كلمة غيره، التي من
جملتها قوله: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } { إِنَّا
لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ
} فدين اللّه هو الظاهر العالي على سائر الأديان، بالحجج الواضحة، والآيات
الباهرة والسلطان الناصر.

{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ } لا يغالبه مغالب،
ولا يفوته هارب، { حَكِيمٌ } يضع الأشياء مواضعها، وقد يؤخر نصر حزبه إلى
وقت آخر، اقتضته الحكمة الإلهية.

وفي هذه الآية الكريمة فضيلة أبي
بكر الصديق بخصيصة لم تكن لغيره من هذه الأمة، وهي الفوز بهذه المنقبة
الجليلة، والصحبة الجميلة، وقد أجمع المسلمون على أنه هو المراد بهذه الآية
الكريمة، ولهذا عدوا من أنكر صحبة أبي بكر للنبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، كافرا، لأنه منكر للقرآن الذي صرح بها.

وفيها
فضيلة السكينة، وأنها من تمام نعمة اللّه على العبد في أوقات الشدائد
والمخاوف التي تطيش بها الأفئدة، وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه،
وثقته بوعده الصادق، وبحسب إيمانه وشجاعته.

وفيها: أن الحزن قد يعرض
لخواص عباد الله الصديقين، مع أن الأولى -إذا نزل بالعبد- أن يسعى في
ذهابه عنه، فإنه مضعف للقلب، موهن للعزيمة.

{ 41 - 42 } { انْفِرُوا
خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ
كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ
بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ
اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }

يقول تعالى لعباده المؤمنين
-مهيجا لهم على النفير في سبيله فقال: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا }
أي: في العسر واليسر، والمنشط والمكره، والحر والبرد، وفي جميع الأحوال.

{
وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي:
ابذلوا جهدكم في ذلك، واستفرغوا وسعكم في المال والنفس، وفي هذا دليل على
أنه -كما يجب الجهاد في النفس- يجب الجهاد في المال، حيث اقتضت الحاجة ودعت
لذلك.

ثم قال: { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
} أي: الجهاد في النفس والمال، خير لكم من التقاعد عن ذلك، لأن فيه رضا
اللّه تعالى، والفوز بالدرجات العاليات عنده، والنصر لدين اللّه، والدخول
في جملة جنده وحزبه.

لو كان خروجهم لطلب العرض القريب، أي: منفعة
دنيوية سهلة التناول { و } كان السفر { َسَفَرًا قَاصِدًا } أي: قريبا
سهلا. { لَاتَّبَعُوكَ } لعدم المشقة الكثيرة، { وَلَكِنْ بَعُدَتْ
عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } أي: طالت عليهم المسافة، وصعب عليهم السفر، فلذلك
تثاقلوا عنك، وليس هذا من أمارات العبودية، بل العبد حقيقة هو المتعبد لربه
في كل حال، القائم بالعبادة السهلة والشاقة، فهذا العبد للّه على كل حال.

{
وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } أي:
سيحلفون أن تخلفهم عن الخروج أن لهم أعذرا وأنهم لا يستطيعون ذلك.

{
يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ } بالقعود والكذب والإخبار بغير الواقع، {
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }

وهذا العتاب إنما هو
للمنافقين، الذين تخلفوا عن النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 في { غزوة تبوك } وأبدوا من الأعذار
الكاذبة ما أبدوا، فعفا النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 عنهم بمجرد اعتذارهم، من غير أن يمتحنهم،
فيتبين له الصادق من الكاذب، ولهذا عاتبه اللّه على هذه المسارعة إلى عذرهم
فقال:

{ 43 - 45 } { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ *
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي
رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ }

يقول تعالى لرسوله تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ } أي: سامحك وغفر
لك ما أجريت.

{ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } في التخلف { حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } بأن
تمتحنهم، ليتبين لك الصادق من الكاذب، فتعذر من يستحق العذر ممن لا يستحق
ذلك.

ثم أخبر أن المؤمنين باللّه واليوم الآخر، لا يستأذنون في ترك
الجهاد بأموالهم وأنفسهم، لأن ما معهم من الرغبة في الخير والإيمان، يحملهم
على الجهاد من غير أن يحثهم عليه حاث،

فضلا عن كونهم يستأذنون في
تركه من غير عذر.

{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } فيجازيهم
على ما قاموا به من تقواه، ومن علمه بالمتقين، أنه أخبر، أن من علاماتهم،
أنهم لا يستأذنون في ترك الجهاد.

{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ
قُلُوبُهُمْ } أي: ليس لهم إيمان تام، ولا يقين صادق، فلذلك قلَّتْ رغبتهم
في الخير، وجبنوا عن القتال، واحتاجوا أن يستأذنوا في ترك القتال. { فَهُمْ
فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي: لا يزالون في الشك والحيرة.

{
46 -48 } { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً
وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا
مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا
خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ
سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ *لَقَدِ ابْتَغَوُا
الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ
الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ }

يقول تعالى
مبينا أن المتخلفين من المنافقين قد ظهر منهم من القرائن ما يبين أنهم ما
قصدوا الخروج للجهاد بالكلية، وأن أعذارهم التي اعتذروها باطلة، فإن العذر
هو المانع الذي يمنع إذا بذل العبد وسعه، وسعى في أسباب الخروج، ثم منعه
مانع شرعي، فهذا الذي يعذر.

{ و } أما هؤلاء المنافقون فـ { لَوْ
أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً } أي: لاستعدوا وعملوا ما
يمكنهم من الأسباب، ولكن لما لم يعدوا له عدة، علم أنهم ما أرادوا الخروج.

{
وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ } معكم في الخروج للغزو {
فَثَبَّطَهُمْ } قدرا وقضاء، وإن كان قد أمرهم وحثهم على الخروج، وجعلهم
مقتدرين عليه، ولكن بحكمته ما أراد إعانتهم، بل خذلهم وثبطهم { وَقِيلَ
اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ } من النساء والمعذورين.

ثم ذكر
الحكمة في ذلك فقال { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا
خَبَالًا } أي: نقصا.

{ وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ } أي: ولسعوا في
الفتنة والشر بينكم، وفرقوا جماعتكم المجتمعين، { يَبْغُونَكُمُ
الْفِتْنَةَ } أي: هم حريصون على فتنتكم وإلقاء العداوة بينكم.

{
وَفِيكُمْ } أناس ضعفاء العقول { سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أي: مستجيبون
لدعوتهم يغترون بهم، فإذا كانوا هم حريصين على خذلانكم، وإلقاء الشر بينكم،
وتثبيطكم عن أعدائكم، وفيكم من يقبل منهم ويستنصحهم. فما ظنك بالشر الحاصل
من خروجهم مع المؤمنين، والنقص الكثير منهم، فللّه أتم الحكمة حيث ثبطهم
ومنعهم من الخروج مع عباده المؤمنين رحمة بهم، ولطفا من أن يداخلهم ما لا
ينفعهم، بل يضرهم.

{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } فيعلم
عباده كيف يحذرونهم، ويبين لهم من المفاسد الناشئة من مخالطتهم.

ثم
ذكر أنه قد سبق لهم سوابق في الشر فقال: { لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ
مِنْ قَبْلُ } أي: حين هاجرتم إلى المدينة، بذلوا الجهد، { وَقَلَّبُوا
لَكَ الْأُمُورَ } أي: أداروا الأفكار، وأعملوا الحيل في إبطال دعوتكم
وخذلان دينكم، ولم يقصروا في ذلك، { حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ
اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ } فبطل كيدهم واضمحل باطلهم، فحقيق بمثل هؤلاء
أن يحذر اللّه عباده المؤمنين منهم، وأن لا يبالي المؤمنين، بتخلفهم عنهم.

{
49 } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي
الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ }

أي:
ومن هؤلاء المنافقين من يستأذن في التخلف، ويعتذر بعذر آخر عجيب، فيقول: {
ائْذَنْ لِي } في التخلف { وَلَا تَفْتِنِّي } في الخروج، فإني إذا خرجت،
فرأيت نساء بين الأصفر لا أصبر عنهن، كما قال ذلك { الجد بن قيس }

ومقصوده
-قبحه اللّه- الرياء والنفاق بأن مقصودي مقصود حسن، فإن في خروجي فتنة
وتعرضا للشر، وفي عدم خروجي عافية وكفا عن الشر.

قال اللّه تعالى
مبينا كذب هذا القول: { أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } فإنه على تقدير
صدق هذا القائل في قصده، [فإن] في التخلف مفسدة كبرى وفتنة عظمى محققة، وهي
معصية اللّه ومعصية رسوله، والتجرؤ على الإثم الكبير، والوزر العظيم، وأما
الخروج فمفسدة قليلة بالنسبة للتخلف، وهي متوهمة، مع أن هذا القائل قصده
التخلف لا غير، ولهذا توعدهم اللّه بقوله: { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ
بِالْكَافِرِينَ } ليس لهم عنها مفر ولا مناص، ولا فكاك، ولا خلاص.

{
50 - 51 } { إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ
يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ
فَرِحُونَ * قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ
مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

يقول
تعالى مبينا أن المنافقين هم الأعداء حقا، المبغضون للدين صرفا: { إِنْ
تُصِبْكَ حَسَنَةٌ } كنصر وإدالة على العدو { تَسُؤْهُمْ } أي: تحزنهم
وتغمهم.

{ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } كإدالة العدو عليك {
يَقُولُوا } متبجحين بسلامتهم من الحضور معك.

{ قَدْ أَخَذْنَا
أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ } أي: قد حذرنا وعملنا بما ينجينا من الوقوع في مثل
هذه المصيبة.

{ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ } فيفرحون بمصيبتك،
وبعدم مشاركتهم إياك فيها. قال تعالى رادا عليهم في ذلك { قُلْ لَنْ
يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } أي: ما قدره وأجراه في اللوح
المحفوظ.

{ هُوَ مَوْلَانَا } أي: متولي أمورنا الدينية والدنيوية،
فعلينا الرضا بأقداره وليس في أيدينا من الأمر شيء.

{ وَعَلَى
اللَّهِ } وحده { فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أي: يعتمدوا عليه في
جلب مصالحهم ودفع المضار عنهم، ويثقوا به في تحصيل مطلوبهم، فلا خاب من
توكل عليه، وأما من توكل على غيره، فإنه مخذول غير مدرك لما أمل.

{
52 } { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ
وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ
عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ }

أي:
قل للمنافقين الذين يتربصون بكم الدوائر: أي شيء تربصون بنا؟ فإنكم لا
تربصون بنا إلا أمرا فيه غاية نفعنا، وهو إحدى الحسنيين، إما الظفر
بالأعداء والنصر عليهم ونيل الثواب الأخروي والدنيوي. وإما الشهادة التي هي
من أعلى درجات الخلق، وأرفع المنازل عند اللّه.

وأما تربصنا بكم
-يا معشر المنافقين- فنحن نتربص بكم، أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده، لا
سبب لنا فيه، أو بأيدينا، بأن يسلطنا عليكم فنقتلكم. { فَتَرَبَّصُوا } بنا
الخير { إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ } بكم الشر.

{ 53 - 54 } {
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ
إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ
مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ
وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ
إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ }

يقول تعالى مبينا بطلان نفقات
المنافقين، وذاكرا السبب في ذلك { قُلْ } لهم { أَنْفِقُوا طَوْعًا } من
أنفسكم { أَوْ كَرْهًا } على ذلك، بغير اختياركم. { لَنْ يُتَقَبَّلَ
مِنْكُمْ } شيء من أعمالكم { إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ }
خارجين عن طاعة اللّه، ثم بين صفة فسقهم وأعمالهم، فقال: { وَمَا
مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ
كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } والأعمال كلها شرط قبولها الإيمان،
فهؤلاء لا إيمان لهم ولا عمل صالح، حتى إن الصلاة التي هي أفضل أعمال
البدن، إذا قاموا إليها قاموا كسالى، قال: { وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ
إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى } أي: متثاقلون، لا يكادون يفعلونها من ثقلها
عليهم.

{ وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } من غير
انشراح صدر وثبات نفس، ففي هذا غاية الذم لمن فعل مثل فعلهم، وأنه ينبغي
للعبد أن لا يأتي الصلاة إلا وهو نشيط البدن والقلب إليها، ولا ينفق إلا
وهو منشرح الصدر ثابت القلب، يرجو ذخرها وثوابها من اللّه وحده، ولا يتشبه
بالمنافقين.

{ 55 - 57 } { فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا
أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ *
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ
وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ
مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }

يقول
تعالى: فلا تعجبك أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم، فإنه لا غبطة فيها،
وأول بركاتها عليهم أن قدموها على مراضى ربهم، وعصوا اللّه لأجلها {
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
} والمراد بالعذاب هنا، ما ينالهم من المشقة في تحصيلها، والسعي الشديد في
ذلك، وهم القلب فيها، وتعب البدن.

فلو قابلت لذاتهم فيها بمشقاتهم،
لم يكن لها نسبة إليها، فهي -لما ألهتهم عن اللّه وذكره- صارت وبالا عليهم
حتى في الدنيا.

ومن وبالها العظيم الخطر، أن قلوبهم تتعلق بها،
وإرادتهم لا تتعداها، فتكون منتهى مطلوبهم وغاية مرغوبهم ولا يبقى في
قلوبهم للآخرة نصيب، فيوجب ذلك أن ينتقلوا من الدنيا { وَتَزْهَقَ
أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }

فأي عقوبة أعظم من هذه العقوبة
الموجبة للشقاء الدائم والحسرة الملازمة.

{ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ
إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ } قصدهم في حلفهم
هذا أنهم { قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } أي: يخافون الدوائر، وليس في قلوبهم
شجاعة تحملهم على أن يبينوا أحوالهم. فيخافون إن أظهروا حالهم منكم،
ويخافون أن تتبرأوا منهم، فيتخطفهم الأعداء من كل جانب.

وأما حال
قوي القلب ثابت الجنان، فإنه يحمله ذلك على بيان حاله، حسنة كانت أو سيئة،
ولكن المنافقين خلع عليهم خلعة الجبن، وحلوا بحلية الكذب.

ثم ذكر
شدة جبنهم فقال: { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً } يلجأون إليه عندما تنزل بهم
الشدائد، { أَوْ مَغَارَاتٍ } يدخلونها فيستقرون فيها { أَوْ مُدَّخَلًا }
أي: محلا يدخلونه فيتحصنون فيه { لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }
أي: يسرعون ويهرعون، فليس لهم ملكة، يقتدرون بها على الثبات.

{ 58 -
59 } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا
مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ *
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا
إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ }

أي: ومن هؤلاء المنافقين من يعيبك في
قسمة الصدقات، وينتقد عليك فيها، وليس انتقادهم فيها وعيبهم لقصد صحيح، ولا
لرأي رجيح، وإنما مقصودهم أن يعطوا منها. { فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا
رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } وهذه حالة
لا تنبغي للعبد أن يكون رضاه وغضبه، تابعا لهوى نفسه الدنيوي وغرضه الفاسد،
بل الذي ينبغي أن يكون هواه تبعا لمرضاة ربه، كما قال النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999: { لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما
جئت به }

وقال هنا: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ } أي: أعطاهم من قليل وكثير. { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ }

أي:
كافينا اللّه، فنرضى بما قسمه لنا، وليؤملوا فضله وإحسانه إليهم بأن
يقولوا: { سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى
اللَّهِ رَاغِبُونَ } أي: متضرعون في جلب منافعنا، ودفع مضارنا، لسلموا من
النفاق ولهدوا إلى الإيمان والأحوال العالية، ثم بين تعالى كيفية قسمة
الصدقات الواجبة فقال:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 6:13 pm

قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا أي:
عربيكم، وعجميكم، أهل الكتاب منكم، وغيرهم.
الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يتصرف فيهما بأحكامه الكونية والتدابير السلطانية،
وبأحكامه الشرعية الدينية التي من جملتها: أن أرسل إليكم رسولا عظيما
يدعوكم إلى اللّه وإلى دار كرامته، ويحذركم من كل ما يباعدكم منه، ومن دار
كرامته.
لا إِلَهَ إِلا هُوَ أي: لا معبود بحق، إلا اللّه وحده لا شريك
له، ولا تعرف عبادته إلا من طريق رسله، يُحْيِي وَيُمِيتُ أي: من جملة
تدابيره: الإحياء والإماتة، التي لا يشاركه فيها أحد، الذي جعل الموت جسرا
ومعبرا يعبر منه إلى دار البقاء، التي من آمن بها صدق الرسول محمدا تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 قطعا.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
النَّبِيِّ الأمِّيِّ إيمانا في القلب، متضمنا لأعمال القلوب والجوارح.
الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ أي: آمنوا بهذا الرسول المستقيم
في عقائده وأعماله، وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ في مصالحكم
الدينية والدنيوية، فإنكم إذا لم تتبعوه ضللتم ضلالا بعيدا.
159 وَمِنْ
قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ أي: جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
أي: يهدون به الناس في تعليمهم إياهم وفتواهم لهم، ويعدلون به بينهم في
الحكم بينهم، بقضاياهم، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ
وفي هذا فضيلة لأمة موسى عليه الصلاة والسلام، وأن اللّه تعالى جعل منهم
هداة يهدون بأمره.
وكأن الإتيان بهذه الآية الكريمة فيه نوع احتراز مما
تقدم، فإنه تعالى ذكر فيما تقدم جملة من معايب بني إسرائيل، المنافية
للكمال المناقضة للهداية، فربما توهم متوهم أن هذا يعم جميعهم، فذكر تعالى
أن منهم طائفة مستقيمة هادية مهدية.
160 وَقَطَّعْنَاهُمُ أي: قسمناهم
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا أي: اثنتي عشرة قبيلة متعارفة
متوالفة، كل بني رجل من أولاد يعقوب قبيلة.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى
إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أي: طلبوا منه أن يدعو اللّه تعالى، أن يسقيهم
ماء يشربون منه وتشرب منه مواشيهم، وذلك لأنهم - واللّه أعلم - في محل قليل
الماء.
فأوحى اللّه لموسى إجابة لطلبتهم أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ
الْحَجَرَ يحتمل أنه حجر معين، ويحتمل أنه اسم جنس، يشمل أي حجر كان، فضربه
فَانْبَجَسَتْ أي: انفجرت من ذلك الحجر اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا جارية
سارحة.
قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ أي: قد قسم على كل قبيلة
من تلك القبائل الاثنتي عشرة، وجعل لكل منهم عينا، فعلموها، واطمأنوا،
واستراحوا من التعب والمزاحمة، والمخاصمة، وهذا من تمام نعمة اللّه عليهم.
وَظَلَّلْنَا
عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فكان يسترهم من حر الشمس وَأَنـزلْنَا عَلَيْهِمُ
الْمَنَّ وهو الحلوى، وَالسَّلْوَى وهو لحم طير من أنواع الطيور وألذها،
فجمع اللّه لهم بين الظلال، والشراب، والطعام الطيب، من الحلوى واللحوم،
على وجه الراحة والطمأنينة.
وقيل لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا حين لم يشكروا اللّه، ولم يقوموا بما أوجب
اللّه عليهم.
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث فوتوها كل
خير، وعرضوها للشر والنقمة، وهذا كان مدة لبثهم في التيه.
(161) وَإِذْ
قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ أي: ادخلوها لتكون وطنا لكم
ومسكنا، وهي (إيلياء) وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ أي: قرية كانت
كثيرة الأشجار، غزيرة الثمار، رغيدة العيش، فلذلك أمرهم اللّه أن يأكلوا
منها حيث شاءوا.
وَقُولُوا حين تدخلون الباب: حِطَّةٌ أي: احطط عنا
خطايانا، واعف عنا.
وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا أي: خاضعين لربكم
مستكينين لعزته، شاكرين لنعمته، فأمرهم بالخضوع، وسؤال المغفرة، ووعدهم على
ذلك مغفرة ذنوبهم والثواب العاجل والآجل فقال: نَغْفِرْ لَكُمْ
خَطِيئَاتِكُمْ سَنـزيدُ الْمُحْسِنِينَ من خير الدنيا والآخرة، فلم
يمتثلوا هذا الأمر الإلهي، بل فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي:
عصوا اللّه واستهانوا بأمره قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فقالوا بدل
طلب المغفرة، وقولهم: حِطَّة (حبة في شعيرة)، وإذا بدلوا القول - مع يسره
وسهولته - فتبديلهم للفعل من باب أولى، ولهذا دخلوا وهم يزحفون على
أستاههم.
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ حين خالفوا أمر اللّه وعصوه رِجْزًا
مِنَ السَّمَاءِ أي: عذابا شديدا، إما الطاعون وإما غيره من العقوبات
السماوية.
وما ظلمهم اللّه بعقابه وإنما كان ذلك بِمَا كَانُوا
يَظْلِمُونَ أي: يخرجون من طاعة الله إلى معصيته، من غير ضرورة ألجأتهم ولا
داع دعاهم سوى الخبث والشر الذي كان كامنا في نفوسهم.
163
وَاسْأَلْهُمْ أي: اسأل بني إسرائيل عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ
حَاضِرَةَ الْبَحْرِ أي: على ساحله في حال تعديهم وعقاب اللّه إياهم.
إِذْ
يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ وكان اللّه تعالى قد أمرهم أن يعظموه ويحترموه
ولا يصيدوا فيه صيدا، فابتلاهم اللّه وامتحنهم، فكانت الحيتان تأتيهم
يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا أي: كثيرة طافية على وجه البحر.
وَيَوْمَ لا
يَسْبِتُونَ أي: إذا ذهب يوم السبت لا تَأْتِيهِمْ أي: تذهب في البحر فلا
يرون منها شيئا كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ففسقهم هو
الذي أوجب أن يبتليهم اللّه، وأن تكون لهم هذه المحنة، وإلا فلو لم يفسقوا،
لعافاهم اللّه، ولما عرضهم للبلاء والشر، فتحيلوا على الصيد، فكانوا
يحفرون لها حفرا، وينصبون لها الشباك، فإذا جاء يوم السبت ووقعت في تلك
الحفر والشباك، لم يأخذوها في ذلك اليوم، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها، وكثر
فيهم ذلك، وانقسموا ثلاث فرق:
(164) معظمهم اعتدوا وتجرؤوا، وأعلنوا
بذلك.
وفرقة أعلنت بنهيهم والإنكار عليهم.
وفرقة اكتفت بإنكار أولئك
عليهم، ونهيهم لهم، وقالوا لهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ
مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا كأنهم يقولون: لا فائدة
في وعظ من اقتحم محارم اللّه، ولم يصغ للنصيح، بل استمر على اعتدائه
وطغيانه، فإنه لا بد أن يعاقبهم اللّه، إما بهلاك أو عذاب شديد.
فقال
الواعظون: نعظهم وننهاهم مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي: لنعذر فيهم.
وَلَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ أي: يتركون ما هم فيه من المعصية، فلا نيأس من هدايتهم، فربما
نجع فيهم الوعظ، وأثر فيهم اللوم.
وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر
ليكون معذرة، وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل اللّه أن يهديه، فيعمل
بمقتضى ذلك الأمر، والنهي.
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أي:
تركوا ما ذكروا به، واستمروا على غيهم واعتدائهم.
أَنْجَيْنَا من العذاب
الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وهكذا سنة اللّه في عباده، أن العقوبة
إذا نـزلت نجا منها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
وَأَخَذْنَا
الَّذِينَ ظَلَمُوا وهم الذين اعتدوا في السبت بِعَذَابٍ بَئِيسٍ أي: شديد
بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
وأما الفرقة الأخرى التي قالت للناهين: لِمَ
تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ فاختلف المفسرون في نجاتهم
وهلاكهم، والظاهر أنهم كانوا من الناجين، لأن اللّه خص الهلاك بالظالمين،
وهو لم يذكر أنهم ظالمون.
فدل على أن العقوبة خاصة بالمعتدين في السبت،
ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن
الآخرين، فاكتفوا بإنكار أولئك، ولأنهم أنكروا عليهم بقولهم: لِمَ
تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا فأبدوا من غضبهم عليهم، ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة لفعلهم،
وأن اللّه سيعاقبهم أشد العقوبة.
166 فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا
عَنْهُ أي: قسوا فلم يلينوا، ولا اتعظوا، قُلْنَا لَهُمْ قولا قدريا:
كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فانقلبوا بإذن اللّه قردة، وأبعدهم اللّه من
رحمته، ثم ذكر ضرب الذلة والصغار على من بقي منهم فقال:
167 وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي: أعلم إعلاما صريحا: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ أي: يهينهم،
ويذلهم.
إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ لمن عصاه، حتى إنه يعجل له
العقوبة في الدنيا. وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب إليه وأناب، يغفر
له الذنوب، ويستر عليه العيوب، ويرحمه بأن يتقبل منه الطاعات، ويثيبه عليها
بأنواع المثوبات، وقد فعل اللّه بهم ما أوعدهم به، فلا يزالون في ذل
وإهانة، تحت حكم غيرهم، لا تقوم لهم راية، ولا ينصر لهم عَلَمٌ.
168 -
170 وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرْضِ أُمَمًا أي: فرقناهم ومزقناهم في الأرض
بعد ما كانوا مجتمعين، مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ القائمون بحقوق اللّه، وحقوق
عباده، وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ أي: دون الصلاح، إما مقتصدون، وإما ظالمون
لأنفسهم، وَبَلَوْنَاهُمْ على عادتنا وسنتنا، بِالْحَسَنَاتِ
وَالسَّيِّئَاتِ أي: بالعسر واليسر.
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عما هم
عليه مقيمون من الردى، يراجعون ما خلقوا له من الهدى، فلم يزالوا بين صالح
وطالح ومقتصد، حتى خلف من بعدهم خلف. زاد شرهم وَرِثُوا بعدهم الْكِتَابُ
وصار المرجع فيه إليهم، وصاروا يتصرفون فيه بأهوائهم، وتبذل لهم الأموال،
ليفتوا ويحكموا، بغير الحق، وفشت فيهم الرشوة.
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا
الأدْنَى وَيَقُولُونَ مقرين بأنه ذنب وأنهم ظلمة: سَيُغْفَرُ لَنَا وهذا
قول خال من الحقيقة، فإنه ليس استغفارا وطلبا للمغفرة على الحقيقة.
فلو
كان ذلك لندموا على ما فعلوا، وعزموا على أن لا يعودوا، ولكنهم - إذا أتاهم
عرض آخر، ورشوة أخرى - يأخذوه.
فاشتروا بآيات اللّه ثمنا قليلا
واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، قال اللّه [تعالى] في الإنكار عليهم،
وبيان جراءتهم: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا
يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ فما بالهم يقولون عليه غير الحق
اتباعا لأهوائهم، وميلا مع مطامعهم.
و الحال أنهم قد دَرَسُوا مَا فِيهِ
فليس عليهم فيه إشكال، بل قد أَتَوْا أمرهم متعمدين، وكانوا في أمرهم
مستبصرين، وهذا أعظم للذنب، وأشد للوم، وأشنع للعقوبة، وهذا من نقص عقولهم،
وسفاهة رأيهم، بإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، ولهذا قال: وَالدَّارُ
الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ما حرم اللّه عليهم، من المآكل
التي تصاب، وتؤكل رشوة على الحكم بغير ما أنـزل اللّه، وغير ذلك من أنواع
المحرمات.
أَفَلا تَعْقِلُونَ أي: أفلا يكون لكم عقول توازن بين ما
ينبغي إيثاره، وما ينبغي الإيثار عليه، وما هو أولى بالسعي إليه، والتقديم
له على غيره. فخاصية العقل النظر للعواقب.
وأما من نظر إلى عاجل طفيف
منقطع، يفوت نعيما عظيما باقيا فأنى له العقل والرأي؟
وإنما العقلاء
حقيقة من وصفهم اللّه بقوله وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ أي:
يتمسكون به علما وعملا فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار، التي علمها
أشرف العلوم.
ويعلمون بما فيها من الأوامر التي هي قرة العيون وسرور
القلوب، وأفراح الأرواح، وصلاح الدنيا والآخرة.
ومن أعظم ما يجب التمسك
به من المأمورات، إقامة الصلاة، ظاهرا وباطنا، ولهذا خصها الله بالذكر
لفضلها، وشرفها، وكونها ميزان الإيمان، وإقامتها داعية لإقامة غيرها من
العبادات.
ولما كان عملهم كله إصلاحا، قال تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ
أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم، مصلحين لأنفسهم
ولغيرهم.
وهذه الآية وما أشبهها دلت على أن اللّه بعث رسله عليهم الصلاة
والسلام بالصلاح لا بالفساد، وبالمنافع لا بالمضار، وأنهم بعثوا بصلاح
الدارين، فكل من كان أصلح، كان أقرب إلى اتباعهم.
171 ثم قال تعالى:
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ حين امتنعوا من قبول ما في التوراة.
فألزمهم
اللّه العمل ونتق فوق رءوسهم الجبل، فصار فوقهم كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ
وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ وقيل لهم: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ
بِقُوَّةٍ أي: بجد واجتهاد.
وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ دراسة ومباحثة،
واتصافا بالعمل به لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إذا فعلتم ذلك.
172 -174
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى
شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا
غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ
وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ
الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
.
يقول تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي: أخرج من أصلابهم ذريتهم، وجعلهم يتناسلون
ويتوالدون قرنا بعد قرن.
و حين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم
أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أي: قررهم بإثبات
ربوبيته، بما أودعه في فطرهم من الإقرار، بأنه ربهم وخالقهم ومليكهم.
قالوا:
بلى قد أقررنا بذلك، فإن اللّه تعالى فطر عباده على الدين الحنيف القيم.
فكل
أحد فهو مفطور على ذلك، ولكن الفطرة قد تغير وتبدل بما يطرأ عليها من
العقائد الفاسدة، ولهذا قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أي: إنما امتحناكم حتى
أقررتم بما تقرر عندكم، من أن اللّه تعالى ربكم، خشية أن تنكروا يوم
القيامة، فلا تقروا بشيء من ذلك، وتزعمون أن حجة اللّه ما قامت عليكم، ولا
عندكم بها علم، بل أنتم غافلون عنها لاهون.
فاليوم قد انقطعت حجتكم،
وثبتت الحجة البالغة للّه عليكم.
أو تحتجون أيضا بحجة أخرى، فتقولون:
إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ
بَعْدِهِمْ فحذونا حذوهم، وتبعناهم في باطلهم.
أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا
فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ فقد أودع اللّه في فطركم، ما يدلكم على أن ما مع
آبائكم باطل، وأن الحق ما جاءت به الرسل، وهذا يقاوم ما وجدتم عليه آباءكم،
ويعلو عليه.
نعم قد يعرض للعبد من أقوال آبائه الضالين، ومذاهبهم
الفاسدة ما يظنه هو الحق، وما ذاك إلا لإعراضه، عن حجج اللّه وبيناته،
وآياته الأفقية والنفسية، فإعراضه عن ذلك، وإقباله على ما قاله المبطلون،
ربما صيره بحالة يفضل بها الباطل على الحق، هذا هو الصواب في تفسير هذه
الآيات.
وقد قيل: إن هذا يوم أخذ اللّه الميثاق على ذرية آدم، حين
استخرجهم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم، فشهدوا بذلك، فاحتج عليهم بما أقروا
به في ذلك الوقت على ظلمهم في كفرهم، وعنادهم في الدنيا والآخرة، ولكن ليس
في الآية ما يدل على هذا، ولا له مناسبة، ولا تقتضيه حكمة اللّه تعالى،
والواقع شاهد بذلك.
فإن هذا العهد والميثاق، الذي ذكروا، أنه حين أخرج
اللّه ذرية آدم من ظهره، حين كانوا في عالم كالذر، لا يذكره أحد، ولا يخطر
ببال آدمي، فكيف يحتج اللّه عليهم بأمر ليس عندهم به خبر، ولا له عين ولا
أثر؟" ولهذا لما كان هذا أمرا واضحا جليا، قال تعالى:
وَكَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الآيَاتِ أي: نبينها ونوضحها، وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى ما
أودع اللّه في فطرهم، وإلى ما عاهدوا اللّه عليه، فيرتدعون عن القبائح.
175-178
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ
مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ
شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ
يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ *
سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ
كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ
يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
يقول تعالى لنبيه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي
آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا أي: علمناه كتاب اللّه، فصار العالم الكبير والحبر
النحرير.
فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ أي: انسلخ من
الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات اللّه، فإن العلم بذلك، يصير صاحبه متصفا
بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات،
فترك هذا كتاب اللّه وراء ظهره، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب، وخلعها
كما يخلع اللباس.
فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان، أي: تسلط عليه حين
خرج من الحصن الحصين، وصار إلى أسفل سافلين، فأزه إلى المعاصي أزا.
فَكَانَ
مِنَ الْغَاوِينَ بعد أن كان من الراشدين المرشدين.
وهذا لأن اللّه
تعالى خذله ووكله إلى نفسه، فلهذا قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ
بِهَا بأن نوفقه للعمل بها، فيرتفع في الدنيا والآخرة، فيتحصن من أعدائه.
وَلَكِنَّهُ
فعل ما يقتضي الخذلان، فَأَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ، أي: إلى الشهوات
السفلية، والمقاصد الدنيوية. وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وترك طاعة مولاه،
فَمَثَلُهُ في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها، كَمَثَلِ الْكَلْبِ
إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي: لا يزال
لاهثا في كل حال، وهذا لا يزال حريصا، حرصا قاطعا قلبه، لا يسد فاقته شيء
من الدنيا.
ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
بعد أن ساقها اللّه إليهم، فلم ينقادوا لها، بل كذبوا بها وردوها، لهوانهم
على اللّه، واتباعهم لأهوائهم، بغير هدى من اللّه.
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في ضرب الأمثال، وفي العبر والآيات، فإذا
تفكروا علموا، وإذا علموا عملوا.
سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ أي: ساء وقبح،
مثل من كذب بآيات اللّه، وظلم نفسه بأنواع المعاصي، فإن مثلهم مثل السوء،
وهذا الذي آتاه اللّه آياته، يحتمل أن المراد به شخص معين، قد كان منه ما
ذكره اللّه، فقص اللّه قصته تنبيها للعباد. ويحتمل أن المراد بذلك أنه اسم
جنس، وأنه شامل لكل من آتاه اللّه آياته فانسلخ منها.
وفي هذه الآيات
الترغيب في العمل بالعلم، وأن ذلك رفعة من اللّه لصاحبه، وعصمة من الشيطان،
والترهيب من عدم العمل به، وأنه نـزول إلى أسفل سافلين، وتسليط للشيطان
عليه، وفيه أن اتباع الهوى، وإخلاد العبد إلى الشهوات، يكون سببا للخذلان.
ثم
قال تعالى مبينا أنه المنفرد بالهداية والإضلال: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بأن
يوفقه للخيرات، ويعصمه من المكروهات، ويعلمه ما لم يكن يعلم فَهُوَ
الْمُهْتَدِي حقا لأنه آثر هدايته تعالى، وَمَنْ يُضْلِلِ فيخذله ولا يوفقه
للخير فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ لأنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا
ذلك هو الخسران المبين.
179 وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا
مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا
أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ .
يقول
تعالى مبينا كثرة الغاوين الضالين، المتبعين إبليس اللعين: وَلَقَدْ
ذَرَأْنَا أي: أنشأنا وبثثنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ
صارت البهائم أحسن حالة منهم.
لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا أي:
لا يصل إليها فقه ولا علم، إلا مجرد قيام الحجة.
وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا
يُبْصِرُونَ بِهَا ما ينفعهم، بل فقدوا منفعتها وفائدتها.
وَلَهُمْ
آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا سماعا يصل معناه إلى قلوبهم.
أُولَئِكَ
الذين بهذه الأوصاف القبيحة كَالأنْعَامِ أي: البهائم، التي فقدت العقول،
وهؤلاء آثروا ما يفنى على ما يبقى، فسلبوا خاصية العقل.
بَلْ هُمْ
أَضَلُّ من البهائم، فإن الأنعام مستعملة فيما خلقت له، ولها أذهان، تدرك
بها، مضرتها من منفعتها، فلذلك كانت أحسن حالا منهم.
أُولَئِكَ هُمُ
الْغَافِلُونَ الذين غفلوا عن أنفع الأشياء، غفلوا عن الإيمان باللّه
وطاعته وذكره.
خلقت لهم الأفئدة والأسماع والأبصار، لتكون عونا لهم على
القيام بأوامر اللّه وحقوقه، فاستعانوا بها على ضد هذا المقصود.
فهؤلاء
حقيقون بأن يكونوا ممن ذرأ اللّه لجهنم وخلقهم لها، فخلقهم للنار، وبأعمال
أهلها يعملون.
وأما من استعمل هذه الجوارح في عبادة اللّه، وانصبغ قلبه
بالإيمان باللّه ومحبته، ولم يغفل عن اللّه، فهؤلاء، أهل الجنة، وبأعمال
أهل الجنة يعملون.
180 وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ
بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ .
هذا بيان لعظيم جلاله وسعة أوصافه، بأن له
الأسماء الحسنى، أي: له كل اسم حسن، وضابطه: أنه كل اسم دال على صفة كمال
عظيمة، وبذلك كانت حسنى، فإنها لو دلت على غير صفة، بل كانت علما محضا لم
تكن حسنى، وكذلك لو دلت على صفة ليست بصفة كمال، بل إما صفة نقص أو صفة
منقسمة إلى المدح والقدح، لم تكن حسنى، فكل اسم من أسمائه دال على جميع
الصفة التي اشتق منها، مستغرق لجميع معناها.
وذلك نحو العليم الدال على
أن له علما محيطا عاما لجميع الأشياء، فلا يخرج عن علمه مثقال ذرة في الأرض
ولا في السماء.
و كالرحيم الدال على أن له رحمة عظيمة، واسعة لكل شيء.
و
كالقدير الدال على أن له قدرة عامة، لا يعجزها شيء، ونحو ذلك.
ومن تمام
كونها "حسنى" أنه لا يدعى إلا بها، ولذلك قال: فَادْعُوهُ بِهَا وهذا شامل
لدعاء العبادة، ودعاء المسألة، فيدعى في كل مطلوب بما يناسب ذلك المطلوب،
فيقول الداعي مثلا اللّهم اغفر لي وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم، وتب
عَلَيَّ يا تواب، وارزقني يا رزاق، والطف بي يا لطيف ونحو ذلك.
وقوله:
وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ أي: عقوبة وعذابا على إلحادهم في أسمائه، وحقيقة الإلحاد الميل
بها عما جعلت له، إما بأن يسمى بها من لا يستحقها، كتسمية المشركين بها
لآلهتهم، وإما بنفي معانيها وتحريفها، وأن يجعل لها معنى ما أراده اللّه
ولا رسوله، وإما أن يشبه بها غيرها، فالواجب أن يحذر الإلحاد فيها، ويحذر
الملحدون فيها، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 ( أن للّه تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل
الجنة )
181 .وقوله: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ
وَبِهِ يَعْدِلُونَ .
أي: ومن جملة من خلقنا أمة فاضلة كاملة في نفسها،
مكملة لغيرها، يهدون أنفسهم وغيرهم بالحق، فيعلمون الحق ويعملون به،
ويعلِّمونه، ويدعون إليه وإلى العمل به.
وَبِهِ يَعْدِلُونَ بين الناس
في أحكامهم إذا حكموا في الأموال والدماء والحقوق والمقالات، وغير ذلك،
وهؤلاء هم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وهم الذين أنعم اللّه عليهم بالإيمان
والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهم الصديقون الذين
مرتبتهم تلي مرتبة الرسالة، وهم في أنفسهم مراتب متفاوتة كل بحسب حاله وعلو
منـزلته، فسبحان من يختص برحمته من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم.
182-186
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا
يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ * أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ
مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ
اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ * مَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ .
أي: والذين كذبوا بآيات اللّه الدالة على صحة ما جاء به
محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، من الهدى فردوها ولم يقبلوها.
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ بأن يدر لهم الأرزاق.
وَأُمْلِي
لَهُمْ أي: أُمْهِلُهُم حتى يظنوا أنهم لا يؤخذون ولا يعاقبون، فيزدادون
كفرا وطغيانا، وشرا إلى شرهم، وبذلك تزيد عقوبتهم، ويتضاعف عذابهم، فيضرون
أنفسهم من حيث لا يشعرون، ولهذا قال: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي: قوي بليغ.
أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 مِنْ جِنَّةٍ أي: أَوَ لَمْ يُعْمِلُوا
أفكارهم، وينظروا: هل في صاحبهم الذي يعرفونه ولا يخفى عليهم من حاله شيء،
هل هو مجنون؟ فلينظروا في أخلاقه وهديه، ودله وصفاته، وينظروا في ما دعا
إليه، فلا يجدون فيه من الصفات إلا أكملها، ولا من الأخلاق إلا أتمها، ولا
من العقل والرأي إلا ما فاق به العالمين، ولا يدعو إلا لكل خير، ولا ينهى
إلا عن كل شر.
أفبهذا يا أولي الألباب من جنة؟ أم هو الإمام العظيم
والناصح المبين، والماجد الكريم، والرءوف الرحيم؟
ولهذا قال: إِنْ هُوَ
إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: يدعو الخلق إلى ما ينجيهم من العذاب، ويحصل لهم
الثواب.
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
فإنهم إذا نظروا إليها، وجدوها أدلة دالة على توحيد ربها، وعلى ما له من
صفات الكمال.
و كذلك لينظروا إلى جميع مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ
فإن جميع أجزاء العالم، يدل أعظم دلالة على اللّه وقدرته وحكمته وسعة
رحمته، وإحسانه، ونفوذ مشيئته، وغير ذلك من صفاته العظيمة، الدالة على
تفرده بالخلق والتدبير، الموجبة لأن يكون هو المعبود المحمود، المسبح
الموحد المحبوب.
وقوله: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ
أَجَلُهُمْ أي: لينظروا في خصوص حالهم، وينظروا لأنفسهم قبل أن يقترب
أجلهم، ويفجأهم الموت وهم في غفلة معرضون، فلا يتمكنون حينئذ، من استدراك
الفارط.
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي: إذا لم يؤمنوا بهذا
الكتاب الجليل، فبأي حديث يؤمنون به؟" أبكتب الكذب والضلال؟ أم بحديث كل
مفتر دجال؟ ولكن الضال لا حيلة فيه، ولا سبيل إلى هدايته.
ولهذا قال
تعالى مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي: متحيرين يترددون، لا يخرجون منه ولا يهتدون
إلى حق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Prince SemseM
:: ادارى ::
Prince SemseM


تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Untitl10
ذكر
برج : العذراء
عدد المساهمات : 1871
نقاط : 27915
العمر : 35
تاريخ التسجيل : 28/02/2010
الاوسمة الممنوحة للعضو : تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 1269

تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير القران الكريم كاملا   تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 Icon_minitime2/1/2011, 6:14 pm

187
- 188 يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا
عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ
كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ .
قُلْ لا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ
أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ
السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .
يقول
تعالى لرسوله محمد تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999: يَسْأَلُونَكَ أي: المكذبون لك، المتعنتون
عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا أي: متى وقتها الذي تجيء به، ومتى
تحل بالخلق؟
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي أي: إنه تعالى مختص
بعلمها، لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ أي: لا يظهرها لوقتها الذي
قدر أن تقوم فيه إلا هو.
ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أي: خفي
علمها على أهل السماوات والأرض، واشتد أمرها أيضا عليهم، فهم من الساعة
مشفقون.
لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً أي: فجأة من حيث لا تشعرون، لم
يستعدوا لها، ولم يتهيأوا لقيامها.
يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ
عَنْهَا أي: هم حريصون على سؤالك عن الساعة، كأنك مستحف عن السؤال عنها،
ولم يعلموا أنك - لكمال علمك بربك، وما ينفع السؤال عنه - غير مبال بالسؤال
عنها، ولا حريص على ذلك، فلم لا يقتدون بك، ويكفون عن الاستحفاء عن هذا
السؤال الخالي من المصلحة المتعذر علمه، فإنه لا يعلمها نبي مرسل، ولا ملك
مقرب.
وهي من الأمور التي أخفاها الله عن الخلق، لكمال حكمته وسعة علمه.
قُلْ
إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ فلذلك حرصوا على ما لا ينبغي الحرص عليه، وخصوصا مثل حال هؤلاء
الذين يتركون السؤال عن الأهم، ويدعون ما يجب عليهم من العلم، ثم يذهبون
إلى ما لا سبيل لأحد أن يدركه، ولا هم مطالبون بعلمه.
قُلْ لا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا فإني فقير مدبر، لا يأتيني خير إلا من
اللّه، ولا يدفع عني الشر إلا هو، وليس لي من العلم إلا ما علمني اللّه
تعالى.
وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ
وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ أي: لفعلت الأسباب التي أعلم أنها تنتج لي
المصالح والمنافع، ولحذرت من كل ما يفضي إلى سوء ومكروه، لعلمي بالأشياء
قبل كونها، وعلمي بما تفضي إليه.
ولكني - لعدم علمي - قد ينالني ما
ينالني من السوء، وقد يفوتني ما يفوتني من مصالح الدنيا ومنافعها، فهذا أدل
دليل على أني لا علم لي بالغيب.
إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ أنذر العقوبات
الدينية والدنيوية والأخروية، وأبين الأعمال المفضية إلى ذلك، وأحذر منها.
وَبَشِيرٌ
بالثواب العاجل والآجل، ببيان الأعمال الموصلة إليه والترغيب فيها، ولكن
ليس كل أحد يقبل هذه البشارة والنذارة، وإنما ينتفع بذلك ويقبله المؤمنون،
وهذه الآيات الكريمات، مبينة جهل من يقصد النبي تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999 ويدعوه لحصول نفع أو دفع ضر.
فإنه ليس
بيده شيء من الأمر، ولا ينفع من لم ينفعه اللّه، ولا يدفع الضر عمن لم
يدفعه اللّه عنه، ولا له من العلم إلا ما علمه اللّه تعالى، وإنما ينفع من
قبل ما أرسل به من البشارة والنذارة، وعمل بذلك، فهذا نفعه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، الذي فاق نفع الآباء والأمهات، والأخلاء
والإخوان بما حث العباد على كل خير، وحذرهم عن كل شر، وبينه لهم غاية
البيان والإيضاح.
189-193 هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا
تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ
دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا
آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لا
يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا
وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا
يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ
صَامِتُونَ .
أي: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ أيها الرجال والنساء،
المنتشرون في الأرض على كثرتكم وتفرقكم. مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وهو آدم أبو
البشر تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999.
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا أي: خلق من
آدم زوجته حواء لأجل أن يسكن إليها لأنها إذا كانت منه حصل بينهما من
المناسبة والموافقة ما يقتضي سكون أحدهما إلى الآخر، فانقاد كل منهما إلى
صاحبه بزمام الشهوة.
فَلَمَّا تَغَشَّاهَا أي: تجللها مجامعا لها قدَّر
الباري أن يوجد من تلك الشهوة وذلك الجماع النسل، [وحينئذ] حَمَلَتْ حَمْلا
خَفِيفًا، وذلك في ابتداء الحمل، لا تحس به الأنثى، ولا يثقلها.
فَلَمَّا
استمرت به و أَثْقَلَتْ به حين كبر في بطنها، فحينئذ صار في قلوبهما
الشفقة على الولد، وعلى خروجه حيا، صحيحا، سالما لا آفة فيه [كذلك] فدعوا
اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا ولدا صَالِحًا أي: صالح الخلقة
تامها، لا نقص فيه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ .
فَلَمَّا
آتَاهُمَا صَالِحًا على وفق ما طلبا، وتمت عليهما النعمة فيه جَعَلا لَهُ
شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا أي: جعلا للّه شركاء في ذلك الولد الذي انفرد
اللّه بإيجاده والنعمة به، وأقرَّ به أعين والديه، فَعَبَّدَاه لغير اللّه.
إما أن يسمياه بعبد غير اللّه كـ "عبد الحارث" و "عبد العزيز" و "عبد
الكعبة" ونحو ذلك، أو يشركا باللّه في العبادة، بعدما منَّ اللّه عليهما
بما منَّ من النعم التي لا يحصيها أحد من العباد.
وهذا انتقال من النوع
إلى الجنس، فإن أول الكلام في آدم وحواء، ثم انتقل إلى الكلام في الجنس،
ولا شك أن هذا موجود في الذرية كثيرا، فلذلك قررهم اللّه على بطلان الشرك،
وأنهم في ذلك ظالمون أشد الظلم، سواء كان الشرك في الأقوال، أم في الأفعال،
فإن الخالق لهم من نفس واحدة، الذي خلق منها زوجها وجعل لهم من أنفسهم
أزواجا، ثم جعل بينهم من المودة والرحمة ما يسكن بعضهم إلى بعض، ويألفه
ويلتذ به، ثم هداهم إلى ما به تحصل الشهوة واللذة والأولاد والنسل.
ثم
أوجد الذرية في بطون الأمهات، وقتا موقوتا، تتشوف إليه نفوسهم، ويدعون
اللّه أن يخرجه سويا صحيحا، فأتم اللّه عليهم النعمة وأنالهم مطلوبهم.
أفلا
يستحق أن يعبدوه، ولا يشركوا به في عبادته أحدا، ويخلصوا له الدين.
ولكن
الأمر جاء على العكس، فأشركوا باللّه من لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ
يُخْلَقُونَ .
وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ أي: لعابديها نَصْرًا وَلا
أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ .
فإذا كانت لا تخلق شيئا، ولا مثقال ذرة، بل
هي مخلوقة، ولا تستطيع أن تدفع المكروه عن من يعبدها، بل ولا عن أنفسها،
فكيف تتخذ مع اللّه آلهة؟ إن هذا إلا أظلم الظلم، وأسفه السفه.
وإن
تدعوا، أيها المشركون هذه الأصنام، التي عبدتم من دون اللّه إِلَى الْهُدَى
لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ
صَامِتُونَ .
فصار الإنسان أحسن حالة منها، لأنها لا تسمع، ولا تبصر،
ولا تهدِي ولا تُهدى، وكل هذا إذا تصوره اللبيب العاقل تصورا مجردا، جزم
ببطلان إلهيتها، وسفاهة من عبدها.
194 - 196 إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ
لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا
أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ
كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ .
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نـزلَ
الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ .
وهذا من نوع التحدي
للمشركين العابدين للأوثان، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ أي: لا فرق بينكم وبينهم، فكلكم عبيد
للّه مملوكون، فإن كنتم كما تزعمون صادقين في أنها تستحق من العبادة شيئا
فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فإن استجابوا لكم وحصلوا مطلوبكم،
وإلا تبين أنكم كاذبون في هذه الدعوى، مفترون على اللّه أعظم الفرية، وهذا
لا يحتاج إلى التبيين فيه، فإنكم إذا نظرتم إليها وجدتم صورتها دالة على
أنه ليس لديها من النفع شيء،فليس لها أرجل تمشي بها، ولا أيد تبطش بها، ولا
أعين تبصر بها، ولا آذان تسمع بها، فهي عادمة لجميع الآلات والقوى
الموجودة في الإنسان.
فإذا كانت لا تجيبكم إذا دعوتموها، وهي عباد
أمثالكم، بل أنتم أكمل منها وأقوى على كثير من الأشياء، فلأي شيء عبدتموها.
قُلِ
ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ أي: اجتمعوا أنتم
وشركاؤكم على إيقاع السوء والمكروه بي، من غير إمهال ولا إنظار فإنكم غير
بالغين لشيء من المكروه بي.
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الذي يتولاني فيجلب
لي المنافع ويدفع عني المضار.
الَّذِي نـزلَ الْكِتَابَ الذي فيه الهدى
والشفاء والنور، وهو من توليته وتربيته لعباده الخاصة الدينية.
وَهُوَ
يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ الذين صلحت نياتهم وأعمالهم وأقوالهم، كما قال
تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ فالمؤمنون الصالحون - لما تولوا ربهم بالإيمان والتقوى، ولم
يتولوا غيره ممن لا ينفع ولا يضر - تولاهم اللّه ولطف بهم وأعانهم على ما
فيه الخير والمصلحة لهم، في دينهم ودنياهم، ودفع عنهم بإيمانهم كل مكروه،
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا .
198,197
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا
أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا
يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ .
وهذا
أيضا في بيان عدم استحقاق هذه الأصنام التي يعبدونها من دون اللّه لشيء من
العبادة، لأنها ليس لها استطاعة ولا اقتدار في نصر أنفسهم، ولا في نصر
عابديها، وليس لها قوة العقل والاستجابة.
فلو دعوتها إلى الهدى لم تهتد،
وهي صور لا حياة فيها، فتراهم ينظرون إليك، وهم لا يبصرون حقيقة، لأنهم
صوروها على صور الحيوانات من الآدميين أو غيرهم، وجعلوا لها أبصارا وأعضاء،
فإذا رأيتها قلت: هذه حية، فإذا تأملتها عرفت أنها جمادات لا حراك بها،
ولا حياة، فبأي رأي اتخذها المشركون آلهة مع اللّه؟ ولأي مصلحة أو نفع
عكفوا عندها وتقربوا لها بأنواع العبادات؟
فإذا عرف هذا، عرف أن
المشركين وآلهتهم التي عبدوها، لو اجتمعوا، وأرادوا أن يكيدوا من تولاه
فاطر الأرض والسماوات، متولي أحوال عباده الصالحين، لم يقدروا على كيده
بمثقال ذرة من الشر، لكمال عجزهم وعجزها، وكمال قوة اللّه واقتداره، وقوة
من احتمى بجلاله وتوكل عليه.
وقيل: إن معنى قوله وَتَرَاهُمْ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أن الضمير يعود إلى المشركين
المكذبين لرسول اللّه تفسير القران الكريم كاملا - صفحة 3 0099999، فتحسبهم ينظرون إليك يا رسول اللّه نظر
اعتبار يتبين به الصادق من الكاذب، ولكنهم لا يبصرون حقيقتك وما يتوسمه
المتوسمون فيك من الجمال والكمال والصدق.
199 خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ .
هذه الآية جامعة لحسن
الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن
يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق،
فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول
وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم، ولا
يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل
الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم.
وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ أي: بكل قول حسن وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد، فاجعل
ما يأتي إلى الناس منك، إما تعليم علم، أو حث على خير، من صلة رحم، أو
بِرِّ والدين، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب، أو معاونة
على بر وتقوى، أو زجر عن قبيح، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية أو دنيوية،
ولما كان لا بد من أذية الجاهل، أمر اللّه تعالى أن يقابل الجاهل بالإعراض
عنه وعدم مقابلته بجهله، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه، ومن حرمك لا
تحرمه، ومن قطعك فَصِلْهُ، ومن ظلمك فاعدل فيه.
وأما ما ينبغي أن يعامل
به العبد شياطين الإنس والجن، فقال تعالى:
200-202 وَإِمَّا
يَنـزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نـزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ
الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ .
أي: أي وقت، وفي أي
حال يَنـزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نـزغٌ أي: تحس منه بوسوسة، وتثبيط عن
الخير، أو حث على الشر، وإيعاز إليه. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي: التجئ
واعتصم باللّه، واحتم بحماه فإنه سَمِيعٌ لما تقول. عَلِيمٌ بنيتك وضعفك،
وقوة التجائك له، فسيحميك من فتنته، ويقيك من وسوسته، كما قال تعالى: قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إلى آخر السورة.
ولما كان العبد لا بد أن يغفل
وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطا ينتظر غرته وغفلته، ذكر تعالى
علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب، ومسه طائف من الشيطان،
فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب - تذكر من أي باب أُتِيَ، ومن أي مدخل دخل
الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب اللّه عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر
واستغفر اللّه تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات
الكثيرة، فرد شيطانه خاسئا حسيرا، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه.
وأما
إخوان الشياطين وأولياؤهم، فإنهم إذا وقعوا في الذنوب، لا يزالون يمدونهم
في الغي ذنبا بعد ذنب، ولا يقصرون عن ذلك، فالشياطين لا تقصر عنهم
بالإغواء، لأنها طمعت فيهم، حين رأتهم سلسي القياد لها، وهم لا يقصرون عن
فعل الشر.
203 وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا
اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي
هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .
أي
لا يزال هؤلاء المكذبون لك في تعنت وعناد، ولو جاءتهم الآيات الدالة على
الهدى والرشاد، فإذا جئتهم بشيء من الآيات الدالة على صدقك لم ينقادوا.
وَإِذَا
لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ من آيات الاقتراح التي يعينونها قَالُوا لَوْلا
اجْتَبَيْتَهَا أي: هلا اخترت الآية، فصارت الآية الفلانية، أو المعجزة
الفلانية كأنك أنت المنـزل للآيات، المدبر لجميع المخلوقات، ولم يعلموا أنه
ليس لك من الأمر شيء، أو أن المعنى: لولا اخترعتها من نفسك.
قُلْ
إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي فأنا عبد متبع مدبَّر،
واللّه تعالى هو الذي ينـزل الآيات ويرسلها على حسب ما اقتضاه حمده،
وطلبتْه حكمته البالغة، فإن أردتم آية لا تضمحل على تعاقب الأوقات، وحجة لا
تبطل في جميع الآنات، فـ هَذَا القرآن العظيم، والذكر الحكيم بَصَائِرُ
مِنْ رَبِّكُمْ يستبصر به في جميع المطالب الإلهية والمقاصد الإنسانية، وهو
الدليل والمدلول فمن تفكر فيه وتدبره، علم أنه تنـزيل من حكيم حميد لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبه قامت الحجة على كل من بلغه،
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون، وإلا فمن آمن، فهو هُدًى له من الضلال
وَرَحْمَةٌ له من الشقاء، فالمؤمن مهتد بالقرآن، متبع له، سعيد في دنياه
وأخراه.
وأما من لم يؤمن به، فإنه ضال شقي، في الدنيا والآخرة.
204
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ .
هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب اللّه يتلى، فإنه مأمور
بالاستماع له والإنصات، والفرق بين الاستماع والإنصات، أن الإنصات في
الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه.
وأما الاستماع له،
فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع، فإن من لازم على هذين
الأمرين حين يتلى كتاب اللّه، فإنه ينال خيرا كثيرا وعلما غزيرا، وإيمانا
مستمرا متجددا، وهدى متزايدا، وبصيرة في دينه، ولهذا رتب اللّه حصول الرحمة
عليهما، فدل ذلك على أن من تُلِيَ عليه الكتاب، فلم يستمع له وينصت، أنه
محروم الحظ من الرحمة، قد فاته خير كثير.
ومن أوكد ما يؤمر به مستمع
القرآن، أن يستمع له وينصت في الصلاة الجهرية إذا قرأ إمامه، فإنه مأمور
بالإنصات، حتى إن أكثر العلماء يقولون: إن اشتغاله بالإنصات، أولى من
قراءته الفاتحة، وغيرها.
205 - 206 وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ
تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ
وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ
رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ
يَسْجُدُونَ .
الذكر للّه تعالى يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون
بهما، وهو أكمل أنواع الذكر وأحواله، فأمر اللّه عبده ورسوله محمدا أصلا
وغيره تبعا، بذكر ربه في نفسه، أي: مخلصا خاليا.
تَضَرُّعًا أي: متضرعا
بلسانك، مكررا لأنواع الذكر، وَخِيفَةً في قلبك بأن تكون خائفا من اللّه،
وَجِلَ القلب منه، خوفا أن يكون عملك غير مقبول، وعلامة الخوف أن يسعى
ويجتهد في تكميل العمل وإصلاحه، والنصح به.
وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ
الْقَوْلِ أي: كن متوسطا، لا تجهر بصلاتك، ولا تخافت بها، وابتغ بين ذلك
سبيلا. بِالْغُدُوِّ أول النهار وَالآصَالِ آخره، وهذان الوقتان لذكر الله
فيهما مزية وفضيلة على غيرهما.
وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ الذين
نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم، فإنهم حرموا خير الدنيا والآخرة، وأعرضوا عمن
كل السعادة والفوز في ذكره وعبوديته، وأقبلوا على من كل الشقاوة والخيبة في
الاشتغال به، وهذه من الآداب التي ينبغي للعبد أن يراعيها حق رعايتها، وهي
الإكثار من ذكر اللّه آناء الليل والنهار، خصوصا طَرَفَيِ النهار، مخلصا
خاشعا متضرعا، متذللا ساكنا، وتواطئا عليه قلبه ولسانه، بأدب ووقار، وإقبال
على الدعاء والذكر، وإحضار له بقلبه وعدم غفلة، فإن اللّه لا يستجيب دعاء
من قلب غافل لاه.
ثم ذكر تعالى أن له عبادا مستديمين لعبادته، ملازمين
لخدمته وهم الملائكة، فلتعلموا أن اللّه لا يريد أن يتكثر بعبادتكم من قلة،
ولا ليتعزز بها من ذلة، وإنما يريد نفع أنفسكم، وأن تربحوا عليه أضعاف
أضعاف ما عملتم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ
إِنَّ الَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ من الملائكة المقربين، وحملة العرش والكروبيين.
لا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ بل يذعنون لها وينقادون لأوامر ربهم
وَيُسَبِّحُونَهُ الليل والنهار لا يفترون.
وَلَهُ وحده لا شريك له
يَسْجُدُونَ فليقتد العباد بهؤلاء الملائكة الكرام، وليداوموا [على] عبادة
الملك العلام.

تم تفسير سورة الأعراف

وللّه الحمد والشكر
والثناء. وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تفسير القران الكريم كاملا
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 3 من اصل 4انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
»  القران الكريم كاملا بصيغه Mp3
» تفسير القرأن للشيخ الشعراوي كاملا صوت وصورة
»  برنامج لتحميل القرآن الكريم كاملا في 5 ثواني بصوت 28 قارئ ؟؟
»  تعريف القران الكريم
»  علوم القران الكريم

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ღ♥ ▄█ مَــڼـ ـٿـڍى شَـــ ـلـــة شَـــ بَـــابَ فـــ ــى بَـــ ـڼـاٿ █▄ ♥ღ :: `·.¸¸.·´´¯`··._.· ( واحة الايمان ) `·.¸¸.·´´¯`··._.·` :: :: المنتـ ـ ـ ـ ــدى الاســ ـ ـ ــلامـ ـ ــى العــ ـ ـ ـــام ::-
انتقل الى:  
.: اتصل بنا :.
لو فى اى مشكلة فى المنتدى